مقدمة
في موكب الحياة
في موكب الحياة
في موكب الأدب
في الشعر
في الخطابة
في المقامة
في المقالة
في المسرح
بعض النصوص الأدبية
نصوص لبعض القصائد
نص مقامة «هدهد سبأ»
نصوص لبعض المقالات
النصوص المسرحية الكاملة
نص مخطوطة مسرحية «هناء المحبين»
نص مسرحية «حسن العواقب»
نص مسرحية «صدق الإخاء»
مقدمة
في موكب الحياة
في موكب الحياة
في موكب الأدب
في الشعر
في الخطابة
في المقامة
في المقالة
في المسرح
بعض النصوص الأدبية
نصوص لبعض القصائد
نص مقامة «هدهد سبأ»
نصوص لبعض المقالات
النصوص المسرحية الكاملة
نص مخطوطة مسرحية «هناء المحبين»
نص مسرحية «حسن العواقب»
نص مسرحية «صدق الإخاء»
إسماعيل عاصم في موكب الحياة والأدب
إسماعيل عاصم في موكب الحياة والأدب
تأليف
سيد علي إسماعيل
مقدمة
في يوم 18 / 6 / 1996 صدر كتابي الأول بعنوان «مسرحيات إسماعيل عاصم: الأعمال الكاملة»، وفي مقدمته قلت: «يعتبر إسماعيل عاصم أشهر مجهول في تاريخ المسرح المصري. فكل ما نعرفه عنه أنه أحد رواد التأليف المسرحي المصري، وصاحب مسرحية «صدق الإخاء». التي اعتبرت أثره الأدبي الوحيد، أو على أقل تقدير أشهر مسرحياته. وبقدر ندرة من كتب من النقاد عن هذه المسرحية ارتبط اسم إسماعيل عاصم بها. فعندما يذكر اسمه يتبادر للذهن - وللوهلة الأولى - اسم «صدق الإخاء»، والعكس صحيح ... فهذا هو إسماعيل عاصم، وهذه هي «صدق الإخاء»، لا أكثر ولا أقل.
وبسبب هذا التعتيم المخيم على هذا الرجل، ابتعد عنه كل دارسي الأدب المسرحي على الإطلاق. فلم يجرؤ أي ناقد أو كاتب على التعرض له أو لأعماله المسرحية في مجملها، لا عن تقصير منهم، بل لصعوبة الحصول على معلومات تكشف لنا حقيقة هذا الرائد، أو تكشف لنا عن آثاره الأدبية المسرحية.
ومن هنا بدأت رحلة البحث عن المجهول، وهذا المجهول، تمثل في البحث عن معلومات وثائقية، تكشف لنا من هو إسماعيل عاصم ... وبدأت المرحلة الأولى في رحلة البحث من إشارة، مفادها أن إسماعيل عاصم ألف مسرحيته «صدق الإخاء» في أواخر القرن الماضي، ومن هنا بدأت، فذهبت أنبش سنوات القرن الماضي وسط ركام الأوراق الصفراء المتهالكة، فخرج منها إسماعيل عاصم كالعنقاء، ليحيا معنا ونحيا معه. فوجدناه مأمورا لأحد الأقسام، ومفتشا لأقسام العاصمة، ومحاميا في المحاكم الأهلية، وثائرا من ثوار الثورة العرابية، وشاعرا ندا لمطران، وزجالا، وأديبا، وصحفيا، وخطيبا بليغا، ورئيسا لجمعية أدبية، ومساندا للمشروعات الخيرية، ومؤلفا مسرحيا، وممثلا هاويا.
أما المرحلة الثانية في رحلتنا الشاقة، فكانت أصعب بكثير من الأولى، وتمثلت في الحصول على آثار إسماعيل عاصم المسرحية. فالمعلومات السابقة أثبتت أنه ألف أربع مسرحيات وترجم الخامسة، والمسرحيات المؤلفة كانت: «هناء المحبين» 1893، و«حسن العواقب» 1894، و«صدق الإخاء» 1895، و«الخل الوفي» 1897، والمسرحية المترجمة كانت «توسكا» عام 1901. ومن هنا كانت الصعوبة. أين توجد هذه المسرحيات؟! مع ملاحظة أنها تنتمي إلى القرن الماضي.
فذهبت إلى كل مكان، وطرقت كل باب، وسلكت كل سبيل من أجل الحصول على نصوص هذه المسرحيات ... فدار الكتب المصرية، والمكتبات العامة، ومكتبات جميع الجامعات المصرية لا يوجد بها غير مسرحيتين فقط، هما: «الخل الوفي» و«توسكا»، ولسوء الحظ لم يخط قلم إسماعيل عاصم أي سطر منهما، فالأولى لمحمد المغربي، والأخرى لمترجمين آخرين، لم يكن رائدنا من بينهم.
وبذلك تحدد إنتاج إسماعيل عاصم المسرحي في الثلاث مسرحيات الأولى ... وبعد فترة ليست بالقصيرة، مع العناء الشديد، تجمع بين يدي الكنز الثمين. ليخرج منه جواهر إسماعيل عاصم، متمثلة في أعماله المسرحية الكاملة، وهي نصوص مسرحيات: «هناء المحبين»، و«حسن العواقب»، و«صدق الإخاء».
وبذلك خرجت أول مسرحيات مصرية مؤلفة إلى الوجود، كما خرج صاحبها من قبره قائلا: ... أنا أول مؤلف مسرحي مصري للميلودراما الاجتماعية ... أنا أول محام يعتلي خشبة المسرح كممثل هاو ... أنا أشهر مجهول في المسرح المصري ... أنا إسماعيل عاصم الرائد المسرحي المنسي.»
1
وعلى الرغم من مرور أقل من خمسة أشهر فقط على صدور هذا الكتاب، إلا أن حماسي واهتمامي بإسماعيل عاصم لم يتوقف، لعدة أسباب أدت بي إلى إخراج كتاب ثان عن هذا الرائد يضم العديد من إسهاماته في الحياة، وفي المجالات الأدبية الأخرى غير المسرح، مثل الشعر والخطابة والمقامة والمقالة؛ لذلك أطلقت عليه «إسماعيل عاصم في موكب الحياة والأدب»، وتتمثل هذه الأسباب في:
أولا:
الاستمرار في البحث والتنقيب في الدوريات القديمة، التي أخرجت منها مادة وفيرة من آثار إسماعيل عاصم الأدبية، سواء في مجال الشعر أو المقامة أو المقالة، وهذه المادة خلا منها الكتاب الأول الذي اهتم بآثاره المسرحية فقط.
ثانيا:
أصدر المركز القومي للمسرح والموسيقى كتابا بعنوان: «إسماعيل عاصم»، بعد صدور كتابي الأول بأقل من شهر واحد،
2
وكأن إسماعيل عاصم المهمل من قبل التاريخ والكتاب والنقاد، أصبح فجأة محل اهتمام الجميع، وتوهمت في بادئ الأمر أن عملي ومجهودي العلمي قد ضاع هباء، أمام عمل ومجهود مركز متخصص في مجال التراث المسرحي. فأين أنا كفرد من هذا المركز العريق المتخصص الكامل بكل إمكانياته واتصالاته وأجهزته الحديثة، ولأهمية الكتاب، من وجهة نظر المركز، كان يحرص كل الحرص في تحجيم خروج كل نسخة من نسخ الكتاب،
3
وبمرور الوقت استطعت الحصول على صورة من نسخة أحد الصحفيين. فوجدت الكتاب يتكون من دراسة محدودة كما وكيفا تقع في خمس عشرة صفحة، وباقي الكتاب البالغ 184 صفحة عبارة عن نشر نصوص إسماعيل عاصم المسرحية، وكانت المفاجأة - التي من أجلها كان المركز يحرص كل الحرص على عدم خروج نسخ الكتاب خارج جدرانه الأربعة في - أن الكتاب عبارة عن تشويه للرائد المسرحي إسماعيل عاصم ولتراثه المسرحي، وكان خوف المركز من انتشار كتابه نابع من تخوفه من رد الفعل عند المهتمين بالمسرح أمام هذا التشويه.
4
ثالثا:
دار المحفوظات العمومية بالقلعة، ذلك المكان الأثري الذي يحتفظ بالوثائق التراثية الأصلية لأعلام مصر من الشخصيات التاريخية والسياسية، ولحسن الحظ أنه يحتفظ بثلاثة ملفات لإسماعيل عاصم تكشف لنا تاريخه الوظيفي منذ بداية عمله ككاتب بطنطا في عام 1862 حتى وفاته في 12 / 7 / 1919.
ولهذه الأسباب جميعها كتبت هذا الكتاب؛ حتى أعيد إلى هذا الرائد مكانته الأدبية بصفة عامة، كما كان كتابي الأول الذي أعاد له مكانته المسرحية بصفة خاصة.
وبالله التوفيق ...
د. سيد علي إسماعيل
القاهرة في 1 / 11 / 1996
في موكب الحياة
في موكب الحياة
ولد إسماعيل بك عاصم
1
المحامي في عام 1840
2
بدسوق، وقد تلقى علومه الأولى بالقاهرة، فتخرج في مدرسة سعيد باشا بالقلعة، ثم في الأزهر الشريف الذي أتم فيه حفظ القرآن. ثم تنوعت ثقافته بعد ذلك من خلال مجالسته للعلماء والأدباء والأعيان ممن كانوا كثيري التردد على منزل أبيه، محمد بك صادق - نجل خليل بك مفتي مدينة عينتاب بولاية حلب الشهباء - الذي كان وكيلا لمديرية روضة البحرين (محافظتي الغربية والمنوفية حاليا).
وبسبب هذه النشأة الدينية الأدبية العلمية، تنوعت ثقافته وملك زمام اللسان، فتحدث وكتب وخطب بكل أسلوب من الأساليب الأدبية المنتشرة في ذلك الوقت. فقد أجاد السجع والقول المرسل، والشعر العمودي، وفصاحة الخطابة، وكان إسماعيل عاصم شديد الذكاء والفطنة، متجه الميول للأدب والفن والحكمة.
3
وقد بدأ رائدنا حياته العملية موظفا حكوميا ككاتب بمجلس عموم بحري بطنطا في عام 1862، ثم انتقل كمعاون لمديرية الغربية في 1865، ثم كاتب تركي لها، ثم كاتب بنظارة (وزارة) الداخلية في 1867، ثم كاتب تركي لمديرية المنوفية في 1869، ثم معاون أول مديرية الفيوم في 1870، ثم مأمور ضبطية بندر الجيزة في 1871، ثم وكيل مركز كفر الشيخ بالغربية في 1872، ثم ناظر قسم المنيا، ثم معاون تفتيش قبلي في 1875،
4
ثم مأمور ضبطية كفر الزيات بالغربية، ثم مأمور مركز دسوق مسقط رأسه في 1876، ثم مأمور قسم المنيا فقلوصنا فبني مزار في 1877، ثم مفتشا بالدايرة البلدية بمصر في 1879، ثم مأمور تحصيلات تمن باب الشعرية، ثم تقدم باستقالته بسبب مرض ألم به في عام 1880، وقبلت الاستقالة، وتم صرف معاش له بواقع ربع الماهية وقدرها 350 قرشا. ثم أعيد تعيينه في دائرة البلدية حتى تم رفته بالاستصواب في 3 / 10 / 1882.
5
وفي عام 1885 تقدم في مسابقة بنظارة الأوقاف، عندما أعلنت عن رغبتها لقبول بعض المحامين للعمل لديها، ونال إسماعيل عاصم هذه الوظيفة
6
منذ 15 / 11 / 1885، واستمر بها حتى مارس 1889.
7
وبعد ترك الوظائف الحكومية بأقل من شهرين، افتتح مكتبا للمحاماة
8
بهذا الإعلان الذي نشرته مجلة الآداب قائلة: أديب الفاضل عزتلو إسماعيل بك عاصم مندوب قلم قضايا الأوقاف سابقا من كمال الاطلاع وحسن السمعة وطهارة الذمة والصدق في المعاملات، ولا نزيد القراء بيانا لفضله وشرحا لحقيقته، وقد تصدر الآن للمدافعة والمرافعة عن أرباب القضايا، معاهدا مروءته أن يخدم الفقراء والمساكين مجانا، وجعل مقر أعماله مكتبه بشارع محمد علي بالقرب من منزل شريعي باشا، فعلى من يهمهم النجاح في القضايا أن يلجئوا بحضرة البك المومأ إليه.
9
وفي 1 / 1 / 1892 أقام إسماعيل عاصم مأدبة فاخرة في أوتيل دوربان احتفالا بتعيين بليغ باشا رئيسا لمحكمة الاستئناف الأهلية، وتعيين الشاعر إسماعيل بك صبري وكيلا لها، وممن حضر من المشاهير سعد زغلول ونقولا توما وإبراهيم اللقاني وإبراهيم الهلباوي وأمين شميل.
10
وبدأ اسم إسماعيل عاصم كمحام يتردد على الألسنة، ووصلت شهرته إلى الذروة في سنوات قليلة، وقد عرف في عمله بالمحاماة بين زملائه بالسمعة الطيبة، والذمة والمقدرة، وقد ساعده حضور البديهة والاستعداد الكبير في الخطابة الارتجالية، وحسن الأسلوب والبلاغة على النجاح العظيم في مهنته كمحام، ومما يذكر أن «أول حكم صدر بوقف التنفيذ كان في قضية ترافع فيها.»
11
وتعتبر قضية الرقيق المشهورة في عام 1894، أول قضية مهمة بالنسبة إلى تاريخه في المحاماة. ففي هذه القضية تم اتهام علي باشا شريف وحسين باشا واصف والشواربي باشا والدكتور عبد الحميد بك الشافعي بشرائهم لبعض الجاريات، وتم سجنهم وإحالتهم لمجلس عسكري، ولكن علي باشا تحصن بالقنصل الإيطالي لحصوله على نيشان من أولي الأمر في إيطاليا يمنح حامله المعاملة كإيطالي، وبذلك خرج من السجن لحين المثول أمام المجلس. أما حسين باشا والدكتور عبدالحميد فقد ضمنهما عثمان باشا ماهر. أما الشواربي فقد هرب ولم يتمكن البوليس من القبض عليه، وقد ترافع إسماعيل عاصم عن حسين باشا واصف، وقد أدهش هيئة المحكمة بمنطقه السليم ومرافعته البليغة.
12 «وقد تولى الدفاع في كثير من القضايا المشهورة في تاريخ القضاء المصري كقضية الأزهر، وكان من بين المتهمين فيها أستاذنا الشيخ إبراهيم الدباغ، وقد استطاع في تلك القضية أن يخرج ببراءة ساحة الطلبة بعد أن استبكى المحكمة من مستمعين وقضاة ببلاغته وقوة تأثيره وضربه على الوتر الديني الحساس، واشترك مع هيئة الدفاع متطوعا في قضية دنشواي ، وقضية سبقتها على نسقها وكانت تماثلها في موضوعها، وله مواقف أخرى في قضايا أدبية واجتماعية أثارت ضجيج الرأي العام. كما كان يتطوع في مواقف المروءة والشرف؛ تمجيدا للدفاع عن الكرامة والعرض.»
13
واستمر هذا الرائد يعمل في المحاماة حتى عام 1917،
14
وأطلق عليه لقب «شيخ المحامين»، وكانت وفاته في 12 / 7 / 1919 عن ثمانين سنة من العمر، تاركا في الحياة زوجته فاطمة شركس وأنجاله الستة،
15
وقد نعته - بعض الصحف والمجلات،
16
مثل - جريدة «المقطم» قائلة: خسرت مصر هذين اليومين رجلا فاضلا وعالما نشيطا ومحاميا معروفا وخطيبا مشهورا؛ فقد استأثرت رحمة الله بالمرحوم إسماعيل بك عاصم، فبكاه أهله وأصدقاؤه ومحبوه الكثيرون في طول البلاد وعرضها؛ لأنه كان - رحمه الله - متصفا بحب الناس والعطف على المسكين ونصرة الضعيف وتأييد الأعمال الصالحة والمبادئ الطيبة، وشد أزر القائمين بها. طيب السريرة محمود الخصال، فلا غرو إذا شق نعيه على الجميع وأقبلت الجماهير الغفيرة من جميع الطبقات تشاطر عائلته الحزن والأسى على فقده، وهو والد حضرة صاحب العزة علي بك عاصم القاضي بمحكمة طنطا الأهلية، وشقيق حضرة خليل بك صادق
17
وصهر حضرات محمد أفندي بدر شركس ومحمد بك رفعت بوزارة الحقانية، وقد احتفل بجنازته ودفنه أول أمس في مشهد يليق بقدره، فخرج هذا المشهد من شارع الجنزوري بالعباسية إلى حيث صلي عليه، ثم دفن بالتكريم والاحترام مذكورا بطيب شمائله وحسن فعاله، تغمده الله بالرحمة والرضوان، وألهم حضرات نجله وسائر ذويه الكرام الصبر الجميل والعزاء.
18
وبعد مرور عام من الوفاة وفي 14 / 7 / 1920 أبنه أحمد شوقي بقصيدة قال فيها:
يا أبا عاصم وداع أخ كا
ن وراء البحار يوم احتجابك
جسمه يوم سرت بالغرب ثاو
بيد أن الفؤاد خلف ركابك
عبرات على التنائي أعانت
أدع الحاضرين من أحبابك
كانت الخمس
19
لاغترابي حدا
أي حد ترى لطول اغترابك
ما ملكت الإياب حتى دهمتني
صحف آذنت بطي كتابك
ناعيات نفح الربى من سجايا
ك وزهر الرياض من آدابك
وودادا على الزمان كريما
سبكت بتره الليالي السوابك
أي أعواد منبر لم تطأها
واسع الخطو في عنان خطابك
كل يوم من البلاغة وشي
فارسي وأنت للوشي حابك
وسيول من الفصاحة تترى
بين واديك جريها وشعابك
كنت كالدهر همة في الثمان
ين فما أنت في زمان شبابك
وإذا جرت المحاماة ذيلا
ونميناه كان فضل ثيابك
كنت في صرحك المشيد أساسا
أنت والمحسنون من أترابك
وإذا لم يكن ثوابك للغر
س فلا خير للجنى في ثوابك
فاجعل السابقين في كل فضل
أول الآخذين من إعجابك
يا قريب الجواب في الفضل والهز
ل عزيز علي بطء جوابك
لست أنساك والضيوف على الرح
ب بناديك والعفاة ببابك
طيبات تقدمتك إلى الأخ
رى وخير أقام في أعقابك
اطرح واسترح فكل خليل
سوف يدنو ترابه من ترابك
كلما مر من مصابك عام
وجدت مصر جدة لمصابك
20
في موكب الأدب
من يقرأ سيرة إسماعيل عاصم في موكب الحياة، يظن أن هذا الرجل قد أفنى حياته في العمل الوظيفي الروتيني منذ عام 1862 حتى وفاته عام 1919، ولم يتوقع أي إنسان أن هذا الرجل له أية اهتمامات أدبية أو فنية على الإطلاق، ولكن التاريخ كشف لنا العجب العجاب عن هذا الرجل المجهول؛ فالتاريخ أثبت لنا أن إسماعيل عاصم شاعر من أكبر شعراء عصره، وقصائده كانت تتصدر صفحات الصحف الأدبية منذ النصف الثاني من القرن الماضي. كما أنه من أصحاب المقامات، ومقامته «هدهد سبأ» خير دليل على ذلك، وهو من أشهر الخطباء في عصره، وبالأخص في الأندية والجمعيات الأدبية والمحافل الماسونية، وهو من كتاب المقالات الأدبية، ومناظرته مع محمد أبو شادي صاحب جريدة «الظاهر» خير دليل في هذا المجال، وأخيرا هو أول مؤلف للميلودراما في المسرح المصري، وأول محام مصري يعتلي خشبة المسرح كممثل هاو.
في الشعر
الشعر هو أول فن أدبي مارسه وبرع فيه إسماعيل عاصم منذ أن شب في الحياة. فعندما كان تلميذا بمدرسة القلعة، زارها سعيد باشا،
1
فمدحه التلميذ إسماعيل عاصم بقصيدة - تدل على فطرته الشعرية ومقدرته على نظم الشعر منذ عهد الصبا - مطلعها:
مدارس العلم بالأنوار قد سطعت
أرجاؤها لسعيد العصر مذ قدما
2
ولم يشغل العمل الوظيفي شاعرنا عن قرض الشعر، فنجده في أوقات الفراغ يتسلى إما بوضع الألغاز بصورة شعرية أو حل الألغاز
3
النثرية بالشعر أيضا، وإن دل هذا فإنما يدل على امتلاكه لناصية هذا الفن العربي الأصيل.
ففي 27 / 8 / 1870 نشر شاعرنا لغزا بمجلة «روضة المدارس المصرية» - عندما كان المعاون الأول بمديرية الفيوم - بدأه بهذه الأبيات:
ما اسم شيء للناس بالنفع قد عم
نصفه مهمل وباقيه معجم
ورباعي الحروف في العد لكن
حاز كل العلوم والله أعلم
نصفه الأولي رشف لذيذ
تارة والهلاك يحصل من ثم
4
وفي 12 / 10 / 1870 نشر بنفس المجلة حسن عاكف لغزا نثريا على هيئة مسألة حسابية.
5
فقام بحلها عاصم في 25 / 10 / 1870 - عندما كان المعاون الأول بمديرية الجيزة - لا بالنثر كما هو المعتاد في حل الألغاز النثرية، ولكن بأبيات شعرية دلالة على قدرته في هذا الفن، ومطلعها:
رأينا سؤالا للنجيب المدقق
يبين لنا عن فهمه المتأنق
6
وفي مجال مدح الملوك والسلاطين كانت له بعض القصائد، كأترابه من شعراء هذه الفترة. فقد مدح السلطان الغازي عبد الحميد خان
7
في أحد أعياد جلوسه السعيد على عرش السلطنة العثمانية بقصيدة طويلة مطلعها:
صفا الوقت فاغنم حظه فالصفا صدف
وعوض على النفس الأبية ما سلف
وله أيضا منظومة شعرية في الخديو توفيق قالها عند عودته من الإسكندرية عقيب الثورة العرابية عام 1882، مطلعها:
لله في الخلق لطف رق معناه
فليس يدري امرؤ ما كنه عقباه
وله منظومة أخرى قدمها للجناب العالي بمناسبة عيد الأضحى مطلعها:
ليس ارتياحي براح من يدي بكر
بل راحتي بكر معنى من سنا الفكر
8
وكما مدح وأثنى عاصم على الملوك والسلاطين كباقي الشعراء المشهورين، قرظ بعض الكتب أيضا كعادة الشعراء في ذلك الوقت. بل ووضع اسمه ضمن أشهر شعراء العصر في دليل مصر لعام 1889، أمثال: عبد الله باشا فكري والشيخ علي الليثي ومحمد عثمان جلال وعلي فهمي ابن رفاعة الطهطاوي وحفني ناصف وإسماعيل صبري.
ففي عام 1889 قرظ كتاب «دليل مصر لعامي 89-1890»
9
ليوسف آصاف وقيصر نصر بقصيدة منها هذه الأبيات:
سفر به شمس الفصاحة أسفرت
عن نور تاريخ الأواخر كالأوائل
جمع الحقائق والرسوم كأنما
في طيه سر الوجود له رسائل
نعم الكتاب كأنه في عصره
مرآة حال الكائنات بغير حائل
10
وفي 15 / 7 / 1893 نشرت مجلة «المنظوم» قصيدة لإسماعيل عاصم قالها في وداع ابنه علي عاصم، عندما سافر إلى أوروبا لدراسة القانون، وهي قصيدة مكتظة بالنصائح والإرشادات الواجبة من أب لابنه. فنجده يشد أزره حتى يعود ظافرا بعلمه، كما يوصيه بالتقوى والإيمان والتمسك بالدين، والبعد عن الرذائل. كما يرشده إلى مصاحبة الكرام ونبذ اللئام، وعدم العزلة عن الناس، بل دراسة طبائعهم، وينصحه بالتمسك بالعدل والابتعاد عن الظلم ... إلخ هذه النصائح. ومن أبيات هذه القصيدة:
فأوصيك بالتقوى فربك عالم
بسرك والنجوى عليك رقيب
حافظ على الإيمان ما استطعت وليكن
به من رضا المولى إليك نصيب
وأحبب لكل الناس ما أنت تبتغي
لنفسك تصبح والعدو حبيب
وإياك إياك النقايص وليكن
من النفس يا ذخري عليك حسيب
وعاشر جميع الخلق وادرس طباعهم
وخذ ما تراه للعقول يطيب
وصاحب كرام القوم واهجر لئامهم
فإن الفتى للمصاحبين نسيب
11
وإذا كنا - فيما سبق - قد أوردنا بعض الأبيات عن مدائح إسماعيل عاصم للملوك والسلاطين، فإن القصيدة الوحيدة الكاملة في هذا الموضوع، هي القصيدة المنشورة في مجلة «المنظوم» في 1 / 9 / 1893، وكانت في مدح الخديوي عباس باشا حلمي الثاني، بمناسبة عودته من الآستانة، وقد وردت هذه القصيدة ضمن عدة قصائد لشعراء آخرين في مدح الخديوي أيضا، أمثال: الشيخ علي الليثي ومحمد أبو شادي وعائشة التيمورية. ومن أبيات هذه القصيدة:
مولاي أهلا وسهلا هاك أنفسنا
بها لقدومكم أجسامنا جادت
هذي الوفود من الأقطار تجذبها
محبة لك يا بحر الوفا ازدادت
لو استطاعوا لجاء القطر أجمعه
لكنه بالدعا أرواحهم نادت
فأسلم ودم وأقبل البشرى مؤرخة
عاد العزيز وأوقات المنا عادت
12
ولم يقتصر شاعرنا على تقريظ الكتب فقط، كتقريظه لكتاب «دليل مصر»، بل قرظ أيضا المجلات الأدبية والشعرية تشجيعا لها، ومن هذه المجلات مجلة «أنيس الجليس»،
13
التي قرظها شاعرنا في عددها الثاني في 28 / 2 / 1898 بقصيدة، منها هذه الأبيات:
أسكرتنا ألفاظها فحسبنا
إنها للنهى حباب الكئوس
ورأينا كل المجلات مرءوسا
وأنس الجليس مثل الرئيس
بلغت مشرق المعارف إس
كندرة
14
في سنائها المأنوس
15
ولم تتوقف موهبة إسماعيل عاصم عند حد قول الشعر في مدح الملوك أو الألغاز أو النصح والإرشاد أو تقاريظ الكتب والمجلات. بل زادت على هذه الأغراض غرضا آخر، هو المناظرة الشعرية، ومنها مناظرته مع الشاعر خليل مطران على صفحات مجلة «أنيس الجليس» في عام 1898، حول القضية الطريفة التي تتحدث عن أيهما أسبق في الحب، القلب أم العين. ففي 31 / 7 / 1898 نظم مطران قصيدته، وأبان فيها القضية بين القلب والعين، ومنها:
بين قلبي ومقلتي
صدمة توهن القوى
ونزاع بفصله
حكما قاضي الهوى
فرد عليه إسماعيل عاصم - في نفس المجلة - بقصيدة، منها:
ليس للعين والحشا
ما اقتضى حاكم الهوى
فهي من شأنها ترى
كل شيء لها استوى
فإذا استحسنت فلل
قلب في الحب ما نوى
واستمرت المناظرة بينهما بصورة شعرية طريفة في أعداد أخرى من المجلة، وكان النصر حليف عاصم؛ لأنه استند على مؤهلاته القانونية والشعرية كمحام في الدفاع والنظر في القضية.
16
وكان شاعرنا يتمسك بتعاليم الإسلام السمحة، فكان يؤمن بالإخاء والمساواة بين المصريين، بغض النظر عن أديانهم. فنجده يشارك أخوانه المسيحيين في احتفالاتهم الدينية، ففي 11 / 9 / 1900 ألقى قصيدة في مركز جمعية التوفيق القبطية بمناسبة عيد النيروز، أبان فيها الوحدة بين الأديان، وحذر من مغبة الفتنة الطائفية، وحذر من من يريد التفريق بين الأقباط والمسلمين، ومن أبيات هذه القصيدة:
يا أمة القبط يا أهل الوداد ومن
عهد الوفاء عهدهم في ما عهدناه
إنا وأنتم كلانا واحد وإذا
أراد تفريقنا وغد رفضناه
يضمنا وطن تدنو بنا لغة
يظلنا علم بالحق نرعاه
17
ولإسماعيل عاصم تجربة فريدة في مجال كتابة الأزجال والمواويل. فقد وضع موالا مشهورا تقول كلماته:
يا دي الدلال والجمال والحب ونهاره
والشعر سال عا الجبين كالليل ونهاره
والدمع سال من الجفون كالبحر وأنهاره
ليه يا غزال الحمى كتر الدلع والتيه
يا قلبي أسير في هواك ويحل أنهاره
وهذا الموال غناه لأول مرة المطرب محمد صادق عام 1904 في دار إسماعيل عاصم، ثم ذاع وانتشر بعد ذلك بين المطربين.
18
وآخر قصيدة قالها شاعرنا - حسب ما توفر بين أيدينا من قصائد - كانت في 30 / 11 / 1917، يوم تأبين الشيخ سلامة حجازي بدار الأوبرا، وكان إسماعيل عاصم رئيس لجنة التأبين، ومن أبيات هذه القصيدة:
هكذا مات واستراح حجازي
بعد ما أنشبت به الاسقام
بات في اللحد مستريحا لدى الله
وبتنا يروعنا الإيلام
كان فينا يكاد يحيي بمغنا
ه رفاتا تقيمها الأنغام
19
في الخطابة
رغم تعدد الوظائف الحكومية التي شغلها إسماعيل عاصم، إلا أنها لم تشغله عن نظم الشعر، كما رأينا، وكان يكفيه هذا الفن ليشبع فيه رغبته الأدبية، وأشعاره السابقة تؤكد أنه من الشعراء الكبار المغمورين بين أوراق الدوريات، التي تطالب المثقفين بجمعها وطبعها ليخرج هذا الشاعر من بين صفحاتها ليحتل مكانته في مقدمة رواد الشعر الحديث في مصر، وبالرغم من ذلك وجدنا هذا الأديب المشهور المغمور يقتحم باقتدار مجالا ثانيا غير مجال الشعر، ألا وهو مجال الخطابة. «كان إسماعيل عاصم من أوائل خطباء عصره المرتجلين، يدعى إلى موقف الخطابة فيتدفق كالسيل، والويل لمن يقاطعه من نكتته اللاذعة وبديهته الحاضرة ... [وكان له] مواقف معروفة في الثورة العرابية يخطب ويكتب، ثم ألقي القبض عليه ولبث في السجن وقتا غير قصير، ثم أطلق سراحه، وكان زميله في السجن المرحوم أبو ستيت الكبير.»
1
وبسبب هذه الخطب تم رفته من وظيفة مفتش ثان محطات وجه بحري في 3 / 10 / 1882 بالاستصواب.
2
ولم يبعده السجن أو الرفت من الوظائف الحكومية عن الإسهام بخطبه البليغة في إنعاش الروح الوطنية في نفوس المصريين، فنجده في احتفال أوتيل دوربان - السابق - في 3 / 1 / 1892 يلقي خطبة حماسية وسط الحاضرين، أمثال إسماعيل صبري وسعد زغلول.
3
كما أنه من أوائل من أسسوا الجمعيات الأدبية، وكان يعضدها بماله ومواهبه الخطابية والأدبية، ويتخذ لها المسارح مكانا لاحتفالاتها.
ومن أهم الجمعيات التي أسسها هذا الرائد، جمعية العلم الشرقي
4
الأدبية العلمية في عام 1892، وقد نقلت الصحف والمجلات المصرية أخبار هذه الجمعية قائلة: «احتفلت جمعية العلم الشرقي العلمية احتفالها الأول السنوي في الثامن من الشهر الغابر في محل التياترو العربي، وكان الاحتفال غاصا بالزائرين من الوجهاء والأعيان على اختلاف النزعات والطبقات. تلي فيها ملخص أعمالها للسنة الماضية وتكلم كثيرون ممن حضروا يمتدحون نشاط تلك الجمعية ويثنون على حضرات أعضائها، وقد أثنت الجمعية بنوع خاص على حضرة الفاضل عزتلو إسماعيل بك عاصم؛ لما أجراه أثناء اجتماعاتها من الغيرة واستنهاض همم الأعضاء للمواظبة على العمل، ونحن نشارك الجمعية في هذا الثناء؛ لما نراه من غيرة هذا الشهم على الجمعيات عموما والأخذ بناصرها وبث روح الغيرة والحمية الوطنية فيها.»
5
ولم يقتصر إسماعيل عاصم على إلقاء خطبه في محافل الجمعيات الأدبية، بل كان يشارك بها في الحفلات المسرحية. ففي 4 / 4 / 1893 ألقى خطبة في تياترو شارع عبد العزيز
6
بمناسبة تمثيل مسرحية «محاسن الصدف» لمؤلفها محمود واصف، وكانت الخطبة تدور حول فضل التشخيص والفن المسرحي وما لهما من منفعة على المجتمع. كما شهد الخطيب بتقدم وبراعة فرقة إسكندر فرح
7
وحض الناس على مساندتها لتتقدم ويرتفع شأنها.
8
ولم يكتف إسماعيل عاصم بتكوين وتعضيد جمعياته الأدبية فقط كنشاط اجتماعي، بل كان يساند باقي الجمعيات الأدبية الأخرى - حتى في الأقاليم - بخطبه البليغة، وبث المواعظ والحكم، وإرساء القواعد الاجتماعية في النفوس المصرية، ومن هذه الجمعيات، جمعية الاتحاد الأخوي، التي قالت عنها جريدة «المقطم» في 17 / 7 / 1896: أعلنت جمعية الاتحاد الأخوي في بندر المنيا أنها عزمت على تمثيل رواية أدبية في مرسح القرداحي ليلة 21 الجاري تحت رعاية حضرة صاحب العزة السيد بك فهمي وكيل المديرية، ويخطب فيها حضرة الأصولي الفاضل إسماعيل بك عاصم، فنحث الأدباء على تنزيه الطرف بمحاسن التمثيل وتشنيف الآذان بدرر الخطيب المصقع.
9
وفي 1 / 10 / 1896 قالت جريدة «الأهالي»: شخصت مساء السبت الماضي جمعية الترقي الأدبي رواية «كليوباترا» الشهيرة، وقد خطب في القوم بين بعض الفصول حضرة الخطيب الجليل إسماعيل بك عاصم المحامي الشهير خطبة لا يلزم منها بأكثر من نسبتها لمن خطبها.
10
كما ألقى رائدنا بعض خطبه البليغة، مثنيا على جمعية الترقي الأدبي، وشركة التمثيل الأدبي، وانضمامهما
11
تحت اسم جمعية الابتهاج، في الاحتفال بهذا الانضمام بالمسرح العباسي بالإسكندرية في 26 / 10 / 1896،
12
وكان أكثر خطب إسماعيل عاصم داخل المحافل الماسونية؛ حيث كان من أبرز أعضائها.
13
واستمر هذا النشاط الأدبي لإسماعيل عاصم، لسنوات طويلة. فنجده يساند الجمعية الخيرية المارونية في احتفالها بحديقة الأزبكية في 17 / 5 / 1901، بخطبة اجتماعية رائعة، فذم التعصب وكل نازع إليه، ومدح التآلف وكل حاض إليه.
14
ثم عاد وساندها بخطبة أخرى في العالم التالي،
15
وكان يشارك في معظم الاحتفالات التي يستدعي مقامها إلقاء الخطب فيها، ولم يتباه هذا الرائد بالظهور، أو التفرد أو التفاخر بنفسه كخطيب بليغ، بل كان يخطب متواضعا بجانب بعض الخطباء الآخرين.
ففي 28 / 8 / 1908 قالت جريدة «الأخبار»: عزمت جمعية مرغريتا على إحياء حفلة كبيرة مساء يوم الثلاثاء في قاعة أعياد الإسكندرية تحت رعاية لجنة من العثمانيين، وسيمثل أعضاؤها رواية «الدستور»، وهي ذات فصلين، أنشأها حضرة الفاضل جورج أفندي منسي وضمنها مشاهد يتجلى فيها جهاد العثمانيين وطلب الحرية والمساواة، ثم يتلو التمثيل بعض الخطب في الحرية والدستور، يلقيها جماعة من كبار الفضلاء، منهم: إسماعيل بك عاصم المحامي ولطفي بك عيروط وأحمد بك زكي سكرتير مجلس النظار.
16
وظل هذا الرائد يخطب في الاحتفالات الأدبية والعلمية والمسرحية حتى عام 1912، عندما ألقى خطبة، مدح فيها عطوفة الشريف عبد الله بك، في الاحتفال بتشريفه حضور تمثيل مسرحية «صلاح الدين الأيوبي» بالتياترو المصري.
17
ويعتبر إسماعيل عاصم أول من أقام احتفالات التكريم بداره لرجال الصحافة والأدب، وكان يخطب فيها خطبا بليغة تدل على مقدرة فائقة لامتلاك هذا الفن، ومن هذه الاحتفالات: حفلة تكريم الشيخ علي يوسف، وأعياد المجلات الأدبية، مثل مجلة المقتطف، ومجلة المنار، ومجلة المفتاح، ورائدنا أيضا، هو أول من فكر في المجتمع اللغوي ودعا إليه في داره العظماء والكبراء. حتى لم يسع حسين رشدي باشا إلا أن يقول له: أصبحت دارك يا عاصم بك سوق عكاظ،
18
وكما كانت آخر قصيدة ألقاها شاعرنا في حفل تأبين الشيخ سلامة حجازي، كانت أيضا آخر خطبة ألقاها في نفس المناسبة، وكأنه كان ينعى نفسه أثناء نعيه لسلامة حجازي.
في المقامة
أما المقامة فهي ثالث لون أدبي يمارسه ويبدع فيه إسماعيل عاصم، وأصبحنا لا نتعجب من تعدد ألوان الأدب عند هذا الرائد المجهول، وبكل أسف لم نتمكن من الحصول، إلا على مقامة واحدة له
1
بعنوان «هدهد سبأ» نشرتها جريدة «مكارم الأخلاق» في أواخر عام 1887، وأوائل عام 1888.
2
وقد بدأ إسماعيل عاصم مقامته بمدح الجريدة بأبيات، قال في مطلعها:
سمع النداء على البعاد الهدهد
لمكارم الأخلاق وافى يقصد
وبعد التحية والتمجيد لله عز وجل والصلاة على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال إسماعيل عاصم: «وبعد، فهذه أزهار قطفتها يد الأفكار من روض المحادثات التي جرت بين هدهد سبأ وزير الطير وآصف بن برخيا وزير الجان لدى نبي الله سليمان بن داود - على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام - قد أوردتها هنا لتتروح بعرفها الأرواح؛ لما اشتملت عليه من أساليب الحكمة وحسن الأدب وفصل الخطاب، وذلك إجابة لطلب كثير من حضرات العلماء الأكارم، وفي مقدمتهم حضرة صاحب المكارم.»
وبدأ الهدهد يتحدث في المقامة عن زوال الممالك بعد موت النبي سليمان، وقد عدد الهدهد بعض النصائح والعظات، منها هذه الأبيات:
الخلد في الدنيا محال
والحال ولو طال استحال
والمرء مهما اختال خيال
وكثرة الآمال وبال
فكل شيء للزوال
والله يبقى لا سواه
ثم يتحدث بعد ذلك عن فكرة الموت، وكيف أن الموت يأتي لا محالة، وعندما يأتي لا بد أن تخضع له الرءوس؛ لذلك ينبه الناس إلى عدم التمسك بالدنيا وغرورها، فسرورها ما هو إلا شرور، ومهما تمسكنا بالدنيا فمصيرنا إلى الزوال، ويتخذ الهدهد بعد ذلك النبي سليمان مثالا حيا على ذلك قائلا: «وكلما تذكرت سيدنا سليمان وما كان له من عظيم السلطان وما كنت فيه من الإمارة وكبرياء الوزارة، ثم ما أعقب ذلك من الزول وسرعة الانحلال، أغطي رأسي بجناحي راضيا من الغنيمة برواحي، وأقول يا أرض ابلعيني، ويا أيتها الدنيا دعيني، فمتاعك غرور والاغترار بك زور.»
وبعد ذلك ينشد الهدهد أبياتا مطولة يتحدث فيها عن غدر الدهر، وعدم جدوى كنز المال، وعدم التكالب على المناصب ضاربا المثل بالنبي سليمان، وعدم الانهماك في الملذات ... إلخ هذه النصائح. ثم تقابل مع عصفور الأدوار الذي سرد للهدهد تاريخ البشرية منذ آدم عليه السلام، وكيف خرج من الجنة مع حواء، والصراع بين قابيل وهابيل، وكيف استاء العصفور من هذا الصراع فعاد إلى مركزه في السماء، ولكنه عاد إلى الأرض مع نوح عليه السلام؛ لعله يجد في الأرض السلام، ولكنه وجد عقوق الابن لوالده نوح، فقال: «بالأمس قتل الأخ أخاه، واليوم عصى الولد أباه، فأي خير من الدنيا أتمناه، وصعدت إلى مركزي مستعيذا بالله.»
وحانت لحظة رحيل العصفور، فقال للهدهد: «اعلم أن العاقل من اعتبر بأمسه، وعمل لغده ولم يضيع دقيقة من عمره بغير فائدة تعود عليه وعلى بني نوعه. فإن العزلة داعية الكسل والبطالة، وهذا تأباه النفوس الشريفة، وبقدر الكد تكون الفائدة التي قدرها الله سبحانه وتعالى. فإن الحذر لا يمنع القضا، والعزلة لا تدفع سهام البلايا المنقذفة عن قسي السموات.»
وتتوالى الأحداث بعد فراق العصفور، فيحضر آصف ليكمل الحديث مع الهدهد ويعدد له أسباب الخراب والدمار في الأرض، عارضا منها الحسد والحقد.
وهكذا استطاع إسماعيل عاصم عن طريق أحاديث هدهد سبأ وعصفور الأدوار وآصف بن برخيا، أن يبث المواعظ والحكم في نفوس القراء من المصريين، معتمدا على النماذج النبوية وتاريخ الأديان، مقتبسا لها ما يعضدها من الآيات القرآنية، وقد أجاد في تنوع أسلوبه بين النثر والشعر، مبتعدا - بقدر الإمكان - عن الكلمات الشاذة والغريبة. فهذه المقامة تعد من مقامات المواعظ؛ حيث عالجت بعض القضايا الأزلية، مثل: الموت والحياة وصراع الإنسان بين الأرض والسماء، أو بين الدنيا الفانية والدار الباقية، وقد اتخذت عدة نماذج نبوية كأمثلة حية في نفوس المصريين، واستطاع المؤلف أن يدمج كل ذلك في أسلوب قصصي، الهدف منه تعليمي.
في المقالة
رابع فن أدبي مارسه إسماعيل عاصم، كان فن كتابة المقالات الأدبية، عن طريق المناظرة، وقد وجدنا إحدى هذه المناظرات منشورة بجريدة «الظاهر» عام 1904
1
وهي بين إسماعيل عاصم ومحمد أبو شادي
2
مدير ورئيس سياسة جريدة «الظاهر»، ويدور موضوعها حول: فقدان الخطابة من مصر.
ففي 18 / 6 / 1904 كتب أبو شادي مقالا تصدر الصفحة الأولى من جريدة «الظاهر»، تحت عنوان: فقدان الخطابة من مصر، وتحدث فيه عن أيام الاحتلال الإنجليزي لمصر بعد القضاء على أحمد عرابي، ووصف الشعور الوطني عند المصريين إزاء هذا الاحتلال الأجنبي في ذلك الوقت، وتمنى عودة هذا الماضي الجميل قائلا: «فيا أيتها الأوقات التي تصرمت، هل لك أن تعودي وتعيدي لنا نهضتنا الأولى التي كانت تمثلنا في مصاف الأمم الشريفة المشرئبة إلى الحرية والاستقلال.»
ويؤكد هذا المعنى بتذكره لمواقف الرجال والطلبة في الماضي متحسرا عليها، آملا في دوامها قائلا: «فلو دامت تلك النهضة إلى الآن، ولو بقي رجالها على ما كانوا فيه من الحمية والتلهب غيرة وحماسا، لكنا الآن في غير هذا المركز الحرج الذي تتمالأ علينا فيه دول الغرب ونحن صامتون.»
ثم يتطرق بعد هذه المقدمات إلى الموضوع الأساسي قائلا: «كنا نعهد في تلك الآونة أن مصر ملأى بالخطباء المصقعين الذين تتدفق أشداقهم بسيل من البلاغة وترتطم شفاههم في زبد من الحماس. فأين ذهبوا وماذا فعل الدهر بمواهبهم؟ وهل فجعت مصر بهم أجمعين أم ضرب بينهم الخمول يجرانه فساكنوه وعاشوا تحت ظلاله هامدين؟ لم لا نسمع اليوم من جلبتهم اللذيذة ورنات أصواتهم العذبة الرخيمة إلا نغمة واحدة تتردد ما بين كل آونة وأخرى على فم خطيبنا الفرد سعادة مصطفى كامل باشا؟ أليس من العار على مصر - وقد امتلأت أصقاعها بأكثر من عشرة ملايين من الأنفس - ألا يكون لها من نابغي أبنائها سوى خطيب واحد؟!»
وحول هذا المعنى من فقدان الخطابة في مصر، وعدم وجود خطباء غير مصطفى كامل، استرسل الكاتب بإسهاب كبير. كما تطرق إلى معنى الخطابة وفائدتها، وضرب أمثلة من خطباء التاريخ الروماني واليوناني، وأيضا من التاريخ العربي مثل هانئ بن مسعود ... إلخ، ويتخذ من هذه الأمثلة نبراسا لخطباء مصر قائلا في ختام المقال: «فهكذا ينبغي أن يفعل المصري الذي يرى نفسه كفؤا لأن يؤدي خدمة جليلة لوطنه ويجد أن مقاله أهون شيء ينفع به وطنه. فإذا اجتمع لدينا عدد عديد من الخطباء المسمعين الذين يمكنهم أن يخطبوا في البلاد الأوروبية مبينين حالة مصر وفعال المحتلين بها، ويتهيأ لهم أن يسوقوا هذا الشعب الجامد بعصا التأثير البالغ إلى مواقف النشاط والإقدام والعمل، انتظرنا أن يكون لنا مستقبل سعيد.»
وطالما الموضوع تطرق إلى الخطابة والخطباء، واتهام صاحب الجريدة خطباء مصر بالتقاعس، بل وبالانقراض، حتى لم يبق منهم غير واحد فقط هو مصطفى كامل، فكان من الضروري الرد عليه من قبل أحد الخطباء، واستطاع إسماعيل عاصم أن يرسل الرد على ما سبق كخطيب له باع طويل في مجال الخطابة، سواء عن طريق مقدرته الفنية في هذا المجال - التي رأيناها سابقا - أو عن طريق عمله في المحاماة، التي تعتمد أولا وأخيرا على الأسلوب الخطابي، وعاصم يمتلك الميزتين، وتم نشر الرد بالجريدة - وفي نفس المكان وبنفس العنوان - في 22 / 6 / 1904.
وبعد أن عرض عاصم ملخصا لفحوى المقال السابق، أبدى عدة ملاحظات عليه، من أهمها قوله: «إنه عند دخول المحتلين مصر لم يكن فيها شيء اسمه النهضة الوطنية، ولم تر فيها غير شرذمة من قواد العساكر ثاروا ضد أمير البلاد والهيئة الحاكمة ينادون بالجنسية المصرية ويمقتون من لم يكن على شاكلتهم، وأخذوا يجبرون الأهالي على مقاومة السلطة الخديوية ومناوأة الحكومة فتارة ينادون بعزل الخديوي، وطورا يرمونه بالمروق من الدين مع ما كان عليه - رحمه الله - من الصلاح والتقوى وحب الخير لبلاده، ولم يكن فيه عيب غير عدم الاستبداد والطمع اللذين كانا في عهد غيره، حتى تجرأت الأسافل والأوغاد على تلك الأفعال المشئومة التي كانت السبب الوحيد في احتلال البلاد بطلب أميرها وأعاظم رجاله. فأين كانت النهضة الوطنية وقتها ... أم حسبنا أن ما قام به أولئك العصاة يعد في عرف الشرع والقانون نهضة وطنية ... حاشا لله.»
3
ثم تطرق عاصم إلى تفنيد بعض أقوال أبي شادي، عندما تحسر على ماضي الجمعيات الأدبية والعلمية والأحزاب السياسية، قائلا: «إن الجمعيات العلمية التي ذكرتم عنها أنها كانت تنعقد منذ عشرة أعوام، فإنها كانت مركبة من بعض تلامذة المدارس وبعض الأساتذة، ولم يكن فيها غير إلقاء خطب أدبية ومحاورات علمية، وكانت قوانينها تحرم عليهم الخوض في الديانة والسياسة ... وأما الأحزاب السياسية والكتاب والخطباء السياسيين الذين قلتم بوجودهم فإنهم لم يكن لهم حقيقة في مصر لا منذ عشرة سنين ولا أكثر من ذلك؛ لأننا ما سمعنا أبدا لغاية الآن بوجود أحزاب سياسية أو خطباء سياسيين في ديارنا، حتى ولا وجود كتاب سياسيين اللهم إلا في هذه السنين الأخيرة، وهم أصحاب الجرائد.» وأخيرا تحدث عن الخطيب الأوحد - ويقصد به الزعيم مصطفى كامل
4 - وتعجب من حماس أبي شادي له، فأبان أن الخطيب لم يهاجم الاحتلال في مصر، بل هاجمهم في فرنسا، التي قامت بالاتفاق مع الإنجليز، وأصبحت خطب الخطيب لا تتعدى الكلمات الجوفاء المتناثرة في الهواء.
وبعد نهاية رد إسماعيل عاصم، كتب أبو شادي تعقيبا عليه - في نفس الصفحة والعدد - بدأه بالهجوم الشرس على اعتبار أن عاصم لم يمعن النظر فيما كتب، كما اتسم رده بالاندفاع والتسرع وعدم الفهم. ثم استفاض في توضيح هذه الأمور والإتيان بالأدلة - البعيدة والغير مقنعة - مثل الحديث عن الجمعيات السياسية الموجودة في الماضي - وهي في الأصل جمعيات علمية أدبية - أمثال الجمعية الخيرية الإسلامية، والقبطية، ومصر الفتاة، والمقاصد الخيرية. ثم شحذ قلمه للدفاع عن مصطفى كامل بصورة مسهبة للغاية.
وأخيرا وجه إلى إسماعيل عاصم كلمات قاسية، متهما إياه بالانحياز إلى الإنجليز قائلا: «لمن العار على مثل حضرته - وقد كان يملأ شدقيه باسم الوطنية فيما سلف - أن يدعونا ويدعو أبناء وطنه كلهم إلى الخضوع لسلطة المحتلين، والرضوخ لأحكامهم والاستظلال بظلالهم. فإن مثل هذه الأقوال لا يصح أن تبدر إلا من شاب لم يعرك الحوادث ويصابر الأيام، ويبل الدهر حلوه ومره، ولكن ما عسانا نقول لمن سعى من مصر إلى لندرة [لندن]؛ ليرى الإنكليز مقدار محبته لهم فعاد محشوا بالميل والإخلاص إليهم
5 ... وليكن هذا الذي كتبناه كافيا للتعقيب على رسالة الزميل الفاضل ونعود إليها فنوفيها قسطها بما هو أوضح وأشرح، سواء وفى بوعده من البيان أو لم يوف والسلام.»
ولعل أبا شادي شعر بأنه لم يستطع الرد بصورة مقنعة في تعقيبه السابق، فأفرد مقالا آخر للرد على عاصم نشره في 25 / 6 / 1904 تحت عنوان: رد على انتقاد. وبدأه بالهجوم على عاصم أيضا، ناعتا إياه بالسد والصخرة التي تعترض الفلاح عند حرث أرضه؛ لذلك لزم اقتلاعها من مكانها. ثم أسهب كعادته في الحديث عن مصطفى كامل بصورة متكررة، ومعادة لما قاله سابقا. ثم تطرق مرة أخرى إلى مقال عاصم، وقام بتفنيده بصورة جاءت أقل بكثير من تعقيبه السابق؛ حيث خرج عن موضوع المناظرة في أكثر الأحيان، وأخيرا يختتم رده بالحديث عن مصطفى كامل قائلا: «يجب علينا وعلى أمثالنا أن نكون في مقدمة الذين يخدمون مصر بخطبهم، ولسنا فيما كتبنا عن مصطفى كامل باشا إلا مؤيدين إنسانا قام بأمر خطير، وكذلك نفعل مع كل مصري يخدم وطنه بنصح وإخلاص، والله يهدينا جميعا إلى سواء السبيل.»
وفي 29 / 6 / 1904 قام إسماعيل عاصم بالرد على تعقيب ورد أبي شادي، بمقال تحت نفس العنوان الأول: فقدان الخطابة من مصر. بدأه بإلفات نظر أبي شادي إلى توخي آداب المناظرة، وعدم التعصب لما ينشره. كما أبان له أن رده يفتقد إلى الدليل، ونسب إلى شخصه أقوالا لم يقلها، واختتم هذا الجزء بقوله: «فأردت أن أبين لكم في هذه العجالة الأدلة على أقوالكم من نفس مقالتكم، راجيا منكم إقامة دليل واحد على ما نسبتموني إليه ... فأما مقالة حضرتكم فإنها تشتمل على ثلاثة أمور: الأول منها أن مصر عقب الاحتلال كانت زاهرة بالنهضة الوطنية، والثاني أن مصر منذ عشرة أعوام كانت تعقد فيها الجمعيات العلمية والأحزاب السياسية والخطب المنبهة للهمم ثم خفتت تلك الأصوات، والثالث أنه لا يوجد من نابغي مصر الآن غير واحد يخطب.»
ثم بدأ عاصم بتفنيد هذه الأمور متبعا الأسلوب العلمي في المناظرة؛ حيث يأتي بالأدلة على ما يقول من نفس أقوال أبي شادي نفسه، وفي كل دليل يأتي برقم العدد والعمود والسطر، ومثال على ذلك قوله: «قلتم إن جمعية مصر الفتاة وضعت لائحة بحثت فيها عن ترقية شئون مصر وقدمتها للخديوي الأسبق فقبلها وقرر العمل بها (راجع ع4 س42)، والجواب على ذلك أن الخديوي الأسبق لو علم بوجود جمعية من هذا القبيل لخسف بها الأرض وبكل كاتب أو خطيب يفوه بكلمة مما تكتبونه اليوم.»
كما نوه مرة أخرى على آداب المناظرة، قائلا: «إن ألفاظ خلط وشطط لا تليق بآداب المناظرة والمحاماة.»
وكان تعقيب الجريدة على ما سبق بالآتي: «الظاهر: ننشر هذه الرسالة الآن، ونرجئ الرد عليها إلى غد؛ نظرا لضيق المقام.»
وفي 30 / 6 / 1904 جاءت آخر مقالات المناظرة، تحت عنوان: انتقاد على رد، وبدأها أبو شادي كعادته بالهجوم اللاذع على إسماعيل عاصم، فوصف مناظرته بأنها غير محكمة، وعباراته غير فصيحة، وأدلته غير واضحة، بل إن مقاله السابق لا يستحق الاعتناء والحفاوة. ثم بدأ بالحديث عن زعم عاصم بأن في مصر خطباء غير الخطيب الأوحد مصطفى كامل، ورد على ذلك بصورة سريعة مشتتة، ابتعد فيها عن الموضوع الأصلي، وهكذا فعل في باقي الأمور الأخرى التي تعرض لها.
ومهما يكن من أمر هذه المناظرة ورأي المناظرين فيما تحدثا به من أمور، إلا أنها تعكس لنا لونا أدبيا آخر برع فيه إسماعيل عاصم كبراعته في الألوان الأدبية الأخرى، كالشعر والخطابة والمقامة. كما تبين لنا هذه المناظرة قدرة عاصم في المحاورة بالأدلة والبراهين وسهولة ألفاظه وحكمة منطقه، مما يفصح لنا عن المخزون الثقافي والتاريخي لهذا الرائد، الذي ناظر أحد أعلام الصحافة في ذلك الوقت.
في المسرح
الكتابة والممارسة المسرحية آخر
1
الفنون الأدبية التي اقتحم مجالها إسماعيل عاصم، وبالرغم من أن ميلاده كان في عام 1840، إلا أنه لم يقدم على الفن المسرحي إلا في عام 1893، بعد أن بلغ من العمر ثلاثة وخمسين عاما. فقد رأى أن المسرحيات المكتوبة والمطبوعة والمعروضة في مصر، كلها عبارة عن ترجمة أو تعريب أو اقتباس أو إعداد من المسرحيات والروايات والموضوعات الأجنبية، والقليل منها مأخوذ من الموضوعات التاريخية والدينية العربية، وهذا هو حال الفن المسرحي في ذلك الوقت. مع وجود بعض التآليف المسرحية اليسيرة، من قبل بعض الكتاب الشوام، أمثال القباني ونجيب حداد وغيرهما. وكانت فرقة إسكندر فرح تقوم بتمثيل هذه المسرحيات، مثل: «حمدان»، و«أنيس الجليس»، و«محاسن الصدف»، و«شهداء الغرام»، و«الظلوم»، و«تليماك»، و«عائدة»، و«ولادة بنت المستكفي»، و«هارون الرشيد»، و«الصياد».
2
وأمام هذا الواقع المسرحي، تبنى رائدنا فكرة إنشاء المسرح المحلي، القائم على التأليف الصرف من واقع الحياة الاجتماعية المصرية، من خلال مؤلف مصري؛ كي يعالج به مشاكل المجتمع، ويعبر من خلاله عن آلامه وآماله؛ ليصبح هذا المسرح درسا للشباب وعبرة للأسر المصرية، ومن أقواله المشهورة في هذا الشأن: «إن الرواية المسرحية إن لم تكن لنصر فضيلة أو محاربة رذيلة فلا خير فيها.»
3
وبناء على هذا القول، أو هذا المبدأ، ألف عاصم ثلاث مسرحيات، هي كل إنتاجه في مجال التأليف المسرحي، وهي: «هناء المحبين» عام 1893، و«حسن العواقب» عام 1894، و«صدق الإخاء» عام 1895. «وكان إسماعيل عاصم أول أولاد الذوات والأعيان الذين اشتغلوا بالتمثيل، فمثل في رواياته هو وولده علي عاصم بك المحامي، وكان سمو الخديوي يدعوه بملابسه المسرحية في دار الأوبرا إلى الشرفة الخديوية ويهنئه ويشمله بعطفه ... وكانت دار الأوبرا تغص بجميع الشخصيات العظيمة عند تمثيل رواياته من أمراء إلى وزراء وعظماء ... وكان يتولى بنفسه إخراج الروايات وتدريب الممثلين في داره، وينفق من جيبه على المناظر والملابس ثم يتركها للممثلين ... وكانت له امتيازات خاصة في دار الأوبرا وفي جميع المسارح المصرية؛ فقد كان يحجز له لوج خاص باسمه لا يمكن أن يجلس فيه أحد إلا بإذنه، وإذا لم يحضر التمثيل يظل خاليا.»
4
وقبل أن نتعرض لمسرحيات هذا الرائد بشيء من التفصيل، يجب أن نتوقف قليلا عند سؤال مهم، وهو: هل إسماعيل عاصم أول مؤلف مسرحي مصري ...؟! والإجابة على هذا السؤال تتطلب الفحص والتنقيب عن التآليف المسرحية من قبل المصريين قبل عام 1893، ورغم صعوبة ووعورة مسالك هذا الأمر، إلا أننا قمنا به. مع الأخذ في الاعتبار إبعاد كل التآليف المسرحية من قبل المؤلفين الشوام.
فمن المعروف أن يعقوب صنوع هو أول مصري خاض مجال الكتابة المسرحية عام 1870، وكما قيل إنه ترك لنا ما يقرب من اثنين وثلاثين مسرحية
5
خلال عامين فقط، هما عمر نشاطه المسرحي في مصر، لم يصلنا منها إلا ست مسرحيات،
6
وما وصلنا من مسرحيات، أو موضوعات المسرحيات الأخرى التي لم تصلنا، تشير إلى أن موضوعاتها إما كوميدية اجتماعية، أو كوميدية سياسية، وهذه المسرحيات جميعها تشترك في عامل مهم، ألا وهو أنها مكتوبة باللغة الدارجة أو العامية المصرية، والمسرحية الفصيحة الوحيدة، التي مثلها صنوع، وكانت بعنوان «ليلى» كتبها الشيخ محمد عبد الفتاح، لا صنوع كما توهم البعض.
7
وهذا يعني أن يعقوب صنوع، أول مصري يكتب للمسرح، ولكن في موضوعات تختلف عن موضوعات الميلودراما الاجتماعية لمسرحيات إسماعيل عاصم. كما أن صنوع كتب بالعامية المصرية، بخلاف عاصم الذي كتب بالفصحى، ومن هنا نستطيع القول بأن إسماعيل عاصم أول مؤلف مسرحي مصري، ألف الميلودراما الاجتماعية باللغة العربية الفصحى.
وعلى الرغم من هذا الاعتراف، إلا أن السؤال يظل قائما، ولكن بصورة أخرى: هل هناك كتابات مسرحية مؤلفة من قبل مصريين في الميلودراما الاجتماعية، وبلغة عربية فصحى بعد يعقوب صنوع وقبل إسماعيل عاصم؛ أي ما بين عامي 1872-1893 ...؟!
الحقيقة أن هناك ثماني مسرحيات - على الأقل - يمكن القول بأنها مسرحيات مصرية مؤلفة. الأولى «الوطن وطالع التوفيق»، والثانية «العرب»، وقد ألفهما عبد الله النديم في عام 1881، ومثلهما مع تلاميذ مدرسته بتياترو زيزينيا بالإسكندرية،
8
وعلى الرغم من أن المسرحيتين لم تصلا إلينا، إلا أن موضوعهما يتشابه إلى حد كبير مع موضوعات مسرحيات إسماعيل عاصم. بل وأن هدف النديم من تأليفهما هو عين هدف عاصم. إلا أن مسرحيتي النديم كانتا باللغة العامية، هذا فضلا عن فقدهما، فلم يصلنا منهما إلا بضع صفحات من المسرحية الأولى جاءت في كتاب سلافة النديم.
أما المسرحية الثالثة فهي «محاسن الصدف» لمحمود واصف، وقد ألفها بلغة فصحى عام 1886
9
وموضوعها تاريخي، يدور حول شجرة الدر، والرابعة «يوسف الصديق»، والخامسة «بطرس الأكبر»؛ فقد ألفهما وهبي بك ناظر مدرسة الأقباط بحارة السقايين عام 1887،
10
ورغم فقدهما واحتمال كتابتهما باللغة الفصحى، إلا أن موضوعهما ديني تاريخي،
11
والسادسة «واقعة البرامكة » لعبد الله الطوير، الذي ألفها عام 1889، نجد أن موضوعها تاريخي عن تاريخ البرامكة المشهور، رغم لغتها الفصيحة، والسابعة «الأمير حسن» لمحمود واصف عام 1890، نجد لغتها عامية ومأخوذة من حكايات ألف ليلة وليلة،
12
والمسرحية الأخيرة «المعتمد بن عباد» لإبراهيم رمزي الفيومي
13
في عام 1892،
14
ورغم فصاحتها إلا أن موضوعها تاريخي.
ومما سبق نجد أن معظم التآليف المسرحية المصرية، إما موضوعاتها مختلفة عن موضوعات مسرحيات إسماعيل عاصم، أو أن لغتها عامية، وتختلف عن لغة مسرحيات رائدنا، هذا بالإضافة إلى فقدنا لمعظمها، وأمام هذه الحقائق، يمكننا الزعم بأن إسماعيل عاصم هو أول مؤلف مسرحي مصري لمسرحيات الميلودراما الاجتماعية الفصيحة، ولنتطرق الآن إلى الحديث عن هذه المسرحيات المؤلفة.
مسرحية «هناء المحبين»
تدور هذه المسرحية حول حب «لطيف» أحد أعوان الوزير نعيم، ل «لطيفة» ابنة الوزير، ورفض الوزير إتمام هذه العاطفة بالنهاية السعيدة، عندما طلب لطيف الاقتران بلطيفة، رغم توسلات «صالح» أخي نعيم، و«عاقل» الطبيب الفيلسوف الحكيم، ونجد الوزير في نفس الوقت يوافق على خطبة الوجيه «حسيب» ابن وزير التجارة من ابنته، رغم عدم موافقتها عليه، ومن شدة حزن لطيفة تموت كمدا، ويجن جنون لطيف، ويذهب إلى قبرها يوم دفنها، ويتفق مع اللحاد على أخذ جثتها إلى منزله في المساء ثم إعادتها في الصباح، مقابل خمسين دينارا. وفي منزل لطيف نجد الأنوار والأزهار وجثة لطيفة مزينة وجالسة على كرسي العرس. فقد أقام لطيف حفلة زواج وهمية، ولكن الحكيم عاقل يحضر، أثناء غياب لطيف ويكتشف الجثة، فيتوهم أن الفتاة ماتت عندما رأته، فيحاول علاجها طبيا، فتفيق من إغمائها الشديد
15
وعندما يعرف الحقيقة يذهب إلى السلطان ويخبره بالأمر، وتنتهي المسرحية بزواج لطيف من لطيفة، بعد أن أنعم عليه السلطان بلقب وزير.
وهذه المسرحية هي باكورة تآليف إسماعيل عاصم المسرحية، وكان خبر تأليفها حدثا فريدا، تحدثت به الصحف المصرية في حينها، لما لمؤلفها من المنزلة الرفيعة في المجتمع الأدبي المصري. فقد قالت جريدة «المقطم» في 1 / 4 / 1893: «رفع حضرة الفاضل إسماعيل بك عاصم إلى سمو الخديوي المعظم رواية «هناء المحبين » التي ألفها حضرته، وهي رواية تمثيلية أدبية حكيمة، وستمثل في الأوبره الخديوية مساء السبت القادم في 8 أبريل، ويحضر تمثيلها سمو الخديوي المعظم ودولتلو رياض باشا، ويخصص جانب من دخلها للجمعية العلمية الخيرية، فنحث محبي الخير والإحسان على حضور تلك الليلة الشائقة،
16
ومن الجدير بالذكر، أن نظارة الحربية سمحت للموسيقى الأميرية بالعزف يوم تمثيل الرواية؛
17
تشجيعا وتقديرا للمؤلف، ولغرضها الخيري.»
فإذا كان إسماعيل عاصم ساند الجمعيات الأدبية بمجهوده الخطابي سابقا - كما بينا - فإنه الآن يساندها بفن جديد، يختلف عن الخطابة في الشكل، ويتفق معه في المضمون، ألا وهو فن الكتابة المسرحية.
