وفيما هما في ذلك، أقبل عماد الدين، فتعانقوا وتصافحوا وكان اغتباطهم جميعا باللقاء عظيما.
ثم روى عماد الدين ما أخره فقال: «لقد علمت حين وصولي إلى القاهرة أن علي بك غادرها في حملة إلى الصعيد لمحاربة قبيلة الشيخ همام، فاضطررت إلى انتظاره حتى رجع وأديت إليه الرسالة، فأكرم وفادتي وغمرني بالعطايا والهبات، ثم حملني رسالتين: إحداهما للشيخ ضاهر حاكم عكا ردا على رسالته، والأخرى لأسلمها للأميرال لسمبيكو قائد الأسطول الروسي الموجود الآن في ميناء الإسكندرية؛ وذلك لظن علي بك أنني سأعود عن طريق البحر؛ إذ هو أقرب. وقد رأيت أن آتي إليك أولا حتى لا تقلق، ولكي أعرض عليك أن نسافر إلى عكا بحرا من الإسكندرية، فالطريق البحري أكثر أمنا، فما قولك؟»
فوافق حسن على ذلك الاقتراح؛ حبا في صحبة عماد الدين؛ وتفاديا لخطر اللصوص في الطريق الصحراوي؛ ولتأخره عن الموعد المضروب للقائه بأبيه هناك.
الفصل التاسع
في الإسكندرية
كان عماد الدين قد جاء معه من القاهرة بالعطايا والهبات التي نفحه بها علي بك، فنزل للأعرابي مضيفهما عن بعضها ردا لجميله، ثم اشترى هجينتين ركب إحداهما وركب حسن الأخرى، وما زالا يجدان السير في الحوف الشرقي حتى أتيا الفرع الشرقي للنيل، فقطعه إلى الدلتا، فالفرع الغربي للنيل وما وراءه حتى وصلا إلى الإسكندرية أخيرا، فباعا الهجينتين لبعض الأعراب هناك، ثم نزلا بفندق قرب الميناء، على أن يبيتا فيه ليلتهما، فإذا أصبحا مضيا إلى الميناء وزارا الأسطول الروسي لتسليمه رسالة علي بك، ثم بحثا عن سفينة ذاهبة إلى الشام فركباها إلى عكا.
ولم تكن الإسكندرية في ذلك الحين سوى مدينة صغيرة، أهم ما فيها أنها على البحر، وإن فيها مرفأين: أحدهما للمسلمين وتقف فيه السفن العثمانية والمصرية، وموضعه المكان المعروف برأس التين، والآخر للنصارى في الموضع المعروف بالمينا القديمة. فلما كان صباح اليوم التالي مضى عماد الدين وحسن إلى الميناء الجديد؛ حيث قيل لهما إن الأسطول الروسي فيه، فلم يجدا هناك أية سفينة، وعلما بأن هياج البحر بسبب النوء الشديد اضطر السفن إلى الابتعاد إلى عرض البحر خوفا من الغرق في الميناء، ولاسيما أن سفنا كثيرة تحطمت وغرقت فيه منذ أيام، وسألا: متى ينتظر أن يهدأ البحر وتعود سفن الأسطول إلى الميناء، فقيل لهما: «إن هذا لا ينتظر قبل يومين.» فعادا إلى الفندق آسفين وأمضيا يومهما في تفقد المدينة. وفي صباح اليوم التالي رأى عماد الدين أن يترك حسنا في الفندق ريثما يمضي هو إلى الميناء للسؤال عن الأسطول، وفيما هو واقف هناك يتطلع إلى سفن الأسطول الراسية في عرض البحر، وهو يرتدي الملابس السورية المؤلفة من القباء (القفطان) الحريري وفوقه الجبة، وعلى رأسه الكوفية والعقال، وفي يده غليون طويل يدخن فيه التبغ، دنا منه بحار من الإسكندرية يرتدي السروال الفضفاض المشدود على الساقين، وعلى رأسه عمامة أرسل طرفها على قفاه، وسأله قائلا: «أراك تكثر من التطلع إلى سفن المسكوف، فهل يهمك الوصول إليها؟»
فقال عماد الدين: «إن معي رسالة أريد تسليمها إلى أميرال الأسطول.»
قال: «وممن هذه الرسالة؟» فقال: «من علي بك الكبير.»
فبغت البحار، وتأدب في وقفته بعد أن كان يكلم عماد الدين ويداه خلف ظهره وغليونه في فمه، وقال له: «إذا كان إبلاغ الرسالة لا يحتمل التأجيل إلى غد فإني على استعداد لإبلاغها الآن!»
Shafi da ba'a sani ba