فأجفل السيد عبد الرحمن، وتحقق وقوع ما كان يحذره، لكنه كظم ما به متجلدا وقال متظاهرا بالبشاشة: «أهلا وسهلا ومرحبا بالسادة الأجلاء، مروا بما شئتم، فما نحن إلا عبيد مولانا علي بك ورهن أمره في كل وقت!»
فقال الجابي: «مطلوب منك أن تدفع ألف نصف، مساعدة للحملة الذاهبة لنجدة شريف مكة بعد أيام.»
فاستكثر عبد الرحمن هذا القدر المطلوب من ماله، رغم دفعه ضرائب باهظة منذ عهد قريب، لكنه لم يجرؤ على إظهار ذلك، واكتفى بأن قال: «هل هذا المال مطلوب دفعه فورا؟»
فنهض الجابي مغضبا حانقا وصاح به قائلا: «ما شاء الله! ومتى تظن أن تدفعه إذن؟ أتريد أن يكون ذلك بعد عودة الحملة أو هلاكها؟ أم لعلك استكثرت أن تدفع ألف نصف من الآلاف المؤلفة التي تحصل عليها عفوا بلا تعب من أموال الناس وأنت جالس على وسادتك في أمان واطمئنان، بينما نحن نتجشم الأخطار والأسفار لحماية بلادكم والدفاع عنها؟ كلا يا سيدي ثم كلا. يجب أن تدفع ألفين اثنين لا ألفا فقط. فهل فهمت؟!»
فندم عبد الرحمن على تعجله بإلقاء ذلك السؤال، ووقف وقد امتقع لونه وارتجفت أطرافه، وخشي أن يضاعف الجابي قيمة الضريبة المطلوبة مرة ثانية، فمد يديه نحوه إشارة التوسل والخضوع وقال: «العفو يا سيدي الجاويش، إني ليسرني أن أقوم بالواجب علي وزيادة، وإنما أردت بالاستفهام أن أعرف هل هناك فرصة لتأجيل الدفع أم لا، فالحالة التجارية كما تعلمون ليست في هذه الأيام على ما يرام، وسبق أن تفضل جناب الخازندار بمثل هذا التأجيل مراعاة لظروف مماثلة.»
فازداد غضب الجابي، وانتهر السيد عبد الرحمن بشدة، وقال: «أتشكو الفقر وأنت قد ابتلعت أموال الناس، وعشت من الأرباح الطائلة في رغد ونعيم، بينما نحن في شقاء دائم وتعب لا يطاق، ونلقي بأنفسنا إلى الهلاك دفاعا عنكم وعملا على راحتكم وطمأنينتكم؟ أم نسيت أن تظلمك للخازندار يعني أننا ظلمناك ولم نعدل في تقدير المال المطلوب منك؟!»
فأخذ السيد عبد الرحمن يستعطف الجابي ويحاول استرضاءه واتقاء غضبه بكل وسيلة. ثم نادى كاتب المتجر وأمره بأن يعد ألفي نصف ويحضرها فورا، فحنى الكاتب رأسه سمعا وطاعة ومضى لتنفيذ ما أمر به. ثم عاد بالمبلغ المطلوب بعد قليل فسلمه للسيد عبد الرحمن، وقدمه هذا للجابي فتناوله منه متظاهرا بعدم المبالاة، وسأله: «كم نصفا دفعت؟»
قال: «دفعت الألفين اللذين طلبتموهما.»
فقذف الجابي بالكيس الذي به النقود إلى الأرض، ثم نهض مغاضبا، وصاح بالسيد عبد الرحمن محتدا يقول: «لقد أبطرتكم النعمة. أإلى هذا الحد بلغ جهلكم وغروركم وقلة إنسانيتكم؟ أم حسبت أننا عبيد لك أو خدم عندك؟»
فارتعدت فرائصه، وازداد امتقاع وجهه، وابتلع ريقه بصعوبة لجفاف حلقه، ثم دنا من الجابي وقال في خشوع: «العفو يا سيدي ... لقد أطعت أمركم. ولي الشرف بهذه الطاعة الواجبة. فماذا أغضبكم؟»
Shafi da ba'a sani ba