ولم يقتصر مجهود هذا الرائد في تشجيع ومساندة الجمعية العلمية، بتأليفه هذه المسرحية، وتخصيص دخلها لأنشطتها الخيرية، بل وشارك في تمثيلها بنفسه، بعد أن مثل دور الحكيم الفيلسوف «عاقل»، وكان رائدنا بذلك أول محام يعتلي خشبة المسرح هاويا، ولم تترك الصحف ذلك الحدث الفريد دون الإشارة إليه. ففي يوم 11 / 4 / 1893، قالت جريدة «المقطم»: «مثل جوق حضرة إسكندر أفندي فرح في الأوبره الخديوية مساء السبت الماضي رواية «هناء المحبين»، تأليف حضرة الفاضل الأديب إسماعيل بك عاصم، فغصت الأوبره بالحضور من كبار رجال الحكومة ونخبة الوجوه والأعيان. أما سمو الخديوي المعظم فأناب عنه دولتلو رياض باشا
18
في حضور التمثيل. وقد أجاد الممثلون جميعا بما أظهروه من البراعة والإتقان وخصوصا حضرة مؤلف الرواية الذي كان يمثل دور الفيلسوف، فإنه أجاد كل الإجادة بما ألقاه من ضروب المواعظ والحكم، وكذا ممثل أبي الأمير لطيف عندما ودع ولده وهو على سرير النزع، وأطرب لطيف ولطيفة الأسماع بنغماتهما الشجية. ثم انصرف الحاضرون بعد نصف الليل وهم يثنون على حضرة مؤلف الرواية وحضرة صاحب الجوق جميل الثناء، ويمتدحون ما رأوه من كمال الانتظام والإتقان.»
19
وبسبب نجاح هذه المسرحية لما تحمله من المواعظ والحكم التي تكشف عيوب المجتمع المصري، وتقدم العلاج الملائم لها. كان الجمهور وعلية المجتمع المصري، يطالبون بإعادة تمثيلها مرارا وتكرارا. فبعد أيام قليلة من نجاح حفلتها الأولى، مثلها جوق إسكندر فرح في 27 / 4 / 1893 في الأوبرا أيضا، وحضر تمثيلها الخديوي ومختار باشا الغازي ورياض باشا رئيس النظار.
20
واستمرت هذه المسرحية في نجاح بهر عقول وعيون المصريين طوال ربع قرن من الزمان، هو عمر اعتلائها خشبة المسارح المصرية،
21
سواء في العواصم أو الأقاليم؛ لما تحمله من المقومات الفنية اللازمة لنجاح أية مسرحية في ذلك الوقت.
وتمثلت هذه المقومات في قيام أكبر الفرق المسرحية بتمثيلها، مثل فرقة إسكندر فرح، وفرقة سلامة حجازي، وجوق أبيض وحجازي. هذا بالإضافة إلى صوت ومقدرة الشيخ سلامة حجازي في الغناء والتمثيل، وإقبال الجمهور على سماع صوته، وكان بجانبه أيضا تقف العناصر النسائية المشهود لها بالقدرة الفائقة على التمثيل، مثل لبيبة مانللي وميليا ديان، كل ذلك بجانب موسيقى وعزف الموسيقار الكبير سامي الشوا.
فموضوع مسرحية «هناء المحبين»، من الموضوعات المحببة لمزاج وميول الشعب المصري؛ حيث إنها تدور حول قصة حب، وعذاب المحبين حتى يتم الزواج بينهما أخيرا، بعد أن عادت الحياة مرة أخرى للمحبوبة، التي ماتت. والمؤلف تلاعب بعواطف المشاهد - أو القارئ - بصورة كبيرة، أمام هذا الموضوع الشيق. هذا فضلا عن وجود كم كبير من النصائح والمواعظ المحبب سماعها من قبل الأسر المصرية، وقد تنوعت هذا النصائح والعبر بين التضمين أو الاقتباس من آيات القرآن، أو الأحاديث النبوية الشريفة، مع وجود الكثير من الأقوال المأثورة والحكم والأمثال الشعبية، ولا ننسى أن هذه الأدوات هي أدوات إسماعيل عاصم الخبير بها من قبل، وقد مارسها بكثرة - كما سبق - سواء في مجال المحاماة أو الخطابة أو الشعر أو المقامة.
ومما شجع الجمهور للتهافت على رؤية هذه المسرحية، أنها تدور داخل قصور الأمراء والوزراء المصريين، ومن هنا أراد الشعب المصري البسيط أن يرى هذه القصور، وأن يعيش مع هؤلاء الأعيان ولو عن طريق مشاهدتهم من خلال التمثيل، ولا يفوتنا أن نذكر أن المؤلف ضمن لها عند تأليفها، النجاح الكبير، عندما أعطى للسلطان المصري دورا بارزا وإيجابيا في الوصول إلى حل عقدة المسرحية، وكأنه أراد أن يقول إن السلطان بيده حل جميع الأمور، وتقديم السعادة والهناء للشعب المصري.
ومن العروض البارزة لهذه المسرحية ، عرض يوم 17 / 1 / 1899، عندما عرضتها فرقة إسكندر فرح، الذي طلب منه إسماعيل عاصم تخصيص دخلها في هذا اليوم لمساعدة أسرة فقيرة، في مقابل قيامه بالخطابة قبل بداية التمثيل،
22
والعرض البارز الثاني، كان في يوم 4 / 2 / 1902 عندما مثلتها فرقة إسكندر فرح أيضا، واختتمت المسرحية بصور متحركة (سينماتوغراف)،
23
والعرض الثالث كان في 8 / 2 / 1904 بالدقهلية، عندما مثلتها فرقة إسكندر؛ إحياء ومساعدة منها في الاحتفال الخيري للمدرسة الوطنية بالمنصورة،
24
والعرض الرابع كان في 21 / 12 / 1907 عندما مثلها جوق سلامة حجازي في دار التمثيل العربي، وتخلل فصولها الأنغام الموسيقية الوترية برئاسة الموسيقار عبد الحميد أفندي علي.
أما العرض الخامس، والأخير أيضا في عمر هذه المسرحية نقلته لنا جريدة «مصر» في يوم 14 / 2 / 1917، قائلة: «يمثل جوق الشيخ سلامة حجازي في كازينو الكورسال الساعة الرابعة بعد الظهر يوم الجمعة المقبل رواية «هناء المحبين»، وسيقوم بأهم الأدوار الشيخ سلامة حجازي والسيدة ميليا ديان، ويقدم كش كش بك فصولا جديدة مضحكة وخلاعة ورقصا بديعا بواسطة بنات الكورسال، وتختم بفصل مضحك.»
25
وكان هذا اليوم يوم الجمعة الموافق 16 / 2 / 1917، آخر عرض على المسارح المصرية لباكورة إنتاج الرائد إسماعيل عاصم.
مسرحية «حسن العواقب»
بعد نجاح مسرحية «هناء المحبين» عادت السيطرة إلى الفرق الأجنبية، وبالأخص الجوق الفرنسي، الذي تحدثت عنه وعن عروضه معظم الصحف المصرية منذ بداية عام 1894.
26
أما الأجواق العربية فلم يكن لها أي نشاط فني إلا بضعة عروض قليلة لجوق السرور، وقد تحدثت عن هذا الوضع الغريب إحدى الصحف المصرية، مبينة تفوق الأجواق الأجنبية، وانقراض الأجواق العربية،
27
ومن هنا فكر رائدنا في الإقدام على التجربة الثانية في التأليف المسرحي، فألف مسرحية «حسن العواقب» عام 1894.
والمسرحية تدور كسابقتها، حول موضوع الحب والغرام بين حبيبين هما سعيد وسعاد، ولكن والد سعيد وهو أحد الوزراء، لا يرغب لابنه إحدى بنات عامة الشعب، مثل سعاد. بل يريد له إحدى بنات الأسر العريقة؛ لذلك حاول الأب إبعاد سعاد عن ابنه، بأن دبر حيلة لإبعاد سعيد بإلحاقه للخدمة العسكرية، وفي نفس الوقت دبر محاولة قتل لسعاد، ولكن سعيد ينقذها في آخر لحظة ، ويقتل المجرم ، ويتهم بقتله، وعندما يعلم أن المدبر الحقيقي والده، يصمت عن دفع التهمة عنه، أثناء المحاكمة؛ حفاظا على والده، ولكن في النهاية تظهر الحقيقة من خلال تبني السلطان لهذه القضية، ويتم الزواج بين الحبيبين، مع إنعام السلطان على سعيد بمضاعفة رتبته العسكرية.
ومن الملاحظ أن تيمة الموضوع لم تختلف عن موضوع المسرحية السابقة، إلا في بعض الأحداث والشخصيات، ولكن المعالجة واحدة، ولعل نجاح مسرحية «هناء المحبين»، أغرى المؤلف بتكرار نفس الهيكل العام ولكن بصورة مختلفة. فإذا كانت «هناء المحبين» عالجت مشكلة رفض والد الفتاة صاحبة المكانة الرفيعة، من الفتى المتواضع. فإن المؤلف عكس الوضع في «حسن العواقب»، عندما عالج فكرة رفض والد الفتى صاحب المكانة الوزارية المرموقة، بالفتاة ابنة أحد الأشخاص المغمورين.
وقد استغلت الصحف المصرية، هذا التشابه في الدعاية لمسرحية «حسن العواقب» قبل تمثيلها لأول مرة، فقالت جريدة «المقطم» في 3 / 4 / 1894: «يمثل الجوق الوطني لحضرة إسكندر أفندي فرح رواية «حسن العواقب» في الأوبره الخديوية يوم الخميس القادم 12 أبريل، وهذه الرواية تأليف حضرة الفاضل الأديب إسماعيل بك عاصم المحامي، فنرجو أن تلقى من إقبال الجمهور عليها فوق ما لقيته رواية «هناء المحبين» تأليف حضرته أيضا. أما أوراق الدخول فتباع بشارع عبد العزيز، وذلك في كل يوم من الساعة الثالثة بعد الظهر إلى الساعة السادسة.»
28
وكما قام إسماعيل عاصم بتمثيل أحد أدوار مسرحية «هناء المحبين» يوم افتتاحها، قام بنفس الشيء في افتتاح مسرحية «حسن العواقب». بل وجعل من مكتبه للمحاماة، شباكا للتذاكر يبتاع فيه بعض التذاكر للوجهاء والأعيان، وقد نقلت «المقطم» ذلك الخبر في 7 / 4 / 1894، عندما قالت تحت عنوان: رواية «حسن العواقب»: «تمثل هذه الرواية في الأوبره الخديوية مساء الخميس في 12 أبريل ويقوم بتمثيل أدوارها الحكيمة حضرة مؤلفها الفاضل إسماعيل بك عاصم، وقد أقبل الأعيان والوجهاء على ابتياع التذاكر من مكتب حضرة المؤلف ومن تياترو شارع عبد العزيز حتى لم يكد يبقى شيء منها، فنشكر حضرة مؤلفها على هذه المساعي، ونحض الجمهور على حضور هذه الرواية.»
29
وكما كانت «هناء المحبين» تمثل من أجل تعضيد ومساعدة الجمعيات الأدبية، كانت أيضا «حسن العواقب». فقد قدمها المؤلف إسماعيل عاصم، دون مقابل مادي؛ كي تمثلها جمعية التعاون الخيري الإسلامي بالأوبرا في يوم 9 / 5 / 1894، كمساعدة منه لهذه الجمعية،
30
بل وشارك بنفسه في تمثيل أحد أدوارها،
31
وظلت معظم الجمعيات الأدبية تمثل هذه المسرحية لفترة طويلة من الزمن.
32
و«حسن العواقب» كسابقتها «هناء المحبين»، مليئة بالمواعظ والحكم وتضمين الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، هذا فضلا عن معالجتها لمشاكل المجتمع المصري، في تلك الفترة، مثل المشاكل المتعلقة بعلاقة الأبناء بالآباء، وصراع التقاليد الاجتماعية، والمساواة في الحب بين الغني والفقير ... إلخ، وهذه الموضوعات تلقى دائما إقبالا جماهيريا كبيرا؛ لذلك كان إسماعيل عاصم يقدمها في الحفلات الخيرية بصورة ملحوظة، من أجل ضمان تدفق الأموال التي تعود بالنفع على المشروعات الخيرية، أو مساعدة الفقراء والمحتاجين.
ففي 29 / 5 / 1894، أخبرتنا الصحف المصرية بهذا الخبر: «عرض حضرة الأديب البارع إسماعيل بك عاصم على سعادة محافظ الإسكندرية رغبته في تمثيل روايته «حسن العواقب» في المعرض الإسكندري، وأن يكون دخلها للمحتاجين من أصحاب الصنايع في المعرض، فقبل سعادة المحافظ ذلك، وقبلت به لجنة المعرض أيضا، وعرضت على حضرته المرسح والأنوار مجانا، وسيتوجه إلى الإسكندرية مساء الأحد القادم ويقوم بتمثيل الرواية في تلك الليلة جوق حضرة إسكندر أفندي فرح الذي تبرع أيضا بثلث الأجرة إعانة للمعرض، وقد أرسل حضرة إسماعيل بك عاصم التذاكر إلى دولتلو رئيس النظار والمعية السنية وسعادة المحافظ وأعضاء اللجنة وغيرهم من أفاضل الإسكندرية، وعلمنا أن سمو الخديوي المعظم أمر بأن توضع تلك الليلة تحت حمايته، والأمل أن تلقى هذه الرواية من الإقبال عليها ما يدل على أريحية الإسكندريين واهتزازهم إلى فعل الخير جريا على عادتهم، وإنا نثني على حضرة مؤلف الرواية لما أبداه من الغيرة والعناية بشأن الفقراء، ونسأل له جزاء الخير. خير جزاء.»
33
ولنفس مقومات نجاح مسرحية «هناء المحبين»، نجحت «حسن العواقب» أيضا، وظلت تعرض على خشبة المسارح المصرية، من قبل أكبر وأشهر الفرق المسرحية، مثل فرقة إسكندر فرح، وجوق سلامة حجازي، وجوق أبيض وحجازي، طوال ما يقرب من اثنتين وعشرين سنة.
34
وكان آخر عرض لهذه المسرحية في يوم 24 / 3 / 1916، وذكرته الصحف قائلة: «يحيي جوق أبيض وحجازي ماتنيهات شهر مارس عصر كل يوم جمعة في تياترو برنتانيا، فيمثل في يوم الجمعة 3 مارس معرض المضحكين والمضحكات، ويقدم الجوق يوم 10 مارس رواية «أوديب الملك»، ويوم 17 منه رواية «ثارات العرب»، ويوم 24 منه رواية «حسن العواقب»، وهي لم يسبق تمثيلها
35
وقد جعل الجوق هذه الحفلات في اشتراك واحد بأسعار مخفضة.»
36
مسرحية «صدق الإخاء»
ومع بداية عام 1895 عادت الأجواق والجمعيات العربية - مثل جوق سليمان قرداحي وجمعية الابتهاج الأدبي - إلى تمثيل المسرحيات المترجمة والمعربة، أمثال: «أندروماك» و«عطيل» و«شارلمان».
37
فألف إسماعيل عاصم آخر مسرحياته في هذا العام وهي: «صدق الإخاء».
وتدور هذه المسرحية حول وفاة الأب الوزير رشيد وتبديد ثروته بعد وفاته، من قبل ابنه العاق نديم. الذي بددها في الحانات وعلى الغانيات، وتسبب في القطيعة بين أخته عزيزة وخطيبها عزيز بن صديق، الصديق الأوحد لوالده رشيد، وبمرور الوقت يعيش نديم مع أخته ووالدته ليلى في فقر شديد، وعندما يطلب مساعدة «صديق» يقابله الأخير بكل نفور. وفي يوم من الأيام تأتي إليهم السيدة مباركة المغربية وتعطيهم ثروة كبيرة على سبيل الأمانة؛ لأنها ستسافر لقضاء فريضة الحج، وهذا كان دأبها مع رب الأسرة المرحوم رشيد. فيأخذ نديم الأموال ويتاجر بها، ويكسب الأموال الطائلة، فتعود إليه ثروة أبيه، وأكثر منها عن طريق التجارة، وفي إحدى رحلاته التجارية ينقذ الملكة وابنتها نعمى من قطاع الطرق، ويتم الإعجاب بين نديم ونعمى ليصل إلى درجة الحب الجارف، وعندما يشكو همه لأسرته ينصحونه بالذهاب إلى «صديق» لمساعدته. فيتذكر معاملته السيئة، فيصمم على الذهاب لتأنيبه، وفي منزل صديق تظهر الحقيقة، بأن مباركة المغربية ما هي إلا والدة صديق، وأن الأموال أمواله، وقام بهذا الفعل كي يساعد نديما، وتنتهي المسرحية بتدخل السلطان كالعادة، وموافقته على زواج ابنته نعمى من نديم مكافأة له على شهامته، بعد أن خلع عليه رتبة الوزارة، كما بارك السلطان أيضا زواج عزيز بعزيزة، بعد أن خلع عليه وظيفة كاتب سر الصدارة.
ورغم أن هذه المسرحية آخر ما ألف إسماعيل عاصم، إلا أنها أشهر مسرحياته على الإطلاق. لدرجة أن الكتاب والنقاد المحدثين - على قلتهم - اعتبروها المسرحية الوحيدة له، بل وخصوها ببعض النقد والتقريظ، والحق يقال بأن رائدنا أبدع فيها، من أسلوبه وحكمه ومواعظه وعبره، ما جعلها تتفوق على غيرها. هذا بالإضافة إلى أنه عالج من خلال موضوعها أمورا اجتماعية معاصرة في كل زمان ومكان. فقد تعرض لمشكلة موت عائل الأسرة، وضياعها بدون رقيب أو حسيب. كما تعرض أيضا إلى موضوع انفلات زمام الأبناء بعد موت والدهم، وانخراطهم في الملذات والشهوات، وما يتفرع عن ذلك من إحكام شباك أصدقاء السوء حول الشاب الساذج الذي ينفق بسخاء، وما يدور في الحانات من سكر وعربدة وعدم إحكام للعقل.
وإذا كان ما سبق يمثل العقدة أو لب موضوع المسرحية، إلا أن إسماعيل عاصم استطاع بمقدرته الفنية، أن يتعرض لبعض المشاكل الاجتماعية التربوية العلمية، بعد أن ضمن نجاح المسرحية في معالجتها للمشاكل الاجتماعية الأسرية. فنجده يتحدث عن انتشار تقليد المجتمع المصري للمجتمعات الغربية، في سلوكياتهم ولغاتهم، ويوجه الأنظار في ذلك إلى أن الحل في أيدي القائمين على شئون التعليم في مصر، ويحذرهم من خطورة انتشار المدارس الأجنبية في مصر. كما لفت الانتباه إلى خطورة تعليم العلوم في مدارسنا العربية بلغات أجنبية، وطالب بتمصير وتعريب العلوم الغربية. كما شجع على إقامة مدارس مصرية للبنات، بدلا من مدارس البنات الأجنبية، وأخيرا نجده يلمح من بعيد إلى فساد حاشية السلطان، ممن يلتفون حوله ويبعدونه عن شعبه.
وأول عرض لهذه المسرحية كان في 11 / 7 / 1895، وأخبرتنا به جريدة «الإخلاص» قائلة: «عاد جوق مصر العربي لمديره الفاضل إسكندر أفندي فرح بعد أن تغيب مدة شهرين، وسيشخص مساء اليوم رواية «صدق الإخاء» الفريدة في موضوعها، ورقة إنشاها لناسج بردها عزتلو إسماعيل بك عاصم، فنحث الأدباء على انتهاز فرص الصفو والتفكه بعذب صوت ذاك المطرب الشهير الشيخ سلامة حجازي، ونهنئهم بسلامة الوصول.»
38
وقد قام المؤلف بإلقاء خطبة حماسية قبل التمثيل.
39
وكعهدنا برائدنا نجده يلبي نداء الواجب أمام النكبات التي تحل بالأفراد. فما بالنا والنكبة قد أصابت العاصمة الثانية لمصر، ألا وهي الإسكندرية عندما نكبت بوباء الكوليرا! فوجدناه يسارع لمعاونة أهل الإسكندرية بفنه، ومجهوده البلاغي ليجمع أكبر قدر من الأموال للمنكوبين، ويبين لنا هذا الدور، مكاتب [مراسل] جريدة «مصر» يوم 6 / 7 / 1896 قائلا: «يرتاح عامل الخير إلى مساعدة أخوانه وأبناء بلدته الفقراء، وخصوصا الذين قد أصيبوا بنكبة من نكبات الزمن فتدفعه الشهامة والنخوة إلى طرق باب المساعدة، ولا شك أن جمعية المنهل العذب التي ستحيي ليلة السبت 11 الجاري لمساعدة المصابين بالكوليرا والخواجات الذين أقفلت كتاتيبهم الأهلية، ستلقى من سكان الثغر إقبالا عظيما؛ لما هو معروف عنها من عمل الخير ولا سيما وقد انتقت رواية من أحسن الروايات التمثيلية، وهي رواية «صدق الإخاء» تأليف عزتلو إسماعيل بك عاصم، يقوم بتشخيصها جوق الأديب إسكندر أفندي فرح الشهير، وقد جعلت هذه الليلة تحت رعاية الجناب العالي.»
40
وقد ساهم إسماعيل عاصم مساهمة أدبية ومادية؛ «حيث خطب في الجمع خطبة مؤثرة أثنى فيها على همم أعضاء الجمعية، وحمد عواطف الذين بادروا بالسعي للاشتراك في هذا العمل المبرور، وعتب على الذين تقاعدوا عن الاشتراك فيه من سراة الثغر وأغنيائه.»
41
ولأهمية هذه المسرحية في مجال التعليم، لما تدعو إليه من أمور تربوية وتعليمية، مثلتها بعض المدارس في احتفالاتها السنوية، مثل مدرسة الأقباط بشبلنجة في يوم 6 / 1 / 1899،
42
وعندما أراد محفل الاتحاد بالمنصورة أن يبني مدرسة مصرية خيرية، في عام 1900، لم يجد أفضل من «صدق الإخاء» لتقديمها في احتفال تأسيس المدرسة، لما فيها من مماثلة الدعوة، وقد شارك إسماعيل عاصم بخطبة في هذا الاحتفال حث فيها أولي العزم على المساهمة في هذا المشروع الخيري،
43
وكما ساهم تمثيل هذه المسرحية في مساعدة أهل الإسكندرية في نكبتهم بالكوليرا، وأيضا في بناء المدارس، ساهم تمثيلها أخيرا في مساعدة أسرة فقيرة في 11 / 4 / 1905.
44
وكانت آخر حفلة عرض لهذه المسرحية، بل وآخر عروض مسرحيات إسماعيل عاصم على الإطلاق، في يوم 7 / 5 / 1918 من قبل فرقة منيرة المهدية بدار التمثيل العربي.
45
وبالرغم من تاريخ نجاح مسرحيتي «هناء المحبين» و«حسن العواقب»، إلا أن نجاح «صدق الإخاء» فاقهما بكثير، وتمثل هذا التفوق في كثرة حفلات عروضها، التي بدأت من عام 1895 حتى عام 1918، سواء في العواصم أو في الأقاليم، ومن قبل أشهر وأعظم الفرق المسرحية - في ذلك الوقت - مثل فرقة إسكندر فرح، وجوق سلامة حجازي، وجوق إبراهيم حجازي، وفرقة عكاشة، وجوق أبيض وحجازي، وأخيرا فرقة منيرة المهدية.
46
خصائص مسرحية مشتركة
تشترك مسرحيات إسماعيل عاصم في كتابتها باللغة العربية الفصحى، وبأسلوب السجع البسيط المقبول، البعيد عن التعقيد والصعوبة في الألفاظ. كما أن أشعاره سلسة، تدل على مقدرة كبيرة في تملك موهبة النظم، وهذه المقدرة، سواء في الكتابة بالسجع، أو نظم الشعر اكتسبها هذا الرائد من تعاليمه الأولى في المدارس العامة والخاصة. والمقصود بالمدرسة الخاصة، بيت والده الزاخر بمريديه من العلماء والأدباء، كما بينا سابقا. هذا بالإضافة إلى نشاطه الخطابي، وعمله بالمحاماة، مما جعله يتنوع في الأساليب.
وأسماء الشخصيات في كل مسرحياته، لها دلالات واضحة، تعكس شخصية أصحابها. ففي «هناء المحبين» نجد لطيف ولطيفة، ومادة «لطف» المشتقة منها اسمهما، تتوفر في شخصيتهما وتصرفاتهما طوال المسرحية، وكذلك باقي أسماء الشخصيات، مثل: أنيسة من أنس، حسيب: حسب، حليم: حلم، سالم: سلم، عاقل: عقل، نعيم: نعم، صالح: صلح، رفيق: رفق، أليفة: ألف، حازم: حزم، خاشع: خشع ... إلخ. وهكذا يسير في مسرحية «حسن العواقب» حينما نجد، سعاد وسعيد وغانم ونسيب وطاهر وفاخرة ومرسال وظافر وغضوب ورءوف والمنتقد، وأخيرا في «صدق الإخاء»، نجد عزيز وعزيزة ونديم وراغب وعمار وصديق ومباركة وحبيب وجبالي وشجاع ونعمى، وهذه الأسماء خدمت أسلوب المؤلف، سواء في سجعه أو أشعاره، مما سهلت عليه تكوين العبارات، لكثرة مرادفات واشتقاقات هذه الأسماء.
وأهم الخصائص المشتركة في تراكيب حوار مسرحيات إسماعيل عاصم، الاقتباس والتضمين من القرآن الكريم، بالإضافة إلى الأحاديث النبوية والأمثال الشعبية، وهذا يرجع لأمرين: أولهما تربيته ودراسته الدينية، التي أدت إلى حفظه للقرآن من خلال دراسته في الأزهر الشريف، والآخر موضوعات مسرحياته، التي تتطلب الحكم والمواعظ والنصائح الإرشادية، وهذا كله يتطلب الاستشهاد بآيات القرآن، وأقوال الرسول
صلى الله عليه وسلم
فهما خير ناصح وراشد للأمة الإسلامية بصفة عامة، وللشعب المصري، بصفة خاصة.
ومثال على ذلك أنه ضمن أكثر من ثلاث عشرة آية قرآنية في مسرحية «هناء المحبين»،
47
واثنتي عشرة آية في مسرحية «حسن العواقب»،
48
وثلاث آيات في «صدق الإخاء».
49
وعنصر المفاجأة من أهم العناصر المتوفرة في جميع مسرحيات إسماعيل عاصم. ففي «هناء المحبين» كانت المفاجأة بعودة الحياة مرة أخرى للطيفة، بعد أن ماتت وقبرت، وفي «حسن العواقب» تمثلت المفاجأة في أن مدبر قتل سعاد، هو الوزير طاهر والد سعيد، وفي «صدق الإخاء» وجدنا أن مباركة وحبيب صاحبي الثروة الأولى التي هطلت على نديم، هما والدة وخال الوزير صديق، الذي منع حتى الإحسان عن نديم، وعنصر المفاجأة رغم صعوبة تحقيقه في الواقع، إلا أن المؤلف تفوق على نفسه في إقناعنا به، مما جعل القارئ - والمشاهد - في تشوق وتوتر دائم. مما ضمن لمسرحياته البقاء والاستمرار في العروض قرابة ربع قرن من الزمان.
وتيمة الحب وصعوبة الزواج، بسبب الفارق الاجتماعي بين الحبيبين، هي التيمة الثابتة في جميع المسرحيات. فلطيفة ابنة الوزير نعيم في «هناء المحبين»، ترتبط بحب جارف بلطيف أحد عمال أبيها، وبسبب هذا الفارق الاجتماعي يرفض الوزير زواجهما، وفي «حسن العواقب» نجد سعيد ابن الوزير طاهر، يحب سعاد ابنة أحد رجال الشعب البسطاء؛ ولهذا الفارق أيضا يدبر الوزير خطة لقتلها لإبعادها عن سعيد، وأخيرا نجد في «صدق الإخاء» نديما الذي أصبح فقيرا، يحب نعمى ابنة السلطان، وبسبب هذا الفارق يخشى أن يطلب يدها.
ونهاية المسرحيات، ودور السلطان أو الملك فيها، من النهايات الثابتة في جميع أعمال إسماعيل عاصم المسرحية. فبالرغم من استحالة الزواج بين الحبيبين في كل مسرحية، إلا أن الحل دائما يأتي من قبل السلطان، بإصداره الأمر بالزواج بعد أن يزيل بإنعامه على الأبطال أسباب هذا الفارق الاجتماعي، بل ويأمر بأن تكون حفلة العرس في قصره الملكي. ففي «هناء المحبين» نجد السلطان ينعم على لطيف برتبة وزير؛ كي ترتفع مكانته الاجتماعية للزواج من لطيفة ابنة الوزير نعيم، وفي «حسن العواقب» يقوم السلطان أيضا بمضاعفة رتبة سعيد، وتجهيز لوازم عرس سعاد الفقيرة من ماله الخاص كإحدى بناته؛ كي يزيل الفارق الاجتماعي بينهما، وفي «صدق الإخاء» ينعم السلطان أخيرا برتبة وزير على نديم؛ كي يناسب مقامه الزواج من ابنة السلطان نعمى.
أخطاء قديمة وحديثة
رغم قلة من كتب عن هذا الرائد، من الكتاب والنقاد المحدثين، أو القدامى، إلا أن الكتابات القديمة أخطأت في أمر واحد، تمثل في نسبة كتابة مسرحية «الخل الوفي» لإسماعيل عاصم. أما الكتاب المحدثين، فقد وقعوا في أخطاء شتى.
فبالنسبة لمسرحية «الخل الوفي» وتأليف إسماعيل عاصم لها، فقد جاءت من خلال إشارتين: الأولى في 28 / 10 / 1897، عندما قالت جريدة «الأخبار»: «... ويمثل جوق حضرة الفاضل إسكندر أفندي فرح في تياترو عبد العزيز رواية «الخل الوفي»، تأليف حضرة الأصولي البارع إسماعيل بك عاصم.»
50
وجاءت الإشارة الأخرى في 3 / 10 / 1900 عندما قالت جريدة «المقطم»: «في ليلة أمس حضر جوق حضرة الأديب إسكندر أفندي فرح، ومثل رواية «الخل الوفي»، تأليف حضرة الفاضل إسماعيل بك عاصم المحامي الشهير بناء على دعوة محفل الاتحاد في المنصورة، فإنه أحياها ليساعد بدخلها على بناء المدرسة الأهلية التي شرع رئيس المحفل في بنائها، وكان الحضور كثارا حتى غص المكان بالمتفرجين، وفي الساعة التاسعة والنصف ابتدأ التمثيل.»
51
وقبل البحث عن هذه المسرحية، والوقوف على صحة نسبتها إلى إسماعيل عاصم من عدمه، وجب علينا أن نشك في صحة هاتين الإشارتين. فمن غير المعقول أن يؤلف إسماعيل عاصم مسرحية ما، وبعد مسرحياته الثلاث السابقة، ولم تذكر إلا مرتين فقط.
وإذا افترضنا صحة الخبر، سنجد أن هذه المسرحية مثلت عدة مرات بدءا من 15 / 1 / 1890 حتى 30 / 11 / 1897،
52
وهذا يعني أنها المسرحية الأولى لإسماعيل عاصم؛ لأنه ألف «هناء المحبين» عام 1893 كما مر بنا، ولكن مقدمة مسرحية «صدق الإخاء» - التي ألفها عام 1895 - قطعت الشك باليقين؛ فقد قال فيها: «أما بعد، فهذه رواية «صدق الإخاء»، وهي الرواية الثالثة التي ألفتها خدمة للوطن العزيز.» وهذا يؤكد أن مسرحية «الخل الوفي» لشخص آخر غير إسماعيل عاصم؛ لذلك بحثنا عن مسرحية «الخل الوفي»، فوجدنا نسخة منها بدار الكتب
53
المصرية، وهي بعنوان «الخل الوفي والغدر الخفي» أو «لورانزينو»، تعريب محمد المغربي، ولعل مراسل «المقطم» - في الإشارة الثانية - توهم أن إسماعيل عاصم مؤلف «الخل الوفي»؛ لأنه حضر تمثيلها وشارك في حفلتها الخيرية، ومن هنا اعتقد الصحفي أن إسماعيل عاصم مؤلفها؛ لأن عاصم، كان دائما ما يحضر تمثيل مسرحياته. هذا بالنسبة للإشارة الثانية.
أما الإشارة الأولى ففيها خلط أثبته التاريخ. فالمقصود كان مسرحية «صدق الإخاء» لا «الخل الوفي». فالجريدة التي قالت بأن «الخل الوفي» من تأليف إسماعيل عاصم، كانت جريدة «الأخبار» في يوم 28 / 10 / 1897، ولكن جريدتي «مصر» و«المقطم» قالتا بأن المسرحية التي ستمثل في نفس اليوم من قبل نفس الفرقة - فرقة إسكندر فرح - هي مسرحية «صدق الإخاء».
54
بل وعادت جريدة «الأخبار»، التي أخطأت في اسم المسرحية، فأثبتت في اليوم التالي يوم 29 / 10 / 1897 أن المسرحية الممثلة بالأمس هي «صدق الإخاء» لا «الخل الوفي»، قائلة: «مثل ليلة أمس جوق إسكندر أفندي فرح رواية «صدق الإخاء»، وهي رواية عنوانها دليل على فحواها، ولا نفيض بالكلام عليها من حيث التأليف، بل نقتصر على كيفية التمثيل البديع الذي قام به الجوق. فمن نظر إلى الممثلين في تمثيلهم السكارى حسبهم ثملين في حانة، ومن رأى نديم وأخته وأمه في حالتي فقرهم وغناهم لم يكد يصدق بأنهم يمثلون غيرهم، أما العجوز فكل ما نقوله عنها إنها أعربت بما يطابق قول نديم اللطيف «أعجب بصبي يتشيخ»، فالقلم في موقف التنشيط والارتياح يقول لممثلي هذا الجوق مع كل من يحضر تمثيلهم «برافو» لا فض فوكم؛ فقد أحييتم هذا الفن في العربية برافو برافو. وفي بدء الفصل الرابع ألقى حضرة الفاضل عبد الفتاح أفندي بيهم خطابا وجيز العبارة عن الأدب، كله غرر وخطب مؤلف الرواية سعادتلو إسماعيل بك عاصم خطابا ينظم في سلك خطاباته المعتادة، وكلا الخطيبين الكريمين شاركوا الحاضرين بل نطقوا بألسنتهم مثنين على الممثلين.»
55
أما بالنسبة للكتاب المحدثين، فكان د. محمد فاضل أول من تحدث منهم عن إسماعيل عاصم، في كتابه عن الشيخ سلامة حجازي عام 1932. فعندما تحدث الكاتب عن أحداث ما بين عامي 1906-1908 بالنسبة لسلامة حجازي، قال: «واتفق أن تعرف ممثلنا بالمرحوم إسماعيل بك عاصم وشكا إليه خلو المسرح العربي من الرواية المصرية، ونعى على الأدباء عدم إقبالهم على تأليف هذا النوع المصري، الذي يجب أن يقدم على منصة مسارحنا عن غيره من أنواع المسرحيات؛ إذ إن الشيخ في الواقع كان يجول بذهنه هذا الخاطر من يوم أن اعتلى خشبة المسرح، وكان يتمنى دائما أن يبث الدروس الاجتماعية، والمبادئ الأخلاقية، والعظات الوطنية في ثوبها المصري وردائها القومي؛ ولذلك فاتح المرحوم عاصم بك بهذه الرغبة التي عمل على تلبيتها، فأنشأ يؤلف له هذه الروايات المصرية، وقدم له منها ثلاث روايات: هي «صدق الإخاء»، «حسن العواقب»، «هناء المحبين».»
56
والملاحظ أن هذا القول - وبالأخص فيما يتعلق بزمن وسبب إقدام إسماعيل عاصم على التأليف المسرحي - لا أساس له من الصحة، ولعدم التكرار، نكتفي بأن نقول: إن كل ما ذكرناه سابقا كفيل بإثبات بطلان هذا القول؛ لأن الناقد يتحدث عن فترة تبدأ من عام 1906، وعاصم ألف جميع مسرحياته قبل هذا العام بكثير.
والكاتب الثاني من المحدثين، كان محمود تيمور المولود في عام 1894، عندما كتب عنه في منتصف هذا القرن، قائلا: «لا أستطيع أن أنسى الليلة الأولى التي دخلت فيها المسرح، وشهدت على المنصة أول رواية تمثيلية. كنت يومئذ في السابعة من عمري، [أي عام 1901]، وكان المسرح تياترو إسكندر فرح ... أما الرواية التمثيلية الأولى التي شهدتها على ذلك المسرح القاهري، فهي رواية «توسكا»، قام بتمثيلها نفر من الهواة، بطلهم الأول إسماعيل عاصم بك، وهو الذي ترجمها إلى العربية.»
57
وهذه المعلومة رغم أهميتها، وما ترتب عليها من مشقة في توثيقها والتحقيق من صحتها، إلا أنها غير صحيحة. فمسرحية «توسكا» من تأليف فكتوريان ساردو، وقام بترجمتها كل من: فايق رياض، وإبراهيم المصري، وحامد الصعيدي، وأدمون تويما،
58
ولم يقم إسماعيل عاصم بترجمتها كما ذكر تيمور، والواضح أن تيمور اختلط عليه الأمر. فمن المؤكد أنه شاهد إحدى مسرحيات إسماعيل عاصم الثلاث. هذا بالإضافة إلى أن مسرحية «توسكا» لم تمثل في مصر باللغة العربية إلا في 27 / 10 / 1910 من قبل فرقة إسكندر فرح،
59
وطالما محمود تيمور كان يتحدث عن ذكرياته في الطفولة، فلا ضرر من وقوعه في هذا الخلط.
أما آخر من تحدث عن إسماعيل عاصم، فكان د. علي الراعي، الذي قال عنه: «أخرج ذلك الأستاذ الجليل [أي إسماعيل عاصم] أولى مسرحياته، وهي المسماة: «صدق الإخاء» في عام 1894 - على أقرب الاحتمالات - ثم ثناها بمسرحية «حسن العواقب» 1895 وبالمسرحية الثالثة: «هناء المحبين» بعد هذين التاريخين.»
60
والخلط في تواريخ المسرحيات وترتيب تأليفها واضح كل الوضوح، في قول الناقد. كما أنه اعتمد أيضا على قول د. محمد فاضل السابق، والذي أثبتنا خطأه، فأقر خطأ من سبقه وسار عليه.
61
وثالث خلط قام به الناقد، قوله: «ويقول الدكتور فؤاد رشيد في كتابه: تاريخ المسرح العربي، إن إسماعيل عاصم قدم هذه المسرحيات الثلاث إلى الشيخ سلامة حجازي، ولم يتقاض عنها أجرا، وذلك تشجيعا منه للفن.»
62
وقد قام الناقد بالخلط بين إسكندر فرح، وسلامة حجازي. فهذا القول ذكره فؤاد رشيد عندما تحدث عن إسكندر فرح، لا عن سلامة حجازي، قائلا: «وكان يدفع [أي إسكندر فرح] أجرة تأليف أو تعريب الرواية مبلغا بين عشرين جنيها وستين جنيها، أو إيراد ليلة خصوصية، وكان بعض المؤلفين وأخصهم المرحوم إسماعيل عاصم يقدمون رواياتهم مجانا تشجيعا للفن.»
63
بعض النصوص الأدبية
إذا أفنيت ما بقي لي من العمر وسط الدوريات القديمة المحفوظة بدار الكتب وغيرها، من المكتبات العامة لجمع وحصر الآثار الأدبية لإسماعيل عاصم، لفني العمر دون الوقوف على هذه الآثار في مجملها ...! فقصائد هذا الشاعر العظيم تغطي فترة ما بين عامي 1855-1917 على وجه التقريب. أي ما يقرب من اثنتين وستين سنة ...! فأي شاعر من الشعراء المحدثين نظم الشعر طوال هذه الفترة ...؟! هذا بالإضافة إلى أنه لم يكن شاعرا مغمورا، بل كان رائدا من رواد الشعر الحديث، وكان يوضع اسمه بجانب الرواد المحدثين كما أوضحنا.
كما أن مقامته «هدهد سبأ»، ومقالاته في جريدة «الظاهر »، وإسهاماته في مجال الخطابة، وأخيرا تآليفه المسرحية الرائدة ... كل ذلك يؤكد على أن إسماعيل عاصم من رواد الشعر الحديث، ومن رواد المقامة الحديثة، ومن رواد الخطابة، ومن رواد المناظرة الأدبية الصحفية، ورائد التأليف المسرحي المصري، ورغم ذلك فهو مجهول لكل النقاد والأدباء والكتاب ... بل هو أشهر أديب مجهول في وقتنا الحاضر ...! وفي الصفحات القادمة سنثبت بعض آثار هذا الرائد الأدبية، في مجال الشعر والمقامة والمقالة، وكل آثاره المسرحية.
ولعلها دعوة لمحبي الأدب العربي، أن يبحثوا وينقبوا عن أشباه إسماعيل عاصم من الرواد المشاهير المجهولين في تاريخ أدبنا العربي.
نصوص لبعض القصائد
في المديح
بيتان للتلميذ إسماعيل عاصم في مدح سعيد باشا عندما زار مدرسة القلعة:
1
مدارس العلم بالأنوار قد سطعت
أرجاؤها لسعيد العصر مذ قدما
به رأيت ثغور الدهر باسمة
فقلت يا ليت قومي يعلمون بما
أبيات من قصيدة طويلة بمناسبة عيد جلوس السلطان عبد الحميد خان على عرش السلطنة العثمانية:
2
صفا الوقت فاغنم حظه فالصفا صدف
وعوض على النفس الأبية ما سلف
وباكر لبنت الحان واختص بكرها
على نغمة الألحان إن الهنا تحف
وكن في أمان من عوادي الزمان في
حمى قدرة السلطان وأقبل ولا تخف
جناب أمير المؤمنين الذي به
سما الدين والدنيا بها ظله ورف
هو الملك الأعلى الذي خضعت له
ملوك الورى والكل من فضله اغترف
بيتان بمناسبة عودة الخديوي توفيق من الإسكندرية عقب الثورة العرابية:
3
لله في الخلق لطف رق معناه
فليس يدري امرؤ ما كنه عقباه
تجري المقادير والإنسان يجهلها
حتى يكون لغير القصد مسعاه
بيتان من منظومة مقدمة للخديوي بمناسبة عيد الأضحى:
4
ليس ارتياحي براح من يدي بكر
بل راحتي بكر معنى من سنا الفكر
ولست بالسمر والبيض الصفاح أرى
شغلي ولكن بحمل البيض والسمر
تهنئة من إسماعيل عاصم للخديوي عباس باشا حلمي الثاني بمناسبة عودته من الآستانة عام 1893:
5
بشراك يا مصر أيام الهنا عادت
والسعد أوقاته بالصفو قد جادت
والحمد لله «عباس» العزيز بدت
أنواره عن سنا بدر السما زادت
مولاي شرفت أحييت العباد فهم
أرواحهم لم تكن هذا النوى اعتادت
مذ سار ركبك والأبصار شاخصة
والروح شوق لمجرى يختك انقادت
لولا اقتراب إياب منك أنعشنا
كانت قلوب الرعايا بالأسى بادت
آنست من دار سلطان الوجود سنا
دار على كل عرش طالما سادت
ونلت فيها من الإجلال منزلة
بمثلها السوى «العباس» ما شادت
أحكمت رابطة الدين القويم لدى
عرش الخليفة كي تنمو وقد كادت
وقام بالأمر في القطر الوزير كما
ترضى وأحكامه من عدلك ارتادت
والناس في كل حال ليس يشغلهم
إلا قدومك والأشواق ما حادت
مولاي أهلا وسهلا هاك أنفسنا
بها لقدومكم أجسامنا جادت
هذي الوفود من الأقطار تجذبها
محبة لك يا بحر الوفا ازدادت
لو استطاعوا لجاء القطر أجمعه
لكنه بالدعا أرواحهم نادت
فأسلم ودم وأقبل البشرى مؤرخة
عاد العزيز وأوقات المنا عادت
في الألغاز
قالت مجلة «روضة المدارس المصرية» في 27 / 8 / 1870: «ورد من الكامل الأديب والفاضل اللبيب حضرة إسماعيل عاصم أفندي المعاون الأول بمديرية الفيوم هذا اللغز المنظوم:
6
ما اسم شيء للناس بالنفع قد عم
نصفه مهمل وباقيه معجم
ورباعي الحروف في العد لكن
حاز كل العلوم والله أعلم
نصفه الأولي رشف لذيذ
تارة والهلاك يحصل من ثم
وإذا ما قلبت ذا النصف تلقى
إنه الزهر عرفه فاح للشم
وترى نصفه الأخير به الخس
ران باد أو كان لفظا لمن ذم
ولدى قلبه بدا القطع فيه
تارة أو يرى كساء منمنم
وإذا ما حذفت طرفيه تلقا
ه كسوبا للمال والكسب مغنم
وعلى كل حالة لا غنى للن
اس عنه إن كان عقلهم تم
فتفضل وجد بكشف رموز الل
غز هذا لازلت فينا مكرم»
وقالت مجلة «روضة المدارس المصرية» أيضا في 25 / 10 / 1870: «حل اللغز الحسابي المتقدم نشره «بروضة المدارس»»
7
بقلم حضرة إسماعيل عاصم أفندي المعاون الأول بمديرية الجيزة، ونصه: قد اطلعت على المسألة الحسابية والنبذة الإنشائية المحررة بالعدد الثالث عشر من «روضة المدارس» الطيبة الأثر، للتلميذ النجيب حسن أفندي عاكف الذي هو من قطوفها الدانية قاطف، فحللتها من عقال التعمية إلى مطلق الإيضاح وجليتها بحلل التبيين والإفصاح، فقلت:
8
رأينا سؤالا للنجيب المدقق
يبين لنا عن فهمه المتأنق
فلاح لنا أن الذي قد أجازه
هو النصف ثم الثلث للمتحقق
وحاصل ما يبقى من المال سدسه
لمالكه بعد العطا والتصدق
في التقريظ
تقريظ إسماعيل عاصم لكتاب دليل مصر في عام 1889:
9
حيي فأحيي بالجمال وبالجمائل
غصن يرنح عطفه عطف الشمائل
وبدا بكأسي راحه ولحاظه
سكران مع سكر الهوى فينا صوائل
يفتر عن در يحاكي لفظه
وعن الدليل كلاهما يروي الفضائل
سفر به شمس الفصاحة أسفرت
عن نور تاريخ الأواخر كالأوائل
جمع الحقائق والرسوم كأنما
في طيه سر الوجود له رسائل
نعم الكتاب كأنه في عصره
مرآة حال الكائنات بغير حائل
جمعته فكرة يوسف الحبر الذي
في كل علم طوله للحق طائل
آصاف من يغنيك حسن بيانه
عن كل قس بان أو سحبان وائل
خدم العموم بخدمة وطنية
عربية يثني عليها كل قائل
ودليل قولي جاء في تاريخيه
هذا دليل نوره نعم الدلائل
تقريظ إسماعيل عاصم لمجلة «أنيس الجليس» في عام 1898:
10
أعروس جلاؤها للعريس
تتهادى بكل معنى نفيس
أم بدور العلوم للناس يبدو
نورها فائقا ضياء الشموس
أصبحت تجذب القلوب إليها
بلطيف الإحساس كالمغنطيس
أسكرتنا ألفاظها فحسبنا
إنها للنهى حباب الكئوس
ورأينا كل المجلات مرءوسا
وأنس الجليس مثل الرئيس
بلغت مشرق المعارف إس
كندرة في سنائها المأنوس
صحف أعربت بفضل الغواني
العرب فيما تبدينه في الطروس
رغب العارفون فيها ولا يع
رف غير الخطاب قدر العروس
برزت للعقول راحا
فراحت ثملات كنشوة الخندريس
قابلتها بشائر أرختها
أشرقت للهدى أنيس الجليس
إلى ابنه علي
قصيدة إسماعيل عاصم في وداع ابنه علي، عندما سافر إلى أوروبا للدراسة عام 1893:
11
له الحمد في بدء الكلام يطيب
وبالمصطفى الهادي إليه أنيب
وبعد فهذي يا علي نصائح
بها حكم قد زانها التجريب
عروسة أفكار إذا أنت صنتها
وأحسنت مجلاها فلست تخيب
فسافر بحرز الله وارجع مؤيدا
بنيل المنى فالله منك قريب
وأودعك الرحمن في الغربة التي
جنحت لها والفكر منك مصيب
وأسأله حسن الإياب فإنه
لخير دعاء الوالدين مجيب
فأوصيك بالتقوى فربك عالم
بسرك والنجوى عليك رقيب
حافظ على الإيمان ما استطعت وليكن
به من رضا المولى إليك نصيب
وأحبب لكل الناس ما أنت تبتغي
لنفسك تصبح والعدو حبيب
وإياك إياك النقايص وليكن
من النفس يا ذخري عليك حسيب
وعاشر جميع الخلق وادرس طباعهم
وخذ ما تراه للعقول يطيب
وصاحب كرام القوم واهجر لئامهم
فإن الفتى للمصاحبين نسيب
ولا تحسبن في الاعتزال سلامة
فكل وحيد عاجز وكئيب
تأدب تجد كل الأنام أقاربا
فليس غريبا في الوجود أديب
وبادر وحاذر أن تفوتك فرصة
فحسرتها في النفس ليس تغيب
وعظم مقام الناس كلا بقدره
يواسيك كل منهم ويجيب
وخل عناد القادرين فإنما
يكون عليك اللوم والتثريب
وكن صادقا في القول والفعل دائما
صدوقا فشر العالمين كذوب
وكن محسنا للناس وابغ رضاءهم
فإن معاداة الرجال عصيب
وكن دائما سمح المحيا بشوشه
فليس لذي الوجه العبوس خطيب
وكن في العوادي ثابت الجأش حازما
وصدرك إن ضاق الزمان رحيب
ولا تأس إن فاتت مع الجهد فرصة
وراقب سواها فالمجد يصيب
وداوم على درس العلوم برغبة
فخير معين للفتى الترغيب
ولا تحتقر يوما فقيرا لفقره
ففقر الفتى للمال ليس يعيب
فإن كمال المرء أجمل حلية
وخير الغناء العلم والتهذيب
وإياك والحقد الذميم فإنه
له في قلوب الحاقدين لهيب
خذ العفو والإحسان تستعبد الورى
ولا تنتقم فالانتقام عطيب
وسامح لتلقى إن جنيت مسامحا
فكل امرئ لا بد فيه ذنوب
ولا تحسدن ذا نعمة واجتهد تسد
عليه وإلا فالحسود قشيب
ولا تبق شغل اليوم عمدا إلى غد
فإن غدا في شغله توضيب
وبعد غد أيضا له عمل فإن
تعطل يوما يفسد الترتيب
ولا تبد يوما عيب غيرك واشتغل
بنفسك واحفظها ففيك عيوب
وباعد عن الكبر البغيض على الورى
فليس لأهل الكبريا ترحيب
ولا ترض ذل النفس إلا لأهلها
فماء المحيا صونه مطلوب
ولا تهتك الأعراض أو ترم محصنا
فترمى بما ترمي وأنت سليب
ولا تشرب الخمر ارتياحا لشربها
ففيها ذهاب العقل والتعذيب
وصن يا بني الفرج واعلم بأننا
سنفنى ويأتي الحشر والتأنيب
وكن حازما في كل أمرك واعتمد
على الله تنجح فالزمان عجيب
فهذي تجاريب الزمان جمعتها
إليك بنظم ما به تعييب
فخذها هنيئا من أب بك راحم
فكل نصوح يا بني أريب
ولو لم يكن هذا الرحيل لمقصد
شريف لطالت لوعة ونحيب
ولكن فراق الأهل في طلب العلا
يهون أوصاب النوى ويثيب
وليس وداعا بل وداد وقوفنا
فأنت لنفسي يا علي قريب
خيالك في عيني وذكراك في فمي
ومأواك في قلبي فأين تغيب
في المناظرة الشعرية
مناظرة شعرية بين إسماعيل عاصم والشاعر خليل مطران، في أيهما أسبق في الحب، القلب أم العين:
12
ففي 31 / 7 / 1898 نظم مطران قصيدته بين القلب والعين، ونشرها بمجلة «أنيس الجليس»، وقال فيها:
قضية بين القلب والعين
بين قلبي ومقلتي
صدمة توهن القوى
ونزاع بفصله
حكما قاضي الهوى
دفاع عن العين
ذنبها أنها رأت
فتصبته فانضوى
عرضا أبصرت ولا
ذنب إلا لمن نوى
دفاع عن القلب
وهو لولا طموحها
لم يتيم ولا اكتوى
مستمرا خفوقه
كلما نسم الهوى
ظمئا ما لغله
من ندى الدمع مرتوى
ثم تعرض مطران بعد ذلك - بشيء من الدعابة - في باقي القصيدة إلى الحكم الابتدائي، وحكم الاستئناف، وفي قصيدة أخرى في 31 / 8 / 1898 بنفس المجلة، إلى حكم النقض والإبرام.
وفي نفس عدد المجلة وتاريخها، قال إسماعيل عاصم: «اطلعت على قضية بين القلب والعين وعلى الدفاع عنهما وعلى الحكم الابتدائي وحكم الاستئناف الصادر فيهما، فراقني مبناها. غير أني وجدت القضية لم تعرض على محكمة النقض والإبرام، وهذا ينسب لتقصير المحامي، وكما أني من رجال هذه الحرفة ويؤلمني نسبة التقصير للمحاماة، فلذلك رفعت القضية لمحكمة النقض والإبرام، وصدر الحكم فيها بالآتي:
حكم محكمة النقض والإبرام
ليس للعين والحشا
ما اقتضى حاكم الهوى
فهي من شأنها ترى
كل شيء لها استوى
فإذا استحسنت فلل
قلب في الحب ما نوى
وإذا استحكم الهوى
وهما في الجوا سوا
تلك في السهد والبكا
وهو في ناره اكتوى
ولا يزالان في عذا
ب على مائت ذوى
إنما الذنب أصله
للجمال الذي غوى
أنه استوقف العيو
ن عليه وما لوى
واستمال الفؤاد قس
را إليه وما ارعوى
ثم لما رآهما
منه في قبضته الجوى
تاه أو مال عنهما
أو تجلى على السوى
فهو أحرى بأن يقا
ضى لدى حاكم الهوى
ولهذا فيكتفي
كل حاكم بما حوى»
وبعد نشر مطران قصيدة محكمة النقض والإبرام في أغسطس 1898، رد عليه إسماعيل برد نشرته المجلة في 30 / 9 / 1898، جاء فيه: «اطلعت في العدد الأخير على حكم نقض وإبرام صدر في قضية القلب والعين غير حكم النقض والإبرام الذي بعثت به، ومن بحر وقافية غير بحر القضية ورويها، ويتضمن أن الجاني هو الهوى، ولما كان الحكم المقدم منا أن الجاني هو الجمال فحرصا على واجبات المحاماة قد رفعنا الأمر لمحكمة التمييز؛ لتقضي بتمييز أحد الحكمين، وصدر حكمها بالآتي:
كل نفس بها هوى
من جمال لها غوى
وترى الحب ناره
ما الحبيب الذي كوى
إنما الحسن علة ال
ميل والعل كم روى
وإذا لم يك الجما
ل فلا يوجد الجوى
ولهذا فعاصم
صائب في الذي روى»
في المناسبات الدينية المسيحية
تهنئة من إسماعيل عاصم للأخوة المسيحيين بمناسبة عيد رأس السنة في عام 1900:
13
عام بخير مضى والدائم الله
لا خير فيه فقد بانت رزاياه
فاترك حوادثه للدهر يجمعها
واليوم عام بدا بالبشر نلقاه
يا أمة القبط يا أهل الوداد ومن
أنفقتم العمر فيما قد عرفناه
هلا سمعتم نكوث العهد من فئة
عهد الوفا عهدهم فيما عهدناه
إنا وأنتم كلانا واحد وإذا
دخيلكم قال قول السوء نأباه
وكم لنا مجمع بالود نعقده
أراد تفريقنا وغد رفضناه
يضمنا وطن تدنو بنا لغة
في كل مجتمع كل تتمناه
يسوسنا ملك في عدل ساحته
يظلنا علم بالحق نرعاه
جوامع كلها للخير جامعة
ألا بأيهما منكم نبذناه
وكم تبودلت الأعياد أجمعها
يزيدها الحب والإخلاص مرماه
والدين لله والديان موجده
بين الخلائق لا معبود إلا هو
قضت لنا ولكم بالود حكمته
والناس بالناس أمر جل معناه
وفاقنا لم يغيره الزمان ولم
ينقص لكم بيننا في رحبنا جاه
أيا ترى من سمعتم منه ثم فلم
نعرف دخيلا به الجهال قد فاهوا
وما الدخيل سوى النفس الخبيثة في ال
أصل الخسيس الذي قد ذم مولاه
فهو السفيه الذي من نطفة الشؤم في ال
جسم الخسيس الذي قد ساء مرباه
فليصلح المرء قبلا نفسه فإذا
جلت عواطفه بانت مزاياه
وليصلح السير حتى يستقيم وإن
تم الصلاح فقد طابت نواياه
قصيدة ألقاها في مركز جمعية التوفيق القبطية في عيد النيروز الموافق 11 / 9 / 1900:
14
عام بخير مضى والدائم الله
واليوم عام بدا يا بشر نلقاه
يا أمة القبط يا أهل الوداد ومن
عهد الوفاء عهدهم في ما عهدناه
إنا وأنتم كلانا واحد وإذا
أراد تفريقنا وغد رفضناه
يضمنا وطن تدنو بنا لغة
يظلنا علم بالحق نرعاه
جوامع كلها للخير تجمعنا
يزيدها الحب والإخلاص مرماه
والدين لله والديان موجده
والناس بالناس أمر جل معناه
وفاؤنا لم يغيره الزمان ولم
نعرف دخيلا به الجهال قد فاهوا
وما الدخيل سوى النفس الخبيثة في الج
سم الخبيث الذي قد ساء مرباه
فليصلح المرء قبلا نفسه ومتى
تم الصلاح فقد طابت نواياه
ونسأل الله توفيقا برحمته
وكل عام لكم في السعد مسواه
في التأبين
في يوم 30 / 11 / 1917، كان الاحتفال في دار الأوبرا بتأبين الشيخ سلامة حجازي، وكانت لجنة التأبين برئاسة إسماعيل عاصم، الذي ألقى كلمة الافتتاح قائلا:
15 «كل نفس ذائقة الموت، وكل حياة يبيدها الفوت، وكل مركب للانحلال، وكل بسيط للزوال، وكل موجود للانعدام، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
أيها الناس هكذا الأحكام
كل حي يأتي عليه الحمام
ويموت المليك في الحصن والمل
ك لديه كما يموت الغلام
ويموت الغني في وسط الما
ل كما يذهب الفقير المضام
ويموت العليم في ذروة العل
م كما يزهق الجهول الملام
ويموت الطبيب وهو عليل
يتغنى كما تموت النعام
كلنا مائت وفي الموت تلقى
راحة النفس من عناها الكرام
هكذا مات واستراح حجازي
بعد ما أنشبت به الأسقام
بات في اللحد مستريحا لدى الله
وبتنا يروعنا الإيلام
كان فينا يكاد يحيي بمغنا
ه رفاتا تقيمها الأنغام
كان غض الآداب سمح المحيا
كم تباهت مصر به والشام
فمضى كالأولى مضوا ثم صاروا
بعد حين كأنهم أحلام
فعلى روحهم صلاة من الله
ومنا ترحم وسلام»
نص مقامة «هدهد سبأ»
سمع النداء على البعاد الهدهد
لمكارم الأخلاق وافى يقصد
قد كان معتزلا عن الأغيار من
ذ قضى سليمان وباد السودد
قد كان يجنح للبعاد نزاهة
لما تساوى بالضلول المرشد
لكنه سمع الدعا فأجابه
والعود للشرف الموئل أحمد
بسم الله الرحمن الرحيم، سبحان من هدى عباده الموقنين بأنوار حكمة المعرفة واليقين، وكشف عنهم حجب الجهالة فاتبعوا الهداية ونبذوا الضلالة، سبحانه دلت الكائنات على أنه الواحد الأحد، ونطقت الموجودات بلسان حاله، وقالوا إنه الفرد الصمد.
فوا عجبا كيف يعصى الإله
أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
سبحانه لا إله سواه، وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه، يسبح البرق بحمده ويتلو ضوءه آيات مجده، أحمد على ما أولانا من العقل وإرشاده؛ لنميز به كل شيء وأضداده، وصلات الصلاة وسلام السلام على من جاء بالحكمة السابغة والحجة الدامغة، والمعجزات الصحيحة والموعظة الحسنة والنصيحة والسياسة العامة والكياسة التامة، وعلى آله وصحبه الذين دنت بحكمتهم الأبعاد ودانت لعدالتهم العباد والبلاد، وبعد فهذه أزهار قطفتها يد الأفكار من روض المحادثات التي جرت بين هدهد سبأ وزير الطير، وآصف بن برخيا وزير الجان لدى نبي الله سليمان بن داود - على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام - قد أوردتها هنا؛ لتتروح بعرفها الأرواح؛ لما اشتملت عليه من أساليب الحكمة وحسن الأدب وفصل الخطاب، وذلك إجابة لطلب كثير من حضرات العلماء الأكارم وفي مقدمتهم حضرة صاحب المكارم.
قال الهدهد: لما أجاب نبي الله سليمان بن داود داعي القرب من حضرة الشهود، وانفضت تلك الجموع وخلت منها المنازل والربوع، وأصبح مبتدأ ذلك السلطان داخلا في خبر كان، وزالت عن القوم نعمة الاجتماع، وتفرقت الكلمة بضلال الابتداع؛ علمت من بعد هذا الهلك أن لا جامعة لذلك الملك؛ لأنه كان من خصايص نبي الله سليمان ولا ينبغي لأحد من بعده على توالي الأزمان، فوقفت وقفة المندهش الحاير من هول ما رأيت من مفاجأة الشتات وسرعة هذه الاستحالات، وأنشدت هذه المقاطيع أسفا على هذا المنظر المريع:
الخلد في الدنيا محال
والحال ولو طال استحال
والمرء مهما اختال خيال
وكثرة الآمال وبال
فكل شيء للزوال
والله يبقى لا سواه
للموت تنخضع الرءوس
ولحكمه تعنو النفوس
لا كهل يبقى أو عروس
بل ظلهم للانتقال
فكل شيء للزوال
والله يبقى لا سواه
والأنس بالدنيا غرور
وصفاؤها لو صح زور
وسرورها أبدا شرور
والاتصال منها انفصال
فكل شيء للزوال
والله يبقى لا سواه
وهنالك ناجاني مناجي التوحيد، ودعاني داعي التجديد عن هذا العالم الزائل وطول الكد في غير طائل، فحنت إلى عالمها النفس، وكادت تغيب عن مدرك الحس، ودخلت إلى حان التقوى تطربني ألحان النجوى، محتسيا كأس المحبة من يد ساقي الأحبة حتى سكرت والسكر فنون بخمرة، وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون، فجنحت للفرار والعزلة عن الأغيار، ودخلت في عشي مقتنعا بفضلة عيشي مؤتنسا بالحق في وحشتي، مجتمعا بمناجاته في وحدتي، وكلما تذكرت سيدنا سليمان وما كان له من عظيم السلطان، وما كنت فيه من الإمارة وكبرياء الوزارة، ثم ما أعقب ذلك من الزول وسرعة الانحلال، أغطي رأسي بجناحي راضيا من الغنيمة برواحي، وأقول يا أرض ابلعيني، ويا أيتها الدنيا دعيني، فمتاعك غرور، والاغترار بك زور، ثم أبكي على تلك الاستحالات، وأنشد هذه الأبيات:
1
يا مكثر العجب إن الدهر غدار
خفض عليك فللإقبال إدبار
ويا أخا الكبر فيم الكبر يا سفها
والبدأ والعود إقذاء وأقذار
ويا حريصا على الدنيا وكانزها
هون فليس يطيل العمر إقتار
تجد في جمعها دهرا وتتركها
للغير قهرا وعقبى وزرها النار
ويا غرورا بعلياه ومنصبه
بالله أين الأولى سادوا وقد ساروا؟
أين النبي سليمان ودولته؟
شادوا وزادوا ونادى الموت فانهاروا
ويا جهولا يصفو الوقت منخدعا
حاذر فإن الصفا تتلوه أكدار
ويا مقيما على اللذات منهمكا
فيها تنبه فللأحوال أدوار
يا مارحا في سبيل الأمن منتبذا
وشك الردى إن سبل المرح أوعار
يا شاربا من كئوس اللهو مترعة
بالزهو مهلا فكأس الموت دوار
يا فارغ القلب عن تذكار غايته
ألم يكن لك في الماضين تذكار؟
يا جائرا في القضا هلا اعتبرت بمن
جاروا ومذ جاهم أمر الفضا حاروا
يا من يروم بضر الغير منفعة
للذات ويلك فالديان قهار
ويا غريق العمى هلا نجوت على
فلك الصف فانجلت للحق أبصار
ويا أسير الهوى هلا انطلقت إلى
رحب الهدى حيث للعافين أنصار
يا غافل النفيس هلا منك تبصرة
فتنجلي عن غشاء القلب أستار
يا موثقا بالمعاصي كيف تحملها
ثقيلة وأمام الركب أسفار
يا لاهيا بلذيذ العيش حسبك لا
تشره فلابد للإيسار إعسار
ويا رهين القضا كيف الضمان غدا
من الردى وصحاف العمر أوزار
يا سائما في مراعي الغي ويحك لم
تسأم وقد سئمت من أهلها الدار
ويا مكبا على فعل القبايح ما
هذي الفضايح والإنسان آثار
يا نائما عن معاليه ويطلبها
كيف الوصول ودون الحي أسوار؟
يا مظهر الخير والإفساد ديدنه
خف الرقيب فللإخفاء إظهار
يا مانع الخير عمدا وهو مقتدر
عليه في حينه هذا هو العار
يا ضاحكا من خيالات الزمان كذا
تبكي إذا صلحت للحق أفكار
يا طالب الخير من هذا الزمان ومن
أهليه هل عملت في العقل أسحار
مات الكرام ومات الفضل إثرهم
والخير فات وعاف الدار ديار
قل الوفا واشتفا في الابن والده
حتى جفا جاره من غدره الجار
مني السلام على هذا الزمان ولا
طالت إذا دام هذا الحال أعمار
وبينما أنا على هذه الحال، وقد قطعت عن لذة الدنيا الآمال؛ إذ سمعت ذات ليلة وقت الأسحار صياح عصفور الأدوار، فملت إليه بالكلية - ولا يخفاك حنين الجنسية - وخرجت من عشي أسابق الرياح حتى لحقت به عند الصباح، فرأيته باكي العين وسمعته ينشد هذين البيتين:
حتى الرياض وجدتها
تبكي بها عين السحايب
والطير تهتف بالنوا
ح لفقد آثار الحبايب
2
قال الهدهد: فقلت له مكانك يا عصفور الأدوار، وأنشدنا من مطرباتك أدوار. فقال: إليك عني يا جاهلا بالمصير، ولو كنت هدهد سبأ الوزير، فقلت له الزم موضعك يا عصفور ولا يغرنك بنفسك الغرور، فكم من دور مضى وزمان انقضى، فوقف متعجبا، وقال: عساك هدهد سبأ؟ قلت: نعم أنا الهدهد، وأنت من أين وإلى أين تقصد؟ أنبئنا بأدوارك وبح لنا بأسرارك.
