فحنى السراج رأسه إجلالا، وتقهقر خطوات ثم خرج من الدار وركب جواده المنتظر بالباب ومضى عائدا إلى القلعة.
وعلى أثر ذلك نادى السيد المحروقي خادمه الأول، وأمره بإحضار ملابس الخروج الرسمية. فأحضرها له بعد قليل. وهي مؤلفة من فروة سمور تلف حول العنق ويرسل طرفاها على الكتفين. وعمامة كبيرة ملفوفة حول قاووق طويل تبدو قمته ظاهرة في أعلاها.
وكان السائس قد أسرج البغلة ووقف بها عند الباب استعدادا لخروج سيده عليها، فهم السيد عبد الرحمن بيد السيد المحروقي وقبلها، وسار معه حتى ركب البغلة ومضت به في الطريق إلى القلعة. فعاد هو إلى منزله ليبشر من فيه بما أشرق في قلبه من الأمل في إنقاذ ولده الوحيد العزيز.
وفي طريقه إلى المنزل، سمع المنادين يصيحون في الشوارع والحارات قائلين: «ليكن معلوما لديكم يا أهل مصر أن الجنود سيخرجون اليوم من القلعة بأمر مولانا علي بك ذاهبين إلى الجهاد، فادعوا الله أن ينصرهم ويعيدهم إلى البلاد سالمين غانمين.»
وكان الناس يسارعون إلى إغلاق دورهم ومتاجرهم، توقيا لما تعودوه في مثل هذه الحال من قيام الجنود بالسلب والنهب والاعتداء على الآمنين والآمنات دون خوف ولا حياء.
فلما وصل إلى المنزل، كانت زوجته قد سمعت نداء المنادين. فأمرت الخدم بإحكام إغلاق الباب مخافة اعتداء الجنود، ثم استأنفت العويل والنحيب جزعا على ولدها الذاهب معهم إلى الحرب.
وما كاد الخدم يسمعون طرقه الباب بشدة حتى أجفلوا، وساد الذعر كل من في البيت حتى خفتت أصوات زوجته والجواري. فلم يجد بدا من رفع صوته مناديا الخدم بأسمائهم ليعلموا أنه هو الطارق، فعرفوا صوته وسارعوا إلى فتح الباب وقد زايلهم الذعر والرعب، وبادرته زوجته سائلة عما تم في أمر مساعيه، فقص عليها ما كان من ركوب السيد المحروقي لمقابلة علي بك والتوسط لديه في شأن تسريح حسن من الجندية، وكتم عنها نبأ عزل الباشا. وما سمعه من السيد المحروقي عن شدة سطوة علي بك وغلظته حتى لا يقطع خيط أملها، وأخذ يهون عليها، ويتظاهر بالاطمئنان إلى انفراج أزمتهما، حتى عاودها بعض الاطمئنان وسكتت عن الصراخ والعويل. لكن قلبها لم يطاوعها على الصبر، فقالت له: «إن قلبي غير مطمئن، فلم يبق على سفر الجنود إلا قليل، وأرى أن تمضي أنت لتلحق بالسيد المحروقي، وتبقى معه حتى يخاطب علي بك في أمر ولدنا، وإذا اقتضى الإفراج عنه التضحية بكل ممتلكاتنا وأموالنا فيجب أن نضحي بها دون أي تفكير.»
وهم بأن يصارحها بخشيته اعتداء الجند عليه في الطريق؛ لأن علي بك موجود في القلعة بعد أن عزل الباشا وحل محله فيها. لكنه آثر أن يكتم عنها ذلك، ونهض متحاملا على نفسه، وغادر الدار مسرعا، بعد أن أوصى الخدم بأن يعودوا إلى إحكام إغلاق الباب، والتيقظ لكل طارئ حماية لهم ولمن فيه من أي عدوان.
الفصل الرابع
في مجلس علي بك الكبير
Shafi da ba'a sani ba