وفيما كان التاجر يشيعه بكلمات الشكر والدعاء، دنا منه الجندي حامل الدفتر، وهمس في أذنه قائلا: «إن الديوان أمر بتجنيد ولدك وأخذه إلى الحرب في الحجاز مع الحملة الذاهبة إلى هناك بعد أيام؛ وذلك لأن جنود المماليك لا يكفون لهذا الغرض، ولا بد من إمدادهم بجنود آخرين من سكان البلاد المصريين والأتراك والمغاربة والشوام.»
فبغت السيد عبد الرحمن، وكاد قلبه يقف لهول هذا النبأ المرعب، وشعر بأن كل ما لحقه من الظلم والإهانة والخسائر المالية الجسام لا يعد شيئا يستحق الذكر بجانب أخذ ولده الوحيد إلى الحرب.
وأدرك الجندي ذلك منه، فاقترب منه وهمس إليه مرة أخرى قائلا: «اطمئن يا سيدي. واشكر الله على أن هيأ لك ولولدك مخرجا من هذا المأزق، فإن جناب الجابي - جزاه الله خيرا - قد رثي لحالكما، وأعمل نفوذه وحيلته لإعفاء ولدك من ذلك التجنيد. وأظن أنه استحق بذلك أن تشكره وتكافئه على معروفه هذا ببعض المال!»
فتنهد التاجر، وذهب عنه الروع، وشعر بأنه مدين بسعادته لمعروف ذلك الجابي المستبد السكران، فهم بيديه يقبلهما والدموع تطفر من عينيه. ثم نادى خادمه وأرسله إلى التاجر الذي اقترض منه الأكياس الأربعة في العصر، ليقترض له مثلها على أن يردها كلها في الغد. ثم جلس مع الجابي وصاحبيه في انتظار عودة الخادم، ولسانه يلهج بشكرهم والثناء على أريحيتهم ومروءتهم.
وانتهز ثلاثتهم هذه الفرصة، فأخذوا في انتقاء ما خف حمله وغلا ثمنه من السلع الموجودة في المتجر وأخذها لأنفسهم وهو لا يستطيع أن يمنعهم، بل كان يعرب لهم عن اغتباطه بذلك. فلما عاد خادمه بالأكياس الأربعة المقترضة، تناولها منه، وأعطى الجابي كيسين، وكلا من الجندي وكاتب الجابي كيسا. فأخذوها وانصرفوا بها وبما انتقوه من السلع.
وما كادوا يخرجون من الوكالة حتى سارع السيد عبد الرحمن إلى إغلاق المتجر، وغادرها هو الآخر عائدا إلى منزله، وقد سدل الليل نقابه. وفي يده مصباح من الورق يستعين به على تبين الطريق. •••
كان من عادة السيد عبد الرحمن أن يمر في طريق عودته إلى المنزل كل مساء بالبيمارستان المنصوري الذي يدرس فيه ابنه حسن، فيصطحبه من هناك إلى المنزل.
ولما وصل إلى البيمارستان، وجد أبوابه مغلقة، فأدرك أنه تأخر عن الموعد الذي تعود المرور به فيه لاصطحاب ابنه. وتذكر ما وقع له في متجره ذلك اليوم من الإهانات والخسائر. ولكنه حمد الله على أن نجى ولده الوحيد من خطر التجنيد. وواصل سيره حتى وصل إلى شارع النحاسين، فسمع وقع أقدام خلفه من بعيد، فأوجس في نفسه خيفة، وانزوى في منعطف هناك، حتى مر القادمون، وتبين من كلامهم أنهم جماعة من الجند، بينهم الجابي وصاحباه. فبالغ في الانزواء حتى بعدوا، وأمن شرهم، ثم عاد بمصباحه إلى الشارع، وواصل سيره، وهو لا يكاد يرى ما أمامه لضعف الضوء، وشدة قلقه واضطرابه.
ولما بلغ شارع الكعكيين، واقترب من الحارة التي بها منزله، لاحظ أن باب الحارة مفتوح على غير العادة؛ إذ كانت أبواب الحارات تغلق كلها عقب الغروب. فاشتدت وساوسه وأسرع في مشيته ليقف على سبب إبقاء الباب مفتوحا، وأخذ يدعو الله بقلبه ألا يكون السبب ما يسوء.
وقبل أن يبلغ الباب، سمع شخيرا عميقا بالقرب منه، ولمح على ضوء مصباحه الخافت جسم إنسان ممددا على الأرض، فدنا منه وقرب المصباح من وجهه فتبين أنه البواب، وأنه جريح يسيل الدم من رأسه ووجهه، وبجانبه الخشبة الغليظة التي توضع خلف باب الحارة من الداخل ويدخل بعضها في الحائط لتكون بمثابة المزلاج. وكانوا يطلقون عليها اسم «الدقر». وقد لوثت بالدم السائل من جرح المسكين.
Shafi da ba'a sani ba