فقال: اعلم يا هدهد أنه لما أتم الله سبحانه وتعالى خلق الدنيا على هذا النظام العجيب الذي تراه، وأراد إيجاد النوع الإنساني؛ ليكون خاتمة الوجود، حسده على ذلك جميع العالم حتى الملائكة قالوا:
أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء
فأبى الله إلا نفاذ إرادته وخلق آدم وحواء ثم أسكنهما الجنة، وكنت أنا إذ ذاك في مركز الأدوار ومرتقى الأسرار، فلما سمعت قوله تعالى لآدم
اسكن أنت وزوجك الجنة
علمت أنهما سيخرجان منها؛ فإنه لا بد للساكن من مبارحة السكن، وقد صدق ظني وهبطا إلى الأرض لأمور اقتضتها الحكمة الأزلية وتناسلا فيها وانتشرت ذريتهما في بقاعها.
فأخذت الأرض في النضارة والعمران بما جاءوا به من الاتحاد والاجتهاد، فأخذ مني السرور بهم كل مأخذ، وهبطت إليهم لأساعدهم على عملهم الصالح، خائفا عليهم من الشماتة بهم حتى إذا حصل ما حصل بين قابيل وهابيل من الحسد والقتل، وهما أخوان توأمان داخلني من سوء المصير الوسواس، وقلت: لا خير في كثير من الناس وصعدت إلى مركزي.
وما زال الصلاح يخبو والفساد في الأرض يربو إلى أن أرسل الله نوحا بالطوفان، وأغرق الظالمين، وحمل في السفينة المصطفين، فتوقعت حصول الخير في هذه الدار، وهبطت إلى السفينة لأكون مع الأخيار، فسمعت نوحا يدعو ولده إلى الهداية المبينة والركوب معه في السفينة، وهو مجيب بالسلب والرد ويعامل والده بالعقوق والصد.
فقلت: بالأمس قتل الأخ أخاه، واليوم عصى الولد أباه، فأي خير من الدنيا أتمناه، وصعدت إلى مركزي مستعيذا بالله، ثم تقلبت الأيام وتبدلت الأنام، وأرسل الله سليمان بالنبوة والسلطان، وملك الدنيا غربا وشرقا، وصارت مكانته وقومه من السماء أرقا ، فتخيل لي أن لا فساد بعد هذا الإصلاح، ولا تحاسد بعد هذا الفلاح، وهبطت إلى الأرض لأحظى باتباعه وأكون من أتباعه، حتى أتاه الأجل المحدود، وفاجأه الموت الموعود، فريثما حملوه على النعش رأيت ثريا جموعه تبدلت ببنات نعش.
وكنا كالثريا في اجتماع
فصيرنا الزمان بنات نعش
فدعوتهم للاجتماع وعدم الضلال عن سبيل الإجماع، ولكن غلب عليهم الهوى وما رأيت أحدا منهم ارعوى فقلت لا خير في الدنيا، وسارعت إلى مركز الأدوار العليا.
قال الهدهد: فقلت له وما سبب هبوطك الآن ونحن في أي زمن من الأزمان؟ فقال: إني كان لي صاحب حميم وصديق حكيم اسمه نسر الأدهار وقد فقدته عدة أحقاب فبحثت عليه بين الأفلاك وسألت عنه الإنس والأملاك ولم أهتد له على أثر، وكان عهدي به التردد على وادي سبأ وآونة على الوادي المقدس؛ ليمرح في غياه بها ويتروح بزهر رياضها، فهبطت إليها لعلي أجتمع به فيها، ولما وصلتها أنكرتها وأنساني مرآها الحاقل ما أتيت إليها من أجله، فإني حمت حول أكنافها فوجدتها مندرسة المعالم بالية الأطلال، ولم أر فيها غير رويضة صغيرة وغويضة حقيرة قد استبدلت أزهارها بالقتاد وأنهارها بالسراب وهزارها بالبوم، ولسان حالها يقول:
تأمل سطور الكائنات فإنها
من الملأ الأعلى إليك رسائل
وقد خط في لوح الوجود يراعها
ألا كل شيء ما خلا الله الباطل
فتأملتها فإذا هي روضة بلقيس التي كانت تزهى الدنيا بنضارتها، فلم أستطع النظر إليها وخرجت منها خروج السهم من القوس قاصدا مركزي، عازما على العزلة الأبدية حتى جزت على ناديك يا هدهد، وأنا أنشد البيتين اللذين سمعتهما آنفا فعليك مني السلام سلام افتراق لا اجتماع بعده.
قال الهدهد: فاضطرب فؤادي حين سمعت ذكر وادي سبأ وقبضت على ريش العصفور منقاره وقلت له أناشدك الله ألا تجعل هذا الموقف آخر العهد بالاجتماع بك، وأن تزيدني بيانا بما ران على وادي سبأ.
3
ولما طلبت من عصفور الأدوار ألا يجعل هذا الموقف آخر العهد بالاجتماع. قال بعدا لك يا هدهد، فإنك ما زلت ميالا للطرب كأنك ما شاهدت فعل الأدوار بالعالم، ولا قرأت ما هو مسطور على جبين الزمن.
في جبهة الدهر سطر لو نظرت له
أبكاك مفهومه من مقلتيك دما
ما سلم الدهر باليمنى على أحد
إلا ويسراه تسقيه الردى كظما
ثم ودعني وداع الرائع، وطار كالبرق اللامع، ولما دنا من مركزه الأسنى، وكان قاب قوسين أو أدنى. قال: يا هدهد اعلم أن العاقل من اعتبر بأمسه، وعمل لغده ولم يضيع دقيقة من عمره بغير فائدة تعود عليه وعلى بني نوعه. فإن العزلة داعية الكسل والبطالة، وهذا تأباه النفوس الشريفة، وبقدر الكد تكون الفائدة التي قدرها الله سبحانه وتعالى. فإن الحذر لا يمنع القضا والعزلة لا تدفع سهام البلايا المنقذفة عن قسي السموات. ثم أنشد هذه الأبيات:
إذا كان مبنى كل شيء على القدر
فقل لي رعاك الله ما ينفع الحذر
وإن كان حكم الدور يأتي مع القضا
فسيان يا صاح الرضا منك والضجر
فصبرا إذا جاء الزمان بعكس ما
تريد فبالآمال يظفر من صبر
ولا تأس إن فاتت مع الجهد فرصة
ولا تثن عزما وارقب الفرص الأخر
ولا تبتئس إن ساد وغد وإن ذوى
كريم فكم للدهر في دوره عبر
وكن في العوادي ثابت الجأش ظاهرا
على الدهر بالصدر الرحيب إذا غدر
وإياك إدمان القطوب لنازل
فيرتاب من تهوى ويشمت من وغر
ولا تبتغي في الاعتزال سلامة
وسالم بني الدنيا ففي النفرة الضرر
ولا ترض بالذل ابتغاء معزة
فماء المحيا دونه كل مدخر
وباعد عن الزلات والحقد جانحا
إلى الخير تسلم ما استقمت من الكدر
وصاحب كريم النفس والأصل وابتعد
عن الدون فالأوغاد صحبتهم خطر
وصانع دهما الأعداء واحذر صنيعهم
فقد يشفق الذباح بالوحش إن عقر
وفي حالي النعماء والبؤس لا تكن
غرورا ولا كلا وكن حازم الفكر
ورد جماح النفس عن غيها ولا
تطعها ومن شيطانها كن على حذر
وقدم من الأولى لا نراك صالحا
وخذ من صباك الغض ما ينفع الكبر
وما عشت للترحال كن متأهبا
ومن خالص التقوى خذ الزاد للسفر
فقلت له: زدني يا عصفور، ويا عروس الطيور، من نصحك المشهور، ووعظك المشكور.
فقال: ليس في الإمكان أبدع مما كان، ومن لم يكن له واعظ من عقله، وزاجر من نفسه من بعد ما رأى الآيات، فالبعد عنه من أكبر الغنيمات، ثم غاب عن الشهود في جوف مركزه المعهود، بعد ما أوعد بالاجتماع عندما يدعو الداع.
قال الهدهد: فوقفت وقوف الحيران، وتراكمت علي الهموم من كل مكان، ولا سيما حين أذكرني العصفور عهد أنسي القديم في وادي سبأ أيام كانت الدنيا دنيا، والناس ناس والمشرق مشرق بشموس الكمالات، ومسفر ببدور الآيات البينات. فحنت نفسي للذهاب إلى تلك المواطن المقدسة، ولا يخفاك حنين الغريب للوطن، وشوق الولهان للسكن، وطرت قاصدا وادي سبأ. عساي أرجع منه بنبأ وأروح روحي بتلك المعاهد، وأحيي نفسي بمشاهد هاتيك المشاهد.
4
5
غير أني كلما دخلت أرضا أراها مرسحا للبوم والغربان
6
وكان عهدي بها روضات للبلابل ومرتعا للغزلان. أو أتيت على وادي ألقاه في حضيض الخراب، وكنت أعهد عمارتيه تزاحم السحاب، وإذا وصلت جمعا أشاهد عليه الذلة والصغار، وكنت أعرفه بالهيبة والوقار. هنالك وقفت أبكي الديار العافية، والأطلال البالية، والمعالم المندرسة، والأحوال المنعكسة، وأقول:
قد أقفرت من أهلها الديار
واندرست كما ترى الآثار
وأفلت عن أفقها الأقمار
لما أباد قومها الدمار
وامتنعت من سحبها الأمطار
حتى جفاها الزهر والأثمار
والبوم فيها والحدادي صاروا
يشدون لما فاتها الهزار
وغشيت صفاءها الأكدار
وعافها أنيسها والجار
وصرن لا دار ولا ديار
وما أتممت كلامي، وفرغت من بديع نظامي، حتى ناداني مناد من كبد الوداد، وهو يقول:
يا هائما بين الطلول
يبكي على الحال الحئول
دع عنك نوحك والذهول
فأي حال لا يحول •••
يا هدهد ألف النواح
حزنا على جدب النواح
لا تبك شيئا حيث راح
فأي شيء لا يزول •••
واندب طيورا ضيعوا
أوكارهم وما سعوا
لغلة ولا رعوا
حفظ الخصيب من القحول •••
وابكي على حال الوحوش
مذ برطعت فيها الجحوش
والشاة ناطحت الكبوش
والتيس صال على الفحول •••
والقط قد حكم الطيور
مذ أهملت منها الأمور
وغدت وليس بها نفور
منه وليس لها عقول
نامت عن الأمر الخطير
وصحت إلى الشيء الحقير
فغدا اليسير بها عسير
شأن المفرط والكسول •••
والجهل قد أعيى الرءوس
والجور كم ذل النفوس
والعلم رسم في الطروس
والحبر أراده الجهول •••
وتصاغرت أهل الفطن
وتكابرت أهل الفتن
فتباغضت أهل الوطن
وعن الوفا حان العدول •••
ماذا يفيدك بالنواح
فاتركه واعمل للفلاح
فعسى يعود لك النجاح
إن كنت تدري ما أقول
قال الهدهد: ثم انقطع الصوت كأنما أدركه الفوت، وبحثت عليه فلم أهتد إليه، فطرت في الهواء وناديت:
يا صاحب الصوت المهول
يا ناظما هذا المقول
جد لي فديتك بالقبول
لأفوز عندك بالوصول •••
من أنت يا رب النظام
قل لي أقاسمك الغرام
هل أنت طير أم غلام
أم أنت جني الأصول
وما أتممت كلامي حتى رأيت دخانا صار الجو منه في حلك، وسمعت صيحة رنت لها قبة الفلك. فارتعت مما رأيت وجنحت للفرار، من هذه الديار. لكني تثبت لأعلم كنه الأمر؛ إذ لا شيء أضر على صاحب الحاجة من الطيش في طلبها، وبعد برهة انجلت هذه الظلمة عن شخص من بني الجن قد غاب ليل شبابه وأسفر صبح مشيبه، وقال: أهدهد سبأ أنت؟ قلت: نعم، ومن أنت يرحمك الله؟ قال: ما أسرع ما نسيت وليس عهد افتراقنا ببعيد؛ فإنه لا يزيد عن ستة آلاف سنة!
فقلت: «سيدي آصف» ورب الكعبة، فقال أنا ما ذكرت. فهبطت إلى الأرض لأقبل قدميه. فقال: مه يا هدهد. فسلمت عليه، فرد بأحسن تحية. وبعد أن تذاكرنا أيام أنسنا وطيب أوقات اجتماعنا في عهد سيدنا سليمان، وما كان عليه المشرق من النضارة والعمران، وسعادة المكين والمكان.
قال لي: ما الذي جاء بك إلى هذه الأودية المجدبة وهي الآن ليست مرتعا للطيور الأوانس كما كنت تعدها من قبل؟ فهلا قصدت المغرب جنة الدهر في هذا العصر؛ فإنه صار محط رحال العوارف والمعارف، ومركز دائرة الوفود من كل طارف وأطارف.
فقلت: وكيف كان ذلك يا سيدي؟ فقال: يا هدهد لا تسألني عن أحوال الأرض وبني الإنسان؛ فإني منذ فارقتهم بعد سيدنا سليمان لزمت الوحدة، وألفت العزلة، وعملت لما هو آت، وما سألقاه بعد الممات؛ فإن أمامنا يوما تشخص فيه الأبصار، وتنعدم الأنصار، وتجد كل نفس فيه ما أودعت، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت. يوم يعض الظالم على يديه ويسكب المفرط دم قلبه من عينيه، يوم يفر الحميم من الحميم، وكلهم خائف من عذاب الحميم، إلا من أتى الله بقلب سليم.
ماذا جوابك يوم الفصل حين ترى
جميع ما كسبته النفس مسطورا
أفاض أنعمه المولى عليك ولم
تشكره بل رحت بالكفران مسرورا
نهاك دينك عن فعل القبيح وما ان
تهيت بل صرت بالعصيان مشهورا
أطعت نفسك لم تكبح غوايتها
وليت فعلك هذا كان مستورا
بم اعتذارك إذ تلقى كتابك بال
أوزار ممتلئا بالخزي منشورا
بأي وجه تلاقي الله وهو يرى
ما كنت تعمل حتى جئت محشورا
ثم قل وا حسرتاه على ما فرطت في جنب الله! وأراد أن يودعني ويذهب من حيث أتى.
فقلت له: بذمة العهد الذي افترقنا عليه إلا ما أخبرتني عن سبب ما ألم بهذه الديار، بعد أن كانت غرة في جبين الأدهار؛ فإننا وإن لم نكن من بني آدم لكن لهم علينا حقوق الصحبة والجوار في هذه الحياة الدنيا، ويجمعنا وإياهم مبعث خاتم الرسالة، وطالما شاركناهم في أوطانهم، فكذلك نشاركهم في فرحهم وأحزانهم، شأن الصاحب الوفي، وأنت تعلم أنهم أفضل منا في النشأة والرجعى.
فقال: إليك يا هدهد، فإن أكرمكم عند الله أتقاكم، وإنه - جل شأنه - لم يفضل جميع الناس على جميع الخلق، بل قال، عزت حكمته:
وفضلناهم على كثير ممن خلقنا ، فالفضل لأهله من أي نوع، لا لمن حاد عن سبيله، و
إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده .
واعلم يا هدهد أني سأنبيك بأسباب سعادة كل أمة وكل مملكة وجدت على الأرض من عهد سيدنا سليمان، وداعية شقائها وانحلالها، مستطردا في ذلك لبيان جميع العلوم والصنائع التي امتازت بها الأمم وارتفعت بها إلى أوج الفلاح، ولا أبخل عليك ببيان حكمة كل علم منها وافتقار السياسة إليها. ثم أقص عليك من أنباء فضل الرجال الذين أقاموا عمد الدنيا والدين، وما جاءوا به من السياسة والكياسة وغير ذلك مما يفتقر إليه كل رئيس ومرءوس.
ثم التفت ذات اليمين وذات الشمال، وقال: يا هدهد، إني أسمع رفرفة أجنحة طائر في الجو الأعلى. فارتقبناه فإذا هو صاحبي عصفور الأدوار قد انقض علينا وقت القيظ، وقلبه يكاد يتميز من الغيظ، وريثما وصل إلينا سلم سلام الأحباب، وقابلناه بالتحية والترحاب. ثم جلس على الذنب، وقد أخذ منه الغضب، وابتدر المقال، فقال: متى يستقيم الظل والعود أعوج؟! ومتى يحسن السباق والسابق أعرج؟! وكيف يتثبت الفكر والطبع أهوج؟! أم كيف يثبت الرأي والحال أزعج؟! وأين تنبث أشعة الحكم المنبعثة من شموس الأفكار، وقد أعمى الجهل البصائر والأبصار؟! وعلام تشرق أنوار النصائح، وغشاوات الحسد على العيون نواضح؟!
لا سودد يا بني الدنيا مع الحسد
والحقد يأتي على الأصلح بالكسد
والناس مادامت البغضاء قائمة
بنفسهم حسدا ضلوا عن الرشد
وللزمان انقلابات تؤثر في
أماكن القوم من ضنك ومن رغد
ألم أنبئك يا هدهد بأن أول ما وجد من المصائب في الدنيا هو مصيبة الحسد؟! ألم تعلم بأنه ما وجد على الأرض من المهالك وخراب الممالك إلا كان أعظم أسبابه الحسد والجهل؟! أتظن نفسك يا هدهد غير محسود على هذه الساعة الواحدة التي جمعت بينك وبين آصف بن برخيا بعد طول افتراقكما؟! فأنصحكما أن تلزما شأنكما، ولا تتعبا الفكر في شأن النوع الإنساني فإنه قليل الوفا، إلا الذين تهذبت طباعهم، واعتدلت بالحق أوضاعهم، وقليل ما هم.
فقلت له: إننا الآن في واد أقفر، ومكان أشعث أغبر، لا إنس ولا جن فيه، ولا طير ولا وحش يأويه، ولم نجتمع به على أحد. فمن أين وعلام يأتي لنا الحسد؟! فهز العصفور رأسه، وقال: لعلك نسيت أنه يوجد تحت قدميك من هوام الأرض وحشراتها ما لا يأتي تحت حصر وعدد، وهل يغرب عن فكرك أنها ترميكما بسهام الحسد .
فقال له آصف: إنه ليس بيننا وبين الهوام والحشرات ارتباط ولا معاملات تبعثها على التباغض والتحاسد، فإني مع الهدهد ها هنا نتجاذب أطراف التاريخ والحكم، وهذا شيء تجهله الهوام والحشرات؛ لأنها مخلوقة من الأوساخ والعفانة، والقاذورات والنتانة. فهي تجهل ما نحن فيه من الرشد، ولا حاجة لها بهذا الحسد.
فقال العصفور: إن من كان طبعه الشر لا يؤمل منه الخير «وقد سئل من العقرب هل تجدين لذة في اللسع قالت لا ولكن من طبعي الأذى»، واعلما أن هذا الوقت ليس وقت حكم ونصائح، ولكنه وقت تباغض وفضائح، ومثلكما تغنيه الإشارة عن صريح العبارة، فليذهب كل منا إلى مكانه، حتى يلوح سعد زمانه. ثم ودعنا وطار، وأنشد بعدما غاب عن الأبصار:
عار على المرء أن ينسى معايبه
ويقتفي ما خفي من عيب أصحابه
ولو تدبر ما يعنيه مشتغلا
بعيبه عن سواه كان أولى به
قال الهدهد: فسمع كل منا نصيحة صاحبه، وألقى حبله على غاربه، وهذا ما تبتغيه العدا وتتمناه، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
7
نصوص لبعض المقالات
فقدان الخطابة من مصر
مر على خاطرنا تاريخ مصر منذ عشرين سنة؛ أي عقب أن وطئ المحتلون أرضها، فكنا نتمثل حوادثها الماضية تمثل الكهل النائم عهد الصبابة وعيش الصبا. تذكرنا تلك الأيام حيث كان الشعور الوطني شديد التمكن من أنفس المصريين، وحيث كانت آمالنا كأغصان وريفة دانية القطوف زاهية الأزاهر متضوعة الشذا. تذكرنا تلك الأعوام التي مرت متتابعة سراعا مرور السحاب تزجيها الأعاصير أو مرور الأنفاس تدفعها الزفرات المتتالية، وما ذكرناها إلا ما كان فيها من النهضة الوطنية التي تهتز لها أجسادنا كلما خطرت سيرتها على البال.
فيا أيتها الأوقات التي تصرمت، هل لك أن تعودي وتعيدي لنا نهضتنا الأولى التي كانت تمثلنا في مصاف الأمم الشريفة المشرئبة إلى الحرية والاستقلال. نعم، لقد كنا إلى عشر سنوات مضت نعقد الجمعيات العلمية ونؤلف الأحزاب السياسية، ويتصدى كتابنا وشعراؤنا وخطباؤنا لتنبيه الهمم واستفزاز النفوس وإحياء العواطف بأقوال تألفت من فقرات الشمم، وكلمات تركبت من حروف المجد والإباء. ثم أصبحنا وقد خفتت أصواتنا إلا ما لبث يتردد من بعض الذين لم ترهبهم البروق ولم يرغبهم البراق. تلك الجمعيات التي كانت توسع دوائر الآداب والتي كانت تبحث وتنقب في ضروب مختلفة من العلوم والفنون والتي كانت تشحذ قرائح الخطباء وتجري ألسنتهم في ميادين الكلام.
لقد كان الكاتب يتفرغ من عمله في النهار فيذهب إلى مجتمعه في الليل، وقد أعد لنفسه خطابا يلقيه على أخوانه في موضوع علمي أو أدبي أو سياسي أو ديني إلى غير ذلك، كما كان الطالب ينتحي المجتمعات متطلبا فائدة يلتقطها أو بيتا يحفظه أو نكتة يعيها أو حكمة يستهديها أو خطبة ينسج على منوالها، وهو يتسمع ألفاظ المتكلمين وهي تتناثر تناثر الطل من أوراق الشجر. فكانت الأفكار تتغذى كل يوم بمادة جديدة، وكانت الألسنة تجري كل مساء شوطا بعيدا، فلو دامت تلك النهضة إلى الآن ولو بقي رجالها على ما كانوا فيه من الحمية والتلهب غيرة وحماسا، لكنا الآن في غير هذا المركز الحرج الذي تتمالأ علينا فيه دول الغرب ونحن صامتون.
كنا نعهد في تلك الآونة أن مصر ملأى بالخطباء المصقعين الذين تتدفق أشداقهم بسيل من البلاغة، وترتطم شفاههم في زبد من الحماس. فأين ذهبوا وماذا فعل الدهر بمواهبهم؟ وهل فجعت مصر بهم أجمعين، أم ضرب بينهم الخمول يجرانه فساكنوه وعاشوا تحت ظلاله هامدين؟
لم لا نسمع اليوم من جلبتهم اللذيذة ورنات أصواتهم العذبة الرخيمة إلا نغمة واحدة تتردد ما بين كل آونة وأخرى على فم خطيبنا الفرد سعادة مصطفى كامل باشا؟
أليس من العار على مصر - وقد امتلأت أصقاعها بأكثر من عشرة ملايين من الأنفس - ألا يكون لها من نابغي أبنائها سوى خطيب واحد؟!
ماذا يقول عنا الأجانب إذا سمعوا صوت هذا الخطيب، وقد بح وأبصروا ريقه وقد جف من كثرة صياحه في أبناء وطنه، مستنهضا داعيا إلى الرشاد والجد والثبات وطرق أبواب العلم والعمل، دون أن يكون له من أخوانه المقتدرين مساعد ومؤازر؟
إن اليد الواحدة لا تقوم بعمل كامل، وإن العين الفردة لا تؤدي وظيفة العينين، والبناء لا يقوم على حجر واحد بل على حجارة كثيرة. فإذا لم يقم في مصر سوى خطيب واحد لا يسمع صوته المحبوب في المجتمعات والمحتفلات إلا مرة أو مرتين في العام، هل يرجى لمصر النهوض المنشود في الزمن العاجل؟ حاولنا كثيرا أن نعلم السبب الجوهري لعجز النابغين من المصريين عن الوقوف في مواقف مصطفى كامل باشا، فلم نر لذلك من سبب سوى كسل المصريين وعدم علمهم بما للخطابة من المكانة الجليلة والمجد الأثيل، وإذا كان هذا القصور مما يحط بقدر مصر ويسقط أبناءها من أعين الأجانب وينسئ في أجل تقدمها سنوات عديدة، فقد أحببنا أن نبسط هذه الكلمة الوجيزة عن الخطابة.
الخطابة موهبة طبيعية توجد في النفس من بادئ نشأتها فتنمو معها كلما نمت، غير أنها تلبث مجهولة إن لبث صاحبها خاملا، وقد تظهر في عالم الشهرة إن عمد صاحبها إلى الاشتهار والظهور.
وفائدة الخطابة لا تنحصر في ربها وتقف عند حد إجلاله وإكباره، بل تتخطاه إلى عامة شعبه وأبناء ملته، فتهزهم كما يهز التيار الكهربائي ما يلتقي به من الأجرام الحساسة المتحركة. فإن كانت مقاصد الخطيب متوهجة إلى الأعمال الجليلة والمشروعات النافعة دفعت قلوب سامعيه إليها، وإن كانت أغراضه منصرفة إلى المفاسد والسيئات تغلبت زلاقته على عواطف مستمعيه، فانساقوا معه قسرا.
وإليك مثالين على هذا، فقد أنبتت أمة الرومان على عهد جوليوس قيصر خطيبين بليغين ذربي اللسان، مستكملي البيان، أحدهما تميل فطرته إلى رفعة وطنه وسعادة قومه وهو سيشرون، وثانيهما مندفع بجبلته إلى الشرور وخراب الأوطان وشق عصا الاتحاد وإشعال جذوة العصيان، وهذا هو كاتلينا، فأما الأول فقد أبقى له التاريخ ذكرا مؤرخا ومثالا واضحا متبلجا؛ حيث وقف في المجلس يخطب ضد كاتلينا عدو وطنه ومفرق جامعة أمته بقوله: «حتام نصبر يا كاتلينا ونتحمل الإهانة وأنت لا تنثني عن غيك؟ أتظننا جاهلين ما فعلته وما تفعله؟! ولكن يا له من عصر تعيس، وجيل خبيث يعيش فيه المنافق الخائن! لا ، بل يدخل المجلس بوقاحة ليراقب أعماله ويعلم من من أعضائه المجتمعين يلزم إهلاكه. قد مضى زمن الشجاعة ومحبة الوطن، كيف لا وبوبليوس سيبيو وهو خارج عن دائرة الحكومة قدر أن يقتل من قبل تيبيريوس غراكس؛ لأنه أراد أن يلقي الشغب بين الشعب؟! ونحن القنصلين رئيسي الجمهورية ومدبري ممالك الدنيا نترك الآن كاتلينا على قيد الحياة وهو رجل خائن يريد أن يهلك العالم بالقتل والحريق.
أيها الآباء، إنني طبعت على الشفقة، ولكن ضميري يوبخني على التواني والإهمال في وقت أصبحت فيه بلادنا محاطة بالأخطار الهائلة، فاعلموا أن عدونا الألد الذي هو مقيم داخل أسوار المدينة، قد جهز جيشا جرارا يزداد كل يوم عددا وعددا، وهو محتل الديار الأترورية ومستعد للقتال ... إلخ.»
وأما الثاني فقد حفظ له التاريخ ذكرا ذميما، واستجر عليه أبد الدهر سخطا عظيما؛ لأنه جمع حوله نفرا من الشبان وممن لا عمل لهم ووقف يخطب فيهم، حاضا على القتل والنهب وحرق روما، بقوله: «قد ساءت يا قوم أحوالنا، وأصبح زمام الأحكام بأيدي بعض أنفس ظالمين، يتسلطون على أمم الأرض ويتمتعون بالأموال التي يسلبونها الملوك والأمراء، غير مبالين بالشعب كأن الشعب عبد خاضع طوعا أو كرها لما ينهون عنه ويأمرون به، فهبوا نخلع ثوب الذل ونمت شرفاء في ساحة القتال أو نبلغ المنى، واعلموا أن نجاحنا قريب وأكيد، وأن الحرية والأموال والفخار هي ثمر الانتصار، فبادروا إلى اجتناء ما طالما تمنيتموه.» فهذان الخطيبان المتدفقان كانا يتنازعان قلوب الأمة بفصاحتهما وذلاقة لسانيهما وتأثير صوتيهما، حتى انشعبت الأمة لعهدهما إلى شعبتين، وكان الفوز لسيشرون المخلص لوطنه والمتفاني في محبة ملته.
وإذا شئت أن تعرف كيف تؤثر الخطب البليغة في قلوب الناس فارجع إلى وقعة ذي قار لترى هانئ بن مسعود وقد وقف في قبيلة بكر بن وائل يحثها على مقاتلة جيوش كسرى من عرب وعجم، بقوله: «يا قوم، مهلك معذور خير من منجى مغرور، وإن الجزع لا يرد القدر، وإن الصبر من أسباب الظفر، والمنية خير من الدنية، واستقبال الموت خير من استدباره. فالجد الجد فما من الموت بد.» فانتصرت هذه القبيلة على جيوش كسرى الجرارة ومن والاها من قبائل العرب بما بعثه هانئ في رجالها من الحماس والنخوة بقوله هذا.
ومن أراد أن يعرف ما للخطابة من التأثير فوق ذلك، قلنا له: إن لويس السادس عشر وزوجته وولده بقوا أحياء مصونين من غارة الشعب الفرنسوي مدة حياة ميرابو؛ لأنه حازب الملكية في آخر حياته وانتصر لها انتصارا كبيرا، فلما مات ميرابو وتلاشى صوته المؤثر انبرى لامارتين لتأييد الشعب في مطالبه، وجاهر بتفصيل الحكومة الجمهورية، فأدت خطبته إلى قتل الملك وأهله وولده، وفوق هذا كله لا ننسى خطب غلادستون وسلسبوري، وهل يجهل المصريون أو يتجاهلون بعد ما ذكرناه هنا منزلة الخطابة؟! وهلا ينهض فريق من نبغاء الناشئين ويبحر إلى بلاد الغرب ليتلقف من أساليب خطبهم مثالا يجري على منواله.
والآن وجب علينا أن نذكر لهم طرفا من سيرة ذيموستين أشهر خطباء اليونان؛ ليروا كيف يجد ذو النفس الكبيرة حتى يصير ذا قدر كبير وخطر عظيم، فقد أحس بضعف في منطقه وقصور في لفظه قبل أن يشتهر أمره، فعمد إلى مكان منفرد لبث به وحيدا بضع سنين مشتغلا بالمطالعة والدرس وإصلاح ما كان يحول دون لفظه من الخلل الطبيعي، وقيل إنه ابتنى غرفة تحت الأرض وكان ينزل إليها مهتما بتحسين حركته وصوته ولفظه، وكان يبقى في تلك الحجرة أحيانا ثلاثة أشهر أو أربعة متوالية يحلق نصف شعره؛ ليتعذر عليه الخروج إذا حملته النفس الأمارة بالسوء عليه، وكان يتسلق أحيانا قمة الجبل حيث ينشد القريض بصوت جهوري، ويذهب أحيانا إلى شاطئ البحر فيعالج إصلاح لفظه بجعل الحصى في فمه، ويخاطب الأمواج حتى هان عليه بعد ذلك كله أن يدخل قاعات الخطب ويرقى المنابر حتى اقتاد زمام الحزب الكريم الذي كان يجتهد لتوصيد استقلال أثينا واليونان معا.
فهكذا ينبغي أن يفعل المصري الذي يرى نفسه كفؤا لأن يؤدي خدمة جليلة لوطنه، ويجد أن مقاله أهون شيء ينفع به وطنه. فإذا اجتمع لدينا عدد عديد من الخطباء المسمعين الذين يمكنهم أن يخطبوا في البلاد الأوروبوية، مبينين حالة مصر وفعال المحتلين بها، ويتهيأ لهم أن يسوقوا هذا الشعب الجامد بعصا التأثير البالغ إلى مواقف النشاط والإقدام والعمل، انتظرنا أن يكون لنا مستقبل سعيد.
1
أبو شادي
فقدان الخطابة من مصر
عزتلو حضرة الأصولي الفاضل صاحب جريدة «الظاهر» الزاهرة
اطلعنا في العدد 176 الصادر بتاريخ 18 يونية الجاري على مقالة لعزتكم تحت عنوان «فقدان الخطابة من مصر»، وقد تذكرتم فيها تاريخ مصر عقب الاحتلال وما كان لها من النهضة الوطنية، ثم ذكرتم ما كان فيها منذ عشرة أعوام من الجمعيات العلمية ومجتمعات الأحزاب السياسية والكتاب والخطباء؛ لتنبيه الهمم وإحياء العواطف، ثم أصبحنا وقد خفتت تلك الأصوات ولم يبق في الأمة من نابغيها غير خطيب واحد يخطب في السنة مرة أو مرتين حتى بح صوته وجف ريقه ... وتمنيتم لو اجتمع عدد من الشبان فيتوجهون إلى البلاد الأوروباوية ويخطبون هناك ويبثون الشكوى من فعال المحتلين في مصر؛ ليكون لنا بذلك مستقبل سعيد ... هذا أهم ما ورد في تلك المقالة.
وإني أشكر لعزتكم هذه الغيرة وهذه العواطف، ولكني أرجوكم أن تسمحوا لي بإبداء الملاحظات الآتية ونشرها في جريدتكم الغراء، وهي:
أولا:
إنه عند دخول المحتلين مصر لم يكن فيها شيء اسمه النهضة الوطنية، ولم تر فيها غير شرذمة من قواد العساكر ثاروا ضد أمير البلاد والهيئة الحاكمة ينادون بالجنسية المصرية، ويمقتون من لم يكن على شاكلتهم، وأخذوا يجبرون الأهالي على مقاومة السلطة الخديوية ومناوأة الحكومة، فتارة ينادون بعزل الخديوي وطورا يرمونه بالمروق من الدين مع ما كان عليه - رحمه الله - من الصلاح والتقوى وحب الخير لبلاده، ولم يكن فيه عيب غير عدم الاستبداد والطمع اللذين كانا في عهد غيره، حتى تجرأت الأسافل والأوغاد على تلك الأفعال المشئومة التي كانت السبب الوحيد في احتلال البلاد بطلب أميرها وأعاظم رجاله. فأين كانت النهضة الوطنية وقتها ... أم حسبنا أن ما قام به أولئك العصاة يعد في عرف الشرع والقانون نهضة وطنية ... حاشا لله.
ثانيا:
إن الجمعيات العلمية التي ذكرتم عنها أنها كانت تنعقد منذ عشرة أعوام، فإنها كانت مركبة من بعض تلامذة المدارس وبعض الأساتذة، ولم يكن فيها غير إلقاء خطب أدبية ومحاورات علمية، وكانت قوانينها تحرم عليهم الخوض في الديانة والسياسة، فلما كثرت المدارس والمكاتب اشتغلت أرباب تلك الجمعيات بالدروس ومراجعة كتب المدرسة عن تلك الاجتماعات، وأما الأحزاب السياسية والكتاب والخطباء السياسيون الذين قلتم بوجودهم فإنهم لم يكن لهم حقيقة في مصر لا منذ عشر سنين ولا أكثر من ذلك؛ لأننا ما سمعنا أبدا لغاية الآن بوجود أحزاب سياسية أو خطباء سياسيين في ديارنا حتى ولا وجود كتاب سياسيين، اللهم إلا في هذه السنين الأخيرة، وهم أصحاب الجرائد اليومية مثل عزتكم.
ثالثا:
إن القول في صدر المقالة بوجود نهضة وطنية عقب الاحتلال يناقضه القول بعد ذلك بأنه كان في مصر منذ عشر سنين كتاب وخطباء ينبهون الهمم ويحيون العواطف؛ لأن هذه الجملة تدل على وجود سبات في الهمم وموت في العواطف منذ عشر سنين، وهي تنافي القول الأول بوجود النهضة الوطنية عقب الاحتلال؛ أي منذ عشرين سنة كما لا يخفى ... وعلى كل حال فالمثبوت أمامنا أن حياة الهمم والعواطف ابتدأت تنتشر في مصر في هذه السنين بإيجاد المدارس العلمية والصناعية، والجمعيات الخيرية، كالجمعية الإسلامية وجمعية التوفيق القبطية وجمعية العروة الوثقى وجمعية المساعي الخيرية المشكورة وجمعية المحلة الكبرى وجمعية اللقطاء وغيرها، وبظهور الرجال العظام، مثل منشاوي باشا وسيد أحمد بك زعزوع وجورجي بك وغيرهم. فهذه هي النهضة الوطنية الحقة التي تقوم بحاجيات البلاد والتي يؤمل منها إحياء شعور الأمة ونقلها من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة.
رابعا:
إن الخطيب الذي يخطب في السنة مرة أو مرتين لا ينبح صوته ولا يجف ريقه حتى ولو كان يخطب في كل أسبوع مرة أو مرتين، على أن مصر ما رأت فائدة من توجه الشبان الذين تمنيتم ذهابهم لأوروبا ليخبوا فيها بالشكاية من الاحتلال، وقد رأينا من سبق وتوجه إليها، وسمعنا أنه كان يخطب فيها بهذا المعنى جاعلا فرنسا محور دائرة آماله، وما لبث أن رأى هذا المحور يدور بنفسه حول مركز دولة الاحتلال ضد تلك الآمال، كما تشهد بذلك الاتفاقية الأخيرة التي قطعت قول كل خطيب، ومع ذلك فإن عزتكم من شبان مصر ومن كبار محاميها وخطبائها، وقد أصبحتم في عداد رجال الصحافة فيها ولا يقال بوجودكم وأمثالكم بفقدان الخطباء من مصر، فإن رأيتم بعد ما أوضحناه أن في توجيه الشبان إلى أوروبا والخطابة فيها منفعة للوطن، فالوطن يرجوكم أن تقوموا له بهذه الخدمة الجليلة، ولكنه يخشى من أنكم لا تلبثون بعدها أن تروا الثانية أشأم من الأولى، والعاقل من اعتبر بأمسه وعمل لغده.
وقبل الختام أقدم لعزتكم كلمات، ربما كانت مفيدة في بابها، وهي أن تحرير الوطن وإسعاد البلاد لا يكون بذهاب الشبان ليخطبوا في أوروبا وهي في شاغل عنهم، وقد رأينا عقباها كما سبق الذكر، ولا بالشقشقة بين بعض الناس فتخر بنا الحكماء، ولا بإثارة الأحقاد في صدر الهيئة المحكومة ضد القوة الحاكمة فتفشل الأمة، ولا بتهييج نفوس الضعفاء الجاهلين على الأقوياء العاقلين فتذلهم القوة، ولا بنكران الجميل على أصحابه فيحل الحرمان، ولا بالمخاشنة والطيش فيتكدر صفاء العيش، وقد علم الله نبيه كيف يستميل إليه الناس، فقال:
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ،
فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ، وحينئذ فالخطب التي نسمع بها الآن أو نقرأها في جرائدنا إثمها أكبر من نفعها كما هو رأى العقلاء في مصر، وسنبين ذلك لعزتكم مفصلا في مقالة ثانية ودمتم.
إسماعيل عاصم المحامي «الظاهر»: يتضح من مقالة حضرة المحامي الفاضل أنه لم يمعن النظر في كلمتنا عن الخطابة، وأنه كتب رده باندفاع وتسرع، وأنه تألم من إغفال ذكره من عداد الخطباء الفصحاء. أما أنه لم يمعن النظر فلكونه لم يفهم مرادنا من الكلام عن فقد الخطابة من مصر، وإلا فلو كان علم حقيقة ما نريد لأدرك أننا نتمنى لبلادنا فوق ما هي سائرة فيه من التقدم البطيء؛ أي إننا نتطلب لها نهضة قوية تستعيد بها سابق مجدها وسؤددها في وقت قريب؛ لأن حالة مصر الآن تقتضي التعجيل في النهوض قبل فوات الفرصة السانحة، ولن تتأتى هذه النهضة إلا إذا كانت مصر مستكملة كل أسباب العلم ووسائل العمل، والخطابة من غير شك إحدى هذه الأسباب والوسائل، وأما أنه كتب رده باندفاع وتسرع فدليله أنه خلط وشط كثيرا فيما كتب، فزعم أننا ذهبنا إلى أنه كانت توجد نهضة قبل دخول الاحتلال في مصر، وأن الحقيقة غير ذلك لم نقل بذلك ولم نفتكر فيه سوى الآن؛ إذ جئنا نؤكد لحضرة الكاتب ما ذكره هو وأنكره على نفسه، فإن مصر كانت قبل الاحتلال بقليل؛ أي لأول عهد الخديوي السابق آخذة في النهوض والارتقاء، وكان فيها جملة من الكتاب والعلماء والشعراء الأفاضل الذين لا يجحد فضلهم ولا تنكر هممهم، وقد كانوا يجتمعون في مجتمعات الجمعيتين الخيريتين الإسلامية والقبطية في الإسكندرية وجمعية مصر الفتاة في الثغر أيضا، وجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية التي كانت في العاصمة والذين كانوا يعضدون هذه الجمعيات أو يحضرون جلساتها لم يكونوا من التلامذة، بل كانوا من نخبة رجال العلم والفضل والشهرة والمكانة العليا، ولقد كان التوافق والاتحاد بين الجمعيتين الخيريتين الإسلامية والقبطية بالغا منتهاه، وكانت جمعية مصر الفتاة قد وضعت كتابا كبيرا يبحث في كل ما من شأنه أن يصلح أحوال البلاد ويرقي شئونها ومصالحها، وقدمته للمرحوم الخديوي الأسبق بصفة لائحة إصلاح فتلقى مشروعها بكل سرور وارتياح، وقرر النظر فيه والعمل بمقتضاه.
ولكن حركة الثوار المفسدين هي التي حالت دون تنفيذ ذلك، وأما أنه تألم من إغفال ذكره في جملة الخطباء الفصحاء فيؤخذ من تنديده بسعادة الخطيب الوطني الفريد مصطفى كامل باشا؛ فإنه سخر به في عرض كلامه واستخف بأفعاله وأجهد نفسه في أن يثبت أن الخطابة لم تفد مصر شيئا، والحقيقة أن مصطفى كامل باشا أبان للملأ في أوروبا أن في مصر رجالا من نخبة شبانها الناشئين يشعرون بما يشعر به الأوروبيون، ويتألمون مما يتألم منه المظلومون المغدورون، وقد أحرز سعادته ذكرا بين الصحف الأوروبوية لم يدركه إلا أعاظم الرجال هنالك، واحتفى به كبار الساسة ورؤساء الحكومات، ونال من الشرف والتبجيل ما يستحقه كل مخلص صادق النزعة، ولا ينكره إلا كل حاسد واضح النزعة.
أما عن التعريض بخطة سعادة الخطيب فيما سلف، فالجواب بشأنه أن سعادته كان يرى مصلحة مصر في الاستنجاد بفرنسا؛ لأنها كانت خصيمة إنكلترا والعاقل من استعان على عدو بخصيم ذلك العدو، ولو لم يتغير شكل السياسة وتتبدل أطوارها لأفادنا عمل الخطيب الوطني إفادة كبرى، أما وقد تحول سكان سفينة السياسة وتبدل القابضون على أزمة الأحكام في فرنسا بسواهم، فقد حبطت أعمال هذا المجاهد النبيل.
ولا ينكر مصري حر أن مصطفى كامل باشا نفخ روحا من الحياة في أنفس الكبار من سراة المصريين، فأقبلوا على إنشاء المدارس وفتح الملاجئ وإيجاد المستشفيات، كما نفخ روحا من النشاط في الشبان الناشئين فبدءوا يجدون ويحترفون واعتزل كثير منهم وظائف الحكومة، مفضلين الاشتغال بأنفسهم في الخارج أحرارا أعزاء على بقائهم في الحكومة تحت سيطرة الإنكليز وغطرستهم.
وأقرب دليل على أن هذا الخطيب الوطني جعل نفسه قدوة لغيره إقدامه على إنشاء مدرسة باسمه يتولى إدارتها أخوه النشيط الصادق، وأما عن خطب مصطفى كامل باشا في القطر المصري، فلا يحتاج الأمر إلى القول إنها أحرزت مكانة رفيعة من نفوس الوطنيين جميعا، بل والأجانب المستوطنين في هذا القطر أيضا.
بقي علينا أن نحول أنظار حضرة إسماعيل بك عاصم المحامي الفاضل إلى مقالتنا التي نشرت في العدد 174 من «الظاهر» تحت عنوان: المصريون والمحتلون، وإلى المقالة الافتتاحية في عدد أمس؛ ليعلم أنه غير مصيب فيما زعم من وجوب اللين للمحتلين، وأنه لمن العار على مثل حضرته - وقد كان يملأ شدقيه باسم الوطنية فيما سلف - أن يدعونا ويدعو أبناء وطنه كلهم إلى الخضوع لسلطة المحتلين والرضوخ لأحكامهم والاستظلال بظلالهم. فإن مثل هذه الأقوال لا يصح أن تبدر إلا من شاب لم يعرك الحوادث ويصابر الأيام، ويبل الدهر حلوه ومره، ولكن ما عسانا نقول لمن سعى من مصر إلى لندرة [لندن]؛ ليرى الإنكليز مقدار محبته لهم، فعاد محشوا بالميل والإخلاص إليهم.
هذا، ولا يؤاخذنا حضرة المحامي الفاضل والزميل المقتدر إذا لم نعده هذه المرة أيضا في جملة الخطباء؛ لأننا ولا مؤاخذة فيما نكتب لا نريد إلا أن نقرر الحقيقة وهي لا تقرر إلا خطيبا واحدا في مصر هو ذلك الوطني الصادق الغيور رصيفنا مصطفى كامل باشا، الذي مارس الخطابة حق ممارستها وقام بأعبائها خير قيام.
نعم، ربما يوجد في مصر من له مقدرة على الخطابة بأظهر معانيها، ولكن انزواءه عن الظهور في محافلها يجعلنا لا نعتبر إلا مصطفى كامل باشا خطيب مصر الوحيد، وعسى أن يعززه الله في القريب العاجل بثان وثالث ورابع إلى ما تبلغ به مصر من الخطابة النافعة مشتهاها وإن كره المفارقون، ومثل حضرة الزميل وإن تبوأ من تلقاء نفسه منابر الخطابة في بعض المحتفلات الصغيرة، فهو حتى الآن لم يوفق إلى سلوك الخطة التي يرتجيها وطنه من أمثاله، إن كان من القادرين على السير في طريق التقدم بقلمه ولسانه فليهدئ حضرته ثورة نفسه، فإن زمانه الذي كان يندفع فيه كل إنسان صائحا لاغطا بما يشاء قد انقضى، ونحن الآن في أوان لا يظهر فيه إلا كل مقتدر نشيط صبور.
وليكن هذا الذي كتبناه كافيا للتعقيب على رسالة الزميل الفاضل ونعود إليها فنوفيها قسطها بما هو أوضح وأشرح، سواء وفى بوعده من البيان أو لم يوف، والسلام.
2
أبو شادي
رد على انتقاد
كل أمة لا تخلو من رجال يقفون سدا في طريق العاملين من أبنائها كما تعترض الصخرة الصلدة فأس الفلاح النشيط، غير أن أولئك العاملين لا بد أن يهدموا بمعاول هممهم ذلك السد، وينقضوا حجارته كما يتمكن الفلاح من اقتلاع الصخرة من مكانها إن عالجها طويلا بفأسه.
وكل مصري يعلم أننا وقفنا بجريدتنا «الظاهر» موقف المخلص الأمين في محبة الوطن وخدمته، ولاقينا على حداثة عهد الجريدة متاعب ومناوآت جمة تخطيناها بثبات عجيب، ونحن لا نتحول قيد فتر عن جادتنا المستقيمة.
وكنا نرى مواضع القصور والنقص والخطأ في بلادنا وأخواننا فنرشد إليه ، مبينين أوجه الإصلاح الحقيقي الذي ينبغي أن يقوم به المصريون من تلقاء أنفسهم دون أن يلتجئوا إلى الحكومة أو ينتظروا منها يد المعونة؛ لما نعلمه من أمر الحكومة وكونها مختلطة العمال من وطنيين إلى أجانب.
ولقد كان في جملة ما أخذناه على أنفسنا من التقصير فقدان الخطابة من مصر، وقد كتبنا في هذا الموضوع مفيضين، فعبنا أنفسنا على أن يتجاوز عديدنا العشرة ملايين من الناس، ولا يقوم فينا سوى خطيب واحد يهب روحه ودمه وجسمه وماله وفكره وقلمه لمصر وأبنائها، غير حافل بما يرمى به من ضروب السخرية والهزء من قوم ما خلقهم الله إلا ليكونوا بلاء وشقاء على مصر وبنيها، ومثل هذا التقصير شيء يستخف به؛ لأن الخطابة روح لطيفة كالشعر إذا سكنت النفس أكسبتها من المزايا ما لا يستقل، والخطيب إذا برز في صناعته الفطرية أمكنه أن ينهض أمته من عثارها ويدلها إلى طرق الخير والرشاد والسعادة.
وما ذلك إلا لأن في صوت الخطيب الرنان، وفي عينيه المتلألئتين، وفي وجهه المتشكل بحسب سياق الحديث من عبوسة إلى طلاقة فحزن فابتسام، وفي حركات رأسه ويديه واهتزازاته ما لا يوجد في سطور الصحف وصفحات الكتب. فهو يذهب بالسامع حيث شاء، متنقلا من أسف إلى شجن، فبكاء فانفعال فاحتداد فهياج؛ حتى يجعل دمه يغلي في عروقه ويدع الشيخ الفاني يستقف ويجعل شعر الشاب الناشئ يقف، فهو كالمغني في تخته وكالممثل في ملعبه وكالطائر فوق الفنن، وكالزهر بين الأوراق يترنم بذكر وطنه، ويمثل دور التفاني في الإخلاص ويبعث النشاط والأمل بشدوه في قلوب الأحداث، وتأخذ بألباب الناظرين، حركاته وإشارته كالنور نقطته الأنداء وحركته الخطرات، وطلعت عليه الشمس وغشته الظلال. فمثل هذا الإنسان - وقد أدرك هذه المقدرة من التأثير في القلوب وهذا السلطان على النفوس - لا ينبغي أن نكتفي بواحد من قبيله، ونحن في حاجة إلى استنهاض كبير وحث دائم وإرشاد متواصل.
ولا يعقل أن عشرة ملايين من المصريين لا يوجد بينهم إلا فرد واحد قد رزق هذه الخصيصة، بل لا بد أن يكون بينهم آلاف أو مئات وعلى الأقل عشرات من الرجال، ولكن الخمول والتراخي ألزمهم بيوتهم وأفقدهم مزية أنفسهم، وحرم بلادهم من مواهبهم الطبيعية، فكان من الواجب علينا - بصفتنا صحافيين - أن ندعو أولئك النيام إلى التيقظ والاقتداء بهذا الفرد النبيل، الذي شيد لنفسه بيتا من المجد كبيرا، وجعل لأمته في الغرب صوتا مسموعا، إلا أن حضرة المحامي الفاضل إسماعيل عاصم بك أبى إلا أن يكون حجرة عثرة في طريقنا؛ لأنه لا يروق في نظره أن ينادى بغيره خطيبا لسنا مصقعا.
والعقلاء يعدون مثل هذه الحزازات من صغائر الأعمال التي ينزه الأبي العيوف نفسه عنها، فلو أن حضرته عوضا عن اعتراضه علينا في نصحنا عضدنا وقال ها أنا ذا أجيب نداءكم وأنبري للخطابة في أبناء وطني، منبها داعيا إلى السبيل السوي والعمل النافع لوجد منا ثناء عاطرا وشكرا وافرا، أما وقد وقف هذا الموقف الخشن فليس له منا غير أن ننقض أقواله ونبطل مزاعمه حتى لا يحسب ذو فكر قاصر ونظر قصير في الأمور أننا أغفلنا مقالته عجزا أو تقصيرا. قال حضرته «أولا إنه عند دخول المحتلين مصر لم يكن فيها شيء اسمه النهضة الوطنية ولم نر فيها غير شرذمة من قواد العساكر ثاروا ضد أمير البلاد والهيئة الحاكمة»، وهذه - وايم الله - مغالطة لا مثيل لها؛ لأننا إنما قلنا «مر على خاطرنا تاريخ مصر منذ عشرين سنة؛ أي عقب أن وطئ المحتلون أرضها، فكنا نتمثل حوادثها الماضية تمثل الكهل النائم عهد الصبابة وعيش الصبا. تذكرنا تلك الأيام حيث كان الشعور الوطني شديد التمكن من أنفس المصريين، وحيث كانت آمالنا كأغصان وريفة دانية القطوف زاهية الأزاهر متضوعة الشذا. تذكرنا تلك الأعوام التي مرت متتابعة سراعا مرور السحاب تزجيها الأعاصير أو مرور الأنفاس تدفعها الزفرات المتتالية، وما ذكرناها إلا ما كان فيها من النهضة الوطنية التي تهتز لها أجسادنا كلما خطرت سيرتها على البال.»
ثم قلنا بعد ذلك بأربعة أسطر: «نعم، لقد كنا إلى عشر سنوات مضت نعقد الجمعيات العلمية ونؤلف الأحزاب السياسية، ويتصدى كتابنا وشعراؤنا وخطباؤنا لتنبيه الهمم واستفزاز النفوس وإحياء العواطف بأقوال تألفت من فقرات الشمم وكلمات تركبت من حروف المجد والإباء.» فأين كلامنا فيما ذكر هنا وهو ما أشار إليه في مفتتح مقاله من التكلم عمن كان لعهد دخول المحتلين في مصر من الثوار؟! ألا يمكننا أن نقول إن الحدة غلبت على رزانة حضرة الزميل فلم يجد الإنعام في التأمل، وما لنا ولجماعة الثوار نتكلم عنهم بثناء أو ذم وقد وفاهم التاريخ العصري حقهم، ووفى القريض رئيسهم قسطه. إن كلامنا انحصر في عشر سنوات؛ أي بعد دخول الإنكليز بثلاثة أعوام وقبل هذا الصيف بعشرة أحوال، وكان محور القول دائرا على ما كان في تلك العشر سنوات من جمعيات علمية وأحزاب سياسية، والجمعيات العمومية بالطبع كانت تجمع العالم المتضلع، كما كانت تجمع المتعلم الذكي، وكانت تجمع المدرس والموظف والمحترف جميعا، وليس في ذلك من عيب ولا عار؛ لأن الجمعيات إنما أوجدت لتضم شمل العقول المتنورة، فتزيدها تنورا، ولقد كان حضرة الزميل في جملة الذين يتطفلون على موائد تلك الجمعيات خاطبا متكلما متدفقا حماسا، فما باله اليوم يهزأ بها، زاعما أن أعضاءها كانوا من الأساتذة والتلامذة، على أن مثل جمعيات البستان والعلم الشرقي وأضرابهما لم تكن صغيرة حقيرة، بل كانت ذات شأن خطير، ومثل أعضائها وإن كانوا من الأساتذة والتلامذة إلا أنهم كانوا كبار النفوس والأفكار، وقد ظهر من بينهم أفاضل النابغين في هذه الأيام.
أما الأحزاب السياسية فإذ كان حضرته بعيدا عنها فهو بالطبع لم يكن يعرف بوجودها، ولكنا نكفيه عبء الإطالة في هذا الصدد بقولنا: إن اللورد كرومر صاح أخيرا هاتفا بأنه ظفر بالحزب الوطني المعارض، وضربه الضربة القاضية، وجناب المعتمد الإنكليزي أدرى من حضرة الزميل بما كان لذلك الحزب من الشأن الخطير، فليهدأ جأشه وليعلم أن الصحافيين الكبار لا يقولون الهذر ولا يلقون أزمة الكلام على عواهنه، ولعل حضرة الزميل نسي أو تناسى أن مجموعا كبيرا من طلبة المدارس العليا ألف حزبا عظيما وأبدى مظاهرات جمة دلت على حماس شديد ، وإن كان في الحقيقة قد ظهر في غير الوقت المناسب، ولقد أغلق علينا مراد الزميل من قوله «إن القول في صدر المقالة بوجود نهضة وطنية عقب الاحتلال يناقضه القول بعد ذلك بأنه كان في مصر منذ عشر سنين كتاب وخطباء ينبهون الهمم ويحيون العواطف؛ لأن هذه الجملة تدل على وجود سبات في الهمم وموت في العواطف منذ عشر سنين، وهي تنافي القول الأول بوجود النهضة الوطنية عقب الاحتلال؛ أي منذ عشرين سنة كما لا يخفى»؛ لأن هذه الأقوال المتضاربة والاستنتاجات المتعاكسة لا يمكن أن يفهمها إلا إنسان يسبح في الجو بين الأفلاك لينجم هنالك على مقصود الكاتب، ويعود إلينا فيخبرنا بما أراد، إلا أن ذلك لا يمنعنا من أن نقول إنه لا يوجد تناقض في مقالنا؛ لأن النهضة التي بدأت منذ عشرين سنة لبثت حتى عشر سنوات خلت ثم كثر الدخلاء والمنافقون وقوي نفوذ الإنكليز وسلطانهم في أرض النيل، فخمدت جذوة الحمية التي كانت مشتعلة في النفوس والتفت بعض العقلاء إلى إنشاء المدارس على اختلاف درجاتها، وزعم حضرة الزميل أن وجود كتاب وشعراء وخطباء ينبهون الهمم ويحيون العواطف منذ عشر سنين، ينافي وجود نهضة قبل ذلك بعشر سنوات، هو من الغرابة بمكان؛ لأن النهضة كانت من أول الأمر وبقيت مستمرة إلى عشر سنوات خلت، والخطباء كانوا من الأول إلى عشر سنوات مضت، فوجود النهضة والكتاب والشعراء والخطباء في آن واحد أمر لا تناقض فيه، ولكن التناقض حدث في أفكار حضرة المحامي الفاضل، فجرى به قلمه مشتطا.
أما النهضة التي يذكرها حضرة الزميل في مقاله فهي لا تكفي إلا إذا كانت مستكملة كما أسلفنا، وإلا أعقبها التراخي والفتور خصوصا والمصريون مشهورون بعدم الثبات في شيء، فإذا ما قام فينا عدة من الخطباء وإلى جانبهم فريق من الشعراء، أولئك يبعثون حماسهم كلما أخذ في الخمود، وهؤلاء يستجرونهم بسحر قريضهم إلى الغرض المقصود، لبثت الحمية مشتعلة في أنفس المصريين، وزاد نشاطهم وقيامهم بالأعمال الجليلة.
ولقد أضحكنا تسرع الزميل في قوله «إن الخطيب الذي يخطب في السنة مرة أو مرتين، لا يبح صوته ولا يجف ريقه حتى ولو كان يخطب في كل أسبوع مرة أو مرتين»، ولم ندر ماذا نقول له في هذا الصدد سوى أنه لم يحسن فهم العبارة؛ إذ المقصود من ذلك أن الخطيب كرر الخطابة مرارا عديدة دون أن يقوم بجانبه خطيب آخر يشد أزره ويعضده في قوله، وفي ظننا أن حضرته نسي المجازات والاستعارات والكنايات، فنحن نلتمس له العذر.
وأما عن الخطابة في أوروبا فمرادنا أن ينبري فريق من النبغاء للخطابة في إنكلترا نفسها وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والنمسا، مبينين حقيقة المسألة المصرية، وإخلاف الإنكليز مواعيدهم وغدرهم بالمصريين، وعملهم على امتلاك بلادهم، وتفهيم تلك الدول أن المصريين قوم متمدنون يعرفون الواجب عليهم، فيقومون به، وأنهم لا يكرهون الأوروبويين ولا ينفرون منهم ما دام اتصالهم بهم سليم العواقب؛ أي للمعاملة التجارية لا للاستعمار والاستعباد، وفي أثناء ذلك يكون سراة المصريين مهتمين بإنشاء المدارس العديدة على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وساعين في إيجاد المعامل والمصانع الكبرى التي تقوم بحاجات البلاد، فتكون مصر ناهضة بالقول والفعل، ويكون لها شأن مذكور بين الدول العظمى حتى إذا ما حان الوقت المناسب لتحرير البلاد كان الأمر سهلا قريبا. فهل في مثل هذا القول ما يعاب أو ينتقد عليه؟!
أما أنه لا يقال بوجودنا ووجود أمثالنا من المقتدرين على الخطابة بفقدانها من مصر، فالجواب عنه أننا نكتب هذا ونحن نرى أنه يجب علينا وعلى أمثالنا أن نكون في مقدمة الذين يخدمون مصر بخطبهم، ولسنا فيما كتبنا عن مصطفى كامل باشا إلا مؤيدين إنسانا قام بأمر خطير، وكذلك نفعل مع كل مصري يخدم وطنه بنصح وإخلاص، والله يهدينا جميعا إلى سواء السبيل.
3
أبو شادي
فقدان الخطابة من مصر
عزتلو حضرة الأصولي الفاضل صاحب جريدة «الظاهر»
إني أشكر عزتكم كصحافي حر ينشر ما يرد إليه، ثم يعقب عليه ولكن بشرط مراعاة آداب المناظرة، لا كما ذكرتم في التعقيب على مقالتنا المندرجة في العدد 180، وكنت أتعشم في فطانتكم أن تكونوا أول مقتد بخطيبكم الحبيب؛ حيث قال في خطابته بلزوم تجرد الصحافة من الشتايم والطعن، والترفع عما يأتيه أصحاب الوريقات الساقطة منها (راجعوا العامود الخامس في الصحيفة الثانية من جريدتكم الصادرة بتاريخ 8 يونية الجاري)، وكما لا يخفى على نباهتكم أنه ليس من الحكمة أن يتعصب الصحافي لما ينشر، والكاتب لما يكتب، والخطيب لما يقول ويعده تنزيلا من عزيز حميد، فيغضب لأي انتقاد عليه ويرمي المنتقد بالهذر والهزء، ثم يسلك سبيل المغالطة؛ ليوهم الناس صحة ما كتب، فتسقط قيمة الكتابة إن لم أقل قيمة أفكار الأمة في الدعوة إلى الجامعة الوطنية، وإنما الحكمة هي مقاومة الدليل بالدليل؛ ليمتاز السليم من العليل. غير أن سعادتكم - وا أسفاه - لم تنصفوني ولم تسلكوا معي هذا السبيل، ونسبتم إلي أمورا لم ترد في رسالتي، ولم تقيموا عليها دليلا. فأردت أن أبين لكم في هذه العجالة الأدلة على أقوالكم من نفس مقالتكم، راجيا منكم إقامة دليل واحد على ما نسبتموني إليه؛ لأن الغرض بيان ما يفيد مستقبل الديار.
فأما مقالة حضرتكم المندرجة في العدد 176 تحت عنوان فقدان الخطابة من مصر، فإنها تشتمل على ثلاثة أمور: الأول منها أن مصر عقب الاحتلال كانت زاهرة بالنهضة الوطنية (اقرأ صدر العامود الأول من المقالة)، والثاني أن مصر منذ عشرة أعوام كانت تعقد فيها الجمعيات العلمية والأحزاب السياسية والخطب المنبهة للهمم، ثم خفتت تلك الأصوات (اقرأ من السطر التاسع إلى آخر العامود الأول والثالث)، إنه لا يوجد من نابغي مصر الآن غير واحد يخطب مرة أو مرتين في السنة حتى بح صوته ونشف ريقه من كثرة صياحه (اقرأ من السطر 32 لآخر العامود الثاني)، ثم تمنيتم اجتماع عدد عديد من الشبان ليخطبوا في أوروبا متظلمين لديها من أفعال المحتلين؛ ليسوقوا هذا الشعب الجامد إلى النشاط (اقرأ السطر الأخير من العامود الرابع لآخر المقالة)، فهذه هي أقوال حضرتكم بلفظها ومعناها ومواضعها من جريدتكم الفيحاء.
وقد أبديت ملاحظاتي التي تفضلتم بنشرها، وهي تشتمل أربعة مباحث: الأول أنه عند دخول المحتلين مصر لم يكن فيها شيء اسمه النهضة الوطنية، وما كان فيها غير عصاة ثاروا، وكانوا السبب في هذا الاحتلال. والثاني أن الجمعيات التي كانت موجودة منذ عشرة أعوام كانت مركبة من بعض التلامذة، ولم يكن فيها غير الخطب الأدبية والمحاورات العلمية، وأن الأحزاب السياسية والخطباء السياسيين لم يكن لهم حقيقة في مصر لا منذ عشرة أعوام ولا أكثر من ذلك لغاية الآن. ثالثا أن النهضة الوطنية إنما ابتدأت تنتشر في مصر في هذه السنين بإيجاد المدارس والجمعيات الخيرية، وبوجود أعاظم الرجال الذين أوضحناهم، وقلنا لعزتكم إن الخطيب الذي يخطب في السنة مرة أو مرتين لا يبح صوته ولا يجف ريقه، وإن صياحه في أوروبا ما أفاد مصر شيئا، بل كانت عاقبته تلك الاتفاقية الشعواء، ثم فوضنا لكم الرأي في أنكم لو وجدتم في توجه الشبان ليخطبوا في أوروبا منفعة لمصر فيمكن لكم أن تقوموا بهذه الخدمة الجليلة لبلدكم، ولكننا حذرناكم من أن تكون الثانية أشأم من الأولى، إلى آخر ما كتبناه، وكنا نود أن تعقبوا عليه بما نعهده فيكم من الآداب وقوة الحجة، ولكن قد يكبو الجواد، وجاء تعقيبكم كعقاب على غير جريمة ثابتة بأسباب صحيحة، كما سأبينه هنا واحدة فواحدة:
أولا:
قلتم إننا تألمنا من إغفال ذكر اسمنا من عداد الخطباء (راجع عامود 4 وسطر 9)، والجواب عليه أنكم ما ذكرتم أسماء خطباء مصر، ثم أغفلتم اسمنا حتى كانت تصح النسبة.
ثانيا:
قلتم إننا ما علمنا حقيقة مرادكم، وهو تمنيكم نهضة قوية تستعيد سابق مجد مصر (راجع ع4 س8)، والجواب على ذلك أن مقالتكم كلها بديهية ولا تحتاج لتأويل أو إمعان فكر، ولم تذكروا فيها مرادكم الذي ذكرتموه الآن، وحينئذ فلا عتب علينا إذا لم نعلم ما في صدوركم، ولا يعلم الغيب إلا الله.
ثالثا:
قلتم إننا خلطنا وشططنا كثيرا، ونسبنا لكم القول بوجود نهضة وطنية قبل الاحتلال (راجع ع4 س22)، والجواب عليه أولا بأن ألفاظ خلط وشطط لا تليق بآداب المناظرة والمحاماة، وثانيا أننا لم ننسب لكم القول بوجود نهضة وطنية قبل الاحتلال، بل أنكرنا عليكم قولكم بوجود نهضة وطنية عقب الاحتلال منذ عشرين سنة، وحينئذ يكون ما نسبتموه إلينا في تعقيبكم في غير محله.
رابعا:
قلتم إن مصر قبل الاحتلال وفي عهد الخديوي السابق كانت في نهوض وارتقاء، وكان الخطباء والعلماء يجتمعون في جمعية المقاصد الخيرية بمصر (راجع ع4 س35)، والجواب على ذلك أن قولكم هذا يناقض ما قبله، وأن الجمعية المذكورة كانت أساس الثورة والمفاسد التي حصلت، وكان خطيبها عبد الله النديم الوطني ولم تستفد منها مصر غير الخسران، ومع ذلك فإن هذا خارج عن موضوع مناظرتنا بالمرة.
