ولعله يكون من الصحيح تاريخيا أنه قد كان هناك مشروع لترجمة مختارات من الشعر العربي إلى اللغة الفرنسوية، ونحن نعلم أن واصف باشا غالي الذي أقام معظم حياته في فرنسا كان يقوم بمثل هذه الترجمة، كما نعلم أنه كان صديقا لإسماعيل صبري، بل ونطالع في الديوان خطابا أرسله واصف غالي من باريس إلى إسماعيل صبري، وفيه يطلب إليه أن يبذر بذور السكينة والوفاق بين الأقباط والمسلمين؛ وذلك على أثر اغتيال بطرس باشا غالي، وعقد الأقباط في 6 مارس سنة 1911 مؤتمرا بمدينة أسيوط للنظر في حالهم مع المسلمين، ومطالبة الحكومة بعدة مطالب للطائفة القبطية، ثم رد المسلمون على هذا المؤتمر القبطي بمؤتمر مصري أو إسلامي عقدوه في مصر الجديدة في نفس العام.
وبالفعل أنشأ إسماعيل صبري قصيدة طويلة في هذا المعنى بعنوان «نداء إلى الأقباط»، ص180 من الديوان، بل ونجد في صفحة 84 قصيدة بعنوان «إلى واصف غالي باشا»، يشيد به فيها إسماعيل صبري، وقد ألقاها في حفل أقيم لتكريمه في فندق شبرد تحت رعاية الخديوي السابق عباس حلمي الثاني سنة 1914، ويقول شارح الديوان: إن هذه الحفلة التكريمية قد أقيمت لواصف غالي «لما قام به من ترجمة بعض الشعر في كتاب سماه «روض الأزهار»، ونشر هذا الكتاب في باريس، ولما كان يقوم به أيضا من إلقاء بعض المحاضرات في باريس في الإشادة بفضل الشرق والشرقيين.»
كل هذه الوقائع التاريخية قد تغري بالظن بأن قصيدة «لواء الحسن» قد أعدت أو صنعت لتترجم إلى الفرنسية، أو ليترجمها واصف باشا غالي بالذات، وإن كنا قد راجعنا كتاب «روض الأزهار» - الموجود بدار الكتب المصرية، والمنشور سنة 1913 - فلم نجد تلك القصيدة من بين ما يضمه هذا الكتاب.
وسواء أكانت هذه القصيدة قد ترجمت أو لم تترجم إلى الفرنسية، فإن الذي نحرص على إيضاحه وتصحيحه هو تبديد ما يتوهمه البعض ممن لا يلمون بالشعر الفرنسي الإلمام الكامل، وبشعر لامارتين وغيره من الرومانسيين بنوع خاص، من أن هذه القصيدة تجري مجرى الشعر الفرنسي، وتتلاقى فيها روح ذلك الشعر مع الروح القاهرية التقاء يتركز في روح الاستهتار بالحب، وعدم تقديسه، وتجريده من تلك الوحدانية، بل الأثرة الطبيعية التي تتميز بها تلك العاطفة في جميع الشعر الصادق الحار.
والواقع أن لواء الحسن أو المرأة الجميلة التي يتحدث عنها إسماعيل صبري في هذه القصيدة ليست امرأة مبتذلة، ولا نهبا للأطماع، وإنما هي امرأة روحانية تقصر عن التطلع إليها شهوات النفوس. وليس في القصيدة أية نغمة حسية أو مستهترة أو مبتذلة، وهي أبعد ما تكون عن روح الندماء ومجالس الظرف أو الخلاعة. وكل هذا يغرينا بأن نرجح أنها قصيدة تعبر عن تجربة بشرية صادقة شريفة، بل وأن نميل إلى الاعتقاد بأنها قيلت في الآنسة مي زيادة بالذات.
نعم، إن هناك صعوبات في التواريخ؛ وذلك لأن ناشر الديوان يقول: إن قصيدة لواء الحسن قد نشرت في سنة 1901، والدكتور منصور فهمي يرجح في المحاضرات التي ألقاها في هذا المعهد عن الآنسة مي، أنها قد ولدت بين عامي 1885 و1886، وإذا صح هذان الخبران، فيكون معنى ذلك أن إسماعيل صبري قد قال قصيدة لواء الحسن ومي في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمرها، ولكننا على أية حال لا نستطيع أن نجزم بمدى صحة هذين التاريخين؛ فقد تكون القصيدة أحدث تاريخا، وقد تكون مي أقدم ميلادا.
وعلى أية حال، فإنه إذا صح تاريخ ميلاد مي السابق، وقورن بما هو مؤكد رسميا من ميلاد إسماعيل صبري في 16 فبراير سنة 1854، يكون معنى ذلك أن بينه وبينها من فارق السن ثلاثين عاما على الأقل. ومع ذلك، فإن في ديوان صبري بيتين ص128 يذكران مي بصريح اللفظ، وهما بيتان أرسلهما إليها في أحد أيام الثلاثاء التي كانت تعقد فيها ندوتها. وقد اضطر صبري في ذلك اليوم إلى التخلف عن حضورها بسبب بعض أسفاره، وهذان البيتان هما:
روحي على دور بعض الحي حائمة
كظامئ الطير تواقا إلى الماء
إن لم أمتع بمي ناظري غدا
Shafi da ba'a sani ba