خامسا:
قلتم إن جمعية مصر الفتاة وضعت لائحة بحثت فيها عن ترقية شئون مصر، وقدمتها للخديوي الأسبق، فقبلها وقرر العمل بها (راجع ع4 س42)، والجواب على ذلك أن الخديوي الأسبق لو علم بوجود جمعية من هذا القبيل لخسف بها الأرض، وبكل كاتب أو خطيب يفوه بكلمة مما تكتبونه اليوم.
سادسا:
قلتم إننا سخرنا من سعادة الخطيب ونددنا به، على حين أنه ذهب إلى أوروبا وأبان لأهلها أن في مصر رجالا يتألمون ويتظلمون، وأنه أحرز هناك ما لم يدركه غيره (اقرأ من السطر9 عامود5)، والجواب عليه أننا لم نسخر بشخص الخطيب، بل نحترمه كولدنا - وها هي مقالتنا مندرجة عندكم فاقرءوها مرة ثانية - وإنما أوضحنا أن مصر لم تستفد من صياحه في أوروبا، ونقول الآن إن ما أحرزه فيها وغيرها عائد لشخصه المحبوب وليس للوطن، وأقول أيضا إن علماء أوروبا عالمون أكثر من علمنا بأحوالنا وأرضنا ومعادننا، وإنهم مستفيدون منها ونحن غافلون عنها، فهم حينئذ في غنى عن صياحنا ونواحنا في ديارهم، ولكنهم ليسوا في غنى عن ذهابنا إلى بلادهم وبذر أموالنا فيها كما هو الحاصل من الكبير للصغير، وكنت أود أن الظاهر يبحث في هذه الكبائر ولا يشتغل بتلك الصغائر.
سابعا:
قلتم إن سعادة الخطيب جعل نفسه قدوة لغيره، فأنشأ مدرسة باسمه (اقرأ صدر العامود السادس)، ونحن لم نعب عليه هذا العمل المبرور، بل شكرنا سعادته عليه، كما شكرنا قبله سعادة محمد أمين بك منشئ مدرسة باب الخلق وحضرة الشيخ دسوقي بدر منشئ مدرسة سوق السلاح والست روجينا منشئة مدرسة حسن المسرات، وأمثالهم الكرماء الذين أفادوا مصر واستفادوا منها بمدارسهم، وحينئذ فما كان لكم من حاجة للتعريض به الآن وهو خارج عن موضوع المناظرة.
ثامنا:
قلتم إني غير مصيب في النصح بملاينة المحتلين، وإنه من العار على مثلي أن يدعو الناس إلى الخضوع لسلطة المحتلين، وإني سعيت إلى لندرة حبا في الإنجليز، وعدت محشوا بالإخلاص لهم (اقرأ من ع6 س13)، وأجيبكم على ذلك بأني لم أذكر في مقالتي شيئا يختص بالمحتلين ولا بملاينتهم أو مخاشنتهم بالمرة. فما بالكم - سامحكم الله - تتهمونني بما لم يصدر مني ... ولكن حيث فتحتم هذا الباب فلنتحادث فيه مليا، ولتسمحوا لي أن أسألكم (وقد رأيتم لزوم مخاشنتهم وعدم ملاينتهم) هل عندنا من العدد والعدد مثل ما عندهم فنخاشنهم لنغلبهم بها ... وهل لدينا من العلوم والمعارف والصناعة والزراعة والمال والرجال مثل ما لديهم فنقوى بها عليهم، وهل عندنا من البواخر والبوارج والقلاع والحصون وعظمة الملك وقوة السلطنة وفخامة المملكة مثل ما عندهم فنرهبهم بها ونصرعهم لنجليهم عن ديارنا ... أظن أن الجواب من البسطاء على ذلك هو أن هذا الكلام غير وطني؛ لأن كلمتي وطن ووطنية اتخذهما الأغبياء كرماد يذرونه على عيون الجهلاء ليقضوا بها مآربهم. فهؤلاء أضر على الوطن ممن يسمونهم أعداء الوطن ... لأننا إذا لم يكن لدينا هذا ولا ذاك فبأي شيء نخاشنهم، أبالشقشقة والكلام الفارغ ... هل نسينا واقعة التل الكبير حين كان الأمر أمرنا والملك ملكنا والعساكر عساكرنا والدساكر دساكرنا، وكان خطيب الأمة الوطني الوحيد وقتها يخطب فيهم بما يزيدهم طيشا على طيش وضلالا على ضلال؟! ألم يكن حضرته أول جبان هرب واختفى وترك الديار تنعى أهلها؟! إني - وأبيك - لا أغرر ببلادي لشهوة أقضيها أو حاجة أقتضيها، ولكني أخشى أن تكون الثانية أشأم من الأولى كما أوضحته في مقالتي؛ لأن الله جل شأنه لم يأمرنا بالاستعداد بالجعجعة الكاذبة. بل قال عز شأنه
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل
إلى آخر الآية الشريفة ... أم نريد التمثل بقول ذلك الرجل وهو في قهوة الحشيش حيث قال «إذا حاربونا بالمدافع نحاربهم بالنكتة!» إني لم أدع قومي إلى الخضوع الأعمى لسلطة المحتلين، ولم أقل به في مقالتي، ولكني الآن أدعوهم إلى ملاينتهم والسير معهم بالحكمة، وأذكرهم بقوله تعالى
ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة
وبقوله تعالى لموسى وهارون حين أرسلهما إلى فرعون مصر
فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى
وبقول ابن الوردي «لا تعاند من إذا قال فعل.» وأوصيهم بالإكثار من المدارس والجمعيات الخيرية، والسعي وراء ترقية مدارك الأمة وتربية أخلاقها حتى إذا أخذنا قسطا من كل ذلك في هذه الفرصة الثمينة ورأينا من أنفسنا الاستعداد والقوة الكافية للمطالبة بالجلاء وغيره، وكان لي عمر للوقت المذكور، فإني أحمل علم المطالبة وأسير به أمام الطالبين، وإلا إذا استمرينا على هذه الأقوال وتلك الخطب بإظهار العداوة والبغضاء للقوة الحاكمة بغير وجه وجيه، فلا يبعد أن يأتي يوم يروننا فيه أننا لسنا أهلا للجميل والمعروف، فيسلبوننا حريتنا، ويأخذون على أفواهنا ويفعلون معنا كما كان يفعل الخديوي الأسبق بنا ونحن صاغرون أمامه، وهذه الدائرة السنية والدومين وأملاكها، وتلك التفاتيش الهائلة والسرايات العالية المنهوبة من الأهالي كلها شاهدة على صدق ما أقول، وحينئذ لا ينفع الندم ونقول ما قاله الأبرش صاحب الزباء «لا يحزنك دم ضيعه أهله.» هذه هي أفكاري ولا أدعي العصمة فيها.
وأما قول عزتكم إني سعيت إلى لندرة حبا في الإنكليز وعدت منها مخلصا لهم، فهذا ليس له علاقة بالمناظرة التي بيننا، ولم يكن لها مناسبة معها، وإنما هو من قبيل التطرف في القول، ولا أقول الخلط فيه تأدبا، أو من نفحات طنبور جريدة «الأفكار» قبل عامين وقد حكم على صاحبها ومحررها بالحبس، وكنتم عزتكم مدافعين عنه، وأما توجهي إلى لندرة فكان كتوجهي إلى سائر العواصم، مثل: باريس وبرلين وفينا ورومة وغيرها، في سياحة واحدة لم يسبق لي غيرها، فلماذا خصصتم لندرة بالذكر وميزتموها بالحب، على حين أني لم أقصدها وحدي من بين أهل مصر. بل قصدها أمير البلاد ورئيس نظاره وعظماء مصر وعلماؤها، وقد قرأنا في جريدتكم أن مولانا أمير البلاد يقصدها هذه السنة أيضا. فإذا كان ذهابي إليها عارا أو مسبة في نظر عزتكم فإن لي أسوة بغيري، وإن كان كل من قصدها يرجع محشوا بالإخلاص لها، كانت - وحقك - نعم البلد ونعم المدينة، ولا أتذكر أن أحدا مدحها من حيث ذمها مثل حضرتكم ... فهكذا تكون أساليب الكتابة.
تاسعا:
قلتم إنكم تريدون تقرير الحقيقة، وهي عدم وجود غير خطيب واحد في مصر، ثم لحقتموها بأنه ربما يوجد من له مقدرة على الخطابة، ولكنه لا يخطب فلا تعتبرونه (راجع ع6 س24)، والجواب على هذا أن عزتكم أسأتم إلى أبناء وطنكم مرتين أحدهما أنكم وصفتموهم بالشعب الجامد، وهو ينافي أقوالكم الأولى، وثانيهما أنكم لم تجدوا فيهم وهم عشرة ملايين غير خطيب واحد تعتبرونه، ولعلكم أظهرتم معجزة المتنبي في قوله:
ليس على الله بمستنكر
أن يجمع العالم في واحد
ونحن أيضا نريد مجاراة حضرتكم في تقرير حقيقة أخرى، وهي عدم وجود جرائد نعتبرها في مصر غير واحدة، وهي جريدة «الظاهر» الغراء ... وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
هذا ما عن لي إيراده الآن على المهم في تعقيب عزتكم، شاكرا لكم شريف إحساسكم، راجيا نشره في صحيفتكم الفيحاء، مظهرا قرب إنجاز وعدي لسعادتكم بإبداء ملاحظاتي على خطبة سعادة الخطيب المندرجة في جريدتكم مع المحافظة على كرامته عندي كما سبق الذكر؛ لتعلموا أن إقدام الشبان محتاج لحكمة الشيوخ، ونسأل الله التوفيق والهداية آمين.
26 يونية سنة 1904
إسماعيل عاصم «الظاهر»: ننشر هذه الرسالة الآن، ونرجئ الرد عليها إلى غد؛ نظرا لضيق المقام.
4
انتقاد على رد
كتبنا جملة عن الخطابة في مصر، فتصدى لنا حضرة إسماعيل عاصم بك المحامي مناقشا، وكانت مناقشته غير محكمة، وعبارته غير فصيحة، وأدلته غير واضحة، إن صح أنه أتى بدليل واحد.
فرددنا على انتقاده ونحن نظن أن الزميل كتب جملته الأولى بغير روية ولا تدبر، وأنه لا يجب أن يهمل انتقاده لتسرعه فيه، وحسبنا أن ما سيتبع به مقاله الأول لا بد أن يجيء محكما بليغا مقنعا، فنقارعه الحجة بالحجة ، ونرجع إلى التواريخ وأقوال الفلاسفة والكتب السماوية لنؤيد أدلتنا ونثبت آراءنا؛ لأننا لا نكتب إلا ما نرى فيه النفع لوطننا وجامعتنا؛ ولأن الموضوع الذي طرقناه لا يمكن أن يشك في فائدته إنسان عنده قليل من الإدراك والتصور ومحبة الوطن والملة.
غير أننا - وا حر قلباه - لم نر في رسالة صاحبنا التي أدرجت بعدد أمس شيئا يؤبه به ويستحق الحفاوة والاعتناء.
وجدنا حضرة إسماعيل بك يدور في مقاله الطويل العريض حول نقطة واحدة لا يتحول عنها، وهي أنه لا يصح أن يقال إنه لا يوجد في مصر غير خطيب واحد، وهذا القول الذي ذكرناه نحن ورددناه غير مرة مؤملين أن يستفز أصحاب النخوة ممن لهم القدرة على الخطابة في الشئون المهمة، هو الذي أحفظ حضرة الزميل وأقامه وأقعده وجعله ينتقد علينا ويشفع الانتقاد بالرد على غير جدوى.
ولو أن حضرة المحامي الفاضل طرق باب البحث، وهو يعلم من نفسه القدرة على ولوج الباب الذي طرقه، لكنا سررنا وقلنا أنعم بهذا الوطني الغيور والكاتب المجيد والشيخ الخبير والمنتقد البصير. أما وهو يناظرنا بكلام مغلوط وعبارات مضطربة وتهكم مذموم وتعريض مستنكر وتنكيت مستهجن، لا يصلح إلا أن يذكر بين العامة لا في مواضع الجدل والبحث والتحقيق. فقد رأينا أن نجول معه هذه الجولة الأخيرة مزيفين ما جاء به من المحاولة والمغالطة والشرود عن الموضوع الأصلي، وبعد ذلك فإذا أحب أن يجيب على مقالنا بشيء جديد نظرنا فيه، فإن كان مكتوبا بقلم بليغ وفكر سام أحللناه محل العناية والاهتمام، وإلا أعرضنا عنه واشتغلنا من الخدمة العامة بما هو أنفع وأجل. فإن وظيفة الصحف فوق التشاغل بالأخذ والرد فيما لا طائل من ورائه، وشأن الجدال الأدبي أرفع من سفاسف الأقوال، ونحن أحوج إلى نشر شيء نافع أو التكلم عن موضوع خطير من إثبات شيء ثابت من نفسه؛ لأن البديهيات لا تحتاج إلى براهين، فالخطابة نافعة أمر لا يحتاج إلى تأييد، والقول بأن مصر لم يقم فيها الآن واحد من الخطباء الذين يقودون الأمة إلى القيام والعمل والارتقاء سوى خطيب واحد. أمر مقرر مشهود محسوس. إذن لم يبق فيما دار ويدور بيننا وبين إسماعيل بك من النقط الفرعية ما يدعو إلى كثرة القيل والقال.
استهل مقالته بقوله: «إني أشكر عزتكم كصحافي حر ينشر ما يرد إليه، ثم يعقب عليه ولكن بشرط مراعاة آداب المناظرة لا كما ذكرتم في التعقيب على مقالتنا المندرجة في العدد 180، وكنت أتعشم في فطانتكم أن تكونوا أول مقتد بخطيبكم الحبيب؛ حيث قال في خطابته بلزوم تجرد الصحافة من الشتائم والطعن والترفع عما يأتيه أصحاب الوريقات الساقطة منها.» ولسنا ندري ماذا أراد بهذه الجملة، ونحن لم نخرج عن أدب البحث في كل ما فندنا به أقوال حضرته، ومن دأبنا أن نعرض عن التعريض المستهجن، فكيف بنا نعمد إلى الطعن والسباب، ولكن ما لنا ولما يعزوه إلينا بلا دليل وقد قرأ القراء الأفاضل أقوالنا وأقواله، وعلموا أينا الذي شط عن جادة الأدب، أنحن وقد قمنا ننصر الفضيلة ونعضد الاجتهاد ونشجع الإقدام ونحث على الاقتداء بالنافع، أم هو وقد قام يحارب الفضيلة وينتصر للتراخي ويحسن الجبن والذل ويثبط العزائم والهمم.
ويقول بعد ذلك: «أن ليس من الحكمة أن يتعصب الصحافي لما ينشر، والكاتب لما يكتب والخطيب لما يقول، ويعده تنزيلا من عزيز حميد فيغضب لأي انتقاد عليه.» ونحن نقول إن الصحافي الذي يكتب اليوم بقلمه شيئا ثم يتحول عنه في الغد لغير سبب معقول أو دليل حي جديد لجدير به أن يسمى مذبذبا أو مرائيا أو متحولا، ومن ذا الذي يرضى بهذه السمة الرديئة والسمعة السيئة لنفسه، وإذا كنا لا نتعصب لما نكتب في مصلحة وطننا فلأي شيء نتعصب؟! ألآراء حضرة المحامي، وهي تخالف مصلحة الوطن على خط مستقيم؟! أما إن الكاتب الحر لا يجب عليه أن يسلك سبيل المغالطة ليوهم الناس صحة رأيه؟! فهذا ما لا نخالفه فيه، بل هو مذهب يجب أن ينتهجه الكتاب جميعا، ونحن في مقدمة الذين ينزعون إليه، ولكن حضرة المحامي الذي يقول ويجاهر به يعمل ضد ما يقول كما يتبين مما نشرناه من مقالة أمس وما سنوضحه اليوم، ويا ليتنا كنا نعثر في مقال حضرته بدليل واحد نقابله بدليل من عندنا ينقضه، ولكنا حتى الساعة لم نتوفق إلى ذلك؛ فإن أقواله كلها خالية من الأدلة، ونحن لم ننسب إليه شيئا لم يجئ في رسالته، ولكنا استخلصنا من لهجة كلامه أنه تحامل علينا وتحمل منا لإغفال ذكره من عداد الخطباء المصريين، وهذا شيء لا يحتاج إلى برهان لدى من قرأ كتابة حضرته واندفاعه فيها ضد الخطيب الوطني الوحيد، وهب أن ذلك يقتضي برهانا ناصعا فليس ثمة من دليل مقنع كتصديه لنا لكوننا أيدنا رصيفنا الغيور فيما أبداه وذكرناه في مجال الخطابة دون سواه، ومن المعلوم لدى من يعرفون إسماعيل بك أن حضرته شغوف بالتهافت على الخطابة في أي مكان كان - ناسب الوقت أو لم يناسب، دعي إليها أو لم يدع - ولكن ذلك كله كان منذ أعوام بعيدة، أما الآن فهو مثل أقرانه الذين يقدرون على الخطابة ولا يخطبون. فذكرنا مصطفى كامل باشا في كلام عام عن الخطابة في مصر، وإغفالنا إسماعيل عاصم بك من سياق الحديث، أمر جاء شديدا على نفسه، فتطوح إلى الاعتراض علينا دون أن يكون له حق في اعتراضه.
وبعد ذلك فإنا نرى حضرته قد أنفق ساعة من وقته هدرا بإيراده عبارات مقتضبة محرفة من أقوالنا، لا تشم منها رائحة أفكارنا، ولا ترمي إلى حقيقة مقاصدنا، ولبث يشير إلى «العامود» الثاني أو الثالث من الصحيفة الأولى أو الثانية من العدد 176 وخلافه، مما لا حاجة لنا إلى إعادته أو الرد عليه؛ لأنه شيء لا يفيد في نفس الموضوع، وإن كان أفاد حضرته في جعل مقالته ضافية الذيل ...
ثم أنتقل إلى قوله «قلتم إننا تألمنا من إغفال ذكر اسمنا من عداد الخطباء، والجواب عليه أنكم ما ذكرتم أسماء خطباء مصر ثم أغفلتم اسمنا حتى كانت تصح النسبة.» وردنا على هذا القول ينحصر في إيراد قوله «ومع ذلك فإن عزتكم من شبان مصر ومن كبار محاميها وخطبائها، وقد أصبحتم في عداد رجال الصحافة فيها، ولا يقال بوجودكم وأمثالكم بفقدان الخطباء من مصر»؛ فإن هذه الجملة بمفردها كافية للدلالة على أن حضرة الزميل تألم من إغفال ذكره، وكان يحب أن يقرن اسمه بجانب اسم مصطفى كامل باشا، لا أن يقال إنه لا يوجد سوى الأخير من الخطباء المصقعين في مصر. فلما أغفلنا ذكره وأسقطنا اسمه وغاظه ذلك ولم يجد من الصواب أن يقول لماذا لا تذكروني في جملة الخطباء، قال لماذا تقولون بوجود خطيب واحد في حين أنه يوجد غيره، وأنتم منهم وأمثالكم (وحضرته فيهم بالطبع) موجودون في مصر.
ثم قال «قلتم إننا ما علمنا حقيقة مرادكم، وهو تمنيكم نهضة قوية تستعيد سابق مجد مصر، والجواب على ذلك أن مقالتكم كلها بديهية ولا تحتاج لتأويل أو إمعان فكر، ولم تذكروا فيها مرادكم الذي ذكرتموه الآن، وحينئذ فلا عتب علينا إذا لم نعلم ما في صدوركم، ولا يعلم الغيب إلا الله.» والجواب على ذلك أننا لا نطلب منه أن يحيط علما بما في الصدور؛ فإن هذا بالطبع فوق قدرته، ولكننا نريد منه أن يعلم ما جاء في نفس مقالتنا الأولى؛ إذ قلنا «فيا أيتها الأوقات التي تصرمت، هل لك أن تعودي وتعيدي لنا نهضتنا الأولى التي كانت تمثلنا في مصاف الأمم الشريفة المشرئبة إلى الحرية والاستقلال.» وقلنا في آخر تلك المقالة «فهكذا ينبغي أن يفعل المصري الذي يرى نفسه كفؤا لأن يؤدي خدمة جليلة لوطنه، ويجد أن مقاله أهون شيء ينفع به وطنه.» فإذا كان حضرته قد قرأ ذلك كله فيما سلف ولم يفقهه، فليس لنا أن نناقشه؛ لأننا إنما نبسط الحقيقة ليفهمها من لا يجحد الحق ولا يصر على المكابرة، وإن كان قد قرأه ولم يفهمه فها نحن اليوم نعيده عليه، ونقول له إن ذلك يشتمل أو يدل على ما زعم حضرة الزميل أنه من مخبئات صدرنا.
ثم قال: «قلتم إننا خلطنا وشططنا كثيرا ونسبنا لكم القول بوجود نهضة وطنية قبل الاحتلال، والجواب عليه أولا بأن ألفاظ خلط وشطط لا تليق بآداب المناظرة والمحاماة، وثانيا إننا لم ننسب لكم القول بوجود نهضة وطنية قبل الاحتلال، بل أنكرنا عليكم قولكم بوجود نهضة وطنية عقب الاحتلال منذ عشرين سنة، وحينئذ يكون ما نسبتموه إلينا في تعقيبكم في غير محله.» ونرد على ذلك بأنه خلط في إدخال ما قبل الاحتلال بما بعده كما سنذكره، وشط في تحامله على مصطفى باشا وجحود أياديه على الناشئين؛ فإنه أفادهم بخطبته وجريدته ومدرسته وتآليفه وليس في هذين اللفظين خروج عن آداب المناظرة كما زعم؛ لأنهما حقيقتان واضحتان. وتنحيه مما نسبه إلينا من وجود نهضة وطنية قبل الاحتلال لا يفيده؛ لأنه قال في انتقاده: «أولا إنه عند دخول المحتلين مصر لم يكن فيها شيء اسمه النهضة الوطنية، ولم تر فيها غير شرذمة من قواد العساكر ثاروا ضد أمير البلاد ... إلخ.» فهل هذا القول لا يشتم منه أننا كنا نتكلم عن حالة مصر قبل الاحتلال إلى أن دخل المحتلون مصر؟ أليس التكلم عن الثوار أو عن نهضتهم أو عما في زمنهم يعد تكلما عما كان قبل وصول المحتلين إلى مصر؟ ألا يؤخذ من هذا أن صاحبنا يركن إلى المغالطة؛ لينقذ نفسه من غلطته، ومع ذلك فنحن لا نشتد في مناقشته ولا نبالغ في مؤاخذته؛ لأنه زج بنفسه في ميدان صعب على جائله.
ولقد زعم حضرته بعد ذلك أن جمعية المقاصد الخيرية كانت أساس الثورة والمفاسد، ونحن نقول له لقد وهمت؛ فإن جمعية يكون رئيسها حسين باشا الدرملي وأعضاؤها أمثال أحمد باشا السيوفي وأخيه لا يقال إنها أساس الثورة والمفاسد.
وأما ما ذكره عن جمعية مصر الفتاة فغلط منه نجم عن خطأ مطبعي تبدل فيه لفظ الخديوي السابق بالأسبق، والحقيقة أن اللائحة طبعت وتقدمت من الجمعية إلى المرحوم توفيق باشا، ولا يزال أغلب أعضاء الجمعية أحياء إلى الآن، وهم يؤيدون قولنا ويردون زميلنا عن نكرانه، ولما كان حضرته من الأذكياء البارعين كما نظن، فلا يليق به أن يجنح إلى تحريف مطبعي يدل على صحته سياق الحديث من قبل؛ إذ ورد ذكر الخديوي السابق قبل هذا التحريف بأسطر قليلة، وهنا قال إن الخديوي الأسبق لو كان علم بوجود جمعية من هذا القبيل لخسف بها الأرض، وهذا التعبير - كما لا يخفى - من قبيل الإغراق؛ لأنه ليس في طاقة فرد من أفراد البشر كيفما كانت درجته أن يخسف الأرض بقوم، ولكننا نقول له هذا من قبيل «بح صوته وجف ريقه»، وإن كان ما بين الاثنين كما بين الأرض والسماء.
ولقد أنكر ما جاء في انتقاده من السخرية بذهاب الخطيب إلى أوروبا وإلقائه الخطب هناك، ونحن نعيد الآن عليه قوله لنذكره به خوفا من أن يكون قد نسيه، قال «على أن مصر ما رأت فائدة من تلك الخطب»، «إن تحرير الوطن وإسعاد البلاد لا يكون بذهاب الشبان ليخطبوا في أوروبا، وهي في شاغل عنهم، وقد رأينا عقباها كما سبق الذكر، ولا بالشقشقة بين بعض الناس فيسخر بنا الحكماء ... إلخ»، «وحينئذ فالخطب التي نسمع بها أو نقرأها في جرائدنا إثمها أكبر من نفعها، كما هو رأي العقلاء في مصر.» فإن كان حضرته قد نسي ذلك كله فها نحن نذكره به، وإن كان لم يزل يتذكره ولا يعتبره من قبيل السخرية فليقل لنا ما هي السخرية، وعلى أي محمل تحمل.
أما أن أوروبا عالمة ببلادنا وما فيها، فهذا أمر بديهي لا يحتاج إلى نقض وإبرام، ولكنا لا نريد بذهاب النابغين من بلادنا للخطابة هنالك مبينين غدر الإنكليز ونكثهم للعهود، واستعدادنا لتولي أمورنا بأنفسنا تحت رقابة الدول وإشراف أنظارهم حتى تخلص مصر من أثقال ديونها، أن يذهب أولئك الناشئون فيقولوا للغربيين إن مصر ملأى بالمعادن والخيرات، وأرضها جيدة المنبت خصبة التربة كما يفتكر صاحبنا الفاضل، بل نريدهم أن يفهموا الملأ هنالك أعمال الإنكليز واستعداد المصريين وشعورهم، وأين هذا مما ذهب إليه حضرته من التكلم عن المعادن والأطيان والعقارات. حقا إن زميلنا لمناظر ماهر ومنطيق قوي الحجة والعارضة.
وكنا نود أن يكون حضرته واقفا على ما يكتب في الظاهر كل يوم؛ ليعلم أننا لم نهمل شيئا من التحذير والنصح والإرشاد، وأننا نبهنا الذين يقصدون أوروبا غير مرة إلى اجتناب التبذير وإضاعة الأوقات سدى، في حين أن البلاد تنتظر منهم العودة بالمعارف والآداب والمدنية النافعة.
ثم تمشى زميلنا الذي يراعي دائما حرمة الذوق والأدب، والذي يحترم شعور الناس، والذي يقدر العاملين النافعين حق قدرهم، والذي لا ينطق إلا بالحكمة والصواب إلى التكلم عن سعادة الخطيب «الوحيد» «الفريد»، وفتحه مدرسته بما يدل على أن حضرته يقدر همة خطيبنا الغيور حق قدرها؛ حيث قال في موضع الاستخفاف والهزء: «قلتم إن سعادة الخطيب جعل نفسه قدوة لغيره، فأنشأ مدرسة باسمه، ونحن لم نعب عليه هذا العمل المبرور، بل شكرنا سعادته عليه، كما شكرنا قبله سعادة محمد أمين بك منشئ مدرسة باب الخلق وحضرة الشيخ دسوقي بدر منشئ مدرسة سوق السلاح، والست روجينا منشئة مدرسة حسن المسرات وأمثالهم الكرماء الذين أفادوا مصر واستفادوا منها بمدارسهم.» ولا يخفى أن المدارس المذكورة هنا أراد أصحابها بإنشائها مجرد المنفعة الشخصية، ومنشئوها ممن لم يتخرجوا تخرج الأكفاء لإدارة المدارس وتربية الأحداث تربية صحيحة قويمة. فالخلط بين ذكر مصطفى كامل باشا وهؤلاء الناس مما يعتبر في عرف النقادين خروجا عن حد اللائق.
وبعد ذلك تبرأ من دعوته إلى ملاينة المحتلين ومحاسنتهم، وما كاد ينتهي من التبرؤ حتى عاد إلى دعوته الأولى، فنحن نضرب صفحا عنها؛ لأنها خارجة عن سياق الحديث ومحشوة بألفاظ ينبغي أن تقال في أماكنها، وما أوردناها بعدد أمس إلا ليعلم الناس أننا غير ملومين إذا ضربنا صفحا بعد اليوم عن مناقشة رجل يصل به الأمر إلى أن يستشهد بأقوال الحشاشين في قهاويهم ومجتمعاتهم، ولعله يعذرنا إذا نسبناه إلى «النكتة» فيما يقول، وقد أوضحنا له ما يجب عليه وعلى كل وطني فيه دم ذكي وشعور شريف وإحساس رقيق.
أما أن الجناب العالي والوزراء يسافرون إلى أوروبا فلدواعي مصالحهم، وليس لحضرة المحامي من داع يحمله على السفر إلى لوندرة وليس في وسعنا أن نطيل فوق هذا؛ لأننا سئمنا الكتابة في موضوع تافه مثل هذا، لا سيما ومقال الرجل مملوء بالأغلاط الرسمية واللغوية.
من ذلك أنه كرر كلمة العامود عدة مرار مرسومة هكذا بالألف، وصوابها عمود، وقال الاتفاقية الشعواء ولا مناسبة بين الكلمتين؛ لأن معنى الشعواء الفاشية المتفرقة فيقال غارة شعواء مثلا، ونسب بيت أبي نواس المشهور:
ليس على الله بمستنكر
أن يجمع العالم في واحد
إلى المتنبي وهو غلط كبير والله يوفقنا ويوفق زميلنا إلى خدمة الوطن خدمة صحيحة لا يشوبها غرض خاص.
5
أبو شادي
النصوص المسرحية الكاملة
نص مخطوطة مسرحية «هناء المحبين»
⋆
هذه المسرحية مخطوطة ومحفوظة بإدارة التراث بالمركز القومي للمسرح والموسيقى. ولم يعلم المركز هويتها إلا من خلال مشروع لتحقيق النصوص المسرحية التراثية، تقدمت به إلى رئيس المركز أخذ رقم وارد 442 في 11 / 6 / 1995. وفي هذا المشروع قمت بتحقيق وتوثيق ثماني مسرحيات، هي: «هناء المحبين»، «نوتردام دي باري»، «نشيد الهوى»، «معروف الإسكافي»، «مظالم الآباء»، «فيدورا»، «غريزة المرأة»، «غانية الأندلس». ومسرحية «هناء المحبين» على وجه الخصوص لم يدون عليها لا اسم المسرحية ولا مؤلفها. ولكنني وجدت مغزاها وبعض شخصياتها ضمن بعض الكتابات عنها في بعض أعداد الدوريات القديمة، مثل جريدة «المقطم»، عدد 1426، 22 / 11 / 1893، ص3، وعدد 1239، 11 / 4 / 1893، ص3، وهذا كان الخيط الأول في سبيل توثيقها، هذا بالإضافة إلى ما تحدثنا به عنها فيما سبق.
صورة الصفحة الأولى من مخطوطة مسرحية «هناء المحبين».
الفصل الأول
المنظر الأول
لطيفة :
من الغرام احترس يا خالي البال
فكم صحيح غدا من عشقه بالي
ما كنت أحسب أن العشق يوقعني
في حالة كان حالي قبلها خالي
ليت شعري ولله التصريف. ما الذي عاق حبيبي لطيف؟ فإنه أبطأ خلافا للعادة، وهو يعلم أني لا أستطيع بعاده. فلعله يا نديمتي أنيسة، نسي الجميل، واختار عني بديل. آه ... ما أصعب المحبة عند صدود الأحبة!
أنيسة :
أستغفر الله يا سيدتي لطيفة، يا ذات الشمائل اللطيفة، أن يكون لطيف نسي هواك، أو اختار سواك. فإنه قتيل جمالك، وأسير أفضالك، وربما يكون أشغله والدك الوزير المصان، بأمور تتعلق بالديوان، فلم يتمكن من الحضور، والغائب كما يقال معذور.
لطيفة :
كيف تدافعين عنه بهذا المقدار، وهو لم يزرنا طول هذا النهار؟! وأنت تعلمين يا ذات الكياسة، أني أحسنت بينه وبين والدي السياسة، حتى جعله كاتب سر الوزارة؛ لما هو عليه من الجدارة، وقد سلمه زمام تدبير المنزل؛ لكيلا يكون عنا بمعزل.
أنيسة :
ها هو لطيف يا مولاتي العظيمة، مقبل علينا بطلعته الوسيمة.
لطيف :
سلام على ذات المحاسن والخفر
سلام محب قلبه بالجوى استقر
إذا غاب عن عيني فلا ريب أنني
أموت وأحظى بالحياة إذا حضر
رضاه نعيمي والتمنع شقوتي
ومرآه جناتي وإعراضه صقر
لطيفة :
سلام على من بعد غيبته حضر
سلام غرام عز في البدو والحضر
فأهلا وسهلا يا لطيف ومرحبا
بقربك إن البعد قد هيج الفكر
فلو كنت تهوانا لما غبت ساعة
علينا ولكن كل مبدى له خبر
لطيف :
عفوا يا سيدتي الأميرة، ورفقا بمهجتي الأسيرة. فإني وحق من يعلم الصدق والمين، لا أستطيع فراقك طرفة عين، ولكني أترقب فرصة الحضور، بحسب مقتضيات الأمور؛ لكيلا ينتقد حسود، أو يوشي بنا رقيب حقود، لا سيما أن الأمير حسيب لجنابك خطيب، وقد أجابه والدك للاقتران، بجانبك يا رفيعة الشان، وأنت رفضت الخطبة، ورددت طلبه، رغما عن علو نسبه وسمو حسبه، وهو الآن لك معاند، وناصب شراك المكائد، وأخشى أن يطلع على أمرنا، فيوقعنا في مصائب دهرنا.
لطيفة :
إذا كنت مع الله فلا تخشى سواه، وإذا كانت النوايا سليمة فكل الأمور مستقيمة. (تدخل أنيسة)
أنيسة :
إن الأمير حسيبا بالباب، يستأذن في الدخول لجنابك المهاب.
لطيفة (للطيف) :
ادخل الآن هذا المخدع يا لطيف، ويدبرها الخبير اللطيف. (بصوت مسموع) : ليتفضل الأمير. (لنفسها) : ليته ما حضر، فقد أبدل صفو وقتنا بالكدر.
حسيب :
مني عليك سلام عاطر الأرج
يا فتنة النفس والأحداق والمهج
يا غادة عندها الأرواح خاشعة
تبغي الحياة بمعنى حسنها البهج
عطفا علي بطيب القرب منك كما
أهوى لأظفر بعد الضيق بالفرج
ارحمي يا ذات الشرف الحسيب، عبدك الخاضع حسيب. فإني ما تلذذت بشراب ولا طعام، ولا ذاقت عيوني لذيذ المنام، منذ سمعت يا رفيعة الشان، أنك رفضت الاقتران، ولكني لم أصدق بذلك، وإلا كنت وقعت في المهالك.
لطيفة :
نعم، إن الذي بلغك صحيح، ولا يحتاج لزيادة التصريح، ولم يكن بغضي للزواج، كراهة فيك يا معدن الابتهاج. فإن الاقتران بك عنوان سعادتي، وغاية أنسي وسيادتي، ولكنه شيء قام بالروح والفؤاد، وبغضني في الزواج دون العباد.
حسيب :
ارحمي عبدك يا مولاتي، ولا تتسببي في إتلاف حياتي، وإني أكتفي منك الآن، بإظهار الرضا بالاقتران، ولا بأس من تأجيل الزفاف، على مقتضى إرادتك يا ربة العفاف، حتى تنجلي عن أفكارك الأوانس، هذه النفرة والهواجس.
لطيفة :
إني لم تقم بي هواجس، ولم تنازع أفكاري وساوس، وإني يا رب المعقول. عارفة ما أقول، وهو صادر عن روية، وعن سلامة طوية. فاصرف النظر يا مولاي عني، وخذ لنفسك بديلا مني، ولا تفاتحني في ذلك مرة أخرى؛ فإنه بشرفي وشرفك أحرى.
حسيب :
اعلمي يا مليكة الجمال، وربة العصمة والكمال، أن راحتي وحياتي في اقترانك بذاتي. فارأفي بعبدك، وعامليه بودك، وإلا فإني أمضي شهيد الهموم، وأكون خصيمك يوم تجتمع الخصوم.
لطيفة :
خفض عليك يا ذا الأفضال، ولا تعلق نفسك بالمحال؛ لأني لو كنت أرغب في الاقتران بأي إنسان، فبالطبع يكون بجنابكم الرفيع، ولكن لا سبيل إلى ذلك ولا شفيع.
حسيب :
لطيفة يكفي بعد صدك والجفا
فإن حياتي اليوم صارت على شفا
فؤادي عليل يا لطيفة فاسمحي
بقربك إن فيه له الشفا
لطيفة :
حسيب ارتجع عني وحقك إنني
فؤادي من ذكر الزواج على شفا
ولا ترتجي مني اقترانا وعافني
فدائي عضال ما له أبدا شفا
حسيب :
أتظنين أني جاهل بالأمر، وغير عالم بالسر والجهر؟! فلا بد أن أحرمك من لذاتك كما أحرمتني من لذاتي، وأن أسعى في هلاك ذاتك، كما سعيت في هلاك ذاتي.
لطيفة :
أهكذا يكون كلام العشاق؟ وهل هذه يا حسيب سلامة الأذواق؟ فانصرف عني بسلام ولا تعد ثانية إلى هذا المقام. (يخرج)
لطيفة (لنفسها) :
إن حسيبا اغتاظ، وللغضب استشاط ، حتى باح بالسر، وقال إنه غير جاهل بالأمر. فيا هل ترى علم بمجيئي بلطيف، وأخذ يهددني بهذا التلميح الضعيف؟ آه يا ربى! ما هذه الأهوال، لقد ضاقت بي الأحوال. (ثم يخرج لطيف من المخدع فتقول له) : إن الأمير حسيب جاء في طلب الاقتران عن قريب، ثم انقلب خائبا، وانصرف غاضبا.
لطيف :
أشكرك على توجيه نظرك المنيف نحو عبدك لطيف، والحمد لله القريب؛ حيث لم يرني حسيب. فربما كان يأتي الحدثان بما لم يكن في الحسبان، وأنت تعلمين يا أخت القمر، أن حياة والدي في خطر، وقد تركته على فراش السقم، يقاسي العناء والألم. فاسمحي لي بالذهاب لحضرته؛ لأقوم بواجب خدمته، فإن مرضيات الآباء، واجبة على الأبناء.
لطيفة :
لا بأس على أبيك. فالله يشفيه ويبقيك، ولك الشكر على هذه المروة، وما أبديته في حفظ حقوق والدك من الفتوة. فأوصيك به خيرا، ولا أراكما الله ضيرا.
المنظر الثاني
حليم :
إن مرضي كل وقت في ازدياد، وقد أخذت قوتي في النفاد، وولدي لطيف تأخر في الحضور عن ميعاده المشهور، وهو يعلم ما أقاسيه، من السقم الذي أصبحت فيه، ولكن ألهته حالة الشبوبية، عن القيام بالحقوق الأبوية.
سالم :
حلمك يا مولاي حليم، فإن سيدي لطيفا على صراط مستقيم، وهو يحمل حقوقك على الراس والعين، ولا يجهل واجبات الوالدين، ولم يكن من أولئك الأبناء، الذين يهضمون جانب الآباء؛ لأنك أدبته وأحسنت تأديبه، وهذبته وأتقنت تهذيبه. فأصبح مثلا للشبان، وقدوة في الفضائل لأبناء الزمان، وما أخره عن الحضور يا كنز السعادة، إلا أمر ربما يكون فوق العادة.
حليم :
ما هذه المدافعة، والمحاماة والمرافعة؟ وهل يوجد شيء عند الأبناء، أهم من مرضاة الآباء؟! فإن الوالد إنما يربي ولده؛ ليكون ساعده وسنده، ولا سيما إذا كان أبوه شيخا كبيرا، ومريضا مثلي مريرا. قال تعالى:
واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ، وقال جل شأنه للناس بيانا:
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ، وإن فؤادي مشغول عليه يا سالم. فانظر لعله يكون هذا القادم. إني مع ما أنا فيه من السقم، والعناء والألم، مضطرب الفكر على ولدي، وقد كاد غيابه يذيب كبدي. فيا ليت قلوب الأبناء تكون في الشفقة مثل قلوب الآباء.
لطيف (يدخل) :
لعلك يا والدي بخير وعافية، وسلامة وافية.
حليم :
آه يا ولدي الهمام! إني أحس بقرب الحمام، وأتمنى أن يكون غير بعيد. فإنه لا خير في حياة ذات تنكيد، واعلم يا ولدي أن متاع الدنيا قليل، وأنها لا تروي لقلب عليها غليل، ومهما طال العمر فيها قصير، وكما نشأنا من التراب فإليه نصير، والعاقل من اعتبر بأمسه وعمل لغده، وكف عن الناس شر لسانه ويده. فأوصيك يا بني بتقوى الله، والإعراض عما سواه، وأن يكون اتكالك عليه، فالأمر منه وإليه. وليكن لك واعظ من نفسك، ورقيب من عقلك، لا من أبناء جنسك. وإياك والمباهاة والمفاخرة، واتبع فيما أتاك الله الدار الآخرة. وعليك بالاستقامة، فإنها عنوان الكرامة، والتزم العفاف، واحكم بالإنصاف، وحذار من الحسد؛ فإنه داعية النكد. واجتنب حقد الصدور، فإنه مفتاح الشرور، وأحبب لغيرك ما تحب لذاتك، ولا تمش خلف شهواتك ولذاتك، واحفظ أحباب أبيك، ولا تجعل أعدائي من محبيك، فيخبوا دمك خب، ويخلصوا من الابن ما فعل الأب. آه ... آه ... واعلم يا ولدي أني راحل عنك، وسأصير بعيدا منك. فلا تجزع لفقدي، ولا تطيل الحسرة من بعدي، وانظر في تحسين أمرك، وما يكون فيه حياة ذكري وذكرك.
لطيف :
عافاك الله وشفاك، وجعلني يا والدي فداك.
حليم :
دع ما لا يفيد، واسمع نصحي المفيد. فإني تركت لك ذخيرة حسنة، وكنزا من بعدي لا يفنى، وهو أخي وصديقي، وحبيبي ورفيقي، أرسطاليس زمانه، وجالينوس أوانه، طبيب حضرة السلطان، وحكيم الدولة المشار إليه بالبنان، الفيلسوف الكامل، الحكيم عاقل. فإني لم أتخذ خليلا سواه، ولا اعتمدت على غيره بعد الله. فاجعله يا ولدي محل سرك، وإليه يكون مرجع أمرك، ولا يغرك الإكثار من الأصحاب، فإنهم لا يعرفونك إلا ما دام بيتك مفتوح الباب، وإن أخنى عليك الزمن، أو داهمتك المحن، فإنهم لا يعرفون لك قيمة، وأولئك البعد عنهم غنيمة. (يدخل سالم الخادم.)
سالم :
إن الحكيم عاقل إليكم واصل.
حليم :
ليشرف على السعة والرحب؛ لأتمتع به قبل أن أقضي النحب. (للطيف) : انظر يا ولدي هذا الصديق، كيف زارنا في وقت الضيق. فيا نعم الرفيق. (ثم يدخل عاقل.)
عاقل :
عساك بخير يا صديقي حليم، يا نعم الصاحب القديم.
حليم :
أهلا وسهلا بالحبيب الأول
أهلا وسهلا بالحكيم الأفضل
أنعشت روحا كاد يخمدها الضنى
وتميتها الأوجاع لو لم تدخل
عاقل :
لا بأس عليك يا حبيبي، يا من هو في الدنيا نصيبي، ما لي أراك جازعا أيها المفضال، وليس الجزع من شيم الرجال. فاتخذ التجلد والصبر عدة، فإنما تعرف الرجال في الشدة، ولا تضجر من شدة المرض، فإنه عرض ويزول كل عرض، وأنت تعلم يا أعز الأحباب، أن لكل أجل كتاب، وأن كثرة الأسقام، لا تكون دليلا على قرب الحمام. فرب سليم عدم، وسقيم سلم، ورب طفل لاش، وشيخ عاش، والمرء لا يعلم أيان يقوت، وما تدري نفس بأي أرض تموت، والعاقل يختار جوار الله على جوار من عداه.
حليم :
إني لا أرهب الموت، ولا أجزع من الفوت، وليس لي أمل في الحياة بعد هذه الأوقات، وإنما يحزنني أن أترك ولدي وحيدا، منزويا فريدا، وكنت أود تزويجه في حياتي، وبعدها لا أبالي بمماتي. فخان الأمل، وحان الأجل.
عاقل :
أفق لنفسك يا حليم، ولا ينزغنك الشيطان الرجيم. فإن الله أنيس كل وحيد، وجليس كل فريد، ومعين كل ضعيف، وهو اللطيف بلطيف.
حليم :
إني لم أتركه وحيدا وأنت موجود، يا أيها الحكيم الودود. وهذه وديعتي أسلمها إليك، والله خليفتي عليه وعليك. اللهم رب البرايا، وغفار الخطايا، يا ستارا على من عفاك، امنحني عفوك ورضاك، واغفر لي ذنوبي، كما سترت عيوبي، وأمتني على الحق القويم، واهدني الصراط المستقيم، ولا تعاملني بسوء أعمالي، وبردى أفعالي، فإنك أمرتنا بأن نحسن لمن أساء إلينا، فأنت أولى بالفضل منا علينا، ووفق اللهم ولدي للهدى، واجعل له من أمره رشدا. اللهم وسهل علي سكرات المنون، ولا تخزني يوم يبعثون. (ثم يموت)
لطيف :
أواه! وا أسفاه عليك يا والدي العزيز! لقد مت في وقت وجيز ، ومضيت يا والدي الكريم، وقضيت يا أبي الرحيم، وتركتني حليف الأحزان، أليف الهم والأشجان.
عاقل :
أسفي عليك يا صديقي حليم، يا نعم الصاحب الحميم، كل نفس ذائقة الموت، وكل حياة بيدها الفوت، وكل مركب للانحلال، وكل بسيط للزوال، وكل موجود للانعدام، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
الله يبقى وكل الكائنات عدم
والمرء يشقى وعقبه عليه ندم
والموت يخطف الأرواح خاضعة
لا فرق بين ملوك عنده وخدم
والناس في غفلة عما يكون وما
يلقون يوم يكون الله فيه حكم
طوبى لمن جعل التقوى سيمته
وقام بالحق في الأحكام حيث حكم
مثل الأمير حليم إنه رجل
أمضى الليالي بتقوى الله حيث قسم
فاغتاله الموت يا حزني عليه ولم
ينفعه طب ولا أهل له وحشم
صبرا لطيف على ما كان وارض به
الله يبقى وكل الكائنات عدم
الجميع :
الخلد في الدنيا محال
والحال لو طال استحال
والمرء مهما اختال
خيال فكل شيء للزوال •••
للموت تنخدع الرءوس
ولحكمه تعنو النفوس
لا كهل يبقى أو عروس
بل ظلهم للانتقال •••
قد مات يا أسفي حليم
ومضى إلى دار النعيم
مجاورا ربا كريم
وهكذا حسن المآل •••
نرجوك يا رب الأنام
العفو مع حسن الختام
وأسبل لنا ستر الكرام
فالكل فان لا محال
الفصل الثاني
المنظر الأول (في منزل الوزير نعيم.)
نعيم (للطيفة) :
إن موت الأمير حليم سبب عندنا كدر عظيم، ولا سيما من أجل ولده لطيف. فإنه من كثرة الأحزان ضعيف، وقد استأذن منا في السفر إلى بلاد الشام؛ ليزور بيت الله المقدس الحرام؛ ليخفف عنه ما يقاسيه من الحزن على فقد أبيه، ولكن إذا أجزناه تعطلت أشغاله، وإذا منعناه تكدرت أحواله. فما الذي ترين، وبماذا تشيرين؟
لطيفة :
نعم، إن غم لطيف على فقد أبيه أوقعه من الذهول في وادي التيه، وإنه بسبب بليته لا يمكنه تعاطي أعمال وظيفته، والأصوب يا رب المعال أن تسمح له بالتفرغ عن الأعمال، بشرط ألا يبرح من المدينة؛ لتتسلى بعشيرته نفسه الحزينة.
نعيم :
هذا هو عين التدبير، ولا ينبئك مثل خبير. بارك الله فيك، ومتع فؤاد أبيك. (لأنيسة) : اذهبي يا أنيسة بغير تسويف، وابعثي من يأتي بلطيف.
أنيسة :
أمرك يا ذا القدر المنيف.
نعيم :
إن لطيفا ذو مروة، وعقل وفتوة، وهو جدير بالجنوح إليه، والتعويل في المهمات عليه.
لطيفة :
نعم يا مولاي، وهو فوق ذلك، وأنت أدرى بما هنالك.
أنيسة :
إن لطيفا بالباب، يا واسع الرحاب.
نعيم :
أحضريه بغاية الرحاب. إذا تحلت الشبان بالفضائل والعرفان، كان ذلك من أعظم المنن، وأكبر المنافع للوطن. (يدخل لطيف)
لطيف :
جئت أسعى لأمركم فوق رأسي
يا وزيرا به تنال المقاصد
إن يكن والدي توفي فإني
بك لاقيت ألف أم ووالد
نعيم :
لا فض فوك، ولا عاش حاسدوك. اعلم يا ولدي أن الحزن لا يرد الفائت، ولا يحيي المائت. فالتزم الصبر، وسلم الله الأمر. وإنك كنت طلبت منا منذ أيام إجازة لتسافر إلى بلاد الشام؛ لتصرف فيها الهموم، وتدفع الغموم، مع أن الغربة كما يقال كربة، ومفارقة الأوطان مجلبة للأحزان، فالأصوب أن تقيم في وطنك بين أهلك وسكنك. هذا يواسيك، وهذا يواليك. فإن قومك يعرفون من طباعك، فيجارونك على مقتضى أوضاعك، وإني أجيزك بالاستراحة عن الأعمال بضعة أيام وليال، إلى أن يسكن جأشك، ويعود إليك انتعاشك. فاذهب إلى بيتك بسلام، ولا تقطع زيارتنا في جميع الأيام.
لطيف :
دامت معاليك، ودانت أياديك، وإني عبدك بلا مرى. فاصنع معي يا مولاي ما ترى. (يخرج)
نعيم (للطيفة) :
وها أنا ذاهب إلى الديوان، فقد آن يا ابنتي الأوان.
لطيفة :
محفوظا بعناية الرحمن. (يخرج نعيم)
لطيفة (لأنيسة) :
إن معاكسة الأيام يا نديمتي أنيسة، قد كدرت أوقاتي الأنيسة، وقد كان والد لطيف مهتما بأمر الاقتران، ولكنه اليوم دخل في خبر كان، وليس في قوة لطيف تدبير هذا الأمر. فكيف العمل وقد عيل مني الصبر؟
أنيسة :
إن اقتران الأمير لطيف بجنابك المنيف، لا يخلو من صعوبات مهمة، وعوائق مدلهمة؛ لأنك يا مولاتي من بيت رفيع العماد، عالي الحسب بين العباد، مع ما أنتم عليه من عظمة الوزارة، وشرف الأصل والإمارة، وأما لطيف وإن كان حسبه غير سافل، إلا أنه بعيد عنكم بمراحل، ولا يغرب عنك يا سيدة الأبكار، أن عوائد أهل هذه الديار، مراعاة الكفء في الحسب، وعلو النسب. فيلزمنا مراعاة الحال، والعمل للاستقبال.
لطيفة :
إذا فما العمل في هذا الخطب الجلل؟ وإني أرى والدي ميالا للأمير حسيب، ويقابله دائما بالإجابة والترحيب، مع أني لا أميل إليه، ولا أقبل أبدا عليه، وإذا أصر والدي على هذا المراد، فإني أقتل نفسي وأتخلص من هذه الأنكاد.
أنيسة :
اعلمي يا سيدتي أن هذا يحتاج للتدبير، وطول التفكير، واستعمال السياسة، واتخاذ الحزم والكياسة، بالمشاورة مع حضرة الفيلسوف، والأمير لطيف العطوف، فإن في المشاورة السداد، وقد يحصل الضرر من الاستبداد. هه ... وها هو الأمير لطيف مقبل علينا بشكله الظريف. (يدخل لطيف)
لطيف :
هل تقبلين سلامي ظبية البان
وترحمين بوصل قلبي العاني
ناشدتك الله عطفا إنني رجل
قد هيج الوجد أشجاني وأشجاني
لطيفة :
أهلا بمن حبه والوجد أشجاني
وقربه زان أوقاتي وأحياني
الله في كبد ذابت على كمد
لولا أتعلل بالآمال أحياني
لطيف :
اعلمي يا ملكة القلب، ومالكة اللب، أن مرامي طوع مرامك، ولكن مقامي دون مقامك، وإني أرى وصولنا للغرض، دونه كل علة ومرض؛ ولذلك أصبحت لا يختلج بفكري، غير معرفة مستقبل أمري. فإذا المقاصد تمت، فبها ونعمت، وإن ضنت بذلك الأيام، فالحمام الحمام، ومني على الدنيا السلام.
دعيني إلى قدري وإلا القبر
فإن حياة الذل صعب على الحر
سأسعى لآمالي فإن هي أقبلت
فأهلا وإلا لا سبيل إلى الصبر
أموت كريما لا أرى الضيم صاحبي
فقبري بعز النفس أعلى من القصر
لطيفة :
ينال الفتى بالعزم فاتحة النصر
ويظفر بالآمال ذو الحزم والفكر
ولا يتمنى موته غير عاجز
ضعيف الحجا يختار تربا على التبر
وذو الهمة العليا يجد لقصده
ولا يبتغي قبرا بديلا عن القصر
ومن يطلب الشهد احتسى سم نحله
وكل عسير لو جهدت إلى يسر
فدع عنك النواح؛ فإنه لا يشفي جراح، وخذ في الطلب، واقض فيه ما وجب، واستعمل الحزم، وامزجه بالعزم، واستعن بالله في أمرك، فإنه قادر على تيسير عسري وعسرك.
لطيف :
اسمحي لي يا مولاتي في الذهاب لحضرة الفيلسوف المهاب؛ لأتحدث معه في هذا الشأن، وبالله سبحانه وتعالى المستعان.
لطيفة :
بلغك الله آمالك، ونجح أعمالك. (يخرج الجميع)
المنظر الثاني (في بيت الحكيم عاقل.)
عاقل (لنفسه) :
سبحان موجد الكائنات بقدرته، ومدبر الموجودات بحكمته. كل شيء طوع أمره ومراده، وهو القاهر فوق عباده. جعل نواميس الطبيعة على أتم نظام، وخلق مدار الأفلاك على أحسن انتظام. فهو وحده الفعال، وكلنا قوال. فنحن نشخص الداء والمزاج، ونخصص الدواء والعلاج، وهو المؤثر في الحقيقة، والهادي لأقوم طريقة، ولكن الجهل قد أعمى الأبصار، وأضل الأفكار، واستحكم الكبر والغرور، من النفوس والصدور.
يا مكثر العجب أن الدهر غدار
خفض عليك فللإقبال إدبار
ويا أخا الكبر فيم الكبر يا سفها
والبدو والعود أقذاء وأقذار
ويا حريصا على الدنيا وكانزها
هون فليس يطيل العمر إقتار
تجد في جمعها دهرا وتتركها
للغير قهرا وعقبى وزرها النار
ويا غرورا بعلياه ومنصبه
بالله أين الأولى شادوا وقد ساروا
أين الملوك وأين العاملون لهم
شادوا وزادوا ونادى الموت فانهاروا
يا غافل القلب عن تذكار غايته
ألم يكن لك في الماضي تذكار
ويا مكبا على فعل القبائح ما
هذي الفضائح والإنسان أثار
يا سائما في مراعى الغي ويحك لم
تسأم وقد سئمت من أهلها الدار
ويا غريق العمى هلا نجوت على
فلك الهدى فانجلت للحق أبصار
يا شاربا بكئوس اللهو مترعة
بالزهو مهلا فكأس الموت دوار
يا مدعي الخير والإفساد ديدنه
خف الرقيب فللإخفاء إظهار
قل الوفا واشتفى في الحل صاحبه
حتى جفا جاره من غدره الجار
مني السلام على هذي الحياة ولا
طالت إذا دام هذا الحال أعمار
الخادم :
إن الأمير لطيفا يستأذن في الحضور.
عاقل :
ليتفضل على الرحب والحبور (يخرج الخادم، فيقول لنفسه) : من كان الغرام أكبر همه، هيهات أن يفيق من غمه، وكم نصحت للطيف أن يقلع عن الطيش، ويرضى بما قسم له الله من العيش. فلم يقبل النصيحة، ولم يميز فاسد الرأي من صحيحه. ولكنه معذور، بحكم المقدور؛ فإن أمر العشق لا يرد، وحكم الغرام لا يصد. فالله يكون في عونه، ويمده بمدد صونه. (يدخل لطيف)
لطيف :
مني السلام عليك يا هذا الحكيم
يا عاقلا في كل ما يبغي حكيم
إن كان مات أبي حليم وابتغى
دار البقاء فأنت لي نعم الحليم
ضاقت بي الأرجاء مما ألتقي
فارأف بنا يا أيها الأب الرحيم
عاقل :
أهلا وسهلا مرحبا يا ابن الحليم
يا كاملا في كل ما يرجو حكيم
يا ابن الحبيب ويا حبيبي ما الذي
أضناك حتى صرت في رق النسيم
إن كان من حق فلا تطع الهوى
تندم وإلا صرت حيا كالعديم
ما لي أراك يخامرك الذهول، وقد اعترى زهرة شبابك الذبول. إن كان ذلك من حب السيدة لطيفة، فحالتك يا ولدي مخيفة، وإن العاقل من عرف نفسه، وملك هواه وحسه، والجاهل من أطاع هواه، حتى أودى به وأرداه. واعلم أن السيدة لطيفة، حسيبة شريفة، لا تلبس غير متاعها. وأما أنت فمن أتباعها. فابتغ في غرضك النظير؛ فإن النجم لا يقترن بالبدر المنير، ولا يجرنك جنون الغرام لشرب كاس الحمام.
لطيف :
ناشدتك الله أيها الفيلسوف، لا تحرمني من فضلك المعروف. فمن المحال أن أسلو هواها، أو يروق لعيني سواها، وإن معالجة المنون أهون من معالجة الجنون.
عاقل :
كل ما قلته يا ولدي صحيح، لا يحتاج للتصريح. وإني لم أقل لك ما قلت إلا بعد أن أعيتني الحيلة، وضاقت في وجهي سبل الوسيلة، ولم يبق علينا غير باب واحد. فإن لم يفتح لنا فقل يا خيبة المقاصد، وذلك أن الوزير نعيم له أخ كريم، وهو الذي رباه، وأحسن مثواه. فلا يرد الوزير كلامه، ولا يصد مرامه. فهلم بنا لنرجوه في هذا الشان، وإن ساعدنا فقد أسعدك الزمان. (يخرجان)
المنظر الثالث (في بيت الوزير نعيم.)
نعيم :
ما أثقل عبء الوزارة، وأصعب مسئولية النظارة. فالوزير مسئول أمام الله، ومحاسب عند الملك ورعاياه. فعليه تنظيم الأحكام المدنية، والمحافظة على الحقوق الوطنية، ومراعاة السياسة في الخارج والداخل ؛ ليدوم أمان الشعب في الآجل والعاجل. لا يقر له قرار، ولا يخلو ساعة من الأفكار. فهنيئا لمن تخلى عن الدنيا وأتعابها، وتفرغ للعبادة وأخذ في أسبابها.
رفيق الخادم :
إن أخاك الأمير صالح، يا أيها الوزير الصالح، مقبل إليك، وقادم عليك.
نعيم :
ليأت بالإجلال، في العز والإقبال. إن حضور أخي في غير الوقت المعتاد، لا ريب لأمر هيج منه الفؤاد.
صالح :
لا تزل في طيب عيش
راقيا أوج السعود
في هناء وافتخار
راغما أنف الحسود
نعيم :
دمت في عز ومجد
يزدهي منك الوجود
ظافرا من كل سعد
أيها الأخ الودود
صالح :
إني أتيت الوزير في أمر شأنه خطير، وهو كما في علمك أن لطيفا شاب أديب، وعاقل نجيب، أصيل النسب، طيب الحسب، متضلع من العلوم، منطوقها والمفهوم، فضلا عما هو عليه من جمال الذات، وحسن الصفات، وكان والده حليم، عليه رحمة الرحمن الرحيم، أخبرني أنه يريد القرب من حضرتكم المنيفة، ويخطب لولده السيدة لطيفة. فحانت المنية قبل بلوغ الأمنية، وبقي هذا الأمر متمكنا من لطيف، عن تالد لطريف، وقد جاء الفيلسوف الكامل، الحكيم عاقل، متوسلا بي إليك يا عظيم المروة؛ لما لنا من حقوق الأخوة، وهذا ما دار عليه الحديث وجرى. فانظر يا أخي ماذا ترى.
نعيم :
ما كنت أحسب أن تحادثني في هذا الأمر، وأن ترضى لبيتنا الشريف أن يدخل في نسبه مثل لطيف، ويصاهرنا رجل من آحاد الناس، ويتساوى القدم بالراس، وهل يغرب عن فكرك الثاقب، أن مراعاة الكفؤ أمر واجب، وهلا حفظت يا أعز الناس «تخيروا نطفكم فإن العرق دساس»؛ لكيلا تنحط الأحساب، وتختلط الأنساب، ويختل النظام، وهذا رأيي والسلام.
صالح :
لله رأيك ما أحكمك! ولله درك ما أفهمك! لقد راعيت منهاج الرشد، وراعيت عرف البلد، ولكنك تركت الحقائق ظهريا، ونبذت الحكمة نسيا منسيا، وسمعت أقوال العامة، ونظرت بأعينهم اللاحة، ولم تتذكر يا رفيع الجناب.
فإذا نفخ في الصور فلا أنساب . أما سمعت يا راحة النفوس، ما قاله جالينوس: الفخر بالهمم العالية، لا بالرمم البالية؟! أما قرأت أيها الأخ النفيس، قول أرسطاليس: المرء بأدبه لا بنسبه؟! فالأصوب إجابة طلب لطيف، وأن تتصرف معه أحسن تصريف. فإن الكفاءة ليست بالمال، ولا المنصب العال. فتلك أعراض تزول، وأحوال تحول، وإنما الكفؤ بالعقل، والأدب والفضل، ومثابرة التقوى، في السر والنجوى. قال جل شأنه ورعاكم:
إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، وقال تعالى وهو أحكم الحكماء:
إنما يخشى الله من عباده العلماء . فهذه حكم أزفها إليك، وأعرضها عليك، ثم أتبعها بنصيحة مهمة، تجلو هذه الظلمات المدلهمة، فاجعلها نصب عينك، ولا تجعلها فراق بيني وبينك، وهي أن لطيفا يعشق لطيفة، وهي تحبه وتحب تلطفه، وأنت تعلم أن سلطان العشق قادر، وحكمه للملوك قاهر. فحذار حذار من الامتناع، ومعاكسة الأوضاع، فتعض بنان الندم، وتقرع سن السدم.
نعيم :
لقد كان بودي يا روضة الفضل الوريفة، أن يقترن لطيف بلطيفة، لولا الموانع التي ظهرت إليك، ومانع آخر لا يخفى عليك، وهو أن ابن وزير التجارة، قد خطب لطيفة الغدارة، وقد أجبته للطلب، وقلت نعم المخطوب ومن خطب. فكيف يسوغ بعد ذلك يا أخي المنيف، أن يقال بخطبة لطيف. فأرجوك أن تصده عن هذا المرام، وألا يعاودني أحد بهذا الكلام، وإلا فأذيقه البوار، وأنفيه عن الديار.
صالح :
الأمر منك وإليك، والله سبحانه خليفتي عليك.
نعيم :
لا تنسني من دعائك، ولا تحرمني من رضائك (يخرج صالح، فيقول لرفيق) : اذهب يا رفيق، وأت بالسيدة لطيفة بغير تعويق.
رفيق :
طوعا يا صاحب الأصل العريق. (يخرج)
نعيم (لنفسه) :
هل كان أخي يهددني بكلامه؛ ليتوصل إلى مرامه، ومن هو لطيف الذي أقرع سن الندم عليه، وأخشى وصول الأذى منه وإليه. فها أنا أختبر السيدة لطيفة، وأستعمل معها العبارات اللطيفة، وهنالك يكون لكل كلام مقام، ولكل مبدأ ختام. (تدخل لطيفة)
لطيفة :
طوعا لأمرك سيدي
قد جئت في هذا المقام
فاسلم ودم يا والدي
راق إلى أسنا مقام
نعيم :
أهلا وسهلا بالتي
هي جنتي وهي المرام
أهلا وسهلا فاجلسي
وتدبري معنى الكلام
اعلمي أيتها السيدة العاقلة، واللطيفة الكاملة، أني دعوتك لأعرض عليك أمر زواجك، واختيار عرسك لابتهاجك، فإن الأمير حسيبا أكثر الترداد؛ ليفوز من زواجك بالإسعاد. فماذا ترين، وبماذا تشيرين؟
لطيفة :
أمرك يا والدي مطاع، وواجب الاتباع.
نعيم :
إذا أبشره الآن، بقبولك الاقتران.
لطيفة :
لا تعجل يا والدي الأبر، بإنجاز هذا الأمر. حتى تجرب الطالب، وتختبر أخلاق الخاطب. فإني رأيت منه غلاما جهولا، لا يعرف من العلم أصولا، زينته الملابس، وحليته الحلي كالعرايس، مأواه الحانات، وحديثه خرافات، ومثله غير جدير بخطبة بنتك، ولا أن يكون في عداد أهل بيتك. فهذا ما أعرضه عليك، والأمر منك وإليك.
نعيم :
لله درك يا بنتي! يا شمس سماء بيتي. ما أكمل عقلك، وأغزر نيلك! فإني أيضا سمعت من الناس أن حسيبا جاهل خناس، ولكن ما حيلتي أيتها الفهيمة، في عوايد شعبنا القديمة، وهي الأخذ بعلو النسب، وكثرة المال، لا بمراعاة الفضل والكمال. غير أني سأسعى بكل جهدي في إبطال هذه العوائد، الخالية من الفوائد، وأجعل فاتحة هذا الباب المنيف زواجك يا ابنتي بلطيف، فإنه شاب كريم، وفاضل مستقيم. فبماذا عقلك يشير، يا ربة التدبير؟
لطيفة :
إن لطيفا يا رب العوارف، ذو علم ومعارف، وله نخوة وشهامة، وهو جدير بكل كرامة. فإن رأى سيدي أنه أهل للمصاهرة، والنسب والمعاشرة، فعجل بالأمر بما تختار، فإني لك من ضمن الجوار.
نعيم :
وهل ترغبين التعجيل بذلك؟
لطيفة :
نعم، وقيت شر المهالك.
نعيم :
وهل تفضلين لطيفا الحقير، على حسيب الأمير؟ وهل بلغ من قدرك يا خسيسة، أن تخاطبيني مخاطبة السيدة الرئيسة؟ وهل أنت مستقلة بنفسك حتى تختاري من تشائين لعرسك؟ وهل أضلك الغرض، حتى استبدلت بالجوهر العرض؟ فاذهبي يا نحيسة القران، ولا تريني وجهك من الآن (تخرج لطيفة، فيقول لرفيق) : اذهب وادع السيدة عريفة، والدة السيدة لطيفة، ولا تخبرها بشيء مما حصل.
رفيق :
أمرك أيها المولى الأجل. (يخرج)
نعيم :
هذا جزاء من فرط للأبكار، في مصاحبة الشبان بالعشي والإبكار، وإني سأعرض الأمر على زوجتي، لعلها تكشف عني بليتي، وإن هي سلكت مسلك بنتها فلا بد من مقتها، وبكتها.
عريفة :
أنعم صباحا أيها المولى الوزير
واسعد بما يرضيك يا نعم المشير
وارقى إلى أوج السيادة ظاهرا
بالحزم والإقبال والعزم الخطير
نعيم :
أهلا وسهلا ربة الفكر المنير
يا من غدت في الفضل ليس لها نظير
قد فاجأتني الحادثات وأذهلت
فكري فكوني زوجتي نعم النصير
إني دعوتك لأمر أزعج بالي، وهيج بلبالي. فساعديني بساعد الهمة، واكشفي عن زوجك هذه الملمة.
عريفة :
حفظك الله ورعاك، من كل سوء وقاك. فما هذه الغمة، والنازلة المهمة؟
نعيم :
إن أخي الأمير صالح طلب زواج لطيفة بلطيف الطالح، فاستحضرت لطيفة لأختبر أمرها، وأعلم سرها وجهرها. فأخبرتني بغير مبالاة إنها تريد لطيفا وتهواه، وأما خطبة حسيب فرفضتها لمعايب فيه، أظهرتها، فما رأيك يا نعم القرينة، ويا ربة الحكم المبينة؟
عريفة :
إنك تعلم يا حضرة الوزير، أن الزواج أمر خطير. فإن عليه مدار العمران، إذا اتفق الزوجان، وإن اختلفا فهنالك الدمار، وخراب الديار؛ ولذلك قرر الحكماء، والفلاسفة العلماء، لزوم مشاورة البنت في زواجها، والسير في الأصلح على منهاجها، وأن تختار لنفسها من تريد لعرسها ولا ينبغي الضغط على أفكار الأبكار، ولا الحجر عليهن في انتقاء أزواجهن الأخيار؛ لما يترتب على ذلك من حسن المعاشرة، والمصاحبة والمسامرة، وليس بالعار أن يكون الزوج أقل من الزوجة رتبة، فإن ذلك لا يشين المقارنة والصحبة، وأما إذا كان الزوج عالي النسب، وعديم التربية والأدب، بعيدا عن الفضائل، قريبا من الرذائل، فتكون الغنيمة البعد عنه، والقرب عن الجحيم خير من القرب منه. فلا تقهر لطيفة على مصاحبة من لا تريد، فإن ذلك من الحكمة بعيد، واسمع نصيحة أخيك الأمير صالح، فإنه نعم الأخ الصالح.
نعيم :
كنت أود أن تساعديني على ما أختار، فأصبحت معك كالمستجير من الرمضاء بالنار، وما آفة البنات غير جهل الأمهات، فبشري يا عريفة، بنتك لطيفة بالفتح والنصر القريب، إذا هي رضيت بحسيب، وحذريها بكل تعنيف من ذكر اسم لطيف، وإلا صببت عليها العذاب، وأبعدت لطيفا عن الأهل والأتراب (لنفسه) : وإني سآمر على لطيف المهان، بالحجر فلا يزورنا مدى الزمان، ولولا خاطر أبيه لعزلته، وعن الأوطان أبعدته. (ثم يخرج)
عريفة (لنفسها) :
مسكينة يا لطيفة! مسكين يا لطيف! لقد تصرف معكما الوزير أسوأ تصريف، وحالت بينكما الأيام، وبين بلوغ المرام. فيا ليت شعري ماذا سيكون؟ إنا لله وإنا إليه راجعون. (تبكي وتدخل عليها لطيفة.)
لطيفة :
ما الذي يبكيك يا أماه؟ وما الذي أمر به والدي وأمضاه؟ هل صنع معك يا أمي الحنينة، كما صنع مع بنتك المسكينة؟
عريفة :
آه يا لبنتي قد ذبت من الوجل، وخاب منا الأمل، وذلك لأن أباك قد أبى لطيفا وأباك، وصمم على اقترانك بحسيب، وإبعاد لطيف عنا وعن كل قريب. (تدخل أنيسة)
أنيسة :
إن لطيفا يا مولاتي بالباب.
عريفة :
أدخليه بغاية الترحاب. (للطيفة)
لا تجزعي يا لطيفة الصفات، وسلمي الأمر لبديع السموات. (يدخل لطيف)
لطيف :
إن مولانا الوزير يا ربة العفاف، لم يسلك مع الأمير صالح سبيل الإنصاف، وصمم على اقتران لطيفة بحسيب، وأصبح لطلبي غير مجيب. فهلا تكلم الوزير معكما بهذا الكلام؟ وإن كان حصل فهل حرب أم سلام؟
عريفة :
إن غاية الكلام، قد رفض الوزير طلبكما والسلام. (يدخل رفيق)
رفيق :
فز يا سيدي بنفسك قبل أن يدخلك الوزير في رمسك؛ فإنه أمر بالتحريج عليك، فلا تصل أبدا إلينا ولا نصل إليك، وإنك لو خالفت يقتلك شر قتلة، ويجعلك للعالم مثلة. فالبدار يا مولاي البدار، ولا ترجع ثانية إلى هذه الدار.
لطيف (للطيفة) :
ودعيني أيتها الملك السماوي، واغفري لي ما يكون فرط من المساوي.
يا حياة الروح رقي
قد دنا وقت الوداع
أنت في أيديك رقي
هل ترى يأتي اجتماع
لطيفة :
يا لطيف كيف حالي
بعد هذا الافتراق
مر عيش كان حالي
بلغت روحي الراق
لطيف :
ودعيني ودعيني
قبل ما الوقت يفوت
وإذا مت ارحميني
إنني اليوم أموت
لطيفة :
ضاقت الدنيا بنفسي
وحكت سم الخياط
ليتني جاورت رمسي
وانقضى هذا العياط
رفيق :
أيها العشاق صبرا
للمكارب قدير
إن بعد العسر يسرا
والهنا بعد العسير
الجميع :
يا كريم انظر إلينا
منك عطفنا بالمرام
وأسبل الستر علينا
في ابتداء وختام (ستار)
الفصل الثالث
المنظر الأول (في بيت لطيف.)
لطيف :
لم يبق إلا نفس خافت
ومقلة إنسانها باهت
ومهجة ذابت بحر الجوى
والوجد إلا أنه ساكت
يرثي له الشامت من رحمة
يا ويح من يرثي له الشامت
أواه! وا حر قلباه! بعاد وحرق، وسهاد وقلق، وفؤاد تتلظى ناره، ودمع تتدفق بحاره. فما أقساك أيها الوزير نعيم! وما أظلم حكمك الذي أقعدني في العذاب المقيم! ولا ذنب لي غير حب السيدة لطيفة، وعشقي لشمائلها اللطيفة. فبدلا عن كونه يمنحنا بالاقتران؛ ليطيب لنا الزمان، فإنه رفض سؤالي، وخيب آمالي، وغره الطمع، والكبر والجشع، إلا اختيار حسيب مع ما هو عليه من الجهل المعيب. مع أن السيدة لطيفة لا تميل إليه، ولا تقبل عليه. وما كفاه ذلك، حتى أراد إيقاعي في المهالك، فأمر بألا أدخل داره، ولا أزور جاره، كأني الوباء الأصفر، أو الموت الأحمر. (يدخل سالم)
سالم :
إن السيدة أليفة، مربية الأميرة لطيفة، تريد الدخول عليك، والمثول بين يديك.
لطيف :
آه أليفة! مربية السيدة لطيفة، وا فرحتاه! وا حر قلباه! أحضرها يا سالم.
سالم :
أمرك يا ابن الأكارم. (يخرج)
لطيف :
ليت شعري ما الذي جاء بها هنا؟! عسى يكون معها الفرج والهنا، ولكن من أين يأتي الفرج، بعد ما ذابت الأكباد وتقطعت المهج! (تدخل أليفة)
أليفة :
حيتك غادية الخيال
في النوم إذ عز الوصال
وسقاك مزن الصبر من
عزب الرضا طيب المنال
ما بال جسمك شاحبا
حتى غدا رق الخلال
ما بال عقلك ذاهلا
يهذي وفكرك في اختلال
فأصغ لقولي واستمع
مني كما تبغي مقال
تهدي إليك لطيفة
أذكى سلام مع كمال
وعليك تعرض وجدها
وسهادها طول الليال
وإليك تبدي شوقها
حتى غدت مثل الخيال
هذا هواها قل لنا
هل أنت من هذا المثال
لطيف :
عقلي وفكري في اختبال
أبدا وجسمي في اعتلال
أبكي فيبكي المزن لي
وتذوب من ناري الجبال
لا ميت أرجى ولا
حي فأرجى في مجال
هذا محصل حالتي
أفهل رأيتم لي مثال
أليفة :
إن سيدتي بعثتني إليك؛ لأعرض حالتها عليك، وذلك أن أباها أمر بحبسها في الدار، وأنها لا تزور ولا تزار؛ لأنها رفضت خطبة حسيب، وقالت: إن قلبها لغيرك لا يجيب، وأصبحت أسيرة الفراش، تتهافت على النار كالفراش، وطالما أحضروا لها الأطباء والحكماء الألباء، فما أمكنهم تشخيص الداء، ولا معرفة الأدواء، وانقطع من صحتها الأمل، وخاب في شفائها العمل، وهي مع ذلك تترنم بذكراك، ولا ترتاح لغير هواك، وتقول لك إنها على عهدك القديم. فهل أنت يا لطيف على عهدها مقيم.
لطيف :
أبلغي عني لطيفة
أنني فيها عليل
وأخبريها يا أليفة
عن ضنى جسمي النحيل
حالتي فيها مخيفة
وأنا فيها قتيل
واسعفيني يا أليفة
منك بالرد الجميل
مغرم زاد انتحاب
من ضنى الوجد الأليم
عن هواها ما أناب
وعلى العهد مقيم
يبتغي منها جوابا
هل ترى تشفى السقيم
واسعفيني يا أليفة
منك بالرد الجميل •••
قبلي الأرض لديها
بوقار واحتشام
وانشدي قلبي لديها
وأبلغي عني السلام
واعرضي شوقي عليها
واوصفي حال الغرام
واسعفيني يا أليفة
منك بالرد الجميل
أليفة :
حالك من حالها، ووبالك من وبالها، ولكنها أجدر منك بالإشفاق؛ لأنها مقيدة وأنت في عالم الإطلاق، وعلى كل حال فبالصبر الزم، والتسليم للقدر أسلم. فأستأذنك في الذهاب يا رفيع الجاه، فقد تركتها على آخر رمق من الحياة. (تخرج مسرعة)
لطيف :
شتات وأسقام ووجد مبرح
وسقم وآلام وشوق وأوجال
فيا دارها بالخيف إن مزارها
قريب ولكن دون ذلك أهوال (يدخل حازم)
حازم :
تفضل أيها الأمير الكريم، وأجب سيدي الفيلسوف في دار الوزير نعيم؛ لأمر مهم، وخطب مدلهم، وحذار من التواني طرفة عين. فقد ذهب الأثر والعين.
لطيف :
ما الخبر يا حازم، يا ذا الرأي الحازم؟
حازم :
غم سادم وهم صادم
وحزن قادم وبلاء هادم
حل بالرغم يا لطيف الحمام
فعلى عمرها اللطيف السلام
فاقتبل نعشها فقد شيعوها
بنفوس يذيبها الاحتدام
ها هو النعش مقبل يتهادى
في جلال يحفه الاحتشام
فالتزم يا لطيف صبرا جميلا
إن لله لا سواه الدوام
لطيف :
آه يا ويلاه! من ذا الذي مات، وأصبح من الرفات؟ ولماذا يدعوني الحكيم، في دار الوزير نعيم، مع ما بيننا من الجفوة، وما هو عليه من القسوة؟
أوضح الأمر ساءني الإبهام
وضنتني الهموم والأسقام
أوضح الأمر حازم إن صدري
يتلظى بالقلب فيه الضرام
حازم (لنفسه) :
من ذا الذي مات ... أقول له ... أقول ... لا ... نعم أقول. (للطيف) : أسفي يا مولاي لطيف، لقد تقلص ظل الصفو الوريف، وأصبحت القلوب للأحزان حليف، فإن الذي مات هي السيدة لطيفة.
لطيف (بنواح شديد) :
لطيفة ماتت! لطيفة ماتت ... آه ... آه! (يسقط)
حازم (لنفسه) :
ليتني ما أخبرته، ولا كنت بموتها عرفته؛ لأن خبر وفاتها وصل هذه الساعة لسيدي الحكيم، فذهب في الحال إلى دار الوزير نعيم، ولما سمع الندب والنواح، ورأى الوفود من جميع النواح، بعثني لآتيه بالأمير لطيف، بغير مهلة ولا تسويف؛ ليمشي في الجنازة مع الخواص المختارة، فحصل له ما حصل، وكاد يأتيه الأجل فإني أتوجه الآن وأخبر سيدي بما كان. (ثم يفيق لطيف.)
لطيف :
أيها الناس هكذا الأحكام
كل نفس يأتي عليها الحمام
ويموت الطبيب وهو عليل
يتعنى كما تموت النعام
ويموت الحكيم وهو فقيه
مثل ما يزهق الجهول أطلام
كلنا مائت وفي الموت تلغي
راحة النفس من عناها الكرام
يا حياتي اذهبي لطيفة ماتت
وحياتي من بعدها إعدام
أخذتها المنون في عنفوان ال
عمر نهبا وعز منها المقام
قصف الموت غصن روض خلالها
فبكت السماء وناح الحمام
خطف الموت روحها فتفانت
لفناها الأرواح والأجسام
ليتني مت واسترحت من الدن
يا وما أكمنت لي الأيام
عدم كله الوجود ويفنى
كل شيء وللإله الدوام
تعسا لك يا موت ما أظلمك! وتبا لك يا حمام ما أشأمك! قطعت زهرة حياتها من روض شبابها، وغيبت شمس ذاتها من أفق أترابها. وأنت يا أباها الظلوم، ماذا أفادك عنادك المشئوم؟ أوقعت نفسك في خطية ليس لك منها فكاك، وأوقعتني معها في مهاوي الهلاك، ولكن لا بد لي من الذهاب إلى تربتها، وأعمل كل حيلة لمشاهدة طلعتها ثم أنقلها إلى داري في الظلام، وأهيئ له غرفة كغرفة الزفاف بالتمام، وهناك أندبها وأبكيها، وأقضي حق الأحزان وأرثيها، حتى إذا لاح عن الصباح النور، أعيدها إلى ظلمة القبور، وأضعها في رمسها، وأدفن نفسي مع نفسها؛ لأموت ظافرا بالمرام، وأسأل الله حسن الختام.
المنظر الثاني (مقبرة إسلامية في الخلاء وبها اللحاد خاشع.)
خاشع :
ما أغفلك يا ابن آدم، وما أجهلك في هذا العالم! تبني القصور، وتعمر الدور، والموت لك بالمرصاد، يخطفك من الأهل والأنجاد. فبينما أنت في أعلى القصر، وإذا بك نزلت في أسفل القبر، وهذه الشواهد، على ما أقول شواهد، وكلنا نرى ذلك، ولا ننكر ما هنالك، ولكن عميت البصائر، وخلت الضمائر، وإليها الغرور، عن حقائق الأمور. تموت الأجداد والآباء، وتفنى البنات والأبناء، ونحن في غفلتنا غافلون. إنا لله وإنا إليه راجعون. يا ابن آدم تعمل الأفراح، وتعاقر الراح وتغازل الغزلان، وتساجل الألحان، وتنتقي العرائس، وتقتني النفائس، وتكنز المال، وتطلب المنصب العال، كأنك خالد في دنياك. فأف لك يا أفاك، تتجاهر بالمعاصي، ونسيت يوم الأخذ بالنواصي، يوم ينظر المرء ما قدمت يداه أمامه، يوم يعض الظالم على يديه ندامة، ويتقلب من جمر العقاب على جنبيه، فيا ليت شعري أما في هذه القبور زواجر؟! أما في هذه الرفات موعظة لناظر؟! يتساوى عندي المالك والمملوك، والأمير والصعلوك، كلهم يأتيني في ثوب الكفن رافل، ومن هذا الباب داخل ... وأنت ما لك يا خاشع وهذه الأفكار، وأنت رجل لحاد حفار، في النهار أدفن وأواري، وفي الليل أنعكف في داري، وقد دفنت اليوم في هذا القبر بنت الوزير، واكتسبت من دفنها ثلاثة دنانير، وها نحن الآن بعد العصر، فأنا أتوجه إلى بيتي وأدعو للسلطان بالنصر (يشعر بحركة رجل من بعيد) : أرى رجلا مسرعا في الحضور، وبيده رياحين وزهور، ولا بد من انتظاره هنا، عسى يكون في حضوره الهنا، ويبشرني بقدوم جنازة أخرى، فأزداد مكاسب كبرى. (يدخل لطيف)
لطيف :
السلام عليك أيها الرجل الطاهر، وما سبب وقوفك بين المقابر؟
خاشع :
وعليك السلام. أنا عمك خاشع اللحاد. أدفن الملوك والعباد، ومنذ سنتين دفنت رجلا فقيرا في هذا القبر، واليوم دفنت فيه بنت الوزير صاحب الأمر؛ ولذلك فإني واقف يا طاهر الأنفاس، أضحك متعجبا من غفلة الناس.
لطيف :
أهذا قبر لطيفة؟ أهذا قبر الطاهرة العفيفة؟ ما كنت أعهد قبلك يا مطلع النور، أن الأقمار تخفيها القبور.
عليك سلام لله يا ساكن الرمس
فلو أنت تفدى كنت أفديك بالنفس
لطيفة هل تدرين فيك توجعي
وأن حياتي بعد موتك في نحس
سقى لحدك الفردوس سحب مدامعي
فدمعي مطلوق ونفسي في حبس
خاشع :
ارحم دمعك أيها الباكي، وأشفق بنفسك يا أيها الشاكي. لقد فتت الأكباد، وهيجت أحزان عمك اللحاد. فما سبب حضورك الآن، والندب في هذا المكان؟ فأخبرني يا ولدي بسرك ونجواك، وقل من أنت وما هي بلواك، لعلي أساعدك في أحوالك، وأنشلك من أوحالك؟
إذا كنت في كربة فاستعن
بمن كان همته عالية
ولا تحتقر قبل أن تختبر
فرب صغير هو الداهية
لطيف :
أنا لطيف العديم، ابن الأمير حليم.
خاشع :
إن المرحوم أباك يا ولدي كان سيدي وسندي، وله عندي مآثر كالصبح السافر، وقد سمعتك تقول إن اسمك لطيف العديم. فلماذا يا سيدي هذا التعبير الأليم، ولماذا تندب قبرها وتبكيها؟ لعلك أنت الذي خطبتها من أبيها.
لطيف :
نعم الأمر كذلك، وأنت من أخبرك بذلك؟
خاشع :
إنهم بعد أن واروها التراب، وانصرف أكثر الأحباب، سمعت أباها يقول لأخيه الأمير صالح، ليتني سمعت منك تلك النصائح، وكنا أحسنا التصريف، وقبلنا خطبة لطيف، ورأيت الوزير يعض بنان الندم، ويقرع سن السدم. فهذا هو سبب معرفتي الخبر أيها الأمير المفتخر.
لطيف :
أشكرك على همتك، وجزيل كرمك، ولكن لي إليك حاجة، أطلبها منك بغاية اللجاجة، وإذا أنت قضيتها لي يا خاشع، أسبغت عليك إنعامي المتتابع، وذلك أنك يا أعز الأحباب، تكشف عن جسمها التراب، وتسمح لي بأن أراها، وأتمتع بمشاهدة محياها، مدة نصف ساعة من النهار، وخذ أجرة عملك هذه الخمسين دينار، ونبادر إلى ردها، ومواراتها في لحدها.
خاشع (لنفسه) :
خمسين دينار! يا عمار الديار! لقد صرت يا خاشع بين العباد، أغنى من كل لحاد، وما هو طالع من رؤيتها، ونعيدها إلى تربتها. فهو يتنعم، وهي لا تتألم (للطيف) : أنا خادمك خاشع، ومحسوبك المتواضع، لا أعصي أمرك طول حياتي، ولو كان في ذلك مماتي، وها أنا ذاهب لآتي بالفلق والفاس، والله يحميك من عيون الناس. (يخرج)
لطيف (لنفسه) :
إن الرجل أدهشته الدنانير، وإن هذا من عناية المقادير، والألزم أن أعطيه قدر ما أعطيه عساه يسمح لي بحملها إلى البيت.
خاشع (يدخل) :
أنا أحفر بالفاس يا أعز الناس، وأنت يا ابن الأنجاب تنقل بهذا الفلق التراب، وكنت أود أن ينوب عنك أحد الأتباع، ولكن يا ولدي كل سر جاوز الاثنين شاع. فهلم للعمل في الحال قبل أن يأتي ما لم يكن في البال.
لطيف :
قد أعجبتني نباهتك، وأدهشتني عنايتك، وإني أطلب منك أمرا آخر، هو عندي الأول والآخر، فإن قبلته كان أرفع في المروة، وأليق بالشهامة والفتوة، وأعطيك أيضا خمسين دينار، وماية أخرى إذا طلع النهار.
خاشع :
ما هو ذلك الأمر يا قرين السعد والنصر؟ فإني أقضيه في مدة وجيزة، حتى لو طلبت مني روحي العزيزة، حفظ الله نفسك، وأدام عليك أنسك.
لطيف :
إني أريد نقل جثة المرحومة إلى داري التي هي لك معلومة، ومن قبل طلوع النهار أتيك بها في الاستتار، وها هي يا خاشع الدنانير، فاقبضها ولكن في أمان اللطيف الخبير.
خاشع :
أهلا بدينار الذهب
همي به الآن ذهب
فيه الأماني والطرب
يا فرحتي يا فرحتي
أمشي حليفا للسرور
مستأنسا بين القبور
أفوق أصحاب القصور
يا فرحتي يا فرحتي
بأمرك مولاي أحفر جميع القبور، وأجعل سكانها كيوم النشور، وليس علي في ذلك حرج، إذا كان فيه لك الفرج، ولكن اصبر يا سيدي حتى تغيب الشمس، وتطمئن من الرقباء النفس، ثم خذها لمنزلك السعيد، واصنع بها ما تريد.
لطيف :
بارك الله فيك، وما أحن هذا الدر من فيك، وها أنا ذاهب لأجهز غرفتي على مقتضى إرادتي، وعند إتمام المرغوب أتيك بعد الغروب. (يخرج )
خاشع :
إني أفوز بالذهب
وأجتلي كأس الطرب
حتى إذا نلت الأرب
أقضي لشأني ما وجب
وهو يفوز بالرمم
ويحتظي بذا الصنم
ويحتسي كاس الغمم
لكل امرئ ما كسب
فالدهر أحواله عبر
يا سعد من فيه اعتبر
هذا غني في كدر
وذا فقير ما اكتسب
والكل مثواه التراب
يا فوز من لله تاب
مقدما قبل الذهاب
ندامة مما ارتكب
لطيف (لطيف يدخل ومعه خادمه سالم) :
البدار، البدار، فقد ولى النهار، وحذار من فوات الفرص؛ لكيلا نتجرع الفصص.
خاشع :
إني كنت لا أريد تسليمك الرمة، ولكن شفقتني أحوالك المغمة، فاخترت أخف الضررين، ورضيت أهون الشرين، فأوصيك ألا تفرط في الحزن، والقولة والشجن، ولا يجرك جنون الغرام إلى أن تسين بالذلة والآلام، واعلم أن تذكار ما مضى يجدد الأحزان، وكثرة التحسر داعية الخسران، والعاقل من تنبه من نومه، وعمل لغده ويومه. فاذهب بسلام وارجع بوعد الكرام.
لطيف :
احملوا الصندوق حالا
نحو داري يا كرام
واكشفوا عني النكالا
واسعفوني بالمرام
احملوا لطفا لطيفة
وانظموا دار الزفاف
وارحموا نفسي الضعيفة
يرحم الله الضعاف
خاشع وسالم :
سر بعون الله والزم
في الهوى حسن الشئون
وارضى بالمقدور واعلم
أن ما قدر يكون
الجميع :
يا إلهي استر علينا
واكفنا شر اللئام
وأوصل الخير إلينا
وأعطنا حسن الختام
الفصل الرابع (قصر لطيف وقد زينه بالأنوار والأزهار، وأجلس جثة لطيفة في غرفة العرس.)
لطيف :
خليلي هل هذي لطيفة يا ترى
ولا خيال الطيف في عالم الكرى
وما أنا وسنان وليس الذي أرى
خيالا فما هذي المناظر يا ترى
لطيفة ماتت لا وحقك لم تمت
وها نحن في عرس الزفاف الذي جرى
أراها على عرش الزهور قد استوت
منعمة لكن فؤادي تسعرا
أرى هيكلا من غير روح وهالها
هي الروح قد وافت لتعلم ما جرى
ما هذا الخيال؟! ما هذه الأحوال؟! (يتخيل وصول والده) : أهلا يا والدي حليم. مرحبا بأبي الرحيم. ها أنا العريس، وها هي العروس. فلنشرب على حب الزفاف الكئوس. (يقترب من لطيفة.)
خذي الكاس مني يا لطيفة واشربي
بسر زفاف أمره حير الورى
لطيفة طال الصمت هذا أبي إني
مجيبه لطفا منك فالحظ أسفرا
قد طال منك السكوت، وأخذت يا لطيفة الصموت، واعتضت عن الحركة بالسكون. فهل هذا منون أم هذا جنون؟
منون وموت يا لطيفة أرسلا
لروحك جيشا لا يرد وعسكرا
غدا أجشمك الشفاف يرتاح للثرى
وكان إذا مر النسيم تأثرا
لطيفة ماتت كيف يحيى لطيف
نعم هو ميت بعدها لن يعمرا
أيها الناس، ما هذا الوسواس؟! عفوا يا سيدي الوزير نعيم، عاملني بعفوك وأدخلني النعيم. أنت الذي قتلتها بأعمالك العنيفة، وأفكارك الخسيفة. لا، لا. أبعد عني، ولا تأخذها مني. دون أخذ لطيفة ضياع الأرواح. خذها من يد شجاع اللحاد.
أمطري يا سماء رقش الأفاعي
فوق رأسي ولا تريني حياة
أمطري أمطري صواعق موت
مهلكات حتى أساوي الرفات
لم أمت قبلها فلست وفيا
وبذا الذنب أستحق الوفاة
قرب الوقت يا لطيفة قومي
وانظريني عساي ألقى نجاة (يسمع طرقا على الباب فيقول للخادم):
انظر من الطارق في هذا الليل الغاسق.
سالم :
إنه يا صاحب المعروف أستاذنا الفيلسوف، وهو مقبل عليك، يريد الدخول إليك.
لطيف :
افتح له الباب، وأدخله بغير ارتياب، وأجلسه في رحبة الدار.
سالم :
أمرك يا ذا الاعتبار. (يدخل عاقل)
عاقل :
عساك بخير يا لطيف وصحة
يصان بها طيب الحياة من الأذى
فبئس امرؤ بالسخط أمضى زمانه
ومن كان يرضى بالمقادير حيزا
لطيف :
أبي زارني يا سيدي منذ ساعة
تقضت ومن خمر الزفاف تنبذا
فبئس امرؤ يرضى الحياة ذميمة
ومن كان يبغي الموت والحب حبذا
عاقل :
كيف زارك أبوك يا لطيف؟ وأين هو زفافك المنيف؟ هل رأيت ذلك في عالم الخيال؟!
لطيف :
سأذهب وأعود بلا إمهال.
عاقل (لسالم الخادم) :
ما بال سيدك في ذهول، وكلامه غير معقول؟!
سالم :
إني أعرف الخدمة بكل نشاط وهمة، وقد جهزت العشوة، وسأعمل لكم القهوة.
عاقل :
إذا أنت لا تعرف مساويه. فاذهب إليه وناديه.
سالم :
أمرك يا مولانا الفقيه.
عاقل :
إن أحوال لطيف متغيرة، وقواه العقلية متكدرة، وأصبحت صحته ضعيفة من فرط حزنه على السيدة لطيفة، ولماذا يا ترى تركني وصعد إلى الغرفة. (يعود لطيف)
لطيف :
شرفت داري يا حكيم
ومنحتني فضلا عميم
وأزلت وسواسي كما
خفضت من وجدي الأليم
فاسمح فديتك لي بأن
أرتاح في الليل البهيم
إني سأذهب عاجلا
وأعود فابق هنا مقيم
أو لا فرح أو لا ترح
إني على العهد القديم
عاقل :
أرقيك يا ابن أخي حليم
من كل شيطان رجيم
وأعيذ عقلك دائما
من كل وسواس زميم
ما بال فكرك ذاهلا
والجسم يا ولدي سقيم
فاجلس وقل لي ما دها
ك فإنني نعم الحكيم
لطيف :
اعذرني يا سيدي في هذا الحال، فإني أذهب وأعود في الحال. (يتركه ويصعد)
عاقل (لسالم) :
أظن يا سالم أن سيدك يحسبني لائم، فاصعد إليه بغير توان، وآت به إلى هذا المكان.
سالم :
أمرك يا رفيع الشان.
عاقل :
إن لطيفا بين صعود للقصر وهبوط، ورجاء في الأمل وقنوط، وإن حركاته غير حميدة، وسكناته ليست مفيدة؛ لأن قصره ساطع بالأنوار، تفوح منه أعطار الأزهار، وهذا دليل على الأفراح، والسرور والانشراح، ولكن صاحبه في هموم، وحسرة وغموم، وهذان ضدان، ونقيضان لا يجتمعان، وحينئذ فلا بد لي من إبعاد لطيف عن داره، وأجتهد في كشف حقيقة أسراره، فإنه شاب صغير، وبتصاريف الزمان غير خبير. فيا رب أعني على معرفة حقيقة الأمر، فإني أرى البلاء في هذا القصر. (يهبط لطيف)
لطيف :
يا قلب لا تشكو الصبابة بعدما
أوقعت نفسك في الهوى وهوانه
أشكو وأشكر باكيا متبسما
فاعجب بنا يا فيلسوف زمانه
عاقل :
إني سأكلفك يا ولدي بحاجة سهلة، وأرجوك أن تبادر إليها بغير مهلة، وذلك أني تناولت اليوم أمرا ملوكيا، وكان تنفيذه هذه الليلة أمرا مقضيا، غير أن ما أصابك اليوم أشغل أفكاري، فأتيت إليك ونسيت الأمر في داري مع أنه لا يمكن تأخير تنفيذه للصباح، فإن دون ذلك ضياع الأرواح، وإن شيخوختي والهرم، وعدم قوتي وضعف الهمم، كل ذلك يمنعني الاستطاعة على النهوض إلى داري هذه الساعة، فخذ مفتاح المكتبة، واركب تلك المركبة، واذهب يا ولدي في الحال، وآتني بالأمر بغير إمهال، فإن لي عليك حقوق، لا ينبغي مقابلتها بالعقوق.
لطيف :
إني لا أستطيع الحركة، ولو كان فيها ألف بركة، ولا يمكني مبارحة الدار قبل طلوع النهار. فأرجوك يا مولاي أن تختار سواي.
عاقل :
كيف تعاملني بهذه المعاملة، ونسيت واجب المجاملة؟ فارجع لعقلك وانتبه، وبادر لتنفيذ ما أمرتك به، وحذار من الخلاف في ذلك، وإلا أوقعتك في المهالك.
لطيف (لنفسه) :
كيف أترك عرسي، وأفارق الآن حياة نفسي، ولكن للضرورة أحكام، وللقوة احتكام، وإني أتوجه وأعود بكل تعجيل، ثم أصرف هذا الثقيل، وأرجع للعويل والنواح حتى يطلع الصباح (لعاقل) : عفوا يا مولاي الفيلسوف. عاملني بحكمك المعروف، وإني مطيع لك بحسب المرام، ولكن.
عاقل :
اذهب ولا تطل الكلام (يخرج لطيف، فيقول عاقل لنفسه) : لقد أدهشتني أحوال لطيف، وخوفني عليه عدم التصريف، وإن حنوي إليه ألجأني للتجسيس عليه، وها أنا صاعد إلى المقصورة؛ لكي أعرف المادة والصورة.
سالم (لنفسه) :
إن الحكيم استعمل الحيل الشيطانية؛ ليطلع على سر القضية، وإن عظم مقامه يمنعني عن صد مرامه، وهذا ما كان سيدي يخشاه. فلا حول ولا قوة إلا بالله.
عاقل (لنفسه بعد أن صعد) :
إني أرى صبية في صدر القصر، على كرسي مكلل بالزهر، وإن جمالها الزاهر، وجلالها الباهر، يدلنا بغير شك، أنها من بيت الملك. فلا بد من معرفتها، والوقوف على حقيقتها.
يا فتاة قد تجلى
في سما العليا سناك
يا مهاة الحسن فينا
أسعد الله مساك •••
يا غزالا في سناه
قد جلى عنا الأسى
يا هلالا في سماه
أسعد الله المسا
إن التيه والدلال من مستلزمات الجمال، وإن الخفر والحياء زينة الفتاة الحسناء (يقترب منها أكثر فتسقط الفتاة على الأرض) : آه ... أغثني يا رباه. إني أخال الصبية ماتت، وفارقتها روحها وماتت، مما أصابها من الوجل، وشدة الخوف والخجل، حين رأتني دخلت في غرفتها، ووصلت بغير إذن إلى حضرتها، ولا شك أنها من بيت رفيع الشان، أو بنت أحد الأكابر الأعيان، وقد حسبتني جاسوسا إليها؛ لألقي القبض عليها. فارتاعت نفسا، وانزعجت معنى وحسا. فوقفت حركة الدم، وأداها ذلك إلى الموت والعدم. فوا فضيحتك يا عاقل! وما أعظم ذلة العاقل ! فيا ليت شعري أصرف هذه النازلة بأي تصريف؟! ويا خجلتي بأي وجه أقابل لطيف؟! آه! وا فضيحتاه! لقد فضحتك يا لطيف وفضحت نفسي. فيا ليتني مت قبل هذا ودخلت رمسي. هذا جزاء الجساس لكشف عيوب الناس.
عار على المرء أن ينسى معايبه
ويقتفي ما خفي من عيب أصحابه
ولو تدبر ما يعنيه مشتغلا
بعيبه عن سواه كان أولى به
يا أيتها الصبية، هل أنت ميتة أم حية؟ آه ما أظلمك يا موت في العباد! فهل كنت لنا بالمرصاد؟!
جئت ذنبا لم يأته قط قبلي
أحد من أصاغر وأفاضل
أين يا موت أنت هيا تفضل
وتعجل نحوي وخذ روح عاقل
ما هذا الانزعاج، والاضطراب والارتجاج؟ وما هي الفائدة، والصلة العائدة؟ فإما الهرب والفرار، وهو عين العار، وإما التدبير في تلاقي الأمور قبل كشف المستور، وهذا يا عاقل شأن كل عاقل. فها أنا أعيد تشخيص الصبية بكل طريقة طبية، عساها تكون في إغمى شديد، وغيبوبة عن الحس المريد (يقترب منها)
لا حركة ولا نفس، ولا أثر لطائر الروح في هذا القفص، وإنه لم يبق من التشخيص والاختبار غير شيء واحد في الأفكار، وهو هذه المرآة الطبية الصقيلة النقية، فأضعها أمام أنفها بكل انتباه، فإن كانت حية يظهر بخار نفسها على وجه المرآة. يا مجيب المضطر إذا دعاه، يا كاشف الضر والبلوى برحماه، يا كريم يا لطيف، ارحم عبديك عاقل ولطيف (يقوم بالتشخيص بواسطة المرآة)
ما شاء الله، الحمد لله، قد ظهر على المرآة بخار خفيف من تأثير نفسها الضعيف، وثبت لي أنها مصابة بالإغمى المكنون، وليس بها موت ولا منون، والألزم أن أبادر إلى فصدها؛ لترجع في الحال إلى رشدها (يقوم بالفصد)
إن هذا المقدار الذي نزل من دمها كاف لإزالة غممها. هذه أرواح منعشة، وروائح منعنشة تزيل الإغمى، وتبصر الأعمى. (تتحرك لطيفة)
لطيفة :
أين أنا؟ من جاء بي هنا؟ ما هذا الحال؟ أغثني يا متعال. ما هذه الأنوار الباهرة، والأزهار الزاهرة؟ ولمن يا ترى هذه الدار؟ وكيف وصلت إليها بغير اختيار ؟ أين مقصورتي؟ أين غرفتي؟ أين أبي وأمي؟ أين خدمي وحشمي؟ أليفة عريفة (لعاقل) : من أنت أيها الشيخ المصان؟ وهل تعرفني وتعرف كيفية وصولي لهذا المكان؟
عاقل :
إني يا غاية المنى لا أعرفك ولا أعرف كيف وصلت هنا، وإنما أعرف أن رب هذه الدار الأمير لطيف ذو الاعتبار، وقد جئت لزيارته، والسؤال عن حالته، فرأيتك أيتها المصانة مثل جفونك نعسانة، وأما لطيف فإنه خرج منذ بضع دقائق، وسيأتي الآن بغير عائق، وعند حضوره يا ظبية القصر يخبرك بواقعة الأمر، وعن إذنك يا مخجلة الأقمار، سأنتظره في رحبة الدار.
سالم (لعاقل) :
لولا خوفي لقلت بالتصريح، إنك يا حكيم من روح المسيح؛ فقد أحييت المائت، ورددت الفائت. فسبحانك يا مدور الأدوار، ومقلب الليل والنهار. إن في ذلك عبرة لأولي الأبصار.
عاقل :
الحمد لله على سلامة الفتاة. لقد أنجاها وأنجانا معها الله (يسمع طرقا على الباب) : انزل يا سالم، وافتح الباب للقادم، وإن كان مولاك لطيف الأمير، فحذار من إخباره بنفير أو قطمير.
سالم :
أمرك. أطال الله عمرك.
عاقل (بعد أن عرف أن الطارق لطيف، يقول لنفسه) :
إن لطيفا أسرع في الحضور، وستخبره الصبية بوقائع الأمور، فيستهجن ذوقي، ويسيء الظن في حقي، ولكنها الأعمال بالنيات، والمياوي بالغايات.
لطيف (يدخل زائغ البصر إلى أعلى حيث ترقد جثة لطيفة وقد حان وقت الصباح) :
أفديك بالروح إن كان الفدا يجدي
لكن حكم القضا ما فيه من رد
آن الفراق وحان الصبح وا أسفي
وترجعين على رغمي إلى اللحد
عاقل :
ما هذه الحالة الروية؟ وكيف ذهلت يا لطيف حتى عن التحية؟
لطيف :
دعني يا حكيم الزمن؛ لأستريح هنية من المحن.
عاقل :
كن يا لطيف في أمان من خوفك
واحمد الله على سلامة ضيفك
لطيف (لنفسه) :
لا شك أن الحكيم صعد إلى القصر، وانكشف له الأمر. فيا ربي ما هذه الأحوال؟! لقد حاقت بي الأهوال، اعذرني يا رب الحقائق، ودعني أستريح في غرفتي بضع دقائق.
عاقل :
كيف أعذرك على أعمالك الردية، وقد كدت توقعنا في بلية؟! فإني في حال غيبتك صعدت إلى غرفتك، فانزعجت صاحبتك، ووقعت في إغمى عجيب، وكادت تموت من قريب، لولا أن تداركتها بقوة حكمتي، وبادرتها بحكمة صنعتي، حتى أنقذتها من مماتها، ورجعت إلى حياتها، فاصعد إليها بسلام، وأذن لي بالانصراف والسلام. (لطيف لم ينتبه لكلام عاقل.)
لطيف :
اعذرني يا مولاي حق المعذرة
ولو أنك تعلم حالتي لمنحتني المغفرة
عاقل :
ليس من شأن العقلاء يا مهواس، أن يتجاروا على إفساد بنات الناس، ولم يكن أملي فيك يا ابن حليم أن تأتي بهذا الفعل الذميم، وأنك بعد موت أبيك تخيب آمالي فيك، فإن من أطاع هواه ارتدى، والسلام على من اتبع الهدى. فأوصلها الآن إلى دارها، فقد نجانا الله من أضرارها.
لطيف (في فرحة غامرة) :
هل أنت يا مولاي إله، أم صرت من روح الله، حتى تحيي الرميم، وتوجد العديم؟!
عاقل :
إن في هذا الأمر لسرا
فأخبرني به يا لطيف جهرا
لطيف (لنفسه) :
ليس لي طريقة أحسن من إخباره بالحقيقة (لعاقل) : إن الفتاة التي رأيتها أيها الحكيم، هي السيدة لطيفة بنت الوزير نعيم، وقد سول لي جنون الغرام أن اتفقت مع اللحاد وجئت بها إلى هذا المقام، حتى إذا الصباح عاد أعيدها إلى اللحاد، وأن هذا الوقت نصف الليل بالتمام، فاسمح لي بأن أصعد إليها عسى يلحقني بها الحمام.
عاقل :
خفض عليك يا لطيف بلواك، وثق بالله في سرك ونجواك، وسلم الأمر للأقدار، واعلم بأن الحكم لله الواحد القهار.
إن كان حكم مبنى كل شيء على القدر
فقل لي رعاك الله ما ينفع الحذر
وإن كان حكم الدور يأتي مع القضا
فسيان يا صاح الرضا منك والضجر
فصبرا إذا جاء الزمان بعكس ما
تريد فبالآمال يظفر من صبر
ولا تأس إذا فاتت مع الجهد فرصة
ولا تثن عزما وارقب الفرص الأخر
وكن في العوادي ثابت الجاش ظاهرا
على الدهر بالصدر الرحيب إذا غدر
ولا تيأس من روح ربك إنه
على كل شيء في إرادته قدر
وسلم لحكم الله أمرك واستلم
زمام الرضا تسلم من الضيم والكدر
فلله تدبير يدق على النهى
وسر خفي دونه تذهل الفكر
ومهما اعتدى سر فلليسر سلطة
عليه وكم ضيق تفرج واندثر
ورب مخيف يا لطيف وتنجلي
عواقبه بالأمن والبشر والظفر
لطيف لك البشرى لطيفة حية
وعادت إليها الروح من جانب القدر
فداوم على شكر الإله فإنه
كريم وبالإحسان يمنح من شكر
واعلم يا ولدي أن العناية الإلهية، والقدرة الربانية، أحيت لطيفة من مماتها، ورجعت إلى بحبوحة حياتها. فاحمد الله الكريم، واشكر يا ولدي عمك الحكيم، وهلم بنا نصعد إليها، وندخل عليها، وكن ثابت البال، ساكن البلبال، وحذار من أن تلقيك دهشة الطرب في مهاوي العطب. فما كل مرة تسلم الجرة، وإياك أن تخبرها بما كان، فتنزعج وتدخل في خبر كان.
لطيفة (تسمع طرقا شديدا على باب الغرفة) :
لقد كثر الطرق كرعد بغير برق.
لطيف (من خارج الغرفة) :
أنا عبدك لطيف مع حضرة الحكيم يستأذنان في الدخول على جنابك العظيم.
لطيفة :
تفضلا بكل تكريم.
لطيف (في دهشة) :
آه! آه! لطيفة! أنت ... لا ... ولكن ... حية ... موجودة ... أبدا ... هل أنا يقظان؟! هل أنا في جنان؟! ارحموني ... أدركوني.
عاقل :
هذا ما كنت أخشاه. فلا حول ولا قوة إلا بالله. تثبت يا لطيف، ويكفيك من هذا التخويف.
لطيفة :
أين أنا يا أهل المعروف؟ وكيف جئتما بي هنا يا حضرة الفيلسوف؟
عاقل :
أنت يا ربة القدر المنيف في منزل عبدك لطيف، وقد جاء بك اضطرارا، وجئت معه اختيارا. فلا يريبك هذا الكلام فستبلغين بلطيف المرام.
لطيفة :
أأنت لطيف أم مناظر أحلام
وهذا اجتماع أم خيالات أوهام
وهذي جنان أم جنون أصابني
وهذي نفوس أم هياكل أجسام
فيا رب هديا منك يرشدني إلى
حقائق أفكار وغبطة إكرام
عاقل :
لا تثريب عليك اليوم، فإنك في يقظة لا في نوم، وأنا عاقل الحكيم، وهذا لطيفك الكريم، ولا تسألي عما كان، فسأخبرك به بعد الآن. فانعمي بالا، واسعدي حالا، واعلمي أنه في هذه الليلة سيكون زفافك على لطيف، وإني سأتصرف في ذلك أحكم تصريف. فامكثي مع لطيف في هذه القاعة، فإني سأغيب عنكما نحو ساعة.
لطيفة :
وا فرحتاه! وإلى أين تريد الذهاب يا رفيع الجناب؟ وبأية حيلة يكون زفافنا هذه الليلة؟
عاقل :
إني سأتوجه الآن لحضرة مولانا السلطان، وأرجع إليكما قريبا بالبشرى، وسترين يا لطيفة من أعمالي الآية الكبرى.
الجميع :
يا ربنا امنحنا الفرج
وامنع عن النفس الحرج
فالدهر قد أبدى المهج
يا رب أنت بنا لطيف
لطيف :
واحفظ لنا هذا الحكيم
شيخ الفلاسفة العليم
وكن له يا ربي رحيم
يا رب أنت بنا لطيف
أحييت يا باري النسيم
روح اللطيفة من عدم
فأتمم لنا منك النعم
يا رب أنت بنا لطيف
وامنح بنا حسن المآل
فدوام حال كالمحال
وأسبل لنا ستر الكمال
يا رب أنت بنا لطيف (ستار)
الفصل الخامس (في قصر الملك.)
الملك (للملكة) :
ما بال صدري في حرج، وأفكاري هذه الليلة في هرج، وكثيرا ما تنقلت في المقاصير، وسمعت نغمات الأوتار والمزامير، وأنت يا عزيزتي معي بمرآي ومسمعي، ولم يفرج كل ذلك ما بي من قلقي واضطرابي، ولا بد أن يكون حدث في الرعية أمر فوق العادة المرعية؛ ولهذا بعثت في طلب كاتب الأسرار؛ ليخبرني بما عساه يكون وصل من الأخبار.
الملكة :
طب نفسا يا سلطان البرية، فإنك إمام العدل في الرعية، وكل ملك جعل العدل عامله، واتخذ الحق مزامله، وسلك سبيل الإنصاف، وتخلق بطهارة الذمة والعفاف، وقام بحقوق الله والملك، فإنه ينجو مع رعيته من الهلك، وأنت لله الحمد يا ملك الزمان متصف بهذه الصفات الحسان، وكل عمالك على صراطك المستقيم سائرون، وحول مركز الاعتدال دائرون، فعلام هذا الأرق، والاضطراب والقلق؟! فالله سبحانه يبقيك، ومن كل أسواء يقيك.
الملك :
اعلمي أيتها الملكة السعيدة، وجوهرة حياتي الفريدة، أن السلطان في الرعية كالشمس المضية، والعمال كالنجوم حوله دائرون، وعلى مقتضى نظام حركته متحركون. فإذا هو اختل في سيره، ولم يراقب حركات غيره، لا جرم ينفرط سلك النظام، وتنفسد أحوال الأنام؛ ولذلك وجب على السلطان أن يكون متيقظا، وعلى شئون رعيته متحفظا، ولا يعتمد في الأحكام إلا على الأفاضل الأعلام، ولا يكتفي بانتقاء العمال، بل يكون رقيبا عليهم في الأعمال، وأنه لا يقف عند هذا الحد فقط، بل يراقب بنفسه تنفيذ الشريعة على أقوم نمط، وإني وإن كنت واثقا بوزرائي، وعمالي أمنائي، مراقبا أعمالهم بنفسي، قائما فيهم بمعناي وحسي، إلا أن ضيق صدري ما انفرج، وما أدري سبب هذا الحرج. (يدخل حسان التشريفاتي.)
حسان :
إن الأستاذ الحكيم، واقف بباب مولانا الكريم، يستأذن في الدخول إلى عظمتكم، والتشرف بالمثول بين يدي جلالتكم.
الملك :
ائذن له في الحضور؛ لنأتنس بلطفه المشهور. إن حضور هذا الحكيم لا بد أن يكون لنبأ عظيم؛ لأن الوفود على السلطان بغير طلب في مثل هذا الأوان، إنما يكون لأمر ذي بال، وشأن له واقعة حال. (يدخل عاقل)
عاقل :
أنعم مساء أيها الملك الجليل
وأقبل محيا الصفو بالوجه الجميل
واغنم سعود الدهر مرتاح النهى
وأنس بطيب العيش والعمر الطويل
الملك :
أهلا وسهلا أيها الشيخ النبيل
وافيت للإكرام والحظ الجزيل
فاغنم رضا مولاك إنك أهله
بالحكمة الحسناء والوعظ الجميل
إن وفودك علينا، وقدومك إلينا في مثل هذه الساعة، لا جرم يكون لحديث أحب سماعه. فهات ما عندك من الأخبار؛ لتنتعش منا الأفكار.
عاقل :
دام عرش ملكك أيها المولى، محفوظا بعناية رب العرش الأعلى، وإني أتيت لمولاي بحديث عجيب، وحادث في بابه غريب، ما رأيت مثله في الأيام الحالية، ولا سمعت بنظيره في القرون الخالية. فأحببت أن أعرضه على مسامعكم الكريمة؛ ليفوز أهله بفضائلكم العميمة.
الملك :
لقد شوقتنا يا نعم النديم لاستماع حديثك النظيم. فانثر علينا درر لفظك، وأجل لنا دراري وعظك.
عاقل :
إن مولانا أطال الله بقاه، يعلم أن السيدة لطيفة انتقلت إلى جوار الله، وكان عبدك لطيف ابن حليم يحبها بكل حب عظيم، فخطبها من أبيها فرده، وعن زيارته صده، ولما قضت نحبها اليوم، توجهت لأزوره قبل النوم، فرأيت أحواله مختلفة، ولكني ما عرفت العلة. فأردت يا مولانا السلطان أن أشاهد الحقيقة بالعيان؛ حرصا على مصلحة لطيف؛ لأن والده كان لي نعم الحليف. فأعملت الحيلة في إبعاده عن داره ، وخرج رغم إرادته واختياره، وصعدت إلى القصر، فرأيت فيه صبية على كرسي من الزهر، فسلمت عليها بأكمل صفة، ولم تخاطبني ببنت شفة، فدنوت إلى عندها، ومسكتها من يدها، فسقطت على الأرض، وليس فيها نفس ولا نبض. فلاح لي أنها حسبتني جاسوسا إليها لأقبض عليها. فأماتها الوهم والوسواس كما يحصل لكثير من الناس. فاتخذت التدابير الحكمية، والمباحث الطبية حتى تحققت أنها في إغمى شديد، وفوقتها بعد كل جهد جهيد، وبعد ذلك رجع لطيف إلى سكنه يحن حنين الطائر إلى فننه، فقابلته بالزجر واللوم عليه؛ لكونه استمال بنات الأمراء إليه، وأخبرته بما أصاب صاحبته ودهاها، وأني أنقذتها من إغمائها. فانذهل انذهال المبهوت، وكاد من جموده يموت.
الملك :
وبعد ذلك ماذا جرى، يا معدن الحكمة في الورى؟
عاقل :
ولما رأيت أحواله يا ملك السعادة خارقة للعادة، لححت عليه في السؤال؛ ليخبرني بحقيقة الحال. فقال لي إن هذه الصبية هي السيدة لطيفة بنت وزير الداخلية، وإنه سولت له وساوس العشق وأفكاره، واتفق مع اللحاد وجاء بجثتها إلى داره، وهيأ لها غرفة بديعة الأوصاف، وتوهمها عنده ليلة الزفاف، حتى إذا أسفر النور، يعيدها إلى ظلمة القبور. فصرت يا مولاي بين مكذب ومصدق، وجاهل ومحقق. ثم صعدت معه إلى قصره المنير، فوجدتها في الحقيقة بنت الوزير. فعجبت يا مولانا السلطان من هذا الاتفاق الذي لم يأت بمثله الزمان.
الملك :
كيف ذلك أيها الحكيم النبيل، وما هذا الكلام الشبيه بالمستحيل. لقد أخبرني أبوها أن الأطباء شخصوها، وحكموا بعد البحث الدقيق أنها ماتت بالتحقيق. فكيف يحيا من مات، ومضت على دفنه عدة ساعات؟! أم كيف عميت أطباء الحي، ولم يفرقوا بين المائت والحي؟! فلعل لطيفا أبهم عليك الحقيقة، وأخفى من وجله عنك الطريقة.
عاقل :
حاشا لله يا سلطان الزمان أن أعرض لجلالتكم شيئا قبل التثبت والتبيان، لا سيما أني أعرف لطيفة من صغرها، وكثيرا ما عالجتها في كبرها، ولكن ما رأيتها في المرض الأخير؛ بسبب نفرة حدثت بيني وبين أبيها الوزير؛ لأنه أساء معي التصريف، ولم يقبل رجائي في زواجها بلطيف، وأنه كثيرا ما يلتبس الإغمى بالممات، ويستمر مع الإنسان عدة ساعات، وإني بعد أن فوقتها من غمتها، وأخبرني لطيف بحكايتها، تحققت منها في الحال. فوجدته صادقا فيما قال، ولم أتمالك دون أن حضرت إلى عظمتكم؛ لأعرض ذلك على مسامع جلالتكم، وقد ضمنت لها الاقتران، بأمر مولانا السلطان. فأكرم يا مولاي شيبتي، ولا تتركني أذوب عندهم من خجلتي.
الملك :
ما أعجب هذه الحكاية، وأغرب هذه الرواية! ولولا وثوقي بصداقتك، ووقوفي على أمانتك، لقلت إنها رابعة المستحيلات؛ لأنه هيهات أن يرجع ما فات. فسبحانك يا مدبر الأمر بحكمتك، ومذلل الصعاب بقدرتك.
ولله في خلقه حكمة
تدق عن العقل يا عاقل
يدبر أمر العباد وهم
عن الحق فكرهم ذاهل
فيسعد من شاء ويشقى الذي
يريد وكل له سائل
فخل المقادير في سيرها
وسلم له الأمر يا عاقل
وإني يا أيها الحكيم؛ كرامة لخاطرك الفخيم؛ واحتسابا لوجه الله اللطيف؛ ورحمة بلطيفة ولطيف، سآمر باقترانهما في الحال. فلا يطلع الصبح حتى يبلغا الآمال. فاذهب أنت أيها الحكيم، وأبلغهما مني التحية والتسليم، وبشرهما ببلوغ الأرب، وكن معهما حتى يأتيكم أمرنا بالطلب.
عاقل :
أيد الله سلطانك، وأدام للوجود إحسانك.
الملك :
علي يا حسان برئيس الحرس، وقائد العسس وكن أسكت من جندل؛ فإن مجلس السلطان لا ينقل.
حسان :
أمرك أيها الملك الأفضل. (يخرج)
الملك (للملكة) :
إن فؤادي يا قرة العين مال لهذين العاشقين، واقتضى أمرنا السلطاني أن يكون مهرجان اقترانهما في قصرنا الملوكاني. فأطلب منك يا درة المجد الثمينة أن تأمري بتزيينه أبهج زينة، وأن تبذلي جهد الاستطاعة؛ لإنجاز ذلك في مدة ساعة. (يدخل حسان)
حسان :
قد جاء رئيس الحراس يا سلطان الناس.
الملك :
ليدخل بغير بأس. علي يا مناع بالوزير نعيم، ومعه زوجته بكل تكريم، وبمن يكون عندهما في العزاء، من الأشراف والوزراء، وقل لهم إني أدعوهم لأمر يشرح الصدور، ويبدل الله إن شاء الله حزنهم بالسرور، وإنهم لا يجزعون من الطلب.
مناع :
أمرك يا محط رحال الأرب. (يخرج)
الملك :
إن طلبي لهم في هذا الغسق سيجعلهم في اضطراب وقلق، ولا سيما أبوي المرحومة، مع ما هما فيه من الأحزان المعلومة. فيا ليت شعري ماذا عساهما يفتكران حين أخبرهما بأن بنتهما حية الآن؟! فلا شك أنهم يستغربون هذا الخبر، وتقع أنكادهم في مهاوي الحير.
حسان :
إن الوزير نعيم وزوجته الشريفة، ومن كان عندهما من أمراء دولتكم المنيفة، واقفون بالباب.
الملك :
أدخلهم بغاية الترحاب (يدخلون)
ليأخذ كل منكم مجلسه؛ ليسمع من الحديث أنفسه. اعلموا يا حضرات الوزراء، والأعيان الأمراء، أني دعوتكم لأمر ذي بال، لم يسبق له مثال. فأصغوا لما أقول، ولا تندهش منكم العقول؛ فإن الله قادر على كل شيء، يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي (للوزير نعيم) : ألا تدري أيها الأمين، والوزير الحزين، من الجاني على بنتك المرحومة حتى سلمها ليد المنون المشئومة؟
نعيم :
خيبة الأمل، ودنو الأجل أوقعاها في الهلاك، ولات حين فكاك.
الملك :
نعم، إن الحية تطلب المنون، وإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، ولكن لا بد من الأسباب، والاستعداد والمهيئات، وقد ورد يا وزير المملكة
ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة
فأوضح لي السبب، ولا تكتمه عني يا كنز الأرب؛ فإنه لا ينبغي الكتمان من الوزراء على السلطان.
نعيم :
إن مولانا السلطان أعلم، ورأيه أحكم، وماذا ينفع الجهد والجد، بعد ما خرج الأمر من اليد؟!
الملك :
أتظن يا حضرة الوزير أني بأحوال الرعية غير خبير؟! ألم يكن موت السيدة لطيفة بسبب أعمالك العنيفة؛ حيث أحرمتها من حبيبها يا قاسي الفؤاد، وكلنا نعلم أن نار العشق تذيب الأكباد؟
نعيم :
كان ذلك قدرا مقدورا، وقضاء في الكتاب مسطورا، وإني لم أعمل ذلك يا ملك العباد عن سوء قصد أو قساوة فؤاد، ولكن راعيت حفظ الأنساب، وكفاءة الأحساب، وما كنت أحسب يا عريق المجد أن الأمر يبلغ بهما لهذا الحد.
الملك :
كان يمكنك أن تستعمل غير ما استعملت، بعد ما رأيت من أمرهما وسمعت، وكان في وسعك ترقية لطيف للمنزلة التي يكون فيها شريف، فإن كل كبير كان صغيرا، وكل غني كان فقيرا، وهل إذا كانت المرحومة الآن في قيد الحياة، أما كنت تختار زواجها به على شرب كاس الممات.
نعيم :
نعم كنت أختار ذلك، ولا وقوعها في المهالك.
الملك :
إني أبشرك وزوجتك الحزينة بأن بنتكما متمتعة بالحياة الثمينة، وقد أحياها القادر اللطيف؛ كرامة لعاشقها لطيف، وهي الآن مقيمة معه في داره، متنعما بأنوارها ومتمتعة بأنواره.
عريفة (في ذهول) :
لطيفة في قيد الحياة! لطيفة في قيد الحياة! آه أغثني يا بديع السموات!
نعيم :
حلمك يا مولانا السلطان، وعفوك يا ملك الزمان. كيف تحيا لطيفة بعد ما دفنت وصارت جيفة؟! فهل هذا يوم النشور، أم بعث الله من في القبور؟!
عريفة :
بحق رحمتك بالرعية يا سلطان البرية، أن تكشف لنا وجه الحقيقة، وتبين لنا من فضلك طريقه. آه عليك يا بنتاه!
الملك :
أتعجبين من أمر الله، وتجهلين أن ما أراده أمضاه؟! أما علمت يا ذات الاحتشام، أن كلام السلطان سلطان الكلام؟! فتيقني أنت وزوجك المنيف أن بنتكما في بيت لطيف، وأنها الآن مأنوسة، وستكون له هذه الليلة عروسة، وقد بعثنا إليهما بالخلع السنية، وأفضنا عليهما من هباتنا الملوكانية، واقتضت إرادتنا أن يكون عرس الزواج في قصرنا ذي الابتهاج. فينبغي أن تنكسا أعلام الأتراح، وترفعا رايات الأفراح، ثم تقصدا منزل لطيف، بغير تسويف، وإياكما والاندهاش عند اللقا؛ لكيلا يتبدل النعيم بالشقا، وهناك تنتظرون صدور أمرنا بما يكون، وأما أنتم يا حضرات الأمراء والأعيان فتتوجهون إلى منازلكم الآن، وتلبسون ثياب الأفراح، وترجعون إلينا بعد ساعة ليزداد بوجودكم الانشراح.
عريفة :
لا زلت تحيي نفوسا
بفيض آلاء خصبك
والدهر يبقى عروسا
يلقى الزفاف برحبك
الملكة (للملك) :
قد أنجزت زينة القصر، يا صاحب الفضل والنصر، وأكملت له الأنوار، والرياحين والأزهار حتى غدا في هيئة ترتاح لها الأرواح، وتبتهج فيه الأرواح.
الملك :
وإني أرى الوقت اقترب. فابعثي للعروسين بالطلب، ثم ادخلي قاعة الاستقبال، وقابلي الوافدين بالترحاب والإجلال.
حسان :
إن الأمراء والأعيان مقبلون على رحاب مولانا المصان.
الملك :
استقبلهم يا حسان، وانعطف بهم إلى قصر المهرجان، وقل لهم إني مقبل عليهم، وقادم إليهم، وها أنا وافد عليهم الآن؛ ليكمل لهم الحظ والتهان.
المنظر الثاني (مهرجان الزفاف في قصر السلطان.)
الملك :
لله في الخلق دق معناه
فليس يدري امرؤ ما كنه عقباه
تجري المقادير والإنسان يجهلها
حتى يكون لغير القصد مسعاه
ما للمليك ولا المملوك مقدرة
ضد القضا أبدا فالحاكم الله
وإني دعوتكم لتقر منكم العين برؤية زفاف العاشقين، وإن أردتم زيادة التفسير، فإنه زفاف لطيف بلطيفة بنت الوزير، التي ماتت البارحة، وناحت عليها النائحة، فقد أحياها باري النسيم كما أوجدها من العدم، وسترونها بعين التعيين، وتعلمون بناءها بعد حين.
حسان :
إن العروسين مقبلان.
الملك :
استقبلهم يا حسان، وآت بهم إلى هذا المكان. (يدخل لطيف ولطيفة.)
الملك :
الناس تسعى وعلم الله محتجب
عنهم فيأتي بما لم تدركه الفكر
نعم أرى الحزم في الأعمال غاية
حسنا ولكن لعون لله مفتقر
فاتق بربك فيما أنت تطلبه
يا خيبة السعي إن لم يسعد القدر
الحمد لله على سلامتكما أيها العاشقان، لقد شرحتما الصدر وأقررتما العين، فاحمدا الله على هذه النعمة، واشكراه على كشف تلك الغمة، وإني بعد أخذ رأي حضرة الوزير اقتضت إرادتي زواجكما في هذا الوقت النضير، وقد أنعمت عليك يا لطيف برتبة الوزارة ذات الاعتبار، وأحسنت إليك بخمسين ألف دينار، وأنت يا ربة العفاف لك الهناء بهذا الزفاف، وقد أنعمت عليك بوسام السيدات الأكبر، وبهذا العقد النفيس من الجوهر، وأمرت بأن يكون زفاف القران في قصرنا هذا المصان، وأشركت معكما في هذه الأفراح البهية، عظماء دولتنا العلية. فليحفظ كل منكما عروسه؛ لتكون أوقاتكما مأنوسة، والله يحسن لنا جميعا الأحوال، ويوفقنا لصالح الأعمال.
لطيف :
يا أيها الملك المسعود طالعه
في الملك حتى حمى الدنيا من المحن
قلدت أعناقنا فضلا يدوم على
طول الزمان بما أوليت من منن
أبدلت أحزاننا بالفرح منك كما
أحييت أرواحنا رغما عن الزمن
لا زلت حصنا لأهل الملك تحفظهم
من الردى ولحفظ الدين والوطن
إلى بيتك السامي تحج المقاصد
وعن فضلك الهامي تروق المشاهد
وفي بابك الأعلى المراحم للورى
ومن رحب ناديك الندى والمحامدا
فلا زلت غوثا للبرية دائما
إلى بيتك السامي تحج المقاصد (ستار الختام)
نص مسرحية «حسن العواقب»
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل الماضي تبصرة للحاضر، والصلاة والسلام على أصل الكمالات والمفاخر، وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين. أما بعد، فيقول راجي فضل ربه الهامي، علي عاصم الخلوتي المحامي، نجل حضرة الفاضل العالم، إسماعيل بك عاصم: إني لما رأيت تشوق جمهور الفضلاء، وأكابر الألباء إلى مطالعة رواية «حسن العواقب». التي هي بين الروايات كالبدر بين الكواكب، تأليف سيدي الوالد، وقد أجمع على استحسانها العلماء الأماجد، بادرت إلى طبعها؛ تعميما لفائدة العموم؛ وخدمة لهذا العصر المزدهي بأنوار العلوم؛ لما اشتملت عليه من الآداب والحكم، التي ترتاح لها العرب والعجم، مستمدا من الله العناية والتوفيق، والهداية لأقوم طريق.
الفصل الأول (تنكشف الستارة عن منزل الشيخ غانم والد سعاد وهي جالسة مع سعيد وقت الفجر.)
سعاد (لسعيد) :
ثنائي على هذي الشمائل والبها
لقد زدت قدري بالسعادة من قدرك
وشرفت داري يا سعيد تفضلا
علينا فمن لي بالوفاء على شكرك
تفردت في الآداب والعلم والبها
فصرت فريدا بالفضائل في عصرك
سعيد (لسعاد) :
جواهر لفظ منك والدر من ثغرك
هما أدهشا الرائي عن العقد في صدرك
وما هو ماس فوق رأسك بل ضيا
جبينك فوق الشعر يسطع عن بشرك
وليس نضارا ذلك القرط إنما
خيال اصفرار قد بدا فيه من شعرك
محياك بدر لاح والعقد أنجم
بدت في عمود الصبح أسفر عن نحرك
ملكت فؤادي يا سعاد فما أنا
سوى عبد حب لا يباع إلى غيرك
هذا يا سعاد وقت السحر
يسري فيه النسيم بأريج الزهر
والبلابل غنت على عيدانها
تطرب العاشق بشجي ألحانها
صوت الهزار أشجاك
يا قلب في الأسحار
ياما الهوى أضناك
والحب له أسحار
وأنت يا عزيزتي أمامي
ووجهك قبلتي وحبك إمامي
وهذا نور الصباح
صفا ووفا لنا بوجهك الاصطباح
لاح الصباح فقم يا أصبح الخد
وطف بكاس الطلا يا مائس القد
وانظر إلى الصبح يغشى نوره شفق
كأصفر الشعر مسبولا على النهد
والروض أزهاره تحكيك في ترف
والغصن ماس يحاكي القد بالقد
والدهر في غفلة والوقت في دعة
هذا زمان الهنا يا غاية القصد (ثم يدخل والدها الشيخ غانم.)
غانم (لسعيد) :
صباحك يا مولانا سعيد
ويومك بالصفا والأنس عيد
سعيد (لغانم) :
تفضل أيها الشيخ النبيل
وأين كنت كل هذا الوقت الطويل
غانم (لسعيد) :
كنت أصلي الفجر لله تمجيدا
إن قرآن الفجر كان مشهودا
ثم دعوت لك ولحضرة الوالد
أن يعيذكما من شر كل حاسد
سعاد (لسعيد) :
ما بالي يا مولاي أرى الشعراء وهم ملوك الكلام، يرتاح أكثرهم للتشبب بمحاسن المدام، ومع أن الحقائق أثبتت عكس ما يتوهمون، فإنهم في كل واد يهيمون، وقد سمعتك تترنم بها في ألحانك، وتذكرها في نثرك وأوزانك، كأنك مرتاح إليها أو مقبل - معاذ الله - عليها.
سعيد (لسعاد) :
كيف تنكرين محاسن المدام، وقد حسنها أكثر الأنام؟! فلا يكاد يوجد مجلس آداب، إلا وفي صدره مائدة الشراب، أو تقرئين ترجمة أمير وسلطان، إلا وتجدين ما كانوا عليه من مؤانسة الراح والندمان.
غانم (لسعيد) :
هون عليك أيها الأمير، ولا تطنب في هذا التعبير، وقل لي أي ملك من ملوك العرب بعد الإسلام، أو أي سلطان من سلاطين الترك والأعجام، وأي عاقل من الحكماء السابقين، والفلاسفة المتمسكين بالدين، كان يعاقر العقار، ويستحل ما فيها من الإثم والإضرار؟ أغرك ما ينسبه بعض المخرفين، وأصحاب القصص الكاذبين، لأمير المؤمنين هارون الرشيد، وولده مأمون الرشيد، وما ذكروه عن الإمام يحيى بن أكثم الفاضل، وعن الشيخ الأصمعي الكامل، وأمثال هؤلاء الأبرار، من السكر مع الندمان والجوار؟ فما هذا إلا إفك وبهتان، وتضليل من ذوي الحسد والعدوان، وإلا فإن هؤلاء الكرام كانوا من أجلة الأفاضل الأعلام، المتمسكين بالأحكام الدينية، القائمين بنشر لواء العرفان والمدنية، مجالسهم العلوم والآداب، ومحافلهم الوقار من عهد الشباب، وشرابهم دم الأعاد، وسماعهم صليل السيوف يوم الطراد .
يطربنا صليل أعوادنا
لا بالغنا والخمر والكاس
شرابنا من دم أعدائنا
وكاسنا جمجمة الراس
وبذلك فتحوا الأمصار، ودوخوا الأقطار. فروح الله أرواحهم، وروى بغيث الرحمة تربة ضمت أشباحهم، ولنرجع لما كنا فيه يا سعيد الزمان، فالخمرة محرمة في التوراة والإنجيل والقرآن، وهي في الجملة أم الكبائر، وطالما أفقرت الزارع والتاجر، نستعيذ بالله منها، ونسأله البعد عنها.
سعيد (لغانم) :
إن الشعراء في الغالب مقلدون، ويقولون ما لا يفعلون. فأشكرك على صدق نهجتك، ولله درك ودر ابنتك!
غانم (لسعيد) :
عن إذنك أتوجه الغيط وأنظر الأشغال، فما أبعد الخير على الكسول البطال. (ثم يخرج)
سعيد (لسعاد) :
إن أباك يا عزيزتي طال أجله، وخيركم من طال عمره وحسن عمله. (ثم يطرق الباب.)
سعيد (لسعاد) :
انظري من الطارق
يا منية فؤاد العاشق (ثم تخرج سعاد.)
سعيد (لنفسه) :
إني أحببت هذه الفتاة محبة لا سلوان لها مدى الحياة، وقد مضت على ذلك أعوام، ولم أحادثها بالمرام. فالأصوب أن أصرح لها بالمحبة، وأعاهدها معاهدة الأحبة، ثم أسعى معها للاقتران، في أقرب فرصة من الزمان. (تدخل سعاد وبيدها كتاب.)
سعاد (لسعيد) :
هذا كتاب من حضرة أبيك. بارك الله له فيك. (ثم يتناوله سعيد ويقرؤه وهو):
إلى ولدنا الوحيد، الأمير سعيد، بوصول كتابنا إليك، ووقوعه بين يديك، تبادر بالحضور إلينا، بغير بطء علينا. (ثم يطوي الكتاب ويقول):
سعيد (لنفسه) :
ليت شعري لماذا يطلبني أبي
وهل في الغيب صلاحي أم عطبي
سعاد (لسعيد) :
لا تهتم أيها الأمير الجليل؛ فإن الوالد لا يرى لولده غير الخير الجزيل. فامتثل لأمر والديك يا عالي الهمة، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وبادر لحضرتهما سميعا ونصيرا، وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا.
سعيد (لسعاد) :
اصرفي عن فكرك تلك الأوهام، واصغي لما ألقيه إليك من الكلام، وذلك أن لي سرا مصونا في صدري، وأن فؤادي ليبخل به على غيري، فاحفظيه مثلي يا سعاد، وأحليه في صدرك محل الفؤاد.
يا سعاد اسمعي مقالي وصوني
لي سرى فالحر يرعى الصيانة
واحفظيه حتى إذا الوقت وافى
سلمي لي أمانتي بالأمانة
سعاد (لسعيد) :
هات قل لي أسمع وكن مطمئنا
يا أميري إني محل الصيانة
وتراني للعهد أكثر حفظا
وتراني للسرائر أرعى الأمانة (ثم يطرق الباب.)
سعيد (لسعاد) :
اذهبي يا غاية الأماني
وانظري من هذا الطارق الثاني (ثم تخرج سعاد.)
سعيد (لنفسه) :
اللهم احفظنا من الضير، واكفنا شر كل طارق يطرق إلا بالخير. (ثم تدخل سعاد.)
سعاد (لسعيد) :
إن الطارق أيها الحبيب
هو خالك الأمير نسيب
سعيد (لسعاد) :
أدخليه هذا المكان
وانصرفي إلى حجرتك الآن (ثم تخرج سعاد.)
سعيد (لنفسه) :
إن حضور خالي مبكرا
لا بد أن يكون لحادث جرى (ثم يدخل نسيب.)
نسيب (لسعيد) :
صباحك يا ابن المعالي سعيد
وطالع سعدك بالأنس عيد
فدم كل يوم كما تشتهي
بعيش رغيد وحظ جديد
سعيد (لنسيب) :
عم صباحا يا خال
ودم فائزا بالآمال
نسيب (لسعيد) :
اعلم يا ابن أختي أني حضرت إليك؛ لأقص أعجب الأنباء عليك، وهو أن عمك الأمير ظافر، سول لوالدك إدخالك في دائرة العساكر، وظاهر قصدهم والمراد، إبعادك عن السيدة سعاد، ولكن غرض عمك المكنون، إيقاعك في عذاب الهون، وقد كتب لقائد الجيش، أن يحرمك من لذة العيش؛ لما بين أبيك وهذا القائد، من الضغائن والمكائد، وهو اليوم يترقب لكم فرصة الانتقام، على طول الأيام، ووالدك لحسن نواياه لم يدرك ما أضمره له أخاه، وبلغني أنه بعث في طلبك؛ ليرسلك بيده إلى عطبك، فلم أتمالك دون أن بادرت بالحضور؛ لأخبرك بحقائق الأمور.
سعيد (لنسيب) :
لقد أوريت نار همي، وما سبب عداوة والدي وعمي؟
نسيب (لسعيد) :
اعلم أن والدة أبيك طاهر، غير والدة عمك ظافر، وقد مات والدهما وهما صغيرين، وترك لهما ثروة تملأ العين. فأما والدة أبيك فكانت عالية النسب، كاملة الأدب، فقامت بحق تأديبه، وحسن تهذيبه، ولما بلغ والدك مبلغ الرجال، زوجته بأمك ذات الكمال، وصفت لهما بذلك الأوقات، وهذا نتيجة فضيلة الأمهات، وأما والدة عمك فإنها سافلة الحسب، كثيرة الزهو قليلة الأدب، ففرحت بموت بعلها، وألهاها الغرور عن تربية نجلها، فشرب من نبعها، وجرى على طبعها ، حتى أثقل كاهلهما الدين، وأصبحا صفر اليدين، وهذا نتيجة جهل الأمهات، والانغماس في الشهوات، ثم داخلهما الحسد الشديد عليك وعلى أبيك يا سعيد، وهما يعملان على حتفه؛ ليغتالا أمواله رغم أنفه، وهذا نتيجة جهل الضرائر، وما ينجم عنهن من الخسائر. فهذه حقائق أقصها عليك، والأمر يا ابن أختي إليك.
سعيد (لنسيب) :
كل شيء بإرادة الله وعلمه، وهو الحاكم لا معقب لحكمه، وماذا عسى يعمله القائد مهما أراد، إذا سلك الإنسان سبيل الاستقامة والرشاد؟! وإني على كل حال أيها الكريم، أكرر لك الشكر مصحوبا بالتكريم.
نسيب (لسعيد) :
إذا أستأذنك في الذهاب.
سعيد (لنسيب) :
سر محفوظا بعناية الكريم الوهاب. (ثم يخرج نسيب وتدخل سعاد.)
سعاد (لسعيد) :
طال حديثك يا ذا الأريب، مع خالك الأديب. فلعله يكون خيرا، ولا أراك الله ضيرا.
سعيد (لسعاد) :
أخبرتك منذ برهة وجيزة، بأني سأعلمك بأسراري العزيزة، وقد آن الأوان، ولم يبق محل للكتمان، وذلك أني أحبك يا سعاد، وبقلبي نار ذات اتقاد، وكنت أتمنى التأهل بك يا ذات الفطن، في أقرب فرصة من الزمن، ولكن حالت الآن عوايق، وأمور لها حقائق. فهل تحفظين عهدي، وتبقين على ودي. سعاد ... سعاد ... لا تسكتي يا غاية المراد. كلمة منك تشفي الفؤاد. زوديني بوعد أطمئن به قبل الفراق، فلست أدري متى يكون التلاق.
دور
آه يا وعدي ووجدي
ساءني البعد
عن الحبيب
وعدمت اليوم رشدي
فاتني القصد
زاد النحيب
هل أرى بالوصل سعدي
زانه الرشد
بلا رقيب
يا ويل الزمن
أولاني المحن
أضناني الشجن
ساءني دهري
سعاد (لسعيد) :
آه يا سعيد! هل قلبك من حديد؟! قل لي ما حالك، وماذا قاله خالك؟
سعيد (لسعاد) :
اعلمي يا ذات الطلعة البهية، أني سأنتظم في سلك العسكرية، والمستقبل مجهول، ولكن الخير مأمول.
سعاد (لسعيد) :
إني وعيش أبيك، لك من ضمن جواريك، ولكن كيف أطيق بعدك، أو أعيش بعدك؟! آه قل الجلد، وعدمت الرشد!
يا سعيد ارحم سعادا
زادني الوجد
يا ذا الحبيب
كيف لي ألقى رشادا
والنوى يعدو
يا ذا الأديب
هل ألاقي الدهر جادا
والهنا يبدو
رغم الرقيب
يا ناس اعلموا
حالي وارحموا
والأجر اغنموا
قد مضى عمري
سعيد (لسعاد) :
لا تبكي يا سعاد، وودعيني قبل البعاد.
سعاد (لسعيد) :
لا تروع قلبي بذكر البعاد
يا سعيد وارحم فؤاد سعاد
وتعطف فالصبر بعدك أضحى
غير مجد في ملتي واعتقادي
سعيد (لسعاد) :
كفكفي الدمع يا سعاد ونادي
خادمي يا حبيبتي بالجواد
سوف أمضي إلى أبي فالتواني
غير مجد في ملتي واعتقادي (وإلى هنا تخرج سعاد.)
سعيد (لنفسه) :
ليت شعري إني أسير وهل سي
ري إلى دار شقوة أو رشاد
غير أني أرعى أبي ومن العا
ر هوان الآباء والأجداد
سأنال المنى إذا طال عمري
في طويل الأزمان والآباد (ثم تدخل سعاد.)
سعاد (لسعيد) :
قد جاء الخادم بالحصان
طبق أمرك يا سعيد الزمان
سعيد (لسعاد) :
إني أزمعت على الرحيل
وأستودعك الله الجليل
يا سعاد ودعيني
واحفظي عهدي المصان
وإلى الهم دعيني
هكذا حكم الزمان
سعاد (لسعيد) :
لك قلبي يا سعيد، مسكن طول الزمان. أنت لي قربك عيد، والنوى يصمي الجنان.
سعيد (لسعاد) :
إن روحي طوع حبك
في ابتعاد واقتراب
سلمي الأمر لربك
فعسى يدنو الإياب
سعاد (لسعيد) :
من له يا رب أشكي
حالتي بعد الغياب
أسهر الليل وأبكي
سوء حظي والعذاب (ثم يدخل الخادم.)
الخادم (لسعيد) :
سيدي طال انتظاري
واقفا عند الجواد
فتفضل فاصطباري
عز يا نعم الجواد (يقولون جميعا):
رب هبنا حسن صبر
منك يرضي العاشقين
واجعل العقبى لخير
رغم أنف الحاسدين (ثم يخرجون جميعا وتنكشف ستارة أخرى.)
المنظر الثاني (تنكشف الستارة عن منزل الأمير طاهر وفيه روضة وساقية وهو جالس مع زوجته الأميرة فاخرة.)
طاهر (لفاخرة) :
روض وماء وأزهار مفتحة
ومشتهى النفس من روح وريحان
وزوجة بعفاف النفس طاهرة
كما قضى الحب أرعاها وترعاني
ونعمة بمزيد الشكر وافية
هذا هو العيش لولا أنه فاني
فاخرة (لطاهر) :
يا طاهر أنت لي روحي وريحاني
وأنت راحي بل روحي وجسماني
وأنت ذخري وأنت الناس أجمعهم
أرعاك فرضا على نفسي وترعاني
لك البقاء بقاء لا فناء له
في العالم الدنيوي للعالم الثاني
فالدار هذي طريق نحو آخرة
وذو المآثر فيها ليس بالفاني
طاهر (لفاخرة) :
كأنك يا فاخرة تقولين بالبقاء، مع أن مصير الأحياء للتلاشي والفناء. فبأي مذهب أنت متمسكة؟ أوضحي لي بيان هذه الفذلكة.
فاخرة (لطاهر) :
كيف تعتقد بالفناء المحض، مع أن هذا لم يقل به إلا البعض؟! وأما الذي عليه معظم الأقوال، هو أن أجسامنا إنما يعتريها الانحلال، ثم تتجمع وتخرج بإذن الله جهرا،
منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ، على أن الفناء حسي يتناول الصورة، ولا علاقة له بالمادة المأثورة، والإنسان حي وإن مات؛ إذا هو خلف من بعده المكرمات، وقد ورد في جوامع الكلم الصوالح. «إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو كتاب نافع، أو ولد صالح.»
طاهر (لفاخرة) :
أحسنت يا فاخرة، ونج لأفكارك السافرة، وإن الثلاثة التي يحيا بها الإنسان، متوفرة عندنا منها اثنتان، وهما الصدقة الجارية، وكتب العلم الوافية؛ لأني ولله الحمد شيدت مدارس علمية، وأوجدت جمعيات أدبية، وأجريت عليها من الصدقات، ما يقوم بها في الحال، ويحفظها إن شاء الله في الاستقبال، ولم أضيع أموالي إسرافا وتبذيرا، ولم أكنزها شحا وتقتيرا، واتخذت حكمة المعتدلين إماما، الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما، وألفت كتبا في أكثر العلوم، كما هو معلوم للعموم، لا سيما علم الفقه الذي يحتاجه المتعبدون، «وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون»، وفي المعاملات الشرعية والأحكام التي يرجع إليها القضاة والحكام؛ لأن شريعتنا القويمة الغرا بحر تستمد منه الشرائع الأخرى. فهذان الركنان تأسسا عندنا والحمد لله، وأما الثالث وهو الولد الصالح، فآه ثم آه؛ لأني في ريب من هذا الحظ السعيد، على ما يظهر لي من أخلاق ولدنا سعيد.
فاخرة (لطاهر) :
ما لك أحجمت عند ذكر الولد الصالح، ورميت سعيدا بهذا الريب السانح، مع أنه بحسن تربيتك مثال الكمال، ونموذج الصلاح في الأعمال.
طاهر (لفاخرة) :
صدق من قال إن الوالدة بولدها مغربة، والبنت بأبيها معجبة، وأنت تعلمين يا شريفة الأصل ، أن من ركب مطية الهوى ضل، وأن ولدك قد أطاع هواه، وترك أمه وأباه، وارتكب أعظم الجرائم، وعلق بسعاد ابنة غانم، وأصبح لا ينفك عن مغانيها، ولا يبرح من ضيعة أبيها، وهو رجل من أتباعنا، وبنته من ضمن متاعنا. فهل بعد هذه الفضائح، يكون لنا الولد الصالح؟! (ثم يدخل مرسال آغا.)
مرسال (لطاهر) :
إن أخاك الأمير ظافر واقف بالباب.
طاهر (لمرسال) :
ليتفضل بالإجلال والترحاب. (ثم يخرج مرسال.)
طاهر (لفاخرة) :
وإني بعثت أخي البارحة إلى سعيد؛ ليأتيني عنه بالخبر المفيد، وأظنه حضر ليخبرني بذلك. فاذهبي يا عزيزتي الآن إلى خدرك المصان. (ثم تخرج فاخرة ويدخل ظافر.)
ظافر (لطاهر) :
حياك الله يا نخبة الأنجاب.
طاهر (لظافر) :
وأنت حييت يا معدن الآداب.
ظافر (لطاهر) :
بعد ما اتفقنا البارحة يا ذا الروية، على إرسال سعيد للعسكرية، وكان خاله الأمير نسيب يعارضنا في هذا الرأي المصيب، قد توجهت لمنزل سعاد، فوجدت سعيدا معها على غير رشاد، وأمامهما أباريق المدام.
طاهر (لظافر) :
يا ويلاه! وأباريق المدام!
ظافر (لطاهر) :
نعم موضوعة على مائدة الطعام، وقد لعب الخمر برأسيهما، وأخذ الطرب من نفسيهما، وسلمت عليه بكل اعتبار، فازدراني وعاملني بالاحتقار. فذكرت له اسمك، فأنكرك وأنكر رسمك، وأرغى وأزبد من شدة السكر عربد.
طاهر (لظافر) :
وا فضيحتاه! وبعد ذلك ماذا أجراه؟
ظافر (لطاهر) :
وأخيرا طردني من الناد؛ مرضاة لخاطر سعاد. فكتمت ما عندي له من النصيحة، وخرجت خوفا من الفضيحة، وحضرت إليك يا همام؛ لتنظر في مستقبل ولدك والسلام.
طاهر (لظافر) :
كيف يكون العمل، وقد عدمت الحول والحيل؟
ظافر (لطاهر) :
ليس عندنا طريقة ناجحة، غير إرساله للعسكرية كما اتفقنا البارحة، وأن سمو الوالي يبتهج بأولاد الأشراف، ويمنحهم في العسكرية الانعطاف، وإذا تم لنا انتظام سعيد في هذه الخدمة الجليلة، فإنه يفوز في المستقبل بالنعم الجزيلة، ويبتعد عن سعاد، ويتم لنا بذلك المراد.
طاهر (لظافر) :
هذا هو عين التدبير، ولا ينبئك مثل خبير، وإني بعثت في الصباح أسرع بريد، في طلب هذا الولد العنيد.
ظافر (لطاهر) :
وبعد أن يتوجه سعيد وتأمن من ضيره، تسعى في زواج سعاد بغيره؛ لتنقطع منهما الآمال، وتنصلح بعد ذلك الأحوال.
طاهر (لظافر) :
هذه واجبات كالفريضة، وها أنا ذاهب لأكتب لمقام الولاية العريضة. (ثم يخرج طاهر.)
ظافر (لنفسه) :
العناية صدف، والغواية تحف، وسيذهب سعيد للعسكرية، وقد كتبت لقائد الجيش أن يذيقه المنية. ثم أعمل على قتل طاهر، وأتنعم بعدهم بهذا النعيم الوافر.
نلت بالمكر والخداع مرامي
وأصابت سهام لؤمي المرامي
يتلقى إبليس مني دروسا
دونها الخمر في فساد الأنام
لا أبالي بصاحب أو قريب
حين ألقيه في ردى الاجترام
نلت قصدي من اللئيم سعيد
وسألقي أباه في الإعدام
بعدهم أستريح منهم وأجني
ثمرات الغنى مدى الأيام (ثم يخرج ظافر ويدخل طاهر وزوجته فاخرة.)
طاهر (لفاخرة) :
إني بعثت في طلب ولدنا سعيد، وسيأتي في وقت غير بعيد، ونعرض لأعتاب دولة الوالي العلية، ليأمر بقبوله في الجنود الشاهانية؛ لكي يخدم أوطانه، ويرفع بجده شانه؛ لأن العمل والاجتهاد أساس ترقي الملك والبلاد، والبطالة والخمود، أصل كل رذيلة في الوجود، وهذا ما كان أصاب الشرق وذهب بنضارته، وأضاع محاسن حضارته، يوم كانت القوة الحاكمة، عن واجباتها نائمة، وكانت القوة المحكومة، بيد الجهالة على نفسها مقسومة، ولكن تلك أمة قد خلت، وأيام في خبر كان انطوت. أما الآن وقد اعتدلت الأحكام، وقامت بالواجب الحكومة والحكام، واتسع نطاق المعارف، وانبعثت روح العوارف، كان أول واجب علينا الاقتداء بهم في الإصلاح، ومعاونتهم على ما فيه للأوطان النجاح؛ ولذلك رأيت من الفروض الدينية، أن ينتظم ولدي في العسكرية. متطوعا في الجهاد؛ ليقوم بحق الله والعباد، فأرجوك يا قرينتي الفاخرة أن تساعديني على نوال هذه النعمة الوافرة.
فاخرة (لطاهر) :
كيف يرتاح لبك، ويطاوعك قلبك على إبعاد سعيد، وهو ولدنا الوحيد، وتجعله عرضة للأخطار، وهدفا لسهام النوائب والأضرار، ونصبح غير آمنين بحياته، ولا عالمين بيوم محياه ومماته. فبحياتي عليك أيها الماجد، أن لا تفجعني في ولدي الواحد.
طاهر (لفاخرة) :
أتريدين التشبه بأهل بعض البلاد، حين يبكون ويندبون الأولاد إذا طلبتهم الحكومة السنية، إلى الخدمة العسكرية. عار ويا ألف عار! ولماذا لا نتشبه بالشعوب الأخرى الرفيعة، حين تلبي الأمر بذلك مطيعة، بل تأتي أشرافهم للخدمة متطوعين، ولإعزاز الوطن مسارعين. فحتام يا ترى هذه الغفلة؟! ومتى يا رب نبرأ من هذه العلة؟! وهل تبخلين بولدك أيتها القرينة، على حياة وطنك الثمينة؟!
دعيني أقاسي من ملامتك المحن
ولو فارقتني الروح في عزة الوطن
ولم يكن بني فوق نفسي معزة
ولا هو دوني الآن في قوة البدن
فلا توجدي لي في طريقي عوائقا
وإلا فلا نفع لديك على السكن
وها هو قد وافى سعيد ووجهه
يلوح عليه حسن مستقبل الزمن
فإياك أن تبدي إليه إشارة
تثيرين فيها من جهالتك الإحن (ثم يدخل سعيد.)
سعيد (لطاهر) :
صباح كما ترضى عليك سعيد
ويوم بإقبال المسرة عيد
فأنت حياتي والحياة عزيزة
وأنت وجودي والوجود يفيد
طاهر (لسعيد) :
نهارك عندي يا سعيد سعيد
وعمرك بالنفع المزيد مديد
دعوتك فاسمع يا بني نصائحي
مطيعا فنصح الوالدين مفيد
اعلم يا ولدي أن العمر مزرعة، وثمارها العمل والمنفعة، وخير الأعمال الشرعية، ما شمل نفعه البرية. قال سيد الناس: خير الناس من نفع الناس؛ ولذا وجب على الإنسان، أن يعمل بقدر الإمكان، وإلا كان حملا ثقيلا بغير مزية، على كاهل الهيئة الاجتماعية، وأشرف الناس عملا الملوك العظماء، ثم الوزراء الأمناء، ثم العلماء العاملون، ثم القضاة العادلون، ثم أرباب المصالح والحكام، والقائمون بتنفيذ الأحكام، ثم الأمراء والأكياس، ثم بقية الناس، والقوة الحافظة لنظام هذا الاجتماع، الكافلة بإقرار الأمن وإحكام الأوضاع، هي قوة الجند النظامية، وأمانة رجال العسكرية، فضلا عما لها من المزايا الفاخرة، وثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة؛ ولهذا أحببت لك يا ولدي المفضال، أن تكون من ضمن أولئك الرجال؛ لكي تقوم بشبيبتك في خدمة الوطن، وتحفظه من طوارئ العدوان والمحن، وتكتسب زيادة الشرف، وتكون لوالدك نعم الخلف، وتقتدي بك الأنام، فإن الخواص في الغالب قدوة العوام.
الشهم يعرف بالإقدام والشمم
والمرء يصعد للعلياء بالهمم
والملك بالعدل والإنصاف مرتفع
بسلم العلم يرقى ذروة النعم
وكل شعب سرى والجهل قائده
يهوى به لحضيض الذل والوجم
هذي المواطن يا نجلي تطالبنا
بنهضة الحق فاحموها بكل كمي
صرنا شيوخا وأنتم في شبيبتكم
فريحونا وجدوا يا ذوي الهمم
وأظهروا شرف الشبان واجتهدوا
بالحزم في العمل المبرور والحكم
ولا يشوبن من أعمالكم كسل
فإنه يوقع الأوطان في الندم
وارعوا الأمانة والإخلاص يجمعكم
حسن الصفا والوفا بالعهد والذمم
وراقبوا الله في أعمالكم تجدوا
منه الحماية في بدء ومختتم
سعيد (لطاهر) :
اعلم يا سيدي الوالد، وولي نعمتي الماجد، أني لست من الشبان ذوي الجهالة، الذين يميلون للراحة والبطالة، ويستحبون الضلالة على الهدى، ويضيعون باللهو أوقاتهم سدى، ولست ميالا للسرف، والزهو والترف، ولم تبعثني البواعث للخمرة أم الخبائث، ولا ارتحت للحانات، وفضائح الراقصات، ولا ألفت المقامرة، وأضعت فيها أموالي صفقة خاسرة، ولم يترك لي الحزم حاجة، للاقتراض من بنك الخواجة، ولا أهملت مع الإمكان حقوق الله، ولا كنت كمن اتخذ إلهه هواه. فهذه النقائص حال بيني وبينها الأدب، وعزة النفس وشرف الحسب، والفضل في كل ذلك منك وإليك، وهو عائد بالثناء والشكر عليك، وإني طالما تمنيت أن أباشر أعمالا جليلة، تظهر لي فيها بعنايتكم الفضيلة، وأكرمها خدمة وطنية، الخدمة العسكرية؛ لأكون عن قومي على أهبة الدفاع، والمهاجمة إذا دعا إليها اندفاع، وتأتيكم عني الأخبار، بما يكون به الافتخار. فأرجوك أن تمنحني برضائك، وتزودني بدعائك، وأرجوك يا أماه ألا يروعك الفراق. فعن قريب يكون مع الممنونية التلاق، وسأظهر إن شاء الله بشرف الآباء والأجداد، وما كانوا عليه من الحكمة والسداد؛ حتى لا يقال علينا بعدهم في الندوات، فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وأسألك يا والدي الدعا؛ فإن الله مجيب لمن دعا.
طاهر (لسعيد) :
لله درك يا ولدي، ويا حشاشة كبدي! كتب الله لك السلامة، في الترحال والإقامة، وخذ هذه عريضة العبودية، لأعتاب سمو الوالي العلية، ومتى انتظمت مع رجال الجهاد. كن مطيعا للرؤساء والقواد، واحتفظ يا بني على وصايا أبيك، بارك الله لنا فيك.
لك الله سافر بالسلامة ناجحا
بنيل المنى فالله منك قريب
وأودعك الرحمن في الغربة التي
جنحت لها والفكر منك مصيب
وأوصيك بالتقوى فربك عالم
بسرك والنجوى عليك رقيب
ودافع عن الأوطان بالروح وليكن
إليك من النصر القريب نصيب
وأحبب لكل الناس ما أنت تبتغي
لنفسك تصبح والعدو حبيب
وعظم مقام الناس كلا بقدره
يواسيك كل منهم ويجيب
ولازم جناب العدل فالظلم علة
تبيد القوي والاعتدال طبيب
وكن دائما سمح المحيا بشوشه
فليس لذي الوجه العبوس خطيب
ولا تاس إن فاتت مع الجهد فرصة
وراقب سواها فالمجد يصيب
خذ العفو والإحسان تستعبد الورى
ولا تنتقم فالإنتقام عطيب
وسامح لتلقى إن جنيت مسامحا
فكل امرئ لا بد فيه ذنوب
ولا تبد يوما عيب غيرك واشتغل
بنفسك واحفظها ففيك عيوب
وكن حازما في كل أمرك واعتمد
على الله تنجح فالزمان عجيب
فاخرة (لسعيد) :
ولو لم يكن هذا الرحيل لمقصد
شريف لطالت لوعة ونحيب
ولكن فراق الأهل في طلب العلا
يهون أوصاب النوى ويثيب
وليس وداعا بل وداد وقوفنا
فأنت لنفسي يا بني قريب
خيالك في عيني وذكراك في فمي
ومثواك في قلبي فأين تغيب
سعيد (لطاهر) :
أودعكما يا والدي وأرتجي
بقاءكما إن الإله مجيب
فدوما بخير واذكراني بالدعا
بخير أراه فاللقاء نصيب (ثم تنزل الستارة ويتم الفصل.)
الفصل الثاني
المنظر الأول (تنكشف الستارة عن الأمير طاهر وزوجته فاخرة ونديمتها سلمى.)
طاهر (لفاخرة) :
قد أنبأتنا الأخبار الهنية، بارتقاء ولدنا للمناصب العلية، وهذا ما كنا نتمناه، ولكن آه ثم آه؛ لأنه مع هذا البعاد لم يزل مشغوفا بحب سعاد، ويراسلها وتراسله، وربما كان يواصلها وتواصله.
فاخرة (لطاهر) :
الحمد لله على علو منزلة سعيد، بحسن رضائك أيها المجيد، وإنه ما ارتقى للمناصب، إلا بمعاناة المناصب. فلم يبق عنده حينئذ وقت ولا معاد، للمراسلة والمواصلة مع سعاد، وهو الآن إنما يجتهد في ازدياد شرفه.
ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه .
طاهر (لفاخرة) :
كيف تنكرين على ما أقول، وتجعلينه بعيدا عن المعقول، وقد وقع في يدي كتاب منه إليها، يعرض فيه قلبه وروحه عليها؟! فخذيه وانظريه، وإذا شئت فاسمعيه (ثم يقرأ الكتاب) :
إلى حبيبة الفؤاد، عزيزتي سعاد، سلام كثغرك في الرقة، وتحيات تتأرج بها الأرقة ، يهديهما إليك، محب فؤاده لديك، ثم أبشرك يا حبيبتي بأن العدا، ذهب كيدهم لي سدى، وبلغت من الارتقاء الأمل، وربما صحت الأجسام بالعلل، ولا يكدرني غير الفراق، والشوق للتلاق فأسألك، أن تجعلي وصيتي نصب عينك، حتى يجمع الله بيني وبينك.
الإمضاء: محبك الطاهر سعيد طاهر
فاخرة (لطاهر) :
وأي شيء في هذا الكتاب، يستحق عليه سعيد العتاب؟ وهل يا ترى الحب اختياري يقبل التغيير، أم هو اضطراري بحكم التأثير؟ وماذا يفيد الاغتراب، إذا تمكنت المحبة من الأحباب؟!
إذا تمكن حب بالفتى وسرى
في الروح والجسم مسرى البرد في العلل
وصار للذات وصفا قبل نشأتها
لما تعارفت الأرواح في الأزل
فكيف يدرك للصب التحول عن
وصف به قام في مأوى وفي رحل
وهل تقوم مقام الأصل عارية
هيهات ما الكحل في العينين كالكحل
ومع ذلك فأي ضرر أو انتقاد، على حب سعيد لسعاد، وقد أثبتت الأفكار الصادقة أن كل نفس في الوجود عاشقة، وبرهنت لنا الحقائق أن المعشوق بحسب مزاج العاشق؟! وكم للعشق من فضائل يتخذها العاشق للمعشوق من أجمل الوسائل؟! أما ترى أن أول شيء ذكره سعيد في الكتاب، هو تبشير سعاد بما ناله من رفعة الجناب، لما رآه فيها من محاسن الخصال، فأخذ يتقرب إليها من طريق الكمال، وحينئذ فلا شيء موجب للتكدير من جهتهما يا حضرة الأمير؟!
طاهر (لفاخرة) :
إني أعلم ما تقولين، ولكني لا أرى ما ترين، وأي رأي يكون للنساء يا عديمة الرواء؟!
فاخرة (لطاهر) :
كيف تقول يا ذا الذكاء، أن لا رأي للنساء، وهذا هو الاستبداد، والمكابرة من الرجال والعناد، ويمكنني أن أقيم على هذا البيان، كل دليل وبرهان؟!
طاهر (لفاخرة) :
دعينا من هذا المقال؛ لأنه لا يناسب هذه الحال، والواجب على الوالد أن يسعى لما فيه إصلاح ولده، وأن يرده عن غيه إلى رشده، وإني سآتي بسعاد إلى هذا المقام، وأزوجها لمن يكون مثلها في المقام، فينحسم الإشكال، وينقطع الجدال. (ثم يلتفت إلى الآغا ويقول):
طاهر (لمرسال) :
اذهب يا مرسال آغا، أسرع من سهم الوغى ، وأتني بالفتاة سعاد.
مرسال (لطاهر) :
لك الأمر وعلينا الانقياد. (ثم يخرج)
طاهر (لفاخرة) :
إن سعاد ستأتي الآن، وأنت عليك تدبير هذا الشان، وإرضاؤها بالزواج لمن اختاره لها من الأزواج، وهدديها بالوبال والنكال، إذا هي رفضت أمري في الحال. (ثم يخرج طاهر وتبقى فاخرة وسلمى نديمتها.)
فاخرة (لسلمى) :
من كان يبغي سبيلا عز مسلكه
هيهات إن كان بالسراء يسلطه
ومن رمى سهم بغي من كنانته
فسهمه راجع فيه ويهلكه
وليس ينجح في أعماله رجل
ونفسه بقياد الشر تملكه
فقل لمن يتمنى للسوى ضررا
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
وإني أرى الأمير يا نديمتي سلمى، سار في هذا الطريق سير الأعمى؛ لأني أعلم أن سعيدا مغرم بسعاد، وهي تحبه ملء الفؤاد، وكيف أنها بعد ارتباطها بابن الأمير، تتنازل لشخص عن هذا المقام حقير؟! هيهات هيهات! ولو أنها تساوي الرفات، فماذا ترين يا سلمى، في حل هذا المعمى؟
سلمى (لفاخرة) :
إن رأيك أيتها الفاخرة، من الحكمة الباهرة، وإن سعاد غادة أديبة، وعاقلة نجيبة، مع ما لها من نضرة الصباحة، ونظرة السماحة، وطلاوة الدلال، وحلاوة المقال، ورقة الخصر، ودقة الثغر، ودل الهيف، ولطف الترف، وصباح الغرة، وشفق الطرة، والنغمات الشجية. على الألحان الموسيقية، وبالجملة هي نموذج الكمالات، بين جميع الغانيات، فهي والحالة هذه، لا ترضى بالدون، ولو ذاقت في حب سعيد المنون، وإذا هي تزوجت بسواه قهرا، وأغصبها الأمير على غيره قسرا، فماذا تعملون بالأمير سعيد حين يحضر ويشاهد هذا الخطب الشديد، وليس الغرض مجرد العناد، وإرغام أنف الأولاد، فإن لهم حقوقا يطالبون بها شرعا. قال تعالى:
آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ، وإذا ضاعت حقوق الولد عند والديه، فإن طاعتهما ربما تخرج من يديه. فاتخذي يا مولاتي الحكمة في هذا الغرض، من قبل أن يتعاصى على الطبيب المرض. (ثم يدخل مرسال ويقول):
مرسالة (لفاخرة) :
قد أقبلت يا مولاتي السيدة سعاد.
فاخرة (لمرسال ) :
أحضرها إلى هذا الناد.
سلمى (لفاخرة) :
سترين من جلال رونقها، وتسمعين من جمال منطقها، ما يبهر النظر، ويدهش الفكر، وتعلمين عذر سعيد، في هذا الجمال الوحيد. (ثم تدخل سعاد وتقول):
سعاد (لفاخرة) :
صباحك مولاتي سعيد وأيامك
ولا برحت باليمن تخفق أعلامك
ولا زلت في خدر الجلال مصونة
تفوز لديك بالكرامة خدامك
فاخرة (لسعاد) :
صباحك مأنوس به طاب إكرامك
وعمرك تهنى بالصفا فيه أيامك
فأهلا وسهلا يا سعاد تفضلي
علينا بهذا الحسن فالحسن خدامك
اجلسي يا سعاد، على الرحب بالإسعاد، وخبريني بشعرك هو إنشاء أم إنشاد.
سعاد (لفاخرة) :
بل هو ارتجال، يا ربة الكمال.
فاخرة (لسعاد) :
وهل درست شيئا من العلوم؟
سعاد (لفاخرة) :
نعم يا صاحبة الفضل المعلوم، حضرت علم الأوزان، والنحو والبيان، والصرف والأصول، والفقه يا فاخرة الأصول، وحفظت تاريخ الأمم، من عرب ومن عجم، وعرفت فضائلهم فاتبعتها، وانتقدت الرذيلة فاجتنبتها.
فاخرة (لسعاد) :
وهل عرفت شيئا من علم الموسيقى؟
سعاد (لفاخرة) :
نعم درست هذا الفن أيضا وعرفت طريقه.
فاخرة (لسعاد) :
هل تسمحين بإسماعنا شيئا من الألحان، لتنتعش منا الأرواح والأبدان.
سعاد (لفاخرة) :
سمعا وطاعة يا رفيعة الشان. (وتنشد هذين البيتين):
أغث أخاك إذا نابته نائبة
ولا تكن عن صروف الدهر باللاهي
واعطف على مستجير جاء ملتجئا
فالناس بالناس حيث الكل بالله
فاخرة (لسعاد) :
ما أحسن تربية البنات! فإنهن سيصرن يوما ما أمهات، ويكون عليهن تربية الأبناء، فإنهن المدرسة الأولى للأحياء، وهل تعلمت يا سعاد الرقص؟
سعاد (لفاخرة) :
كنت أود ذلك لولا ما فيه من النقص.
فاخرة (لسعاد) :
كيف ذلك يا ذات الفطن، والرقص من أركان المدنية في هذا الزمن، حتى أصبح زينة الولائم والمحاضرة، حين يتعانق الشاب والغادة بالمخاصرة؟! شؤون تدل على الوئام، والتحابب والالتئام، فما بالك بعد هذا النص، ترميه بالنقص؟!
سعاد (لفاخرة) :
آه يا ربة البيان! يضيق الصدر ولا ينطلق اللسان، وهل يروقك أن تدخل ابنتك العاقلة، في المجتمعات السافلة، وتطرب الحاضرين بأنغامها، وتميس أمامهم بقوامها، والشبان حولها وقوف، هذا هائم وذاك مشغوف؟! ثم تقولين يا ذات الشمائل العربية، إن ذلك من أركان المدنية؟! وأما ما يحصل من بعض العواهر الشرقيات، من الرقص في الحانات، فهذا لم يكن من عوائد الشرق المندوحة، ولا الخصال العربية الممدوحة؛ ولذلك لا يحضرها أحد من الأفاضل، بل هي مجتمع الأوباش والأسافل، وسيأتي يوم تبطل فيه هذه العوائد الردية، بعناية الحكومة السنية.
فاخرة (لسعاد) :
لله درك! وماذا تقولين في الزواج؟
سعاد (لفاخرة) :
إن الزواج يا معدن الابتهاج لازم للإنسان؛ لأن عليه التناسل وهو علة العمران، وأما أولاد السفاح، فإنهم أبناء الشر والافتضاح؛ لعدم وجود الرابطة الشرعية، وفضيلة الواصلة الدينية، فيصبحون في الوجود هملا، لا يحسنون في المجتمع الإنساني عملا.
فاخرة (لسعاد) :
ولماذا لا تتزوجين يا سعاد، وتحصلين على رغد العيش ونعمة الأولاد؟
سعاد (لفاخرة) :
إن الزواج أيتها الأميرة، ليس من الأمور الصغيرة؛ ولذلك وجب انتقاء الأزواج، حسبما يلائم الطبع والمزاج، ليدوم بين الزوجين الائتلاف، ولا يحوم حولهما خلاف، والعاقلة بما ينفعها خبيرة، والإنسان على نفسه بصيرة. (ثم يدخل مرسال آغا.)
مرسال (لفاخرة) :
قد أرسلني مولاي لأعرض عليك أمرا، وأن يكون حديثنا فيه سرا. (تقوم فاخرة وتبتعد قليلا.)
إن الأمير استحسن زواج ابنة غانم بالحاج بكير آغا الخادم، وجعل مهرها خمسين دينار، وأن يكون عقد الزواج هذا النهار، وقد بعث في طلب القاضي والشهود؛ لإظهار ذلك في عالم الوجود. فبشريها بصفاء الحال، وعديها بحسن الاستقبال.
فاخرة (لسعاد) :
قد أبرأ العليل الطبيب، وقطعت جهيزة قول كل خطيب، ولك البشرى يا سعاد، بإقبال الإسعاد. فقد زوجك الأمير بجناب الحاج بكير، فاقبلي هذه النعمة بالشكر، ولا تقابلي الجميل بالنكر.
سعاد (لفاخرة) :
كيف ذلك أيتها السيدة الجليلة، وما هذه الأمور المستحيلة؛ لأن الأمير لم يكن ولي أمري، ولا هو عالم بما في صدري، وأنا لم أوكله في زواجي، ولم أبين له منهاجي، فهل رآني من الأنعام يقودني إلى حيث شاء بذمام؟! أم أي شرع وناموس، أباح له التصرف في الأعراض والنفوس، وإلى متى يكون استبداد الأكابر على من لديهم من الأصاغر؟! فأخبري حضرة الأمير الهمام، بأني أرفض هذا الأمر والسلام. (ثم يدخل الأمير طاهر.)
طاهر (لسعاد) :
ماذا تقولين يا سعاد، وماذا يفيدك هذا العناد؟ أخروج عن الطاعة، وأنت عديمة الاستطاعة؟! أما عرفت يا ذات الهفوة، أن الحق للقوة؟! فامتثلي أمر الزواج ببكير، وإلا أذقتك عذاب السعير.
سعاد (لطاهر) :
اعلم يا ذات الفتوة، أن الحق ليس للقوة، ولكن القوة للحق إذا تجردت عن البهتان والملق، وإلا فلا نعدها قوة أبدا، بل نعتبرها اغتصابا نكدا، نرجع فيه للمخاصمة إلى محكمة الحق العليا أمام جميع عقلاء الدنيا، وإلا فأروني أي قوة بغير الحق دامت، وأي أمة استطالت على حقوق الغير ثم طالت؟! كلا بل إنهم تركوها وتركوا معها أماكنهم، وأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم، والحق لا يضيعه يا ذا الفكر العال، غير بلادة صاحبه أو الإهمال، أو الطيش في الطلب، أو عدم الحكمة في الأخذ بالسبب، وإلا فأروني أي صاحب حق طلبه بالشرع والقانون، ثم عاد بصفقة المغبون، وهكذا أنا أعرف حقوقي، وأرى مواضع بري وعقوقي، فلا تغتر يا حضرة الأمير بقوتك، فقدرة الله الحق فوق قدرتك.
طاهر (لسعاد) :
اتركي يا سعاد المراوغة، ولا تسلكي سبيل المزاوغة، ولا يغرنك الوعد والوعيد، من ولدي الأحمق سعيد، فإنه جاهل بواجبه، ووصولك للسماء أقرب من الزواج به، فاتركيه واعشقي سواه، وابعدي عنه سألتك الله.
سعاد (لطاهر) :
إني يا مولاي ليس لي علاقة بالأمير سعيد.
طاهر (لسعاد) :
اسكتي ولا تثيري غضبي الشديد، وتهيئي للمسير إلى أبيك في الحال، ولا تبوحي لأحد بهذا المقال. (تقبل يده وتخرج.)
طاهر (لمرسال) :
اذهب يا مرسال، وأتني بالغضوب والمنتقد في الحال، وانصرفي الآن يا فاخرة، إلى حجرتك الطاهرة. (ثم يخرج مرسال وفاخرة.)
طاهر (لنفسه) :
إن سعاد عرفت مكانها من قلب سعيد، وأصبح السعي في تفريقهما لا يفيد، وهي لا شك تسعى الآن في حتفي، وتأخذ مني ولدي رغم أنفي. فيذهب مجدنا، ويشقى سعدنا، وقد ورد في حكم مفتي الثقلين، جواز إفساد الثلث في إصلاح الثلثين؛ ولذلك أرى وجوب قتلها؛ جزاء لها على سوء فعلها؛ لينجو ولدي من مكرها، وأنا أتخلص من غدرها. (ثم يدخل مرسال.)
مرسال (لطاهر) :
قد جاء المنتقد والغضوب.
طاهر (لمرسال) :
أحضرهما لنأمرهما بالمطلوب. (ثم يخرج مرسال.)
طاهر (لنفسه) :
قد زهقت نفسي، وكدت أغيب عن حسي، فلا عشت إن بقيت عليها، ولم أهلك نفسها التي بين جنبيها. (يدخل المنتقد والغضوب.)
طاهر (لغضوب) :
إني ربيتكما يا غضوب؛ لتكونا عدتي وقت الخطوب، وقد دعوتكما لأمر أزعج بالي، وهيج بلبالي، فساعداني بساعد الهمة، واكشفا عن مولاكما هذه الغمة.
غضوب (لطاهر) :
مرنا بما تريد، من قطع صخر أو قطم حديد، أو سفك دم هاض، أو هتك أعراض، تجدنا لأمرك طائعين، ولندائك سامعين.
طاهر (لغضوب) :
إن سعاد ابنة غانم، ارتكبت أقبح الجرائم، وأفسدت أخلاق ولدي سعيد، بعد ما كان لي أطوع من العبيد، ولم أر جزاء لها على فعلها، غير التعجيل بقتلها، فماذا تريان، أيها الخادمان الأمينان؟
غضوب (لطاهر) :
الإعدام جزاء مثل هذه الغدارة
وسأمزق أحشاءها بهذه الغدارة
طاهر (لغضوب) :
وإني أمرتها بالذهاب مع خادمها الآن، إلى منزل أبيها المهان؛ ليكون سيرها تحت الظلام، وتتمكنا من قتلها والإعدام، فامضيا واقطعا عليها طريقها، واقتلاها واقتلا رفيقها، واقتسما بينكما هذه الماية محجوب، ولكل منكما مثلها بعد إتمام المرغوب. (ثم يأخذان الدنانير ويخرجان وتدخل فاخرة.)
فاخرة (لطاهر) :
ما الخبر يا طاهر، وبماذا أوعزت لخدامك الفواجر؟
طاهر (لفاخرة) :
دعيني يا فاخرة، أقاسي همومي القاهرة، وخبريني هل ذهبت سعاد؟ آه ... وهل يتم لنا بقتلها المراد؟
فاخرة (لطاهر) :
بقتلها المراد! آه ما هذه الأنكاد؟ وهل كنت تأمرهما بقتل البرية، التقية النقية، بغير ذنب جنته، أو إثم ارتكبته؟!
طاهر (لفاخرة) :
لا تتكلمي فيما لا يعنيك، وإلا سمعت ما لا يرضيك.
فاخرة (لطاهر) :
ماذا يكون جوابك يا ظلوم، يوم تجتمع عند الله الخصوم، يوم يتعلق المظلوم برقبة من ظلم، وينادي انتصر لي يا رب يا نعم الحكم؟ وبأي وجه تلقى الله، يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله؟ أسفي يا سعاد على شبابك الناضر! وا حسرتاه على جمالك الزاهر!
قتلوا وا حسرتاه ظلما سعاد
حيث ريعان الشباب
لم يخافوا يوم يلقون العواد
ويذوقون العذاب
آه يا ويلاه من غدر الزمان
سيراه الظالمون
نحن لله ومهما شاء كان
وإليه راجعون
طاهر (لفاخرة) :
صه يا فاخرة، مه يا خاسرة، اسكتي يا عديمة السداد، وإلا ألحقتك بسعاد.
فاخرة (لطاهر) :
طاهر ارجع عن طريق الغادرين
كيفما تعمل تدان
ليس يهدي الله كيد الخائنين
فاتق غدر الزمان
طاهر (لفاخرة) :
أفاخرة الجهولة ما دهاك
كفاك اليوم من لومي كفاك
وكفي الدمع لا تبكي سعادا
فقد صادت سعيدا في الشراك
وفازت بالذي حازت وأضحى
سعيد من عداي ومن عداك
ولولا أنني أنفذت أمري
لصرنا مع سعيد في عراك
فلا عاش الهزبر بغير بأس
به يحمي العرين من الهلاك (ثم يخرج وتبقى فاخرة.)
فاخرة (لنفسها) :
بلغ السيل الربا، وتفرق الجمع أيدي سبا، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فإنا لله وإنا إليه راجعون. (ثم تخرج فاخرة وتنكشف ستارة أخرى.)
المنظر الثاني (تنكشف ستارة أخرى عن جبال وأودية ويدخل الغضوب والمنتقد.)
غضوب (للمنتقد) :
قد رأينا سعاد سائرة في سفح الجبل، فسبقناها إلى هذا المحل؛ إذ ليس لها سبيل سواه، وستأتي قريبا ونعدمها الحياة.
المنتقد (لغضوب) :
قل لي بالله يا غضوب، ما الذي جنته سعاد من الذنوب، حتى استحقت الإعدام، وشرب كأس الحمام.
غضوب (للمنتقد) :
جزاؤها أيها المنتقد البصير، أنها خالفت مولانا الأمير، وخدعت ولده بالتضليل والختل، فاستحقت على ذلك القتل.
المنتقد (لغضوب) :
وهل بيد الأمير مقاليد الأحكام، ويسوغ له شرعا أن يأمر بالإعدام؟ وهل بمجرد أن سعاد أغوت ولده، وملكت بالحب قلبه وكبده، يكون الجزاء قتلها، مع أن الله يقول:
وجزاء سيئة سيئة مثلها ؟! وإذا نحن قتلناها طاعة لهواه، فهل نكون الملامين أم هو الملام عند الله؟ فيلزمنا أن نعلم قبل كل شيء، أن الله ينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.
غضوب (للمنتقد) :
اترك يا أخي هذه الأفكار، واجعل أكبر همك كسب الدينار؛ لتعيش في الدنيا سعيدا، وربما تكون عند الله شهيدا، فهو رب كريم، يغفر الذنب العظيم.
قالت لي النفس أما تستحي
وأنت في وادي الخطايا مقيم
هلا تزودت فقلت أقصري
هل يحمل الزاد لدار الكريم
المنتقد (لغضوب) :
أف لهذه النصيحة يا ذا النجوى! وأين هي من قوله تعالى:
وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ؟! فارجع بنا يا غضوب لله الحق، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق.
غضوب (للمنتقد) :
ها هي قد أقبلت سعاد، فهلم بنا لنختفي في هذه الوهاد. (ثم تدخل سعاد وخلفها خادمها حافظ وهي تنشد هذه الأدوار.)
سعاد (لنفسها) :
سرت يا نعم المسير
في هري المولى سعيد
يا ترى كيف المصير
هل شقاء أم سعيد
حافظ (لسعاد) :
إني أحس يا مولاتي سعاد، بحركة في هذا الواد، وما أظنها إلا كمين، في هذا المكان المكين، فسارعي في المسير؛ لننجو من هذا المكان الخطير.
سعاد (لنفسها) :
ليتني أموت بالمرة، وأستريح من هذه العيشة المرة. (وإلى هنا ينطلق العيار ويهرب حافظ خادمها وتقع سعاد صريعة ويظهر غضوب.)
غضوب (للمنتقد) :
إن الضربة أصابت، وآمالنا ما خابت، فاذهب يا منتقد وبشر الأمير، واحتفظ على نصيبي في الدنانير، وأنا أبقى لأواري رمتها في هذا الطلل، وأسلب ما عليها من الحلي والحلل.
المنتقد (لغضوب) :
ستلقى من الله ما جنته يداك، يا سفاك الدماء يا أفاك. (ثم يخرج المنتقد ويدنو غضوب من سعاد ويحركها ويقول):
غضوب (لنفسه) :
وا أسفاه! أخطأت الضربة الفتاة، وهي الآن مغمى عليها، والحياة ملء عينيها، وإذا كنت أخطأت في الماضي، فسأصيب في قتلها بهذا الخنجر الماضي، ولماذا لا أحظى بوصالها، وأتمتع بجمالها، وبعد أن أقضي منها ما أريد، فقتلها عندي ليس ببعيد. (ثم يدنو من سعاد ويحركها ويقول):
غضوب (لسعاد) :
تنبهي يا سعاد، انتبهي يا غاية المراد. (ثم تنتبه سعاد وتقوم وتقول):
سعاد (لنفسها) :
سبحان الكريم الأول! سبحان من لا يغيب ولا يغفل! (ثم يقع نظرها على غضوب فتقول):
سعاد (لغضوب) :
من أنت أيها الإنسان؟ وأين نحن الآن؟
غضوب (لسعاد) :
أنت يا مهجة القلوب، مع حبيبك غضوب، وأرجوك يا ذات الجمال، أن تسمحي لي بالوصال.
سعاد (لغضوب) :
ممن تريد الوصال، يا ذا الفحش والضلال؟
غضوب (لسعاد) :
خلي عنك العربدة، فلا بد من وصالك ولو كنت في بروج مشيدة. (ثم يهيم بها.)
سعاد (لغضوب) :
يا غضوب استحي من الله؛ فإنه يرانا ولا نراه، وارجع عن هذه الأوهام، واعلم بأن الله سريع الانتقام.
يا غضوب ارتجع لك الله عني
واتق الله وانتبه يا غافل
فمحال نوال قصدك مني
لو أذوق المنون من كف سافل
غضوب (لسعاد) :
يا سعاد اسمحي بوصلك إني
لي قلب إلى وصالك مائل
إن هتك الأعراض من ضمن فني
وفؤادي عن المواعظ غافل
سأنال المرام رغما لأني
عالم بالخنا وبالفسق عامل
هكذا هكذا ربيت وما لي
رادع في الصبا فنصحك عاطل
سعاد (لنفسها) :
يا مفرج الكروب، أغثني من هذا الغضوب.
غضوب (لسعاد) :
لو نزل إسرافيل وميكائيل، وتبعهما جبرائيل وعزرائيل، لينقذوك مني فهذا شيء مستحيل.
سعاد (لنفسها) :
أين عيونك يا سعيد، وتنقذني من هذا الكرب الشديد؟
غضوب (لسعاد) :
سعيد يا خاسرة، سعيد يا فاجرة، خذيها من يدي القاسية، طعنة هي عليك القاضية. (وإلى هنا ينطلق عيار ناري ويقع الغضوب ويأتي سعيد مسرعا وهو يقول):
سعيد (لسعاد) :
لبيك إني يا سعاد فداك
ناديت باسمي فاستجبت نداك
ناديت باسمي يا سعاد فها أنا
وافيت أكفيك عداء عداك
شلت يمينك يا غضوب أردت أن
ترمي سعادا في شراك هلاك
لم تخش عقبى الغدر يا صنو الخنا
ونسيت قهر مدبر الأفلاك
فوقعت في الشر الذي أعددته
للغير والله مجيب الشاكي
هذا جزاؤك يا خئون فسر إلى
بئس المصير ولات حين فكاك
ثم أخبريني يا سعاد من الذي
بسهام هذي النائبات رماك
كيف استطال عليك هذا الكلب هل
من نفسه أو أوعز أفاك
يا ويلهم هلا ثنتهم رحمة
بك لكن الرحمن قد والاك
وعلى يدي كانت نجاتك فاشكري
لله فهو بفضله نجاك
المنتقد (لغضوب) :
هذا ما جنيته على نفسك يا خئون
وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون
وقد نجى الله هذه المسكينة
وكل نفس بما كسبت رهينة
سعيد (لسعاد) :
لا بأس عليك يا سعاد، لقد فزنا من نجاتك بالمراد، فأخبريني يا عزيزتي بما حصل، وكيف أن الأمر إلى هذا الحد وصل.
سعاد (لسعيد) :
الحمد لله على خلاصي من الهلاك، على يديك يا أيها الملاك، فقل لي أولا كيف وصلت إلينا؟ ومن الذي دلك يا مولاي علينا؟
سعيد (لسعاد) :
لما أرسلني أهلي للعسكرية، وكان قصدهم إيقاعي في بلية، جاءت المقادير على خلاف ما أضمروه من التدابير، وأحبني دولة الوالي، ورقاني لكل منصب عالي، ومالت إلي الجنود، رغم أنف القائد الحسود، ولم يفز ولله الحمد بالمراد، وكل ذلك من أجلك يا سعاد، ولما طال الفراق وزاد الهيام، استأذنت لأزورك وأهلي بضعة أيام، وبينما أنا سائر بغير رفيق، صادفت المنتقد يهرول في الطريق، وأخبرني بما حصل الآن، وبأن الغضوب قتلك في هذا المكان. فانطلقت إليك كالبرق من بعيد، وسمعت صوتك يستغيث باسم سعيد، فانحدرت انحدار الغيث، واندفعت اندفاع الليث، فوجدته هاجما عليك كالعدو المبين، ويريد أن يطعنك بالسكين، فبادرته بإطلاق الرصاص، ولو أمهلته لاستحال الخلاص. فأخبريني يا سيدة الحرائر، عما حصل لك من الأول للآخر.
سعاد (لسعيد) :
لا شلت يداك، وجعلني الله فداك، فعافني يا ذا المكرمة، من ذكر هذه الحوادث المؤلمة، وسل المنتقد إذا شئت عنها؛ فإنه لا يفوته شيء منها.
سعيد (للمنتقد) :
قل لي يا منتقد عما صار، وكن صادقا في رواية الأخبار.
المنتقد (لسعيد) :
قد سول عمك لأبيك بعد سيرك، أن يزوج سعاد بغيرك، ولما أبت عليه ذلك، نصب لها شباك المهالك، وسيرها لوالدها في جنح الظلام، وأمرني وغضوب بقتلها والإعدام، ولما كان ذنبها لا يستحق أدنى عقاب، نصحت لصاحبي أن يرجع إلى الصواب، ولكنه أصر على هذا القصاص، وأطلق عليها الرصاص. فرجعت والهم لي رفيق، حتى قابلتك يا مولاي في الطريق.
سعيد (لسعاد) :
أحق ما يقول يا سعاد؟
سعاد (لسعيد) :
أي ورب العباد، وبعد أن أخطأتني الغدارة، سولت لغضوب نفسه الغدارة، أن يراودني عن نفسي، أو يلحقني بأمسي، فاخترت الفناء، على ارتكاب الخناء، حتى تعطف الرحمن علي، وأرسلك يا مولاي إلي.
سعيد (لسعاد) :
آه! ما للزمان بلا ذنب يعاديني
ظلما وداعي الردى فيه يناديني
والدهر عمدا ببلواه يفاجئني
والأهل أضحت بلا إثم تناويني
حتى استطال الغضوب الوغد مجترئا
يا ويلتاه لهتك العرض والدين
يا موت زرني فما لي في البقاء غرض
بحال بؤس وعيش ليس يرضيني
هكذا قضاء الله، فصبرا على ما قضاه، حتى تلوح الفرصة، وتزول عنا الغصة، غير أني أفتكر الآن في أمر صعب، وهو أن الحكومة ستبحث عن قاتل هذا الكلب، وتقع هنالك الأبرياء، ويقاسون بسببي العناء، والرأي عندي صرف النظر الآن عن زيارة أهلي، وأوصلك إلى منزلك وأرجع إلى محل شغلي، وهناك ننظر من يتناوله الردى، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا. فهيا بنا لأوصلك إلى دارك، وحذار أن تبارحيها فإن العداة في انتظارك، والتزمي يا حبيبتي الصبر، وسلمي لله تعالى الأمر.
أدوار الختام
الجميع (لأنفسهم) :
يا نفس صبرا فالحرج
من بعده يأتي الفرج
كم حادث أضنى المهج
وزال والقلب ابتهج
سعيد (لسعاد) :
فارعي عهودي يا سعاد
وحافظي على الوداد
ولازمي نهج السداد
والله يقضي ما أراد
سعاد (لسعيد) :
كم ذا أقاسي يا سعيد
من حادث الكرب الشديد
والعمر أضحى لا يفيد
والموت أقصى ما أريد
الجميع (لأنفسهم) :
لا صفو يبقى للأنام
ولا رأينا الحزن دام
وكل شيء بالختام
والستر أغلى ما يرام
الفصل الثالث (تنكشف الستارة عن ديوان الولاية وفيه الوالي ومعه المفتي وقائد الجيش ورئيس الشرطة.)
الوالي (للرئيس) :
وصلت إلينا الأخبار السرية، بوجود جثة قتيل في البرية. فهل لديك خبر من تلك النقطة، يا حضرة رئيس الشرطة؟
الرئيس (للوالي) :
لم يصل عن ذلك خبر بعد، يا صاحب الدولة والمجد.
الوالي (للرئيس) :
كيف ذلك أيها الهمام، وأنت المكلف بالضبط العام، والواجب علينا أن نسهر لتنام الرعية، ونتعب أنفسنا في راحة البرية، وليس القصد من وجودنا في الحكومة، مجرد العظمة الموهومة، فذلك ينافي أغراضي، والمحكمة ليست ملكا للقاضي، والواجب على الرئيس، أن يكون قدوة للمرءوس، فالأجسام تصح ما صحت الرءوس؟!
الرئيس (للوالي) :
إني يا مولاي منذ تقلدت الرئاسة، ناهج سبيل الحزم والكياسة، وما فرطت يوما في عملي، ولا أفرطت في أملي، وربما يكون تأخير الخبر، لخاطر على حاكم الجهة خطر. وغلطة أحد العمال، لا يترتب عليها مؤاخذة الرئيس في الحال.
الوالي (للرئيس) :
التسليم للحق أسلم، والرجوع إلى الصواب ألزم، والإصرار على الخطا، يكشف عن الجهل الغطا. وكيف تتبرأ من كلامي، مع أن القتيل وصل خبره إلى مقامي، وأنت عنه غافل، وبما يحدث في دائرة اختصاصك جاهل؟! فينبغي المبادرة الآن بالتعجيل في الذهاب إلى حيث وجد القتيل، وتتحرى عن كيفية إهلاكه، وتجتهد في معرفة القاتل وإمساكه، وإياك والظلم فعاقبته ندامة، وهو ظلمات يوم القيامة، ولا تأخذ البريء في شبهة القاتل، ثم تفتخر باطلا بأنك أظهرت الفاعل، فيؤديك ذلك إلى التلفيق، والغش في محاضر التحقيق، وربما كان القاتل مع المتفرجين ينظر إليك، ويضحك من جهلك عليك، وخذ بالأحوط في الأمور، إلى أن ينكشف المستور، وسيأتي إلينا قاضي التحقيق ومعه الطبيب، فكن لهما خير رفيق ومجيب.
المفتي (للوالي) :
لو تمسكنا بأحكام الشريعة السمحاء، ما تجشمنا في القضا هذا العناء، ولكنكم مزجتموها بالسياسة، وسلمتم مقاليدها لأصحاب الرئاسة.
الوالي (للمفتي) :
أما لهذه الأفكار غاية، يا حضرة مفتي الولاية؟ وإلا فقل لي أي قضية من هذا القبيل، حكم فيها قبل عرضها على مفتي الشرع الجليل؟ (ثم يدخل التشريفاتي ويقول):
تشريفاتي (للوالي) :
إن القاضي في قاعة التشريفاتية، ينتظر أمر دولتكم العلية.
الوالي (للتشريفاتي) :
ليحضر في الحال.
تشريفاتي (للوالي) :
أمرك يا معدن الإجلال. (ثم يخرج)
الوالي (للقائد) :
إني أرى يا حضرة قائد الجنود، أن عمل القاضي أهم عمل في الوجود، فهو يقضي بين الخصوم، وحكمه نافذ في العموم. فيا سعادة من أرضى الله والناس، وحكم بالشرع والقياس.
القائد (للوالي) :
مهما كان القاضي أروعا، فهو لا يرضى الخصمين معا، والعادل من أرضى الحق، وتنزه عن الزيغ والملق. (ثم يدخل القاضي.)
القاضي (للوالي) :
يا وزيرا قد تجلى
عن سجاياه الصلاح
وبه العدل تحلى
أسعد الله الصباح
الوالي (للقاضي) :
دمت بالإصلاح قاض
ناهجا نهج الصلاح
وعليك الحق راض
في مساء وصباح
قد وصل إلى مسامعنا خبر قتيل مجهول، بين أكام زحلة والتلول، وقد دعوتك لتتوجه الآن، مع رئيس الشرطة إلى ذاك المكان، وتباشر التحقيق بغاية الحكمة والتدقيق ، واعلم بأنك محور الدائرة، وعلى أعمالك تدور الدائرة. فلا تقطع بالفكرة الصارمة، بجناية المتهم ما دامت الشبهة قائمة، وليكن حسن الخلق عنوان فعلك وقولك، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك، ولا يستميلك الهوى فيضلك عن الصواب، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، وتذكر قول الحكم العدل،
وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ، وجزاء الإحسان الإحسان، وكما يدين الفتى يدان.
القاضي (للوالي) :
إني مطيع لأوامر دولتكم
وخاضع لإرادة عنايتكم
الوالي (للقاضي) :
الطاعة للحق أولى، والخضوع للشرع أعلى، وإني لا أسلبك حرية الاستقلال، ولكني أراقب جميع الأعمال؛ لأتبين الأصالة من الخطل، ويكون لدينا الجزاء من جنس العمل. (ثم يدخل سعيد.)
سعيد (للوالي) :
بك الصبح يا شمس الولاية أسفرا
يؤذن داعي السعد فيه مكبرا
فأنعم صباحا وأتنس بصفائه
كما ائتنست منك المدائن والقرى
رجعت ولم تمض ليالي إجازتي
لخطب جرى بالأمس فيه دم جرى
الوالي (لسعيد) :
لله درك يا سعيد! وكم لك عندنا من عمل مفيد، وما أظن إلا أنك سمعت بحادثة المقتول، فرجعت لتساعد على إظهار المجهول، وفضلت العود لمحل شغلك على المكث بين سكنك وأهلك. فهكذا تكون الشبان، وهكذا فلتكن خدمة الأوطان، وإني عينتك مع القاضي؛ لتكون بالحق سيفه الماضي، وما أعهده فيك من حسن الروية، يغنيني يا سعيد عن الوصية.
سعيد (للوالي) :
دع الهم إني أشهد الله ما جرى
وأعرف سفاك الدماء الذي جرى
دم طاهر من غير إثم أراقه
أثيم وخلاه يسيل معفرا
وقد كان عن عمد ولا خطأ ومن
جنى عامدا يقتل وأن لتجسرا
الوالي (لسعيد) :
رويدك قل لي يا سعيد من الذي
أراق الدما حتى أراه فيقبرا
فإن كنت قد أمسكته فلك الثنا
وإلا فإن القبض لن يتعذرا
سعيد (للوالي) :
أمولاي هون ما لديك فإنني
أنا القاتل الجاني عليه بلا مرا
قتلت قتيلا طاهرا متعمدا
لشهوة نفس لا لإثم به اجترا
سفكت دما قد حرم الله سفكه
وغادرته ويلاه يخبط في الثرى
وها أنا ذا قد جئت معترفا وما
لمعترف عذر لديك فيعذرا
فمر بالقصاص الآن عدلا معجلا
ومر بنفاذ تطمئن به الورى
القائد (للوالي) :
قد وجب القصاص، وليس لسعيد منه مناص.
سعيد (للقائد) :
ويا قائد الجند ابتهج واحتكم فكم
نصبت لنا فخا ولكن تكسرا
ويا دولة الوالي تعطف بوالدي
وأهلي من بعدي فإني كما ترا
الوالي (لسعيد) :
ما هذه الحال أيها المغبون؟ ومتى أصابك هذا الجنون؟ ومن هو ذلك القتيل؟ وما سبب هذا الفعل الوبيل؟
سعيد (للوالي) :
إني لست بمغبون، ولم يكن بي جنون. بل أنا القاتل الأثيم. أنا السفاك الزنيم. فاحكم على الجاني بما جناه، ولا تأخذك به رحمة في دين الله، ولا تسألني عن القتول، فإنه للآن عندي مجهول.
القائد (للوالي) :
لا ظمأ لمغترف، ولا عذر لمعترف، والحكم عليه أحكم، وسموكم بالعدل أعلم.
الوالي (للقائد) :
دع عنك الهياج، فليس لسوقه رواج، والتزم جادة الاعتدال، ولا تأخذ القاتل بكل ما قال. فليس كل اعتراف مقبول، ما لم يكن مطابقا للحس والمعقول، ولا يأخذنك الطيش في الطالحات، وادرءوا الحدود بالشبهات. فالمستعجلون بالشر قد يخيب أملهم، ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم. فاذهبوا بسعيد للسجن الآن، حتى ننظر فيما كان.
القائد (للحجاب) :
اقبضوا على هذا القتال
وكبلوه بالسلاسل والأغلال
سعيد (للقائد) :
تحكم فهذا اليوم ما كنت تبتغي
علي وللبدر المنير أفول
تهون علينا أن تصاب جسومنا
وتسلم أعراض لنا وعقول
الوالي (للقائد) :
حيث إن سعيدا من رجال الجنود النظامية، فتكون محاكمته أمام محكمة عسكرية، وعندها يقضي القانون، بحسبما كان فيما يكون، وليكن انعقاد المجلس، تحت رئاستك في هذا المجلس. فاجعل الحق ديدنك، والتثبت من الحقائق معدنك، وأطلق للمتهم حرية الدفاع، وأوله منك حسن الاستماع، فربما يظهر من فلتات لسانه، ما يخفيه عنك في جنانه، والذي يصدر به حكم المحكمة، يعرض لسدتنا المعظمة.
القائد (للوالي) :
أرجو أن يكون سموكم مرتاح البال، فإني ما ألفت غير الحق والاعتدال، ولا تعودت في الأحكام الظلم .
الوالي (للقائد) :
سننظر ما يصدر به الحكم. (ثم يخرج الوالي والمفتي.)
القائد (للحاجب) :
اذهب وادع حضرات أعضاء المحكمة العسكرية، ومعهم المدعي العمومي لننظر في هذه القضية. ثم ائت بسعيد المفتري، من الحبس العسكري. (ثم يخرج الحاجب.)
القائد (للرئيس) :
قد بلغ الأمل منتهاه، وسيلقى سعيدا ما قدمت يداه؛ فإنه كان ثعلبا محتالا، وطاووسا مختالا، وإذا مكنتني الفرصة، أجرع والده أيضا كل غصة، وستكون حضرتك من ضمن أعضاء المجلس، فكن لي خير معين ومؤنس.
الرئيس (للقائد) :
نعم ستراني معينا لك في السر والنجوى؛ اقتداء بقوله تعالى:
وتعاونوا على البر والتقوى .
القائد (للرئيس) :
ما أكثر سلامة قلبك، وقد كان سعيد يعمل على قلبك، ويريد أن يهتضم شأنك، ويعزلك ويحل مكانك.
الرئيس (للقائد) :
أرجو عدم التحامل على هذا المسكين؛ لكيلا نكون تحت قولهم إذا وقعت الماشية كثرت السكاكين، لا سيما أنك يا ذا المكرمة، ستكون رئيس المحكمة، فكن قدوة في العدل للقضاة؛ ليحكموا بالحق كما أنزل الله. (ثم تدخل ثلاثة قضاة والمدعي العمومي ويجلسون ويفتح الرئيس الجلسة ثم يدخل سعيد ومعه المحامي.)
القائد (للمدعي) :
اشرح التهمة والسبب، وأوضح للمحكمة الطلب.
المدعي (للمحكمة) :
قد وجدت جثة قتيل مجهول في هذا الصباح، عند روابي زحلة والبطاح، وكشف عليها الأطباء حسب الأمر، وقالوا إنها جثة رجل في الأربعين من العمر، وإنه مصاب برصاصة من آلة نارية، دخلت رأسه من الجهة الخلفية، فهتكت المخ وكسرت العظام، ومات الرجل بهذا السبب بدون كلام، ولم يحصل الاهتداء على الفاعل، ولم يعلم المقتول ولا القاتل، غير أن هذا المتهم الملام، كان استأذن رسميا في زيارة أهله بضعة أيام، وسافر من هنا البارحة وقت الغروب، ولكنه عاد في هذا الصباح وهو مكروب، واعترف أمام الجمهور جهرا، بأنه القاتل عامدا مصرا؛ ولهذا أطلب الحكم عليه بالإعدام، وإن أنكر فشهود الاعتراف تحضر إلى هذا المقام.
القائد (لسعيد) :
ما قولك في هذه التهمة
يا عديم النخوة والحشمة
سعيد (للقائد) :
أما التهمة فصحيحة، وأما بذاءة اللسان فقبيحة، والواجب على من للحكم انتصب، أن يكون كثير الحلم قليل الغضب.
القائد (لسعيد) :
هل قتلت هذا الإنسان
وما سبب هذا العدوان؟
المحامي (للمحكمة) :
لا يصوغ تكرار استجواب المتهوم، بغير طلب المحامي كما هو معلوم.
سعيد (للمحكمة) :
كلا، بل أنا الجاني الغدار، مع العمد والإصرار. فاحكموا بإعدام هذا الجاني، فإني يا سادتي كرهت زماني.
المحامي (للمحكمة) :
إن هذا الاعتراف باطل، ولسعيد في المسألة عذر كافل، وسأبين للمحكمة، أمورا في القضية مبهمة.
المدعي (للمحكمة) :
قد اعترف المتهم بالإقرار، وليس لديه سبيل للاعتذار، فإطالة المحاماة، لا تفيد أمام القضاة.
المحامي (للمحكمة) :
لا ينبغي المقاطعة والاندفاع، حتى أقضي واجب الدفاع، فالمحاماة والادعا خصمان، وكلاهما لدى المحكمة سيان.
الرئيس (للمحامي) :
تفضل يا حضرة المحامي الفاضل، فأنت لدينا أفضل قائل، والقضا مرتبط بالمحاماة، وكلاهما يسعى لما يرضي الله.
المحامي (للمحكمة) :
إن كلام المتهم لا يدل على اعتراف صحيح، بل هو صادر عن فؤاد جريح، مملوء بالأكدار والأحزان، وقد قال أمامكم إنه كره الزمان، وثبت من كلام المدعي العام، أن سعيدا خرج من هنا وقت الغروب بالتمام، والمسافة إلى روابي زحلة ثلاث ساعات، وتقرر طبيا أنه مضى على قتل القتيل عشر ساعات، وعلى هذا الحساب المعقول، يكون القتل حصل وقت وصول سعيد إلى محل وجود المقتول. فأين حينئذ التربص والترصد وقصد القتل والتعمد؟ والواجب التثبت في هذه القضية، كما عهدنا في عدالتكم ورحمتكم القانونية.
سعيد (للمحامي) :
خفض عليك يا ذا الرواء، فأي رحمة لسفاك الدماء؟! وإذا كان الجاني معترفا بما جناه، فماذا عسى يجدي الدفاع والمحاماة، بل على قدر الجناية يكون العقاب، ولكم في الحياة قصاص يا أولي الألباب.
الرئيس (للحجاب) :
اذهبوا بسعيد إلى السجن الآن، ولا يبقى غير القضاة في هذا المكان. (ثم يخرجون جميعا وتتداول القضاة ثم يدعو الرئيس المدعي العمومي.)
الرئيس (للناس) :
قد صدر الحكم بالإعدام، على سعيد بحد الحسام، ونكلف حضرة المدعي بعرض الحكم على سدة الوالي السنية، ولسموه في ذلك الإرادة العلية. (ثم تنصرف المحكمة والناس وترتفع ستارة أخرى.)
المنظر الثاني (تنكشف الستارة عن السجن وفيه سعيد.)
سعيد (لنفسه) :
يا زمان الهنا عليك السلام
بعدك العمر ليس فيه مرام
ليت شعري يا صاحب السجن ماذا
صدرت في قضيتي الأحكام
هل بقاء وما إليه سبيل
أم فناء وبئست الأيام
لست أخشى الحمام لكن بسوء ال
نفس من خصمها عليها احتكام
هل أرى والدي من قبل موتي
يرياني وكيف كان الختام
طاوعا حاسدي سدى لهما العذ
ر ولو أمهلا لبان المرام
ونوايا الآباء للخير لكن
قدر الله دونه الأفهام
آه من لي بنظرة من سعاد
قبل ما يدهم الحياة الحمام
فأراها وهل لعيني تراها
بعد ما لاقت الهوان الكرام
فالكريم الكريم يخجله الهو
ن ولا تستحي لذاك اللئام
يا عدوي احتكم ويا موت زرني
فعلى هذه الحياة السلام
ما أسرع تقلب الأيام، وفتكها بالكرام! فمن بعد انطلاقي مرتاح النفس، أصبحت كما تروني مكبلا بالحديد في الحبس، هكذا قضى رب الناس، وتلك الأيام نداولها بين الناس.
رءوف (لسعيد) :
ما لي أراك أيها الأمير، في هذا الانزعاج الكبير، وأنت الذي نبذت الهداية، واعترفت على نفسك بالجناية، ولم يكن ثم عليك إكراه، ولا كان يعلم بأمرك إلا الله. حتى أوقعت ذاتك في المحن؟! فعاتب نفسك ولا تعاتب الزمن.
سعيد (لرءوف) :
دعني يا رءوف وحزني، ولا تزدني شجنا على شجني، وإني ما اعترفت بهذا الأمر، إلا لأقول بيدي لا بيد عمرو.
رءوف (لسعيد) :
ادخل مكانك يا سعيد، فإن مأمور السجن مقبل من بعيد. (ثم يدخل المأمور.)
المأمور (لرءوف) :
أين سعيد يا رءوف؟
رءوف (للمأمور) :
هو يا مولاي في مكانه مأسوف.
المأمور (لرءوف) :
لقد ساءنا والله مصاب سعيد، بل أساء الدنيا هذا الرزء الشديد، فإنه صدر عليه الحكم بالإعدام، ويا أسفاه على هذا البطل المقدام! ووردت لنا الأوامر بزيادة الحفظ عليه، وسيأتي حضرة القائد وينفذ الأمر الذي لديه، وقد أتيت إليك بهذا التنبيه؛ لتأخذ مع رفاقك بالأحوط فيه. (ثم يخرج)
رءوف (لنفسه) :
أسفي عليك يا سعيد! حزني عليك أيها البطل الصنديد! لقد كنت ليثا في النزال، وغيثا في النوال، وعونا للوافد، وموردا عذبا للوارد. فيا ليت شعري ماذا جرى لك، وقد كنت بالحكمة تجري أعمالك؟! وكيف يحكم على مثلك بالإعدام، وأنت حامي الحمى المقدام؟!
الله يبقى وكل الكائنات عدم
والمرء يشقى وعقباه عليه ندم
والموت يختطف الأرواح صاغرة
لا فرق بين كبير عنده وخدم
سعيد (لرءوف) :
والناس في غفلة عما يكون وما
يلقون يوم يكون الله فيه حكم
إن أعدموني حياتي إنهم عدموا
ركنا حصينا وبحرا في الكمال خضم
لكنهم جهلوا شأني ولو علموا
حقيقة الأمر ما كان العدو رغم
أنى لهم بخفايا الأمر معرفة
وصاحب السر للسر المصون كتم
وكل هذا جرى لي والقضاء جرى
من أجل حب سعاد والغرام حكم
ولست أسلو هواها والحياة مضت
وكل شيء كما شاء الإله قسم
رءوف (لسعيد) :
أناشدك الله العلام، أيها البطل الهمام، أن تخبرني باقترافك، وسبب اعترافك، ومن هي سعاد يا ترى، التي جرى لك من أجلها ما جرى؟ وأين هو أبوك وأنت في حبسك؟ وأين ذووك الذين تفدي شرفهم بنفسك؟ فانتبه يا مولاي لعقلك، ولا تصمم على جهلك.
سعيد (لرءوف) :
قد كان ما كان، وقضي الأمر الذي فيه تستفتيان. فلا تطمع في حياتي يا رءوف، بعد ما اعترى بدر ذاتي الخسوف.
يا والدي هل لا أتاك
خبر على فقدي دهاك
يا ليت شعري هل أراك
وقتا يجود به الزمان
وهل أراك يا سعاد
يوما وذاك الأنس عاد
أم هل أموت بالبعاد
في الحبس يا رب الأمان
رءوف (لسعيد) :
نعم كان ما كان، ولم يبق محل للكتمان، فهل لك من حاجة أقضيها إليك، وأعرضها يا مولاي عليك، فإن لك علي أياد، طوقتني كالسوار للأياد.
سعيد (لرءوف) :
سأخبرك ببعض ما صار، لعلك تبلغني بعض الأوطار، وذلك أني لما استأذنت البارحة في الذهاب إلى أهلي، بضعة أيام وأعود لمحل شغلي، عرجت على ضيعة حبيبتي سعاد؛ لأطفئ برؤيتها نارا تتأجج في الفؤاد، وبينما أنا سائر في تلك التلال، سمعتها تستغيث باسمي بصوت عال، ورأيت من بعيد رجلا يراودها عن نفسها، أو يدخلها في رمسها، وقد صوب نحو صدرها السكين، وهي تدفعه عن عرضها كما يدافع الليث عن العرين، ولما رأيت استحالة الخلاص، أطلقت عليه الرصاص، فزهقت في الحال نفسه الحزينة ، ونجى الله تلك المسكينة.
رءوف (لسعيد) :
آه ... شلت يمين ذلك الغدار، وليذهب إلى جهنم وبئس القرار. فقل لي ما هو ذلك الوغد ما ألأمه، وما سبب كتمان ذلك على المحكمة؟ فكانت تحكم ببراءتك، وتشكرك الأمة على شهامتك.
سعيد (لرءوف) :
أقضي لأهلي ما وجب
لحفظهم من الوصب
وأرتضي وقع العطب
ولا أبوح بالسبب
يا والدي عشتما
ولا رأيتم مأتما
وهل سعاد بعدما
أموت يوليها الطرب
وإن لي إليك حاجة يا رءوف، فإن قضيتها تكون نعم الخل العطوف. (رءوف يفتح باب السجن بسرعة ويقول):
رءوف (لسعيد) :
ها هي مفتحة لك أبواب السجون
فانج بنفسك ويكون علي ما يكون
ولا تستصغر همتي يا ابن الكرام
فمثلك لا يحكم عليه بالإعدام
سعيد (لرءوف) :
أشكرك على هذه الفتوة، والشهامة والمروة، ولكن هل رأيتني دنيئا بهذا المقدار، حتى أرتكب عار الفرار؟! وإنما أرجوك يا أعز الناس، أن تأتيني بدواة وقرطاس؛ لأكتب كتابا للسيدة سعاد، وتفضل بتوصيله الآن يا صاحب الأياد.
رءوف (لسعيد) :
هذا أقرب ما يكون، يا رفيع الهمة والشئون. (ثم يخرج)
سعيد (لنفسه) :
أمن بعد ما كانت تفر مني الأسود، يوم تخفق في ميدان الوغى البنود، تظنون أني أهرب من ناديكم؟! لا، قل: إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم. (ثم يدخل رءوف.)
رءوف (لسعيد) :
ها هو القرطاس والدواه، فاكتب ما شئت وتوكل على الله. (ثم يأخذ سعيد ذلك ويدخل السجن.)
رءوف (لمصطفى) :
آه يا أخي مصطفى! منا على الدنيا العفا. لقد أدهشتنا شهامة هذا البطل، ولكن كتمانه للحقيقة من الخطل؛ لأنه تطرف في الشهامة، والتطرف في كل شيء ندامة، وأنت تعلم أن عندي أوامر سرية، من دولة الوالي العلية، بأن أعرض مباشرة عليه، أحوال السجن إليه، وقد علمنا الآن أن سعيدا قتل ذلك الفاجر؛ صيانة للنفس والعرض الطاهر. وهذا لا يعاقب عليه القانون، بل بمثله يتنافس المتنافسون، وإذا وصل للمسامع العلية خبر ذلك، لا بد ينقذ سعيدا من المهالك.
مصطفى (لرءوف) :
لا تعجل بذلك يا ذا الروية، حتى تقف على أصل سر القضية. (ثم يخرج سعيد.)
سعيد (لرءوف) :
خذ هذا الكتاب يا ابن الأكارم، واذهب لمنزل وكيلنا الشيخ غانم، وبلغ سلامي أهل ذاك الناد، وسلمه إلى يد ابنته السيدة سعاد، وقل لها هذا هو الوداع الأخير، وارجع لي يا رءوف بغير تأخير. فهذا ما بقي لي من الدنيا من المرام، وبعدها مني على الحياة السلام.
رءوف (لسعيد) :
هذا أمر يسير يا سعيد، ومنزل الشيخ غانم غير بعيد، وسأبعث بالكتاب مع أخي أسرع من لمح البصر؛ لأني صاحب الدور في الخفر. (ثم يخرج)
سعيد (لنفسه) :
يا نفس صبرا وماذا ينفع الصبر
وقد علمت بموتي وانقضى العمر
مصائب الدهر أنواع منوعة
ولم يكن كمصابي في الورى خسر
يهون الموت عندي كل نائبة
وتلك أمنية يلهو بها الحر
والموت إن لم يكن حالا فبعدئذ
حتما ولكنما حرص الفتى سكر
مصطفى (لسعيد) :
صبرا سعيد فلله العلي الأمر
والدهر يأتي بما لم يدرك الفكر
والصبر أحلى ولو مرت أوائله
والعسر لا بد يأتي بعده يسر
ورب ضيق بدا واليأس يصحبه
يأتي على إثره التفريج والبشر
وقدرة الله كم أبدت لنا عجبا
وما لألطافه في خلقه حصر (ثم يأتي رءوف.)
رءوف (لسعيد) :
لما وصلت خارج الباب؛ لأسلم أخي الكتاب، أبصرت صبية ذات أنين، تتنفس الصعداء عن قلب حزين، ولما تأكدت من وجودك في الحبس، كادت تزهق منها النفس، وأسفرت عن محيا كالبدر، ولطمت على الخدين والصدر، ومعها رجل من هول المصاب يرتعد، واسمه المنتقد، وطلبت الدخول عليك، والمثول بين يديك، وما أظن إلا أنها السيدة سعاد، وها هي مقبلة على أثري لهذا الناد.
سعيد (لنفسه) :
سعاد ... سعاد. آه ما هذه الأنكاد؟! هل جاءت لتفرح بسعيد، حين تراه مكبلا في الحديد؟! أم وافت لتشاركني في زفاف الإعدام، وتحظى معي بحسن هذا الختام؟! (ثم تدخل سعاد بسرعة.)
سعاد (لسعيد) :
نعم يا مولاي أتيت إليك في حبسك؛ لأشاركك في نعيمك وبؤسك، وأتجرع قبلك كأس الحمام ، وأفوز وحدي بهذا الختام.
سعيد (لسعاد) :
سلمي يا سعاد لله التدبير، وودعيني يا حبيبتي الوداع الأخير.
سعاد (لسعيد ) :
إني أودع نفسي قبل وداعك، وأندفع للموت قبل اندفاعك، ولكن لماذا يقتلونك، وبحكمهم يظلمونك؟! ألأجل رجل غدار، أرحت من وجوده الديار، قتلته لحفظ نفسي، ولولاك لدخلت رمسي؟! أين الإنصاف أين الإسعاف؟! أين الرجال؟! أين الاعتدال؟!
ارحموني أيها الناس الكرام
من عناء وعناد
وأسعفوني قد تمادى الانظلام
وجفا الحكم الرشاد
رءوف (لسعاد) :
هل حضركما أحد وقتذاك وشهد؟
سعاد (لرءوف) :
نعم حضرنا هذا المنتقد وهو أخو القتيل.
رءوف (للمنتقد) :
أحق يا منتقد ما قيل؟
المنتقد (لرءوف) :
نعم إن أخي الشقي قاتله الله، لقي من هذا الأمير جزاء ما جنته يداه، والله على ما أقول شهيد، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد.
مصطفى (لرءوف) :
إن القائد مقبل علينا، وقادم لدينا.
رءوف (لسعيد) :
ادخل يا سعيد للسجن الآن. وأنتما اختفيا في هذا المكان. (ثم يدخل القائد والعسكر.)
القائد (لرءوف) :
أين سعيد المهان؟
سعيد (للقائد) :
بل أنت المهان يا خوان.
القائد (لسعيد) :
قد صدر الحكم بإعدامك، وهذا اليوم آخر أيامك، وقد أمهلتك ساعة تكتب فيها الوصية، ثم تستعد للقاء المنية. (ثم يخرج) (ثم تدخل سعاد مسرعة.)
سعاد (لسعيد) :
سعيد سعيد ... تموت ... لا تفوت. لا ... أنا المائتة. أنا الفائتة. روحي فداك، رغم أنف عداك. أنا أموت وأنت تعيش، وأنت تهدأ وأنا أطيش. تبت يد القائد، الخائن الحاسد. (ثم تبكي)
سعيد (لسعاد) :
دعيني فالرجال إلى القتال
وللأحزان ربات الحجال
أموت فداء عرضي ثم أهلي
وبالدنيا الدنيئة لا أبالي
رءوف (لمصطفى) :
إني ذاهب لدولة الوالي العلية، وأخبره بسر هذه القضية. (ويخرج) (ثم يدخل القائد ومعه العسكر والسياف.)
القائد (للجند) :
أخرجوا سعيد الخئون؛ ليذوق كأس المنون. (ثم يخرج سعيد.)
القائد (لسعيد) :
بناء على حكم المحكمة العسكرية، ستشرب الآن راح المنية، فاستغفر الله من جنايتك، وليعتبر سواك بغايتك، وتهيأ للتلاف، من يد هذا السياف. (السياف يمسك سعيد.)
سعاد (للسياف) :
ماذا تريدون، وماذا تعملون؟! أيقتل سعيد؟! آه ما هذا الكرب الشديد؟! أبدا أبدا . أطلقوه وامسكوني، واتركوه واقتلوني.
القائد (لسعاد) :
من هذه الفاجرة؟ اقبضوا على هذه الخاسرة.
القائد (للسياف) :
اضرب عنقه، واقطع رمقه.
السياف (لسعيد) :
إلى الموت تعنو كل نفس أبية
وإن عظم المطلوب قل المساعد
وكل امرئ يلقى مصابا وإنما
مصائب قوم عند قوم فوائد
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره
تنوعت الأسباب والموت واحد
سعاد (للسياف) :
شلت يمينك يا سياف. ألم يأخذك على هذا الأمير انعطاف، وهو بريء من الجناية، وبعيد عن الغواية؟!
القائد (لنفسه) :
ليت أعدائي تموت
مثل ما لاقى سعيد
بعده وقتي يفوت
في هنا عيش رغيد (يدخل الوالي متخفيا.)
سعاد (للقائد) :
يا قائد الجند المهان
أطلقت للشر العنان
أأمنت من كيد الزمان
بل كيفما تعمل تدان
القائد (للجند) :
أبعدوا هذه المجنونة؛ فإنها ذات طيش ورعونة.
المنتقد (للقائد) :
اعلم يا حضرة القائد، والشهم الماجد، أن القتيل هو أخي الوحيد، ولكنه شقي عنيد، للأعراض هتاك، وللدماء سفاك، ولولا همة الأمير سعيد الأبية، لفتك بعرض ونفس هذه الصبية.
القائد (للسياف) :
اقطع رأسه، وأخمد أنفاسه.
السياف (لسعيد) :
ألك حاجة أيها الأمير؟
سعيد (للسياف) :
دعني أودع سعاد، الوداع الأخير.
القائد (للسياف) :
لا تقل عليه الأمير، فإنه وغد حقير.
القائد (لسعيد) :
وهل نسيت يا ابن اللئام، ما فعله معي أبوك في سالف الأيام؟! فهذا وقت كشف العار، والأخذ منك بالثار.
سعيد (للقائد) :
لا تشمت يا لئيم، فإن البغي مرتعه وخيم، ولو كان قتلي بأمرك، لشربت دمك من نحرك.
سعاد (للقائد) :
أرجوك يا مولاي تأخير تنفيذ الأمر، وأن تعرض لسمو الوالي حقيقة الأمر، فلعل سموه للعفو يثيب، وفرج الله قريب.
القائد (لسعاد) :
بلوغ هذا الأمل، أبعد عليكم من فلك زحل.
القائد (للسياف) :
اضرب عنقه يا سياف، بغير مهلة ولا خلاف.
السياف (لسعيد) :
حان الأجل، وخاب الأمل. (يظهر الوالي جهرا.)
الوالي (للسياف) :
أخمد حسامك يا سياف، حتى ننظر في وجهة هذا الخلاف، فقد رأينا لزوم تأخير القتل، لما حدث من الشبهة فيما حصل من قبل، وبعد التثبت من حقائق القضية، يكون لنا فيها الإرادة العلية، وأطلقوا سراح سعيد من السجن الآن، ولتأتوا جميعا في غد إلى الديوان. (ثم إن سعيدا وسعاد والمنتقد ورءوف ومصطفى والسياف ينشدون):
دام هذا الحزم والافتقاد
للورى يا ذا الهمام
هكذا المولى يجير العباد
من عناء الانظلام
وبروح العدل يحيي البلاد
ويوافينا المرام
فاسلم واسعد أنت الأمجد
نلنا المقصد بالتمام (ثم تنزل الستارة.)
الفصل الرابع
المنظر الأول (تنكشف الستارة عن الوالي وقائد الجيش ورئيس الشرطة، ورءوف ومصطفى السجانين، وقاضي التحقيق وسعيد وسعاد ومفتي الولاية.)
الوالي (للقائد) :
لقد اتخذت مركزك يا حضرة القائد؛ ذريعة للانتقام وسوء المقاصد، وجعلت صدرك مستودع الأحقاد، وهذا لا يليق بشأن الحكام والقواد؛ لأن الحاكم أيها الماجد، للرعية في منزلة الوالد، وعقابه للجاني منهم عقاب تأديب، لا عقاب انتقام وافتراس غصيب.
القائد (للوالي) :
إني يا مولاي سائر على هذا النمط
وما سلكت في أحكامي سبيل الشطط
الوالي (للقائد) :
ما أضر الإصرار، وعدم الاستغفار! وكيف تزعم أنك نزيه النفس، بعد ما شاهدت أحوالك في الحبس؟!
الوالي (للمنتقد) :
وهل أنت يا منتقد أخو القتيل؟
المنتقد (للوالي) :
نعم هو شقيقي يا مولاي الجليل.
الوالي (للمنتقد) :
وهل عندك علم بحقيقة هذا الأمر؟
المنتقد (للوالي) :
نعم أعرفه في السر والجهر.
الوالي (للمنتقد) :
إذا فأخبرنا عنه ولا تكتم عنا شيئا منه.
المنتقد (لنفسه) :
إذا أنا أخبرته بأساس الأمر ومبناه، يعتبرونني شريكا للجاني فيما جناه، ويقع في الشرك الأمير طاهر، وتدور على هذه العائلة الدوائر، فالأصوب أن أحصر التهمة كلها في القتيل، ولا أجعل لغيره فيها أدنى سبيل.
المنتقد (للوالي) :
إن أخي الخائن المغضوب، واسمه غضوب، نشأ على الفجور، والشقاء والشرور، ولم يكن له واعظ من نفسه، ولا زاجر من حسه، فصغرت الكبائر لديه، ومن شب على شيء شاب في الغالب عليه، وإني كنت سائرا تلك الليلة، في حاجة إلى مدينة زحلة، فرأيت أخي كامنا في الوادي بين تلاله، كأنه يترقب شيئا في باله، فأردت استصحابه فامتنع، وعلى قمة التل ارتفع، ثم أبصرت خيالا مقبلا من كبد الواد، وتأملته وإذا هو سعاد، وليس معها غير رجل خدام . فعجبت من سيرها في ذاك الظلام، ولعلمي بأنها خطيبة سعيد الأمير، أردت الدنو منها لأسألها عن هذا المسير ، وما أشعر إلا بطلقة نارية، أصابتها من يد أخي الدنية، وخادمها ركن للهرب، وأنا على أثره خوفا من العطب؛ عساي ألتقي بأحد، أو أخبر حاكم البلد. وبينما أنا في هذا الكرب الشديد، رأيت سعيدا مقبلا من بعيد، فأخبرته بما صار، وأسرعنا كالجواد الكرار، فرأيناها على قيد الحياة، والغضوب يطالبها بما لا يرضي الله، وهي تدافع عن عرضها المصون، رغم تهديد ذلك الخئون، ولما يئس غضوب من فعلها، ألقاها على الأرض وهم بقتلها، فبادره سعيد بالرصاص، ولولا ذلك لاستحال الخلاص، ثم أمرني بأن أكتم ذلك، أو يلقيني في المهالك، ولما رأيت الأمر وصل به للإعدام، لم أستطع غير عرض الحقيقة والسلام.
الوالي (للمنتقد) :
وأين خادم سعاد الآن؟
المنتقد (للوالي) :
هو خارج الباب يا رفيع الشان.
الوالي (للحاجب) :
علي به أيها الحاجب. (يخرج الحاجب.)
الوالي (لرءوف) :
أخبرنا يا رءوف بغير ترديد، عما حصل في الحبس من سعيد.
رءوف (للوالي) :
منذ دخل سعيد في حبسه، ما سمعنا منه غير البكاء على نفسه، ولما صدر الحكم عليه بالإعدام، لم يكن له في غير سعاد كلام، فسألته عن سبب فعله الفاضح، واعترافه الواضح، فقال إنه قتل ذاك النحس؛ صيانة للعرض والنفس، فلمت عليه يا ذا المكرمة؛ لكتمانه السبب عن المحكمة، فكانت تحكم ببراءته، وتشكره الأمة على شهامته، ولما أقبل القائد وفعل ما فعل، حضرت وعرضت لأعتابكم ما حصل.
القائد (لرءوف) :
وما الذي رأيته يا رءوف مني؟ وهل بلغ من قدرك أن تنقل عني؟
رءوف (للقائد) :
نعم أيها القائد العظيم، وهذه البطاقة وقعت في الحبس من جنابكم الكريم، وحيث أبيتم إلا العدوان، فأنا أعرضها على ولي النعم الآن. (ثم يتناول الوالي الورقة ويقرأها.)
الوالي (لرءوف) :
هذه البطاقة لا علاقة لها بالقضية، ولكنها تدل على نواياه الردية، وسننظر فيها بعد. ونستجلي خفايا القصد.
الوالي (للتشريفاتي) :
ائتوني بالأمير ظافر.
تشريفاتي (للوالي) :
طوعا أيها المولى الظافر. (ثم يخرج)
الوالي (لمصطفى) :
وهل تشهد بما قاله رءوف يا مصطفى؟
مصطفى (للوالي) :
نعم يا مولاي، وحسب سعيد عدلكم وكفى.
الوالي (لسعاد) :
أخبرينا يا سعاد بما صار، فإنك سماء هذه الأمطار.
سعاد (للوالي) :
إني خرجت من منزل الأمير طاهر وقت الغروب، مع خادمي لمنزل والدي المحجوب، ولما جن علينا في الفلا الظلام، وناجانا الرعد وجاد الغمام، فاجأتنا طلقة نارية مريعة، وقعت منها على الأرض صريعة، ولما أفقت وجدت رجلا أمامي، وخيرني ما بين اغتصابي أو حمامي، فاخترت دخول الرمس على ارتكاب الرجس. فهم بقتلي غدرا، وإذا برصاصة أصابته فورا، وجاء على أثرها الأمير سعيد، ونجاني الله من البلاء الشديد.
الوالي (لسعاد) :
وهل تعلمين لذلك من سبب
وكيف تركك الخادم وهرب
سعاد (للوالي) :
سبب ذلك الخيانة، وعدم العفة والأمانة، ولعل هروب الخادم، كان خوفا من ذلك الآثم. (ثم يدخل التشريفاتي ومعه حافظ.)
تشريفاتي (للوالي) :
ها هو يا مولاي خادم سعاد.
الوالي (لحافظ) :
أخبرنا يا جبان، عما حصل بغاية البيان.
حافظ (للوالي) :
كنت مع سيدتي بمنزل الأمير طاهر، ثم خرجنا لمنزل أبيها العامر، وبينما نحن في التسيار، وقد أرخى الليل الستار، وإذا بطلقة ذات اتقاد، وقعت منها سيدتي سعاد، فظننتها ماتت في الحال، وأسرعت لأخبر والدها بالحال، ثم وصلت وأخبرته بهذا الكرب الشديد، وإذا بها أقبلت مع الأمير سعيد، وأخبرونا بأنها أخطأها الرصاص، وأن سعيدا سبب نجاتها والخلاص. ثم سار سعيد لمحل خدمته، وهذا ما أعلمه قى قصته.
الوالي (للقائد) :
قد علمنا ما في بطاقتك يا حضرة القائد، من حسن نواياك والمقاصد، وسأتلوها على الحضور؛ ليعلموا ما لديك من عزم الأمور:
إلى صديقي الناصر، القائد ناصر، قد أمكنني بعد كل جهد جهيد، أن أوقعت بالوغد سعيد، ابن أخي طاهر، عدوك الخاسر، ليدخل في العسكرية، ويكون تحت قيادتك القهرية، لعلك بنيران الأسى تصليه انتقاما من الماكر أبيه.
إمضاء: صديقك ظافر. الأمير ظافر (ثم يطوي الكتاب ويقول):
الوالي (للقائد) :
وماذا جوابك أيها القائد، على هذا الجواب المشحون بالفوائد؟
القائد (للوالي) :
ما هو إلا دليل على سوء نية ظافر، نحو أخيه الأمير طاهر.
الوالي (لسعيد) :
أنبئنا يا سعيد بغير ملق، كما أعهده فيك من الشرف وحب الحق، عن سبب إنكارك، وحكمة أفكارك.
سعيد (لنفسه) :
ماذا أقول يا ربي، وأنت وليي وحسبي؟!
سعاد (لسعيد) :
أناشدك الله ألا تكتم شيئا عن ولي النعم، فلعله ينجينا من هذه النقم، وكفانا يا سعيد، ما حل بنا من البلاء الشديد.
سعيد (لسعاد) :
آه يا سعاد! كم ذا أقاسي من الأفكار!
دعيني فللأوطان والأهل عزة
على النفس مهما كان فيه خصام
بلادي وإن جارت علي عزيزة
وأهلي وإن ضنوا علي كرام
الوالي (لسعيد) :
قد برح الخفا، وربح الوفا، ولم يبق محل للكتمان. فأخبرنا يا سعيد ولك الأمان.
سعيد (للوالي) :
إن الحقيقة يا مولاي كما شهدت الشهود، على ذلك القتيل المنكود، وسبب إنكاري وهمي، خوفي على والدي وعمي؛ لأن القتيل من أتباع والدي طاهر، وعداوتي مع القائد أصلها عمي ظافر، على أنه لم يكن لوالدي علم بهذه القضية، وكذلك أفعال عمي من الضغائن البسيطة الأهلية. فخفت من انقلاب الحقايق وتعميم الشر، وقلت بيدي لا بيد عمرو. (ثم يدخل التشريفاتي.)
تشريفاتي (للوالي) :
إن الأمير ظافرا بالباب.
الوالي (للتشريفاتي) :
ليأت إلى هذا الرحاب.
الوالي (لنفسه) :
إذا كانت الأهل العزاز هم العدا
وذو الحكم في أحكامه للوفا ناسي
ولم يجد المظلوم في الناس منصفا
فلا خير في الحكام والأهل والناس (ثم يدخل الأمير ظافر.)
الوالي (لظافر) :
أخبرنا عن سر هذا الكتاب
وما لديك فيه من الصواب (ثم يتناول ظافر الكتاب ويقرأه ثم يدخل التشريفاتي.)
تشريفاتي (للوالي) :
إن الأمير طاهرا مع صهره نسيب، ووكيلهما الشيخ غانم الأديب، يريدون التشرف بلثم أعتابك.
الوالي (للتشريفاتي) :
ائذن لهم بذلك. (ثم يخرج التشريفاتي.)
سعيد (للوالي) :
مر بي يا مولاي للحبس في الحال
لكيلا يراني والدي في هذا الحال
الوالي (لسعيد) :
لا تعجل يا سعيد، في كل ما تريد.
خذ التأني وحسن الحزم واسطة
لما تريد إذا ضاقت بك الحيل
فالدهر بين الورى في دوره عجب
وللزمان كما شاء القضا دول
ويدرك المتأني بعض حاجته
وقد يكون مع المستعجل الزلل
ظافر (للوالي) :
إني يا مولاي صاحب الكتاب، والذي حصل كان بإيعاز هذا القائد المهاب ، وهو الذي أوقع بيننا الفتن؛ لما بينه وبين أخي من الضغائن والمحن؛ ليتمكن في تفريقنا من اجتماع رأيه الفاسد، ثم يفترسنا واحدا بعد واحد، وقد قيل إن تفرق الأحباء، موجب لجمع شمل الأعداء، وإني أخطأت في الانقياد له في هذه المعائب، وهذا جزاء من لم يتدبر حسن العواقب. (ثم يدخل طاهر ونسيب وغانم.)
طاهر (للوالي) :
ارحمني يا مولاي فإني مسني الضر، وجرعنا الدهر بكأسه المر، من هذا الرزء الشديد، الذي حل بولدي سعيد. فعامله يا مولاي بعدلك، وزودنا بجزيل فضلك.
الوالي (لطاهر) :
قد تبين لنا الصدق من المين، وظهر الصبح لذي عينين، ودلنا التحقيق على براءة ولدك وكرامته، وحسن قصده وشهامته، وأنه صان عرضا طاهرا من الهتك، وحقن دما زكيا من السفك، وقد كان إنكاره وتعرضه للقتل، دليلا جديدا على ما له من النخوة والفضل، وبناء على ذلك، وعلى علمنا بما هنالك، قد عفونا عنك يا سعيد، لتعيش من العدالة في عيش رغيد. (ثم إن سعيدا وسعاد والمنتقد ورءوفا ومصطفى ونسيبا وحافظا ينشدون هذه الأدوار):
العدل والإنصاف روح الوطن
والعفو والإحسان أصل المنن
وأنت مولانا إمام الهدى
بالعزم تحمينا وحسن الفطن
الوالي (لظافر) :
وإني أعلم يا ظافر أنكم من عائلة شريفة، عريقة الحسب منيعة، فينبغي أن تكونوا على قدم الوفاق، وتتجنبوا كل ما فيه النفرة والشقاق، وتذكروا قول رب العالمين:
قل ما أنفقتم من خير فللوالدين .
ظافر (للوالي) :
هذا يكون بتوجهاتكم بيننا إن شاء الله، إلى أن يبلغ الأجل منتهاه، وإني أعرض على مسامع سموكم العلية، حاجة هي لنظام عائلتنا الضمانة القوية، وذلك أن ابن أخي مغرم بسعاد، وهو عندها غاية القصد والمراد، وإني أسأل أخي في حضرتكم الكريمة، أن يزوج ولده بهذه الدرة اليتيمة؛ لينال كلاهما المنى، ويعوضا ما قاسياه من العنا.
الوالي (لطاهر) :
وما رأيك في ذلك أيها الأمير؟
طاهر (للوالي) :
الأمر أمرك يا مولانا الخطير.
غانم (للوالي) :
وابنتي جارية لسعيد الأمير.
الوالي (لطاهر) :
قد رأينا الموافق أيها الأماجد، زواج الأمير سعيد بالسيدة سعاد، وأن يكون زفاف اقترانهما الآن، في قصرنا هذا المصان.
الوالي (لنسيم) :
اذهب الآن يا نسيم، بالسيدة سعاد إلى دار الحريم، فقد أحسنا عليها بكل ما يلزم لجهازها، ولتحصل المبادرة بتجهيز معدات الفرح وإنجازها. (ثم يخرج سعاد ونسيم.)
الوالي (لسعيد) :
وليذهب سعيد وأهله الآن، إلى دار المهرجان.
طاهر (للوالي) :
لا زالت باليمن ترقى
إلى أجل المراتب
والناس عندك تلقى
بالعدل حسن العواقب (ثم يخرج طاهر وسعيد ونسيب وغانم وظافر.)
الوالي (للناس) :
وليمض كل منكم لما هو قاصد، ما عدا حضرة القائد. (ثم يخرجون جميعا.)
الوالي (للقائد) :
ماذا تقول يا حضرة القائد، فيما نزل بسببك على هذه العائلة من الشدائد؟ إذ لولا ما اتخذناه من الحكمة والتدبير، لحاق بدارهم البلاء والتدمير، مع أن الواجب على الحكام، أن يقوموا بالإصلاح بين الأنام، وأن يكون المرءوس على قدم الرئيس، وإلا فيا ضيعة الأمن النفيس؛ لأن الرئيس مهما كان سديد الحزم، شديد القوة والعزم، فإنه محتاج إلى أمانة عماله، ومساعدته على جليل أعماله، فالفرد قليل الاستطاعة، ويد الله مع الجماعة، ولا سيما قواد العسكرية؛ فإنهم محل الأمانة للراعي والرعية، وإلا فيضطر الحاكم للاستبداد، رغم كل مقاومة وعناد؛ حفظا لمراكز سلطته؛ وحرصا على مصلحة رعيته؛ لكيلا تضطرب الأمة، وتدلهم معاذ الله الغمة، ولما كانت هذه منك أول هفوة، ولكل جواد كما يقال كبوة، فقد غفرتها لك هذه المرة، وما كل مرة تسلم الجرة، وأوصيك أن تنتبه لهذه الحقائق، وألا تفوتك ساعة بغير التفكير في الدقائق.
القائد (للوالي) :
إني قبلت يا مولاي هذه النصيحة، وما حوته من جواهر الحكم الصحيحة، وأعرض على المسامع السامية، حاجة فيها الفوائد النامية، وهي مكافأة سعيد على صداقته، وحسن نواياه وشهامته؛ ليتحقق لسموكم صدق حالي، ويعلموا أنه ما بقي لهم سوء في بالي.
الوالي (للقائد) :
لك منا على ذلك الشكر، وسيصدر إن شاء الله به الأمر، وهيا لنحضر مهرجان الزفاف، ونواليهم بالرعاية والانعطاف. (ثم يخرجان وتنكشف ستارة أخرى .)
المنظر الثاني (تنكشف الستارة عن طاهر وظافر ونسيب وغانم وحافظ وعبد الله وأنوار وأزهار.)
طاهر (لنفسه) :
هون عظائم ما تلقى فرب دجى
إذا اكفهر جلاه الصبح بالبلج
ولا تضيق حرجا إن داهمت محن
فآخر الصبر فيها أول الفرج (ثم تظهر نغمات الجند بالأناشيد أمام دولة الوالي ويدخلون.)
جند (للملك) :
دام مولانا الوزير الأفضل
بالعلا والافتخار
رأيه السامي سديد أكمل
بالوفا والاقتدار (ثم يقف الجميع ويدخل الوالي والقائد ويجلسون.)
الوالي (لطاهر) :
من يصحب الصبر وافى بالهنا أمله
والحازم الشهم من يرضى الورى عمله
وذو الصداقة من طابت سريرته
ولا تخالف ما في صدره مقله
وذو الشجاعة فينا من يفوز على
هواه حتى توارت بالهدى زلله
فالعسر مهما اعتدى فاليسر غالبه
والضيق مهما تمادى ينقضي أجله
لقد كان ولدك يا طاهر في هذا الصباح، تنوح حسرة عليه النواح، وما أمسى عليه المساء، إلا وهو في صفاء وهناء، فسبحانك يا مقلب الليل والنهار! إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار. (ثم يدخل التشريفاتي.)
تشريفاتي (للوالي) :
إن موكب الزفاف في إقبال، على مقتضى إرادتك يا معدن الكمال.
الوالي (للتشريفاتي) :
قابلوه بجميل الاستقبال.
طاهر (للوالي) :
ملكت بالعدل أرواح العباد كما
أحييتها بحياة العفو والفضل
وسست ملكك بالحزم السديد وبال
عزم الشديد فكنت الفرد في الكل (ثم يدخل الموكب بأناشيد الزفاف وفيه سعيد وسعاد ويقبلان يد الوالي.)
الوالي (لسعيد) :
لك الهناء يا سعيد، بهذا الزفاف السعيد، وبناء على استرحام حضرة القائد، وما أنت عليه من المحامد، قد رفعنا رتبتك، وضاعفنا عليك نعمتك، فعش مع أهلك بسلام، مرتاحا بوفاء قائدك الهمام، منعما بصفاء الحال. فالله مقلب القلوب والأحوال، وهو سبحانه الذي حباك بهذه المواهب، وهكذا فليكن حسن العواقب. (ثم يتقدم سعيد ويقبل يد الوالي ويتصافح مع القائد ثم ينشدون هذه الأبيات):
الجميع (لأنفسهم) :
طاب السرور فقم نعوض ما سلف
واغنم زمان الأنس ما لاحت صدف
واطرب على سجع الهزار وغنني
باسم العزيز فإن أوقاتي تحف
وانظر إلى نور الوجود كأنه
من نور مولانا الخديوي أخي الشرف
عباسنا الثاني العزيز على الورى
عالي الذرى بالعزم والحزم تصف
ملك تشخصه النفوس كأنما
في كل جارحة لها منه شغف
فالله يبقيه ويبقي أهله
حصنا لمصر لكي يعيد لها الترف
ورجال دولته الذين بأمره
حاموا عن المظلوم عدلا فانتصف
وجميع أهل القطر في خير ومن
بوجودهم حسن الختام لنا الشرف (ستار الختام)
نص مسرحية «صدق الإخاء»
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله الأخيار، وأصحابه الأبرار. أما بعد، فهذه رواية «صدق الإخاء»، وهي الرواية الثالثة التي ألفتها خدمة للوطن العزيز؛ لما اشتملت عليه من الحكمة والموعظة الحسنة؛ لأن التشخيص هو عبارة عن تواريخ مجسمة تنبئنا بأحوال الأعصر الخالية؛ لنتبع منها الفضيلة ونجتنب الرذيلة، كما قلت:
مناظر يبهر الألباب منظرها
كالسحر لكنها تهدي الهدايات
مراسح أحرزت تمثيل من سبقوا
وعظا وجاءت لنا عنهم كمرآة
نشخص اليوم أحوال الأولي سلفوا
من طيبات لهم أو من إساءات
عسى يكون لنا في من مضى عبر
تجدي ونعلم أنا عبرة الآتي
عسى نكون كراما إذ يشخصنا
من بعدنا أوفيا طول الفضيحات
فالحر إن مات أحيته فضائله
والوغد ما عاش مقرون بأموات
هذا هو القصد من تمثيل من غبروا
لا اللهو والزهو والإعجاب بالذات
وقد جعلت جميع أشعار رواياتي ابتكارا إلا ما ندر، تضمينا أو تشطيرا أو تخميسا، واتبعت في تأليفها السهولة وعدم الحشو؛ لتكون موافقة لأذواق السامعين، ونسأل الله أن يلهمنا الصواب، ويلهم المطلع عليها الصفح عما عساه يراه بها من الزلل، فإن العصمة لله وحده وله الحمد في الآخرة والأولى.
إسماعيل عاصم
الفصل الأول (وفيه منظران)
المنظر الأول (تنكشف الستارة عن منزل المرحوم الأمير رشيد، وفيه بنته السيدة عزيزة مع خطيبها الأمير عزيز ابن الأمير صديق.)
عزيز (لعزيزة) :
يا دمية القصر راعيني برحماك
وراقبي مهجة ما عشت ترعاك
الله في كبد حرا وأنت بها
أدرى وإنسان عين بالدما باكي
يا ليت شعري أهذا البدر ساطعة
أنواره الآن أم هذا محياك
وهذه روضة أنفاسها عبقت
مع الصبا سحرا أم طيب رياك
عزيزة هل لهذا المطل من سبب
أم عن عزيز دلال الحسن ألهاك
طال انتظاري وأيام الحداد مضت
وأنت بالوعد لي ما كان أوفاك
عزيزة الروح جودي بالوفاء على
عزيز نفس كسته الذل عيناك
أو فاتركيني أمت والله يرحمني
فرحمة الله تأتي فوق رحماك
عزيزة (لعزيز) :
خل العتاب فإن القلب يهواكا
وبغيتي أن أرى دوما محياكا
لا أعرف النوم من فرط الهموم وقد
كنت العزيزة بين الناس لولاكا
فاترك ملامي واتركني أمت كمدا
من حر نار الجوى والله يرعاكا
عزيز (لعزيزة) :
أنت تعلمين يا شقيقة البدر، أنه لولا وفاة والدك لتم لنا الأمر، فإن والدي كان خطبك منه إلي، وهو رحمه الله لم يبخل بك علي، وكان موعدنا في بلوغ المراد، بعد فوات زمن الحداد. فجودي للصب بالوفا، ولقلبي العليل بالشفا.
عزيزة (لعزيز) :
لو كان الأمر بيدي يا زين، ما تأخرت طرفة عين، ولكنه بيد أخي نديم، ولا أدري هل هو لنا حميم أم علينا حميم؛ لأنه لم يمض عنا زمن الحداد، حتى أضله الهوى عن الرشاد، وألهته زخارف شجونه، عن النظر في مهام شئونه، وإذا دام على هذا المنوال، لا يلبث أن تنفذ جميع الأموال، ونصبح بعد الغناء فقراء، وبعد العز أذلاء. (ثم إنها تبكي.)
عزيز (لعزيزة) :
اعلمي أن المال يزول، والحال تحول، والذهب يذهب، والفضة تنفض، وكل هذا لا يعنيني، ولكن قربك هو الذي يغنيني، وأنا ما أحببتك إلا لأدبك، وسمو حسبك ونسبك، وبئس الرجل بين الرجال، من يخطب النساء حبا في المال.
عزيزة (لعزيز) :
دعني عزيز أقاسي الهون من حزني
مما ألاقي من التبريح والمحن
ما بي نديم بأوجاعي ينادمني
ظلما وما بي عذاب الحب والشجن
فاختر لنفسك غيري يا عزيز ولا
تتعب لأجلي وسوء البخت يخطبني
عزيز (لعزيزة) :
أنت الحبيبة الوحيدة، وجوهرة حياتي الفريدة. طمنيني ولو بمجرد الوعد، فإنا لا ندري ماذا يأتي به الغد.
عزيزة (لعزيز) :
ما حيلتي أيها الحبيب النديم، والأمر أمر أخي نديم، وهو مشتغل عنا بلذاته، وغريق في بحار سيئاته، وما ضرني أكثر من مساعدة والدته إليه، وحنوها بغير تبصرة عليه، ولم تتدبر عقبى ما يجلبه ولدها من المحن، كأنما أخذت عليه موثقا من الزمن.
عزيز (لعزيزة) :
وأين والدتك الآن؛ لأحادثها بهذا الشان؟
عزيزة (لعزيز) :
هي معجبة بولدها في قصرها، لا تدري شيئا من كر الأيام وفرها، ولا بد أن تأتي لهذا المكان؛ لأنها علمت بقدومك الآن. فحادثها محادثة الكرام، ولا تغلظ عليها في الكلام، وخذها بالكياسة والظرف، فقد يؤخذ بالعرف ما لا يؤخذ بالعنف.
عزيز (لعزيزة) :
سأحادثها بما يقتضيه الحال، ولكل مقام مقال.
عزيزة (لعزيز) :
ها هي مقبلة علينا. (ثم تدخل الأميرة ليلى والدة نديم.)
ليلى (لعزيز) :
أسعد الله أوقات الأمير.
عزيز (لليلى) :
دام سعدك يا ربة المجد النضير.
ليلى (لعزيز) :
لعلك اشتقت لرؤيا نديم.
عزيز (لليلى) :
نعم؛ لأنه صاحبي ونعم النديم، وقد مضت أيام عديدة، ولم يزرنا كعادته الحميدة. فأتيت لزيارتكم برهة وجيزة، وأطمئن على خطيبتي السيدة عزيزة.
ليلى (لعزيز) :
لا تؤاخذنا، فإن نديما مشتغل بلبس كسوته، والتبرج لتحسين هيأته. فإنه كما يعلم كل إنسان، أجمل أولاد هذا الزمان، وله ظرف وخلاعة، ودعابة ووداعة، وقد أصبح جميع الشبان أصحابه، لا ينفكون عنه ولا يبارحون رحابه.
عزيز (لليلى) :
دعينا من هذه الشئون، فالمقدر على المرء يكون، وساعديني بإنجاز أمر الاقتران بالأميرة خطيبتي منذ أزمان.
ليلى (لعزيز) :
إن أمر خطيبتك أيها الأمير، بيد أخيها نديم الكبير. (ثم يدخل نديم وبإحدى يديه كأس والأخرى زجاجة ثم يشرب.)
نديم (لعزيز) :
بونجور يا مسيو عزيز. (ثم تخرج عزيزة من المرسح.)
عزيز (لنديم) :
أسعد الله وقتك العزيز، وما هذا الذي أراه في الزجاج؟ لعله شفاك الله نوع من العلاج.
نديم (لعزيز) :
بئس هذا الفال «يا مونشير»، وما أنت في الحقيقة «مونفرير»، وإن هذه أم الأفراح، وأخت الأرواح، وبنت الدنان، واسمها «فين شمبان». (ثم يشرب مرارا ويقول):
وعندي بيرات نمساوية، وشمبانية فرنساوية، وفرمودات تليانية، ووسيكات إنكليزية، وروميات مسكوفية، وأنبذة يونانية، وعرقيات شامية، وأفيونة هندية، ومعاجين مصرية. كل هذه معدات للسرور، بل كيمياء الأنس والحبور. فهل لك يا عزيزي في كاس، تطيب بها منك الأنفاس.
عزيز (لنديم) :
دام عليك إيناسك وطابت بالمسرة أنفاسك، ولتكن هذه النعمة الكبرى ، منك لنا في أوقات أخرى، وإني أتيت في أمر يجب الاهتمام به في أقرب وقت.
نديم (لعزيز) :
اسكت يا عديم الحظ والبخت. فلولا أن طالعك ردي، لكان مات والدك كما مات والدي، وتتمتع بعده بالأموال وتكون مطلق الحرية في جميع الأعمال.
وعن إذنك أتوجه إلى القهوة
وأحظى مع أصحابي بلذة النشوة
هيا إلى الحان واطرب واغنم النشوة
مع الندامى وصاحب لذة القهوة
وفرق المال في جمع الحظوظ بها
فإنما المال للذات يا صبوة
عزيز (لنديم) :
مهلا أيها الأمير، حتى أحادثك بما في الضمير.
نديم (لعزيز) :
تفضل.
عزيز (لنديم) :
أنت تعلم أن والدي ووالدك كان محبين.
نديم (لعزيز) :
قبح الله الاثنين.
عزيز (لنديم) :
دعنا من هذا الكلام، فإنه لا يناسب هذا المقام.
نديم (لعزيز) :
تفضل.
عزيز (لنديم) :
إن والدي كان خطب لي أختك السيدة عزيزة، وأجابه والدك لإتمام ذلك في مدة وجيزة، فعالجه وا أسفاه المنون، قبل إنجاز هذه الشئون، وقد أتيتك متوسما كل الخير فيك لإنجاز وعد المرحوم أبيك.
نديم (لعزيز) :
أيليق بشرفك يا ابن الأمجاد، أن تحادثني في ذلك قبل مضي زمن الحداد؟!
عزيز (لنديم) :
كيف تتعلل بالحداد والحزن، وأنت منغمس في شهواتك والمجن؟! فهل يا نديم تعاطي هذه المسكرات، وضياع أموالك في اللهو والحانات، والانكباب على الألحان والندمان، كل ذلك من الحداد والأحزان؟! وهلا اقتنيت من دنياك غير أصناف الخمور، التي عددتها لنا وأنت بها فخور. فأين يا نديم شجاعتك، وعزمك وشهامتك، وقد كنت تقهر الفرسان وترهب الأبطال في الميدان، وأنت لم تزل في سن الحداثة؟! فكيف استبدلت ذلك بهذه الخناثة؟! فاتق الله في أختك وأمك، ولا تجرعهما كئوس سمك. (ثم يدخل خادم نديم.)
الخادم (لنديم) :
سيدي إن الأصحاب في الانتظار، لتشريف جنابكم عند الخمار.
نديم (للخادم) :
أبلغهم بأني قادم في الحال إليهم.
الخادم (لنديم) :
أدام الله فضلك علينا وعليهم.
عزيز (لنديم) :
كيف حالك يا رفيع الجناب؟ ومن هم يا ترى أولئك الأصحاب؟ أليسوا من الأوغاد المتاعيس، الذين أخذوا العهد في الإضلال على إبليس؟ فهؤلاء طالما فضحوا الجهلاء أمثالك، وسلبوا أموالهم كما سيسلبون أموالك. فانتبه لنفسك يا نديم، ولا تضيع مجد بيتكم القديم، فإن والدك كان صدر السلطنة الأعظم. فكن أنت قلب ذلك الصدر الأكرم. (ثم يشرب نديم كأسين ويقول):
نديم (لعزيز) :
لقد خرجت يا عزيز عن الحد، وخلطت الهزل بالجد، وجعلت نفسك من الحفاظ، أو الكهنة الوعاظ. (ثم يشرب نديم كأسين ويقول):
نديم (لعزيز) :
واعلم بأني ما تعللت لك بالحداد، إلا لعدم الرغبة في مصاهرتك يا ذا الرشاد، ويحزنني أن أخبرك بأن أختي لا ترضاك، وأنها مخطوبة لأمير سواك، وهي أجابته للطلب، وعن قريب يتم لها الأرب.
عزيز (لنفسه) :
اختارت سواي وأجابته للطلب! ما هذا العطب؟! آه يا خائنة! لا، عزيزة ليست مائنة، وإنما هي دسيسة من أخيها الختال، وستكشف لنا حقيقة الحال.
نديم (لعزيز) :
وحينئذ فلم يبق لجنابك بنا علاقة، ولم يبق لنا على تحمل أثقالك طاقة.
ليلى (لنديم) :
ما هذه الحال يا نديم؟ وكيف تخاطب عزيزا بهذا الكلام الأليم مع أنه أخلص النصيحة إليك، وقلبه يا ولدي عليك؟!
نديم (لليلى) :
دعيني من هذا الهذيان، وها أنا متوجه لأصحابي في الحان.
هيا إلى حان الخمور
تلقى بها كل السرور
واشرب وأنت بها فخور
فالحظ فيها والحبور (ثم يخرج نديم.)
ليلى (لعزيز) :
لقد أغلظت على نديم في الكلام، وهو لطيف المزاج لا يتحمل كثرة الكلام.
عزيز (لليلى) :
إذا كنت على مزاج ولدك ضنية، فما ذنب عزيزة المسكينة؟!
ليلى (لعزيز) :
نحن أقرب منك إليها، والذي يجري علينا يجري عليها. فاشتغل بنفسك يا عزيز، وإلا تكن عندنا غير عزيز، وإني متوجهة لمنزل أحد الأصدقاء، والبيت بيتك فامكث فيه ما تشاء. (ثم تخرج ليلى.)
عزيز (لنفسه) :
إذا جهلت واجباتها الأمهات، فالويل ثم الويل للعائلات. فرحمة الله عليك يا رشيد، لقد خلفت من بعدك خلفا غير رشيد، ويا ليت شعري والآمال عزيزة، كيف تصير حالتي والسيدة عزيزة؟!
عزيزة الروح هل يدنو تلاقينا
أم الزمان بنار البعد يصلينا
من بعد ما كانت الآمال تجمعنا
أضحى التنائي بديلا من تدانينا
تحكم اليوم أهلوك عليك وقد
مات الذي كان بالآمال يرضينا (وفي أثناء الإنشاد تدخل عزيزة.)
عزيزة (لعزيز) :
دع البكاء فليس النوح يكفينا
ولا العويل على ما فات يغنينا
وانظر مليا لما يأتي الزمان وهل
تموت بالبعد أم بالقرب يحيينا
ضاعت بفعل أخي ويلاه ثروتنا
والعز راح وخانتنا معالينا
كنا وأعداؤنا نرجو محبتنا
والآن أصحابنا صارت تعادينا
وما كفت كل هذه النائبات أخي
حتى غدا اليوم يسعى في تنائينا
ويحي ووالدتي أمست تساعده
قل لي عزيز فماذا صار يرضينا
يا ليتني قبل هذا كنت مت ولا
أرى زمانا به ضاعت أمانينا
عزيز (لعزيزة) :
لا تجزعي يا ربة الكمال، فدوام الحال من المحال، واعلمي أن فقد الغنى، لا يلزم عليه فقد المنى. فرب غني ذليل، وفقير جليل، والإنسان بكماله، لا بكثرة ماله.
لا تأسفي من زوال الجاه والرتب
أو من زوال لجين راح أو ذهب
فالمال مكتسب والعز مرتجع
إذا النفوس وقاها الله من عطب
واعلمي أنه إذا وقع ما لم يكن في الحسبان، وجفتنا الأهل والخلان فإني آخذك رغم كل بعيد وقريب، وأسير بك في كلاءة الله القريب، ولنا في ذلك شرعة مندوحة، وأبواب الله للقاصدين مفتوحة.
عزيزة (لعزيز) :
من بعد العز والقربة، أبيت في الذل والغربة! وبعد بيت الصدارة والإمارة، أصبح يا ويلاه هاربة فرارة، والموت الحمام! أدركني يا سلام.
ليت المنايا تباع
لبائس يبتغيها
تكون نعم المتاع
يا مهجتي فأشتريها
عزيز (لعزيزة) :
هوني عليك أيتها الحبيبة. فألطاف الله بعباده قريبة، ولا تكرهي بغير سبب الحياة، ولا تيأسي من روح الله، وعن إذنك أذهب الآن لتدبير ما يعنينا. فعندي من الثروة الوافرة ما يكفينا.
كوني عزيزة في أمان
فهمتي فوق الزمان
حر ولكن للحسان
عبد وأهوى من عبد •••
دومي على عهد الكرام
فإنني نعم الهمام
أحميك من هول الصدام
إن عز في الناس المدد (ثم تخرج عزيزة من جهة وعزيز يخرج من جهة أخرى، وتكشف ستارة عن المنظر الثاني.)
المنظر الثاني (تنكشف الستارة عن حانة خمار وفيها صاحبها الخواجة باولو وخادمه جورجي وروزة وصوفيا بيراريات، وخمس ترابيزات وجالس على إحداها نديم ومعه أصحابه عامر ولطفي والشيخ عبود، وجالس بجانب نديم كل من روزة وصوفيا وكلهم ينشدون هذا الدور.)
مذهب
يا وردتين في الجنينة
يا جمالهم سوا
دور
جاني وعرض
يشكو المرض
ولا ليش غرض
ولا لوش دوا
مذهب
يا وردتين في الجنينة
يا جمالهم سوا
دور
غضب وقام
ورجع قوام
ضم القوم
ولا ليش هوى
مذهب
يا وردتين في الجنينة
يا جمالهم سوا
نديم (لباولو) :
دور كونياك يا باولو.
باولو (لنديم) :
حاضر يا سعادة الأمير عشرة كونياك.
روزة (لنديم) :
هات لي قزازة شمبانية.
نديم (لروزة) :
حاضر يا روحي. هات يا باولو عشرين شمبانية . (ثم يدخل جورجي ومعه الكونياك.) (ثم يخرج باولو لإحضار الشمبانية.)
صوفيا (لنديم) :
هات لي أنا كمان وسكي.
نديم (لصوفيا) :
حاضر يا عيوني هات يا باولو عشرة وسكي. (ثم يدخل باولو بالشمبانية ويشربونه.) (ثم يخرج جورجي لإحضار الوسكي.) (ثم تدنو صوفيا وتأخذ الدبوس الألماس من صدر نديم وتوضعه في صدرها وتقول):
صوفيا (لنديم) :
مش لطيف هنا؟ انظر يا حبيبي.
نديم (لصوفيا) :
آه يا طرب عال بوسة.
صوفيا (لنديم) :
اسكت أحسن رفيقي سيحضر وإن شافنا يموتنا. (ثم يدخل باولو بالوسكي ويشربونه.) (ثم إن روزة تمسك يد نديم وتنزع خاتمه وتلبسه وتقول):
روزة (لنديم) :
شوف يا روحي كويس كده؟
نديم (لروزة) :
في إيدك أحسن يا نور العيون هاتي بوسة.
روزة (لنديم) :
البوسة بماية جنيه.
نديم (لروزة) :
ها ها غالي والطلب رخيص يا باشا، خدي ورقة بنك بماية جنيه. (ثم يعطيها ورقة وهي تعطيها لباولو ويقرأها سرا.)
باولو (لروزة) :
هذه بألف جنيه يا بختك يا روزة!
روزة (لباولو) :
أحسن من عينه.
عبود (لباولو) :
هات لنا دور زبيب خلينا ننحظ ربنا يبقي سيدنا نديم. (ثم يخرج جورجي لإحضار الزبيب.) (ثم يدخل حشمت وراغب ويجلسان على ترابيزة وتقابلهما روزة.)
راغب (لروزة) :
هاتي اثنين كونياك.
روزة (لراغب) :
وأنا واحد برمود.
راغب (لروزة) :
طيب يا غزال. (ثم تخرج روزة لإحضار الكونياك.) (ثم يدخل شخص فلاح اسمه عمار.)
عمار (لباولو) :
مسيك بالخير يا خواجة، تعالي يا بنت. (ثم تأتي إليه صوفيا.)
عمار (لصوفيا) :
هاتي واحد ... اسمه ... اسمه ... جاتو داهية اسمه زبيب. (ثم تتوجه صوفيا.) (ثم تأتي روزة بالكونياك لراغب.)
راغب (لروزة) :
يا سلام ما فيش كده جمال! (ثم تدخل صوفيا بالزبيب لعمار.)
حشمت (لصوفيا) :
تعالي هنا يا صوفيا.
عمار (لحشمت) :
عيب عليك يا أفندي اقعدي يا بنت هنا.
حشمت (لعمار) :
طز يا سي الشيخ.
عمار (لحشمت) :
طز في عينيك يا غاير، الواحد منكم جعان في داره وبييجي يتفنجص في الخمارة، جاتكم غارة. (ثم ينشدونه هذه الأدوار):
املا لي أقداحي
من سلاف الراح
واسقني يا صاح
فالحبيب عندي
يا سبب سعدي
يا أخا النداما
اسقني المداما
واترك الملاما
فالحبيب عندي
يا سبب سعدي
راغب (لحشمت) :
خليها ألا فرانكة. كل واحد على حسابه.
حشمت (لراغب) :
خليك ذوق. خليك وطني. ما لنا وألا لفرنكة.
عمار (لحشمت) :
وسكي وعرقي وكونياك ونسوان ووقوف حال وغفلة مطبقة ثم تقول وطني! (ثم يدخل الخواجة إبراهيم الصراف ويجلس على كرسي.)
إبراهيم (لباولو) :
ليلتك سعيدة يا خواجة باولو.
باولو (لإبراهيم) :
ليلتك حظ ها هو صاحبك. (ويشير لنديم)
نديم (لإبراهيم) :
سعيدة يا خواجة إبراهيم.
إبراهيم (لنديم) :
سعيدة يا سعادة الأمير.
نديم (لباولو) :
أعطي الخواجة جميع مشروبه على حسابي. (ثم يخرج جورجي لإحضار المشروب.)
باولو (لنديم) :
لعل سعادتك فاكر الحساب؟
نديم (لباولو) :
قدر إيه؟
باولو (لنديم) :
عشرة آلاف فرنك.
نديم (لباولو) :
غور. بس كده، هات دور للجميع في محبة الخواجة إبراهيم.
إبراهيم (لنديم) :
ربنا يطولي عمر سعادتك يا فنجري يا أبو جيبين. (ثم يخرج جورجي.)
نديم (لباولو) :
شوف حساب جميع الموجودين على حسابي. (ثم إن باولو يخرج ورقة من جيبه ويقول):
باولو (لنديم) :
جميع الحساب ثمانية عشر ألف فرنك برسماله بما فيه لعب القمار الليلة الماضية.
نديم (لإبراهيم) :
أعطيه يا خواجة إبراهيم المبلغ المذكور وألف فرنك بقشيش.
إبراهيم (لنديم) :
أمرك يا مولاي ، وفقط يلزم تأمين للبنك على المبلغ والفرط.
نديم (لإبراهيم) :
اكتب رهنية بالأملاك الباقية
إبراهيم (لنديم) :
اختم هذه الورقة على بياض، وبعدين نكتبها على مهلنا والدار أمان. (ثم نديم يطلع الختم من جيبه ويعطيه لإبراهيم.)
نديم (لإبراهيم) :
خذ واختم بأمانة ربنا. (ثم إن إبراهيم يأخذ الختم ويختم جملة أوراق ثم يسلمه لنديم.)
إبراهيم (لنديم) :
عن إذن سعادتك أتوجه البنك لإحضار المبلغ. (ثم يخرج إبراهيم.) (ثم يدخل باولو بالمشروبات.)
باولو (لنديم) :
الخواجة إبراهيم أخبرني أنه لا يعود هذه الليلة.
نديم (لباولو) :
خليه للصبح.
باولو (لنديم) :
لا تخرج من هنا حتى تدفع الحساب.
نديم (لباولو) :
أنام عندك للصباح. (ثم يرتمي نديم على الأرض بغاية السكر ويتهوع.) (ثم إن الجميع ينشدونه هذه الأدوار.)
الجميع :
نديم سكر وصبح بالهم
وصار بتفليسه في غم
روزة :
وكم أقول لك يا ابن الناس
فضك من التبذير والكاس
واوع لنفسك والأنفاس
واصحى من الغفلة يا دم •••
ضيعت مالك في الإسراف
بين الخمورجي والصراف
ما هكذا فعل الأشراف
ابكي على روحك واندم
الجميع :
يا رب عفوا يا غفار
عما اجترمنا من أوزار
واستر علينا يا ستار
فأنت بالجاني أرحم (ثم تنزل الستارة ويتم الفصل الأول.)
الفصل الثاني (وفيه منظران)
المنظر الأول (تنكشف الستارة عن منزل نديم بغاية الحقارة، وفيه نديم وأخته عزيزة ووالدتها الأميرة ليلى لابسين ملابس رثة.)
نديم (لليلى) :
ألا موت يباع فأشتريه
لكي أنجو من العيش الكريه
وفي الآخرة أرى عيشا هنيئا
فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا رحم المهيمن نفس حر
يهاديني بموت أجتبيه
ولكن ما رأينا قط خلا
تصدق بالوفاء على أخيه
ما أصعب الفقر بعد الغنا، والذل بعد العز! من بعد ما كنا نتقلب في الخز والديباج، وننعم على الراجين بالذهب الوهاج، أصبحنا نتقلب على التراب، وجفتنا الأهل والأصحاب. لا نملك قوت يوم، ولا نعرف طعم نوم.
حكم الدهر علينا بالمصاب
آه من حكم الزمان
ليتني مت ولا هذا العذاب
ربنا هبنا الأمان
قاتل الله النساء والندمان، فإنهم حبائل الغواية والشيطان. خرب الله القهاوي والحانات، فإنها صواعق الخراب المهلكات. دمر الله أماكن المقامرة، فإنها صفقة الدمار الخاسرة. (ثم يبكي)
ليلى (لنديم) :
ماذا يغني عنا الآن دمع العين، بعد ما حرقت يا نديم الأخضرين؟! فرحت في موت أبيك، ونبذت نصيحة ناصحيك. فقل لي ما ذنب النساء والندمان، وأنت الذي اخترت من بينهم كل شيطانة وشيطان؟! ولماذا تسب الحانات، وأماكن المقامرات؟! فهل جاءت بك إليها قهرا، أم جذبتك لديها قسرا؟! كلا، بل أنت الذي مشيت لها على قدميك، وسعيت إليها على عينيك كما يسعى للنار الفراش، ويحترق بها وهو منها في انتعاش. فعاتب نفسك ولا تعاتب الأيام، وابك علينا يا نديم بكاء الحمام.
نديم (لليلى) :
اغفروا لي أيها الناس الكرام
ما جنت ظلما يداي
أنت يا أماه أسباب الخصام
حيث طاوعت هواي
ليلى (لنديم) :
ما كفاك ما جنيته علينا
حتى ترسل سهام لومك إلينا
وإذا كنت وفي العهد في زعمك، كيف ساغ لك تبديد أموال أختك وأمك؟! فاخسأ يا عبد الشهوة، ويا عديم المروءة والنخوة.
ويا ليتك كنت من العذارى
خير من أن تكون من السكارى
نديم (لليلى) :
راحت الدنيا ورحنا والسلام
وتجلى السعد غاب
ليلى (لنديم) :
أنت أسباب البلايا والخصام
أنت ينبوع المصاب
نديم (لليلى) :
تتبرئين اليوم من السكارى
وأنت كنت خازنة خموري
وتسبينني الآن يا أمي جهارا، وأنت كنت عوني على أموري؟! ما أضر الأمهات الجاهلات، على البنين والبنات! فرحمة الله عليك يا والدي الحبيب. لقد أصبحنا بعدك في ذل وتنكيب. (ثم يبكي)
عزيزة (لنديم) :
يا شقيقي ماذا يفيد البكاء
بعد ما حاق بالنفوس البلاء
ذهب المال والسعادة ولت
وتوالت بضيمها النكباء
بكت الشامتون حزنا علينا
ويح حر تبكي له الأعداء
ليس غير التسليم لله شيء
فهو يقضي في خلقه ما يشاء
نديم (لعزيزة) :
آه يا عزيزة! ماذا أفعل؟ إلى أين أذهب؟
ضاقت بوجهي الكائنات بأسرها
وذهلت حتى لست أدري ما بيا
صبت علي مصائب لو أنها
صبت على الأيام صرن لياليا
عزيزة (لنديم) :
إني سمعتك الآن تندب أيام أبيك ونضرة جمالها، وفي الحقيقة لا يعرف الإنسان قيمة النعمة إلا بعد زوالها، واعلم يا أخي أن الأمير صديقا كان الصديق الوحيد لأبيك ، وقد أوصاه عليك وعلى ذويك، ولا أظنك نسيت وصية والدنا الهمام، وقوله لنا وهو يعالج سكرات الحمام، إذا رماكم الدهر بالضيق، فعليكم بصديق صديق. فأرجوك أن تتوجه إليه وتعرض حالنا يا أخي عليه، عساه يمن علينا، أو يوصل من خيراته إلينا.
نديم (لعزيزة) :
بأي وجه أتوجه إليه؟ وبأية هيئة أقبل عليه؟ أبهذه الثياب البالية بعد ثياب السندس والحرير؟! أم بهذه الأقدام الحافية، التي كانت تطأ التخت والسرير؟!
ليلى (لنديم) :
إن للضرورة أحكام، واللبيب من دار مع الأيام. فاسمع قول أختك يا نديم، وبادر لهذا الصديق الحميم، وأسرع إلينا يا ولدي في الرجوع، فقد أحرقنا الظمأ وأنهكنا الجوع.
نديم (ليلى) :
كيف يا أماه أمضي
هكذا عند الأمير
ليتني يا رب أقضي
قبل ميعاد المسير
عزيزة (لنديم) :
يا نديم اذهب إليه
إنه نعم الصديق
فعسى تلقى لديه
حسن تفريج المضيق
الجميع :
رب هبنا حسن صبر
منك يرضي القاصدين
واجعل العقبى لخير
يا إله العالمين (ثم يخرج نديم من جهة وعزيزة من جهة أخرى، وتنكشف الستارة عن المنظر الثاني.)
المنظر الثاني (تنكشف الستارة عن منزل الأمير صديق جالسا مع ولده عزيز، وصالح البواب واقف على الباب.)
صديق (لعزيز) :
إذا كنت في نعمة فارعها
بحسن اقتصاد يقيك العدم
وداني الحلال ونائي الحرام
فإن المعاصي تزيل النعم
وداوم عليها بشكر الإله
يزدك بحسن الرضا والكرم
وخف نقمة الله أن تعصه
فإن الإله شديد النقم
إني ليحزنني يا والدي ما سمعته عن نديم، وما حل به وأهله من الكرب العظيم. فإنه بعد أن مات والده وا أسفاه! أطاع شيطانه واتخذ إلهه هواه، حتى نفدت ثروته، وما أغنت عنه سكرته. فيا أسفي عليك يا حبيبي رشيد، وما حل بعد موتك ببيتك المجيد! نسأل الله أن ينجينا من المهالك، وأن يحفظك يا ولدي بعد موتي من مثل ذلك.
عزيز (لصديق) :
هل حالة نديم بلغت سيدي الآن؟ أم علمتم بها منذ أزمان؟
صديق (لعزيز) :
إني عالم بظاهره وخافيه، من عهد موت المرحوم أبيه.
عزيز (لصديق) :
وكيف تركتهم يا والدي على هذه الحال، حتى أفضت بهم إلى التعاسة والوبال؟!
صديق (لعزيز) :
اعلم يا ولدي أني طالما بعثت لنديم بأنواع النصائح، وهو يقابلها بالجفاء وأنواع الفضائح، حتى عجزت عن نهيه وتقويم نهاه، وقلت إنما الهدى هدى الله؛ وذلك لأن للمعاصي لذة في نفوس المتاعيس، ينجذبون إليها انجذاب الحديد للمغناطيس، ولا تكاد نفوسهم تنفك عن تلك اللذة القتالة، إلا بقوة مؤثرة فعالة، وما رأينا قوة مؤثرة على الإنسان، أشد من قوة حكم الزمان، وناهيك ما ورد في أمثال العوام، من لم يربه أبواه ربته الليالي والأيام.
عزيز (لصديق) :
قلتم يا سيدي إن نديما نفدت ثروته، وما أغنت عنه سكرته. فهو والحال هكذا مستحق لرحمتكم، ومديد المساعدة إليه من حضرتكم.
صديق (لعزيز) :
ها هو صاحبك نديم مقبل من بعيد، في حالة يلين لها الحديد، وما أخاله إلا جاء طامعا في الهبات، ولكن هيهات ثم هيهات.
عزيز (لصديق) :
عامله يا والدي بعنايتك، واشمله فديتك برعايتك.
صديق (للبواب) :
لا تأذن يا بواب لذاك الغلام، وعامله بالغلظة وعدم الاحتشام. (ثم يدخل نديم قليلا.)
صالح (لنديم) :
من أنت أيها الغلام الحقير؟ وكيف تجاسرت على الدخول بمنزل الأمير؟
نديم (لصالح) :
لا تؤاخذني يا حضرة البواب؛ لأني من محاسيب هذا الرحاب.
صالح (لنديم) :
اسكت يا أرذل الغلمان، فأنت أحقر من الوصول لهذا المكان.
نديم (لصالح) :
تأدب أيها العنيد، فإني ابن الصدر الأكرم رشيد.
صالح (لنديم) :
وهل أنت يا عديم الأدب، تتوصل لذلك الحسب؟
صديق (لصالح) :
من هذا يا حاج صالح؟
صالح (لصديق) :
هذا غلام كما أراه طالح.
نديم (لصديق) :
بل أنا ولدك نديم يا مولاي.
صديق (لنديم) :
اذهب واتخذ لك والدا سواي، فخيبة الله عليك وعلى أمثالك، وعلى كل من يجاريك في أفعالك.
نديم (لصديق) :
اغفر لي يا مولاي فالكريم من غفر، وارحموا عزيز قوم ذل وغني قوم افتقر.
صديق (لنديم) :
أنت الذي أفقرت نفسك بسوء فعلك، وجلبت البلاء على ذاتك وأهلك.
نديم (لصديق) :
هبني أسأت فأين العفو والكرم
والله يقبل من تابوا ومن ندموا
فارحم خضوعي واذكر يا أمير أبي
إن الكرام إذا ما استرحموا رحموا
صديق (لنديم) :
نحن إنما نرحم من يصاب اضطرارا بالقضاء المقدور، لا من يصيب نفسه مثلك بالفسق والفجور. فانصرف يا جبان من هذا المكان، مسخوطا عليك من الله ومن كل إنسان. (ثم إن البواب يدفع نديما بقوة للخارج حتى يقع على الأرض.)
نديم (لنفسه) :
انقطعت آمالنا يا رب إلا منك، وخاب رجاؤنا يا حق إلا فيك. (ثم يخرج نديم بالكلية.)
عزيز (لصديق) :
كنت أتمنى يا والدي أن تقابله بحلمك، وتعامله بعفوفك وكرمك، وإن لم يكن لأجل نفسه الحزينة، فليكن لأجل أمه وأخته المسكينة.
صديق (لعزيز) :
لا تعترض على أبيك يا عزيز، وإلا حرمتك من التعزيز؛ لأنك جاهل بمواضع الحلم. فلا تسألني ما ليس لك به علم، وقل لي من يضمن لنا أن نديما أقلع عن هواه، وأنه تاب وأصلح وأناب إلى الله، وما أدراك أنه إنما تاب من ضيق ذات اليد، حتى إذا عادت إليه ثروته عاد إلى قديم العهد.
يقول أخو الندامى مذ رآني
عفيفا منذ حين ما شربت
على يد أي شيخ تبت قل لي
فقلت على يد التفليس تبت
فاحذر أن تفوه بكلمة من شفتيك؛ فإن أعمال والدك لحكمة تخفى عليك، واعلم يا ولدي أنك بعد ما أبصرت حالة نديم بعينك، سيكون الله شهيدا بيني وبينك، فإن عهدي بالموت أجله قريب، ويضحك عدو ويبكي حبيب. فإن شئت أن تكون مثله، فافعل يا عزيز فعله، وإن شئت أن تكون عظيم الجناب، موقرا عند الأعداء والأحباب، فاجعل تقوى الله نصب عينيك، وهو سبحانه وتعالى خليفتى عليك. (ثم يخرج صديق وعزيز وتنزل الستارة على منزل صديق وترجع الحال لمنزل نديم، ثم يدخل نديم.)
نديم (لنفسه) :
انقطعت آمالنا يا رب إلا منك، وخاب رجاؤنا يا حق إلا فيك.
يا رب عفوا ضاق بي رحب الفضا
والطف بنا فيما يجيء به القضا
واصفح عن الجاني ووفقني لما
يرضيك في الآتي ويكفي ما مضى
وارحم نفوسا أسلمت لك أو فجد
بوفاتها إن كان فيه لك الرضا (ثم تدخل ليلى وعزيزة.)
ليلى (لنديم) :
ولدي، ماذا أصابك يا نديم؟ آه ما هذا البلاء العظيم؟ أخبرنا بما حصل، وما الذي بك الأمير فعل.
نديم (لليلى) :
اندبيني يا أماه، نوحي علي يا أختاه. خانتنا الأيام والأحباب، وتقطعت دوننا جميع الأسباب.
أماه صارت بالأسى أيامنا
سودا تسيء وكان ليلي أبيضا
أماه عادانا الصديق ولم يكن
يا رب غيرك راحما ومعوضا
عزيزة (لنديم) :
أخبرنا يا نديم بما جرى
ويكفينا من دمع العين ما جرى
نديم (لعزيزة) :
طردني يا أختي الأمير، وشدد علي النكير، وضاعت منه الشفقة والنخوة، وعاملني بكل جفوة وقسوة، وجفا الخليل الخليل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
عزيزة (لنديم) :
وهل كان عزيز هناك؟
نديم (لعزيزة) :
نعم، وكان في غاية الارتباك.
عزيزة (لنديم) :
آه! ما هذا الهلاك!
ليلى (لعزيزة) :
ألم يكن في الوجود إله؟!
عزيزة (لليلى) :
نعم ... هو الله ... هو الله.
ليلى (لعزيزة) :
ألم يكن عالما بالضمائر؟!
عزيزة (لليلى) :
نعم ويعلم ما تخفي السرائر.
ليلى (لعزيزة) :
أليس هو الفعال بمراده؟!
نديم (لليلى) :
نعم وهو القاهر فوق عباده.
ليلى (لعزيزة) :
فلماذا لا نبتهل إليه، ونخلص في الاتكال عليه؟! (ثم يجثون على الركب وينشدون هذه الأدوار):
رب إن الزمان أضنانا
بوفاة الأمير
فأغثنا فأنت مولانا
ولديك النصير •••
رب إن الصديق عادانا
وتجافى نديم
فأنلنا بالفضل إحسانا
أنت أنت الرحيم •••
رب هبنا للخير إرشادا
وأنلنا الرضاء
وأدم من لدنك إمدادا
يا مجيب الدعاء (ثم يطرق الباب مرارا فيقفون جميعا منذهلين.)
ليلى (لنديم) :
من هذا الطارق؟
نديم (لليلى) :
لست أدري يا أماه.
عزيزة (لنديم) :
اذهب وانظر يا نديم. (ثم يخرج نديم.)
ليلى (لعزيزة) :
من يا ترى يطرق علينا الباب
رحمتك اللهم يا مفتح الأبواب
عزيزة (لليلى) :
من أين يأتي لنا الفرج يا أماه؟!
ليلى (لعزيزة) :
لا تقنطي يا ابنتي من روح الله. (ثم يدخل نديم.)
نديم (لليلى) :
إن الطارق امرأة عجوز مغربية، يلوح عليها الوقار والأمرية. (ثم تدخل امرأة عجوز ملثمة الوجه وخلفها خادم يحمل خرجا ثم تجلس.)
العجوز (لليلى) :
أسعد الله أوقاتكم يا أولادي.
ليلى (للعجوز) :
وأنت سعدت يا ذات الأيادي.
العجوز (لليلى) :
أليس هذا منزل الأمير رشيد؟ أم أخطأ ظني لأن عهدي به بعيد؟
ليلى (للعجوز) :
نعم يا سيدتي هو منزل رشيد رحمه الله، وقد انتقل منذ عام إلى جوار الله.
العجوز (لليلى) :
وا أسفاه عليك أيها الأمير الماجد! وا حسرتاه عليك يا كهف العافي وذخر القاصد! وهل أنت يا سيدتي زوجته، وهذا ولده وهذه ابنته؟
ليلى (للعجوز) :
نعم يا سيدتي نحن كما تقولين، وأنت ماذا الذي تبتغين؟
العجوز (لليلى) :
وأين تلك البدور السافرة، والوجوه الناضرة؟ أين بيت الوزارة ومنزل العز والإمارة؟ أين الخيل المسومة والأنعام؟ هل فقدتم كل ذلك في مدة عام؟
ليلى (للعجوز) :
لا عجب ولا التباس، وتلك الأيام نداولها بين الناس. فأخبرينا يا سيدتي بالغرض ولا تزيدينا مرضا على مرض.
العجوز (لليلى) :
اعلموا أن اسمي مباركة وبلدي طرابلس الغرب، وكان المرحوم لي من أعظم الأصدقاء والصحب، ولي عادة في كل ثلاثة أعوام، أن أحج بيت الله الحرام، ولست أملك من دنياي غير هذي العشرة آلاف دينار ... (وتشير للخرج)
وهذين العقدين وثمنهما خمسة آلاف دينار (وتخرجهما من جيبها)
ولم يكن لي أهل ولا ولد، ولا وثقت غير أبيكم بأحد.
عزيزة (للعجوز) :
رحمة الله عليه وعلى أيامه، ويا ليتنا متنا تحت أقدامه.
العجوز (لليلى) :
وكنت كلما قصدت الحج الأكبر، أجعل زيارة أبيكم حجي الأصغر، وأسلمه أموالي على طريق الأمانة، بغير كتابة عليه ولا ضمانة، وعند عودتي أزوره وأسلم عليه، ويسلمني أمانتي التي كانت لديه، ولكوني عزمت على الحج هذه السنة، قصدت زيارته كعادتي المستحسنة، فوجدته اختار دار النعيم، في جوار الرب الكريم.
ليلى (للعجوز) :
لا تعجبي يا سيدتي مما جرى، فهذه سنة الله في الورى.
العجوز (لنديم) :
وحيث إني لست ممن تغيرهم الحوادث، أو تزعزعهم الكوارث، فإني أسلمك يا ولدي هذه الأمانة بأمان، وليس لي عليكم غير الصداقة ضمان، غير أن النفس ميالة للازدياد، وأراك الآن مفتقرا للاجتهاد. فإذا وجدت تجارة لن تبور ومكاسب عن الحلال لا تجور، فإني أجيزك يا نديم بالإتجار في الحال، بهذا المال الطاهر الحلال. (ثم إنها تسلمه الخرج والعقدين.)
نديم (لمباركة) :
وا فرحتاه! وهل تجيزين ذلك يا أماه؟
مباركة (لنديم) :
نعم، واحفظ لي رأس المال مع ثلث الأرباح، وما عدا ذلك فهو لك مباح، ولا تنم عن عملك أيها الهمام، فما أبعد الخير على الرجل النوام، والزم تقوى الله فإنها تساعدك. هكذا كان يفعل المرحوم والدك.
نديم (لمباركة) :
لو كنا اتبعنا طريقه المستقيم، ما وقعنا في هذا البلاء الأليم.
مباركة (لنديم) :
دع ذكرى ما فات، واعمل لما هو آت، وبادر لمبيع العقدين، واستلم من المشتري النقدين، وعجل بمشترى ما تجده من الغلة والحب، وسافر بها للعراق؛ لأنها في دأب وجدب، ثم اصطحب بضاعة هناك إلى هنا؛ ليزداد لك بالمكاسب الهنا، واحفظ نفسك يا ولدي من كل شين، فإنه لا يلدغ المرء من جحر مرتين.
نديم (لمباركة) :
جزاك الله يا سيدتي خيرا، ولا أراك الزمان ضيرا، وها أنا ذاهب لتنفيذ أمرك بالصيانة، مستمدا من الله التوفيق والإعانة. (ثم يخرج نديم بالمال والجواهر.)
مباركة (لليلى) :
لا تبتئسي يا أميرة بما صار
فما أعجب تقلب الليل والنهار
لا تجزعي واستقبلي بالرضا
طوارئ الليل وبؤس النهار
فالصبر أولى بوقار الفتى
من جزع يهتك ستر الوقار
ويوشك أن يزول الحرج
والصبر يا أختي مفتاح الفرج
عزيزة (لمباركة) :
من أين لنا الفرج وقد جفتنا الأخلاء، ورثت رحمة بنا الأعداء؟!
مباركة (لعزيزة) :
هوني عليك يا عزيزة، فأنت ما زلت على محبك عزيزة، ومن كان مثلك بهذا الجمال، والتحلي بصفات الكمال، لا يشينه الفقر، ولا يوحشه القفر. (ثم إن مباركة تخرج من جيبها حقا فيه قرط من الجوهر.)
واعلمي يا عزيزة أني ورثت هذا القرط عن أجدادي، ولا يوجد مثله في بلادكم وبلادي. يكاد سناه يأخذ بالأبصار، وثمنه علينا ألف دينار، وأني ليس لي بنت ولا ولد، فأنت أولى به من كل أحد، وقد وهبتك يا عزيزة إياه ، فاقبليه مني على بركة الله.
ليلى (لمباركة) :
لك الشكر يا سيدتي على هذا الإحسان، ويا ليت لنا قدرة على مكافأتك الآن.
مباركة (لليلى) :
اشكري يا صديقتي الله وحده؛ فهو الذي بالصواب يلهم عبده، وقد آن يا أعزتي أوان الرحيل، وعلى الله سبحانه قصد السبيل، وأرجوكم تبليغ تحياتي والتسليم، إلى ولدي العزيز نديم، وقولا له إني مضيت لشأني، ولا يبحث عني فإنه لا يراني، وذكراه بنصيحتي والوصية. متعكم الله بالعيشة الهنية. (ثم تودعهما وتخرج.)
ليلى (لعزيزة) :
ما أظن هذه السيدة الفاضلة، إلا من أولياء الله الواصلة، أو أنها روح أبيك أرسلها الله إلينا، وأفاضت هذه النعم علينا. (ثم يدخل نديم.)
نديم (لليلى) :
أين السيدة مباركة المغربية؟
ليلى (لنديم) :
قد سافرت إلى طريقها الحجازية، وأمرتنا بوصية مقتضاها ألا تبحث عليها فإنك لن تراها.
نديم (لليلى) :
وماذا تقولين في قدوم هذه السيدة علينا، ومن أي طريق أرسلها الله إلينا؟
ليلى (لنديم) :
إذا أخلص العبد لله، خلصه بفضله ونجاه، ولا تسل عما كان فلله سر مكنون، وإذا أراد أمرا إنما يقول له كن فيكون، وقل لي ماذا صنعت بالمال، وبعقدي الجواهر الغال؟
نديم (لليلى) :
لما خرجت من هنا ومعي صندوق الجواهر، اعترضني شاب ملثم الوجه الأزهر، وساومني العقدين بعشرين ألف دينار، وراودني في استلام الجوهر وتسليم النضار، فأجبته في الحال لما طلب، وتم لي ثلاثون ألف من الذهب. فسألني ماذا أصنع بالدنانير، ونصح لي أن أشتري بها غلة بغير تأخير وأن أسافر للأقطار العراقية. فتذكرت حينئذ وصية المغربية، وارتاحت نفسي لهذا الإتجار، واشترى لي بضاعة بخمسة وعشرين ألف دينار، وأخذ في تسفيرها بالسفن والمراكب، وصار ينصحني كأعز الحبائب، وعلمني كيف أبيع وأشتري، وقال لي إن سعدي في طالع المشترى، وأوعز لي أن أسافر في هذا اليوم؛ حيث تستعد السفن للسير والعوم. فأصلحت شأني وجهزت لوازمي المعينة، ووضعتها متوكلا على الله في السفينة.
ليلى (لنديم) :
كيف تسافر في الأودية والبحار، وتتركنا يا ولدي في تيار الأفكار؟
نديم (لليلى) :
يكفينا يا أماه يكفينا، ما صنعت الأيام فينا، فقد ولى زمان الجهل وراح، وانجلى ليل الغفلة بنور الصباح، وخذي هذه الثلاثة آلاف دينار، ويبقى معي ألفان لحاجة الأسفار، وأصلحوا من شئونكم بقدر ما تحتاجون، واسلكوا سبيل الاقتصاد فيما تصرفون، ولا يجتمع يا أمي أحد عليكم، حتى أرجع إن شاء الله إليكم.
عزيزة (لنديم) :
أناشدك الله يا أخي أن تنتبه لنفسك وأن تعتبر في يومك بما لاقيت في أمسك، ولا تنسنا يا نديم من المكاتيب، والله يسهل لنا كل أمر عصيب.
نديم (لعزيزة) :
إذا لم أعد في العز كل قديم
فما أنا يا أخت العلا بنديم
وإن لم أعوض كل ما راح فاعلمي
بأني أنا وغد وشر زنيم
وإن لم أزد ما فاته لك والدي
فلست بحر طاهر وكريم
وإن لم أنل ما أبتغيه من السنا
فلست بشهم في الرجال عظيم
عليكم سلام الله ما هبت الصبا
وما فاز بالوجدان كل عديم
عزيزة (لنديم) :
سر وسافر بالسلامة
ناهجا نهج السداد
واجتهد تلقى الكرامة
في اقتراب وابتعاد
نديم (لليلى) :
بالدعا يا أم جودي
نحو علام الغيوب
فعسى ينجو وجودي
من عنا هذي الخطوب (ثم يدخل شاب ملثم الوجه.)
الشاب (لنديم) :
سر ولا تكثر وداعك
قد كفاكم يا نديم
واجعل التقوى متاعك
ذا صراط مستقيم
نديم (للشاب) :
أنت مبتاع الجواهر
أنت لي شاري الغلال
أنت أستاذ المتاجر
أنت لي رب النوال
الجميع :
ربنا هبنا نجاحا
منك وامنن بالمرام
واجعل العقبى صلاحا
وأعطنا حسن الختام (ثم تنزل الستارة ويتم الفصل الثاني.)
الفصل الثالث (تنكشف الستارة عن وادي صغير وفيه رجل بدوي اسمه صميدة.)
صميدة (لنفسه) :
حظنا في الوجود قطع الطريق
حين نرمي من نلتقي في المضيق
نقتل النفس نسلب المال غصبا
وشراب الدما كشرب الرحيق (ثم يدخل جبالي.)
جبالي (لصميدة) :
سلام عليك.
صميدة (لجبالي) :
سلام عليك.
جبالي (لصميدة) :
ماذا تصنع هنا يا صميدة؟
صميدة (لجبالي) :
أبحث على غنيمة أو صيدة، وأنت لماذا جئت يا جبالي في هذا المكان الخالي؟
جبالي (لصميدة) :
إني أتيت إلى هذا الحدب، بأمر كيلاني شيخ العرب، أجوس خلال الدروب؛ لأظفر من الغنائم بالمطلوب، وقد صادفت هنا أعظم غنيمة، بل هي الدرة اليتيمة.
صميدة (لجبالي) :
لعلها القافلة الحصينة التي خرجت من المدينة.
جبالي (لصميدة) :
نعم، وأنت كيف عرفتها؟ وأين يا صميدة رمقتها؟
صميدة (لجبالي) :
آه يا جبالي! إن هذه القافلة هيجت بلبالي؛ لأنها محصنة بالسلاح، وبالجنود ليوث الكفاح.
جبالي (لصميدة) :
لا يغرنك رجالها، ولا تهيبك أبطالها؛ فإن علة الهواء الأصفر، أخذت منها حظها الأوفر، وباتوا وليس فيهم للدفاع استعداد، وأصبح الشيخ كيلاني لها بالمرصاد، وحيث إنها أناخت الإظعان، بالقرب من هذا المكان، فها أنا ذاهب إليه لأعرض الأمر عليه، واحفظ أنت يا صميدة هذا الممر، حتى نأتيك كلمح بالبصر. (ثم يخرج جبالي.)
صميدة (لنفسه) :
كيف أحفظ لهم هذه الغنيمة، وهم إذا غنموها طردوني كالبهيمة؟! لا، أبدا بل أعاكسهم حتى يخرجوا منها صفر اليدين، ونرجع كلنا بخفي حنين. (ثم يخرج صميدة وترتفع ستارة عن المنظر الثاني.)
المنظر الثاني (تنكشف الستارة عن أودية وفيها هودج الملكة وبعض الحرس وعددهم عشرة، وبهجت بك حاكم الحملة وشجاع قائد الحملة، وتخرج الملكة وبنتها من الهودج.)
الملكة (للحاكم) :
يا بهجت بك.
الحاكم (للملكة) :
لبيك وسعديك.
الملكة (للحاكم) :
ما لكم وقفتم بنا في هذا المكان؟
الحاكم (للملكة) :
لنستريح هنيهة من الزمان، ونملأ القرب من تلك الآبار؛ حيث أصبحنا على قرب من الديار.
الملكة (للحاكم) :
ما لي لا أرى أدلاء الركبان؟
الحاكم (للملكة) :
لعلهم ذهبوا في حاجة ويرجعون الآن.
الملكة (للحاكم) :
إني أرى أشباحا من بعيد، يظهر خيالهم في ذلك الصعيد، وهم في مشيتهم بنا يتآمرون، وكأني بهذا الدرب غير مأمون.
الحاكم (للملكة) :
أرجو ألا تكون أفكار جلالتك في اشتغال. فعندنا من الجنود ما يقهر الأبطال. (ثم يظهر قتال خفيف وراء المرسح.)
الملكة (للحاكم) :
آه! إني أراهم هجموا على المعسكر، ونازلوا جندنا والعسكر. (ثم تسمع حركة حرب وعراك بالسيوف.)
الحاكم (للملكة) :
لا تخافي يا ربة المقام المحمود؛ فإن لدينا من الأبطال ما يرهب الأسود. (ثم يسمع ضجيج حرب عنيف وراء المرسح.)
الملكة (للحاكم) :
أواه! إن الأشقياء تغلبوا على رجالنا، وأخشى من وصولهم إلى رحالنا. (ثم يدخل شجاع.)
شجاع (للحاكم) :
إن الأعداء فتكوا في عساكرنا ، وملكوا يا مولاي جميع دساكرنا.
الحاكم (لشجاع) :
اركب يا شجاع ذاك الجواد، وامض كالبرق إلى حدود البلاد، وأخبر العامل هناك بما صار، وارجع إلينا بجيش جرار، وإياك يا شجاع والتأخير، فأنت بصير بالحال وخبير.
شجاع (للحاكم) :
لا تكن يا همام في تبريح، وسأرجع إليكم كهبوب الريح. (ثم يخرج شجاع وتظهر حركة رجال.)
الحاكم (للجنود) :
احملوا يا حراس سلاحكم، وابذلوا في الدفاع أرواحكم، ولا يهولنكم الحتوف، فالجنة تحت ظلال السيوف. (ثم يدخل كيلاني ومعه خمسة أشقياء.)
الحاكم (لكيلاني) :
إليك يا ابن اللئام، فهذا ركب ملكة الأنام، وقد أدينا فريضة الحج ولله المنن، ونحن الآن راجعون إلى الوطن.
كيلاني (للحاكم) :
اسكت يا كلب الرجال؛ فقد أسرنا جيشكم وقتلنا الأبطال. فاترك الكبر والتيه، وسلم لنا الهودج ومن فيه. (ثم يبرز القائد ويقول):
الحاكم (لكيلاني) :
اخسأ لقيت الذل يا كلب العرب
من فارس يلقيك في هول العطب
وارجع لعقلك أو أذقناك الوصب
كيلاني (للحاكم) :
خذها حلالا من حسام كم غلب (ثم يقع الحاكم جريحا من طعنة كيلاني.)
الحاكم (للجنود) :
إني وقعت في النكال، فاحفظوا الهودج يا أبطال. (ثم تظهر ضجة ويدخل نديم وأتباعه عشرة، فينكمش كيلاني ويقف ساكنا.)
نديم (لكيلاني) :
كفوا القتال واغمدوا السيوف، وإلا لقيتم منا الحتوف.
ما للمطايا بالنساء قعود
هل خانهن الدهر وهو حقود
ما هذه القتلى وما هذا البلا
والقوم قد أخنت عليها البيد
ما هذه العربان ما هذا الشقا
والركب فيه مجندل وفقيد
أغنيمة صادفتمو في غفلة
من أهلها أم ربها مفقود
كيلاني (لنديم) :
من أين جئت فأنت غير مكرم
إن لم تفز حالا بنفسك تندم
هذي سبايانا وهذا غنمنا
وافى به حظ النصيب الأكرم
وأولئك القتلى قتلناهم على
عمد لكي نحظى بهذا المغنم
لا حاكم أو رادع أو وازع
أو مكسب غير الشقا للمعدم
فارجع لعقلك يا غلام أو اقتبل
منا الحمام يخوض في بحر الدم
نديم (لكيلاني) :
خل النساء أو اقتبل من ضيغم
سيفا يشبح الرأس منك إلى الفم
فأنا نديم ابن الرشيد أخو الوفا
وكما علمت شمائلي وتكرمي
ومتى التقى الصفان يوما تلقني
أغشى الوغى وأعف عند المغنم
فاحذر لنفسك إن سيفي ماؤه
مر مذاقته كطعم العلقم
كيلاني (لصمصام) :
تقدم يا صمصام، واقتل هذا الغلام.
صمصام (لنديم) :
يا غرورا بنفسه في الضراب
أنت ما زلت في غضون الشباب
اترك الانتساب إنك غر
ليس تجديك رفعة الانتساب
وارتحل غانما بنفسك إنا
فخرنا بالحراب لا الأحساب
أو فخذها من ساعد لشجاع
سعده قائم مدى الأحقاب (ثم يطعن نديم وتخيب الطعنة.)
نديم (لصمصام) :
يا رحى الغاب يا سباع الغاب
هيبة من غضنفر هياب
كم جيوش جندلتها والمنايا
كشرت في الوغى عن الأنياب
يا أخس العربان خذ طعنة من
حد سيف تلقيك تحت التراب (ثم يتضاربان ونديم يقتل صمصام ويقع قتيلا.)
القائد (لنديم) :
لا شلت يداك يا نديم، واحفظ فديتك هودج الحريم.
كيلاني (لنديم) :
سأخرج بنفسي لهذا الكلب، وأريه كيف يكون الطعن والضرب.
نديم (لكيلاني) :
ستعلم من الكلب ومن الضرغام، حين أجندلك بهذا الحسام. (ثم يخرج كيلاني لقتل نديم.)
كيلاني (لنديم) :
سلم سلاحك بالسلامة تظفر
مني ومن حد الحسام الأبتر
لا تحسبن من راح قبلي أنه
مثلي فإني ضيغم القوم الجري
خذ يا جبان بحد سيفي ضربة
تلقيك في جوف الثرى للمحشر (ثم يهجم على نديم ويضربه وتخيب الضربة.)
نديم (لكيلاني) :
إن كنت تبتاع النفائس فاشتري
يا وغد نفسك من حسام غضنفر
واعلم بأني الفارس العاتي الذي
أحمي الحريم ولا أجور على البري
لا أضربنك غير واحدة على
هون فخذها من يدي يا مفتري (ثم يطعنه نديم فيموت وتحصل معركة خفية جدا بين جماعة كيلاني وجماعة نديم.) (ثم يظهر نشيد من بعيد وتسكن له المعركة المذكورة وهم نحو عشرين نفر حاملي السيوف، ثم يدخل شجاع بعساكر الملك.)
شجاع (للملكة) :
جئنا لكم جئنا لكم
أرواحنا تهدى لكم
العسكر :
جئنا لكم جئنا لكم
أرواحنا تهدى لكم
شجاع (للملكة) :
روحي فداء الهودج
حصن الجلال الأبهج
وافاكم الجيش النحي
جئنا لكم جئنا لكم
يا أيها العرب اللئام
جرتم على القوم الكرام
ولم يكن فيكم زمام
جئنا لكم جئنا لكم (ثم تقبض العسكر على جميع الموجودين بما فيهم نديم ويوثقونهم وتخرج الملكة وبنتها من الهودج.)
شجاع (للملكة) :
الحمد لله على سلامة جلالتك العلية، وسيدتنا نعمى السنية.
الملكة (لشجاع) :
أشكر الله وأشكرك يا شجاع، وأثني على جيوشنا ليوث الدفاع، ولكن أين أسد الرجال، وفارس الأبطال، الشهم الكريم، الأمير نديم؟
نديم (للملكة) :
لبيك يا صاحبة الفضل الجزيل، وهكذا تكون مقابلة الجميل.
الملكة (لشجاع) :
أأسرتموه؟! أأوثقتموه؟! وا خجلتاه! فكوه وأحضروا به إلي، كلا بل أنا أفكه بيدي. (ثم تتقدم الملكة وتفكه بيدها.)
الملكة (لنديم) :
أخبرنا يا قاهر الرجال
من أنت من الأبطال
نديم (للملكة) :
إني يا غانية رجل فقير
ساقتني إليكم المقادير
شجاع (لنديم) :
تأدب يا ذا الفطن، وانظر أنت في حضرة من، فإنك في حضرة سلطانة الملك الأسمى، وكريمتها الملكة نعمى.
نعمى (لنديم) :
قل لنا يا نديم، أنت من أي بيت عظيم؟ فقد أجادتنا شهامتك، وأسرتنا كرامتك.
نديم (لنعمى) :
إني نديم صاحب العزم الجسور
وأبي رشيد عبدكم صدر الصدور
دارت بنا الأيام والدنيا تدور
يوم شرور بعده يوم سرور •••
وافى بي الحظ العظيم إلى هنا
بعد التجارة والمكاسب والهنا
فوجدتكم ويلاه في أسر العنا
في يد ناس بالشقاء لهم فجور •••
فدفعت عنكم خصمكم حق الدفاع
من حيث لم أعرفكم بين البقاع
وفتكت في أعدائكم فتك السباع
حتى ظفرت بهم ويا نعم الظفور
نعمى (لنديم) :
أحسنت في هذي الصنيعة يا نديم
وأجرتنا أنت الكريم ابن الكريم
ولك المحبة عندنا ذخر عظيم
والله يعلم كل ما تخفي الصدور
نديم (لنعمى) :
أنا ضيغم الوادي إذا حم القتال
حر بل الحر الشديد على الرجال
لكنني يا نعمى عبد للجمال
والله يعلم كل ما تخفي الصدور
القائد (للملكة) :
إني رأيت أدلاء الركب مع المقتولين ووجدت أحدهم حيا مع المأسورين.
الملكة (للقائد) :
خذوه مع الأسارى للديار، وهناك يلقون جزاء ما صار.
صميدة (للملكة) :
إن أدلاءكم هم الذين دلوا الأشقياء إليكم، واتفقوا مع أعدائكم يا سيدتي عليكم.
الملكة (لنديم) :
وا أسفاه لولا انقسامنا على بعضنا، ما وصل الدخيل إلى أرضنا، وهذا جزاء من لم ينتق الخدم، ويتخير الصالح من الحشم، فيقع منهم في مخالب النفاق، ويا ويح من كانت غلته من الرفاق، فكن معنا يا نديم في الأسفار، حتى نصل إلى الديار، ونكافئك على جميلك إلينا، ولو أن مكافأتك تكبر علينا.
نعمى (للملكة) :
إن مكافأة هذا الإنسان، لا تكبر على والدي السلطان. (ثم يقول نديم سرا.)
نديم (لنفسه) :
أواه! وا حر قلباه! أنقذتكم من أسر المنون، وأسرتني نعمى بسحر العيون.
سبتنا عيون الغيد قسرا وطالما
فتكنا بآساد الدحال الرواعب
نقاتل أبطال الوغى فنبيدهم
ويقتلنا في السلم لحظ الكواعب
نعمى (لنفسها) :
ماذا أرى؟! ماذا أشعر؟! خلصتنا يا نديم من أسر اللئام، وأسرتني بالحب والغرام.
الملكة (لنعمى) :
ما هذه الحال يا نعمى، وكيف ذهلت عن مقامك الأسمى؟!
نعمى (للملكة) :
وا عذباه! ارحميني يا أماه، أو اتركيني في هذه البقاع، تأكلني الهوام والسباع، خير لي من، من.
الملكة (لنعمى) :
من أي شيء؟
نعمى (للملكة) :
من هذا المرض.
الملكة (لنعمى) :
قد عرفت يا نعمى الغرض، وسنتلافى هذا الداء، بما ينفعه من الدواء، وإياك والهم والطيش، فينغصان عليك لذة العيش، وكلي الأمر للمقدور، إن ذلك من عزم الأمور.
القائد (للملكة) :
قد استعد الركب للرحيل، على مقتضى أمرك الجليل.
الملكة (للقائد) :
سيروا على بركة الله، وله الحمد والشكر على ما أولاه.
نديم (للجيش) :
أيها الركاب سيروا للوطن، إننا فزنا ولله المنن.
جاءنا النصر من الله العظيم
وله الحمد على الفضل العميم
ولك الشكر علينا يا كريم
أيها الركبان سيروا للوطن •••
ربنا هبنا رشادا في الزمان
واكفنا شر العدا في كل آن
وأسبل الستر علينا بالأمان
إننا فزنا ولله المنن
الفصل الرابع (تنكشف الستارة عن سراي السلطان وجالس معه فيها إمام الدولة ووزير الداخلية ووزير العلوم وأربعة حجاب.)
الملك (للوزراء) :
العدل للملك تشييد وعمران
والظلم كم تتداعى منه أركان
والمرء إعجابه بالرأي منقصة
منه عليه والاستبداد خسران
والناس شوراهم بالنفع عائدة
لأنها لصواب الرأي معوان
وقامت الخلفاء الراشدون بها
بالحزم والعزم فاعتزوا وما هانوا
حتى أتت أمم والجهل قائدهم
قد استبدوا فباد العز والشان
آها من الظلم كم أفنى الشعوب وكم
أباد ملكا له مجد وسلطان
رحمانك الله وفقنا لصالحنا
وما يكون به للحقد تبيان
اعلموا أن كل أمة تمتعت بالعدالة، وتبرأت من الظلم والضلالة، كانت هي الراقية لأوج السعادة، الفايزة بالحسنى وزيادة، وهذا يتوقف على تعلم العلوم، من منطوق ومفهوم وبث روح الشريعة المرضية، وتحكيم الألفة بين الراعي والرعية؛ ليتعاونا حينئذ على الإصلاح، وما يكون فيه للأوطان النجاح. أليس الأمر كذلك يا حضرة الإمام؟
الإمام (للملك) :
نعم يا سلطان الأنام. إن أعظم باعث على العمران، وتقدم الأمم والأوطان، هو التمسك بالأحكام الدينية، والمحافظة على اللغة الوطنية، ولكني أرى هذين الأمرين، قد اندثر أثرهما والعين، لا سيما أن لغتنا العربية، قد استبدلت باللغات الأعجمية، وهذا أمر استلفت إليه نظر حضرة وزير العلوم ليرضى عنه الله والسلطان والعموم.
الوزير (للإمام) :
إن تدريس العلم باللغات الأجنبية، لا ضرر فيه على لغتنا الوطنية؛ لأن لها أوقات مخصوصة في التعليم، يقوم بها كل جهبذ عليم، وقد ورد عن الصادق الأمين، اطلبوا العلم ولو بالصين، وفي هذا إباحة لكل طالب، أن يتعلم بلغة الأجانب، وعلى هذا فلا اعتراض علينا الآن، والرأي الأعلى لمولانا السلطان.
الإمام (للوزير) :
نحن لم نقل إن التعليم باللغات الأجنبية، حرام عندنا في الأصول الدينية، ولكنا نجزم بلزوم التعلم بلغة البلاد؛ لما في ذلك من المنفعة والسداد، وأن القوم طالما أخذوا منا كما أخذنا منهم، ونقلوا عنا كما نقلنا عنهم، ولكنهم ترجموه إلى لسانهم، ودرسوه بمنطقهم وبيانهم.
الوزير (للإمام) :
نحن بهذا عالمون
وبالأصلح عاملون
الإمام (للوزير) :
كلا بل أنتم تدرسون علم كل أمة بلغاتها، وتقلدون أخلاقها على علاتها، تقليد الأبكم الأعمى. فتعرفون الاسم وتجهلون المسمى، حتى نسينا عوائدنا ولم نحسن تقليد سوانا، وأصبحنا بين أولئك البلابل بوما وغربانا.
الوزير (للإمام) :
وما هو الضرر من التقليد
والاقتباس من الشيء المفيد
الإمام (للوزير) :
ولماذا نقتصر في التقاليد على ما يضر جمعنا، ونترك من محاسنهم ما هو لازم لنفعنا، وهذه مدارسهم مزدانة بالمعابد، وفيها للتلامذة درجات لكل عابد. فهل في مدارسنا شيء من هذه الرسوم، يا حضرة وزير العلوم؟
الوزير (للإمام) :
إن المعابد والعبادات
من خصائص ديوان الديانات
الإمام (للوزير) :
لا تقطع حديثي حتى أتمم بيانه، وقل لي هل عندنا ديوان مختص بالديانة؟ وأناشدك الله هل عندنا مدارس كافية للبنات يتلقين فيها علوم الآداب والصناعات؟ ألم تأخذك الغيرة على بناتنا الأقارب، حين نبعث بهن اضطرارا إلى مدارس الأجانب؟ وهل ينكر علينا يا حضرة الوزير أحد، أنه بقدر تربية المرأة يكون حفظ المنزل والولد، وهل يوجد محل لهذه المغارس، غير المكاتب والمدارس؟ فهذه فروع أصلها مولانا السلطان، وبقدر اعتداله يعتدل الزمان.
الملك (للوزراء) :
وإني أرى وزارة العدلية القاضية بين الخصوم، مفتقرة أيضا لوزارة العلوم؛ لأن القاضي إن لم يكن عالما بالحق في الدعوى فإنه يخبط في أحكامه خبط عشواء، ويظلم معتقدا أنه حكم بالعدل وهذا كله نتيجة الجهل.
الإمام (للملك) :
فالعلم كما قلنا أساس الملك
وهو المنجى من الضلالة والهلك
الملك (للوزراء) :
واعلموا أن السلطان للرعية بمنزلة الرأس للجسد، والوزارة أعضاؤه الرئيسة فهم نعم السند، ونواب الأمة أوردة دمائها، وأوعية الحياة ومجاري مائها. فإذا أصلحت الرأس قامت بوظائفها الأعضاء، وإذا اختل عضو منها وقع الرأس في العناء، والنفس الناطقة هي عناية الله. نسأله التوفيق لما يحبه ويرضاه. (ثم يدخل حاجب.)
الحاجب (للملك) :
على الباب رسول من قبل عامل الحدود.
الملك (للحاجب) :
ليأتي. (ثم يخرج الحاجب.)
الملك (للإمام) :
لم يصل إلينا يا حضرة الإمام، أنكم زرتم مدرسة طول هذا العام، مع أن زيارتكم لها يبعثها على الاجتهاد، وتهتدي بهديكم إلى سبيل الرشاد.
الشيخ (للملك) :
إني لا أستطيع أن أرى المكاتب مقفلة الأبواب، في وجوه أكثر الطلاب، أو أسمع لفظة «بونجور» في جميع النواح بدل قولنا أسعد الله الصباح، أو أصغي لكلمة «جود نيت» بدل جملة بالخير أمسيت، أو أشاهد كتبا بلغة الأعجام، هازئة بأئمتنا وأسلافنا الكرام، إلى غير ذلك مما يحملني على السدم، مهما أنا عليه من الشيخوخة والهرم. (ثم يدخل الرسول.)
الملك (للرسول) :
ما وراؤك يا نجاب؟
الرسول (للملك) :
هو يا مولاي في هذا الكتاب. (ثم يأخذ الملك ويقرؤه منزعجا.)
الملك (للوزراء) :
ما هذا الرزء العظيم؟! ما هذا الخطب الجسيم؟! كيف تجاسرت الأشقياء على قتل رجالنا وسبي النساء؟! ألم يخافوا سطوتي؟! ألم يخشوا نقمتي؟! فلا بد من دمارهم وتخريب ديارهم. علي يا وضاح بقواد جيشنا المنتصر، بأقرب من لمح البصر. (ثم يخرج التشريفاتي.)
بارحي القوس بغتة يا سهامي
واترك الغمد عنوة يا حسامي
ودعي اللين قسوة يا رماحي
وخذي السحب مركبا يا خيامي
واسبقي الريح يا جيادي عرايا
لا بسرج يعوقنا ولجام
وذري الآن جسمنا يا دروعي
قد وهبنا أجسامنا للصدام
واتركيني يا رحمتي لانتقامي
وترحل عن مهجتي يا سلامي
وهبوا اليوم عمركم يا رجالي
مع عمري إلى فناء الحمام
وهلموا بنا لنكشف عارا
من أناس ذوي فساد لئام
أخذوا أهلنا سبايا وخانوا
كل عهد ولم يراعوا ذمامي
أسروا زوجتي وبنتي نعمى
بعد قتل الرجال في الآكام
وكأني بها تنادي أغثنا
ساءنا الأسر يا مليك الأنام
هاك لبيك للخلاص أتينا
قد خلصتم فابشروا بالمرام
ستلاقي أعداؤكم نقمة الله
انتصارا لكم بكل محامي
ونروي سيوفنا من دماهم
ثم نأتي بكم مع الاحترام
آه وا حسرتا على خيبة الملك
إذا لم نعد بفوز الكرام (ثم تدخل القواد ينشدون):
القواد (للملك) :
أمرك السامي مطاع
يا وحيدا في العباد
كلنا قرم شجاع
غالب القوم الشداد
الملك (للقواد) :
وصل إلينا خبر منكود، من عاملنا في الحدود، وهو أنه بينما كانت الملكة وبنتها نعمى، عائدين من حج البيت الأسمى، إذ داهمتهم العرب الأشقياء، وقتلوا الرجال وسبوا النساء، وقد ذهب إليهم ذلك العامل لينجدهم بجيشنا الباسل، ولكنه رغب إلينا في طلب الإمداد؛ ولذلك استحضرتكم يا حضرات القواد، وأعلنتكم وا أسفاه بهذا الخبر؛ ليكون جيشنا الخاص على أهبة السفر؛ لكي نفرج أولا عن الأسارى الأمجاد، ثم نطهر تلك الأماكن من أهل الفساد.
القواد (للملك) :
نحن ضمان الخلاص
غالبوا القوم اللئام
ذاك أمر لا مناص
عنه يا راعي الذمام (ثم تخرج القواد.)
الملك (للوزراء) :
إذا لم يثق بالله في أمره العبد
فلا ملك يجدي ولا ينفع الجهد
وإن لم ير السلطان في وزرائه
أمانا فلا فوز يلوح ولا مجد
وإن لم يكن للشعب رأي تذود عن
مصالحه نوابه ذهب الرشد
وإن لم يكن بالعدل تقضي قضاته
فويل الرعايا من دمار بهم يعدو
وإن لم يكن سعي الحكومة عائدا
على قومها بالخير أودى بها الحقد
وإن كانت العمال والغش دأبهم
فما تصنع النصاح أو ينفع الجد
وإن لم يكن للقوم حزم يصدهم
عن الطيش في أعمالهم سخر الضد
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوا له ما من صداقته بد
فهذي شئون لم يكن في ربوعها
لها أثر باد إلهي لك الحمد
ولكنني لم أدر كيف تجاسرت
على أهلي العربان واحتكم الوغد
فأين شجاع يا ترى أين بهجة
أما فيهما للركب نصر ولا رد
وهل صغرت في أعين القوم سطوتي
وإلا بهم جهل وغرهم البعد
سألحقهم والخيل تنهب أرضهم
وحادي المنايا في خيامهم يحدو
فقوموا مقامي يا رجال وزارتي
إلى أن يحم الموت أو يحسن العود
يصونك يا نعمى الإله وزوجتي
ويحميكما من كل سوء بكم يبدو (ثم يدخل التشريفاتي.)
تشريفاتي (للملك) :
على الباب رسول من قبل الملكة.
الملك (للتشريفاتي) :
ويك أحضره عاجلا. (يخرج التشريفاتي)
الملك (لنفسه) :
ليت شعري بماذا جاء الخبير؟ وهل هو بشير أم نذير؟ (ثم يدخل الرسول واسمه فاضل.)
رسول (للملك) :
لك البشرى يا ملك الزمان، لقد نجونا من كيد أهل العدوان، وانتصرنا على الأشقياء اللئام، وإن جلالة الملكة مقبلة على أثري بسلام.
الملك (للرسول) :
الله أكبر طاب الوقت وابتهجا
والنفس من بعد يأس لاقت الفرجا
وكيف كان ذلك يا بشير؟
رسول (للملك) :
لما وصلنا إلى الدرب الأخير، أبصرنا رجالا من بعيد، يلوح عليهم الغدر الشديد، ثم انقضوا علينا كالجراد، وقابلناهم بكل بسالة وجهاد، ولكنهم تغلبوا علينا وما رحمونا، وكادوا أن يغنموا الهودج ويأسرونا، وإذا بصليل سلاح ومعمعة رجال، وأمامهم فارس تهتز من هيبته الجبال، وهجم على الأشقياء بغير تواني، وقتل أبطالهم وشيخهم كيلاني، حتى عجزوا عن تلاقيه، وصدهم عن الهودج ومن فيه، وبينما هو على هذه النعمة المأثورة، إذ أقبل عامل الحدود بجيوشكم المنصورة، وأسروا جميع الأشقياء، وكشف الله عنا العناء. فاندهشنا يا مولاي من شهامة هذا الصنديد، وسألناه عن نفسه وإذا به نديم ابن الصدر الأعظم رشيد.
الملك (للرسول) :
رشيد عليه رحمة الله إنه
له منن كم أنبأت عن محامده
رسول (للملك) :
فلا تعجبوا مما أتى نجله به
ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده
وبعد أن تم لنا النصر المبين، بعناية هذا الشهم الأمين، أمرني القائد بالمسير إلى الأعتاب العلية، وعرض هذه البشرى على مسامعكم السنية، فصرت أضرب أكباد العيس، وأصرف في سرعة السير النفس والنفيس، حتى وصلت ولله الحمد للديار، وهذا يا مولاي محصل ما صار.
الملك (لفاضل) :
وكيف وصل إليهم هذا البطل الأمير؟ وأين هو الآن يا بشير؟
رسول (للملك) :
إن سبب وصوله إلينا لا أدريه، وهو الذي لجلالتكم يحكيه، وأما هو فقد أقسم بأعظم الأيمان، ألا يبارح ركب جلالة الملكة حتى يرجع للأوطان.
الملك (للرسول) :
لا شلت يمين هذا الهمام، وسنواليه بالمكافأة والإكرام، وأما أنت يا طيب الأخبار، فقد أحسنا إليك بألف دينار، فاصرفها له يا غلام؛ لينقلب إلى أهله بسلام.
رسول (للملك) :
أيد الله سلطانكم
وأفاض على الوجود إحسانكم
الملك (للوزراء) :
تفضلوا يا حضرات الوزراء والقواد، وكونوا لمقابلة الملكة على أكمل استعداد، وأعدوا لقدومها معدات الزينة في جميع أنحاء المدينة. (ثم إن الجميع ينشدون):
أقبل الأنس علينا
وبدا النصر المبين
وافت البشرى إلينا
بقدوم القادمين
دمت سلطان البرايا
في هناء وسعود
حافظا أمن الرعايا
راغما أنف الحسود
أنت أحييت الوجودا
بصفاء وسلام
زادك الله سعودا
في ابتداء وختام (ثم تنزل الستارة ويتم الفصل الرابع.)
الفصل الخامس (وفيه ثلاثة مناظر) (تنكشف الستارة عن منزل الأمير نديم جالسا مع والدته ليلى وأخته عزيزة.)
نديم (لليلى) :
سعد الحظ والهناء تودد
ومضى الهم والصفاء تجدد
رجعت ثروتي بأكثر مما
فاته والدي ويا سعد من جد
سافروا تغنموا وجدوا تسودوا
هكذا قاله الحكيم وأكد
ثم لاقيت في الطريق شئونا
ذات بال فيها لنا كل سؤدد
وحباني السلطان أعظم قربى
وطريقي إلى المعالي تمهد
فافرحي يا عزيزتي ثم يا أماه
قري عينا فعودي أحمد
ليلى (لنديم) :
أشكر الله يا نديم وأحمد
عدت لي بالهناء والعود أحمد
هكذا كل من سعى بصلاح
زاده الله من لدنه وأسعد
عزيزة (لنديم) :
الحمد لله يا أخي على سلامتك، وزادك الله كرامة فوق كرامتك. فأنت رب الشهامة، وعنوان الفضيلة والكرامة، ويجب عليك أن تسترد العقار والضياع، التي لعبت بها منك يد الضياع.
نديم (لعزيزة) :
اعلمي يا أختي أن كل ما أضعناه، قد أعدناه كما أخبرتكم وزدناه، وأصبحنا من أغنياء هذا الزمان، ومن المقربين لدى جلالة السلطان، ولكن أبى الدهر أن يدوم حظه لأحد، أو يكون صفاؤه غير مشوب بنكد.
كن من زمانك إن صافى على حذر
ولا يغرك إن وافاك مبتسما
ما سلم الدهر باليمنى على أحد
إلا ويسراه تسقيه الردى كظما
ليلى (لنديم) :
ما هذا الارتباك الحالك؟ هل صادفك ضيم بعد ذلك؟
نديم (لليلى) :
خلصتهم وأسرت نفسي، وذهلت عن معناي وحسي.
أسر الظبي في السلام السباعا
فتحاشوا عنه وهابوا الدفاعا
دمية أدمت الفؤاد بلحظ
للحشا أرسل السهام سراعا
هي كالروض نضرة وأزهارا
وهي كالشمس بهجة وارتفاعا
ليلى (لنديم) :
من هي تلك الملكة السماوية، التي سحرتك بألحاظها العربية؟
نديم (لليلى) :
هي ملكة العباد، ومالكة الروح والفؤاد.
مليكة تسجد الأرواح خاشعة
لأمرها فهي ذات الدولة العظمى
سلطانة بنت سلطان الأنام وإن
رمت الزيادة مني إنها نعمى
من لي بها وهي في خدر الجلال وهل
أقضي شهيد الهوى أو أغنم الغنمى
عزيزة (لنفسها) :
الآن حصلت على الإسعاد، وكل صدفة خير من معاد. فإن أخي لا يمكنه سلوك هذا الطريق، إلا بواسطة الأمير صديق، وبذلك ترجع المواصلة مع حبيبي عزيز، ويتم الأمل في عهد وجيز. (ثم تلتفت لنديم وتقول):
عزيزة (لنديم) :
اعلم يا أخي أن هذا الغرض صعب المنال، ويحتاج للتروي والحكمة في الأفعال، ولا أرى لك نجاة من هذا الضيق، إلا بعناية صاحبنا الأمير صديق.
نديم (لعزيزة) :
هل نسيت يا أختي ما صدر لنا عنه، ثم تتوقعين اليوم الخير منه؟! فلا بد لي من الذهاب إليه، وتوجيه اللوم والتنديد عليه.
ليلى (لنديم) :
ارجع يا ولدي عن هذه النية، ولا تكن للناس سيء الطوية، وأحسن لمن أساء إليك؛ لترضى الناس يا ولدي عليك، وأنت الآن محتاج لهذا الإنسان؛ لأنه من ذوي الوجاهة عند السلطان، والناس تعلم أنه كان «الخل الوفي» لأبيك، وإذا جاهرت بعدائه تكثر الظنون فيك. فكن معه حتى تنقضي الأوطار، والحكيم من دار مع الأدوار.
نديم (لليلى) :
لا بد لي من الرواح إلى داره، ومحاكمته أمام الإنسانية على أوزاره.
أقابل بالإحسان من كان محسنا
ومن رامني بالسوء أرميه بالردى
فوضع الندى في موضع السيف بالعلا
مضر كوضع السيف في موضع الندى (ثم يخرج نديم.)
عزيزة (لليلى) :
إني أخاف على أخي من التغرير، فيتهور مغرورا بنفسه على الأمير، مع أن الأمير ذو حظوة عند السلطان، ويمكنه أن يرمي نديما في الخسران، وأنت تعلمين أن المقربين من الملوك العظام، يمكنهم التأثير على أفكارهم والأوهام.
ليلى (لعزيزة) :
نعم يا عزيزة صدقت، وبالحكمة البالغة نطقت؛ ولذا وجب على كل سلطان عظيم، ألا يغتر بفلسفة كل حكيم، ولا يصغي لكل واشي، من أتباعه والحواشي، وألا يلقي لكل سعاية سمعه، حتى يتحرى بنفسه ما سمعه؛ لأن كل إنسان له غرض، وفي قلبه من حاجاته مرض. فيزينون للسلطان سوء مأربهم ويبعدون عنه من لم يكن على مشاربهم. فتتحول عن الملك القلوب، ويصبح عند أمته غير محبوب. مع أن السلطان قطب دائرة الآمال، وعلى قدر ثباته تدور الأعمال. نسأل الله أن يمنح ملكنا رجالا صادقين، يؤازرونه على رعاية الأصلح للدنيا والدين، وهيا بنا ننتظر نديما في قاعة السلام، ونسأل الله يا عزيزة حسن الختام. (ثم تخرجان وتنكشف ستارة أخرى عن المنظر الثاني.)
المنظر الثاني (تنكشف الستارة عن منزل الأمير صديق جالسا مع ولده عزيز، وأمامهما خادمان والحاج صالح واقف على الباب.)
صديق (لعزيز) :
إن أخلص العبد إلى ربه
وتاب للديان من ذنبه
وجد بالتقوى إلى كسبه
ينجو بعون الله من كربه
لقد سرني يا ولدي ما وصلت إليه حالة نديم؛ حيث ترك ما كان عليه من الجهل القديم، واجتهد وجد، وكد ووجد، وعادت إليه ثروته وزيادة، وبات يتقلب على فراش السعادة، وصار بعمله الآن، من المقبولين لدى جلالة السلطان، ويوشك أن يكون من المقربين حبا، أو يكون لعظمته من ذوي القربى.
عزيز (لصديق) :
لله در نديم! لقد نجى ذاته من الكرب العظيم، فهكذا تكون الشهامة، وحسن الحزم والكرامة.
صديق (لعزيز) :
إن من يغفل عن نفسه حتى يسقط في الورطة، ثم يعاني العذاب حتى يتخلص من تلك السقطة، فإنه غير حازم عند العقلاء، ولم يكن في عداد المعتدلين الحكماء، وإنما الحازم من أبصر أمامه، ووضع في المكان الثابت أقدامه، منحذرا من السقوط، متحفا من علة الهبوط. فأوصيك أن تكون من أولئك الحازمين؛ لتنجو من ندامة الساقطين.
عزيز (لصديق) :
نفعني الله بنصيحتكم، ولا أحرمني من الاسترشاد بحكمتكم، ويا ليتكم أحسنتم إلى نديم في فقره، وساعدتموه على نكبات الزمان ونكره؛ ليكون لكم عليه الجميل والمنن، وصدق الإخاء في هذا الزمن؛ لأن الغرض من الصديق، أن ينفع صاحبه وقت الضيق، وإلا فالأصحاب كثيرة والخلان في إبان السعد وإقبال الزمان.
صديق (لعزيز) :
ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا، ولا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا، ولعلك تذكرت طردي لنديم، ورجوعه يومها منكسر الخاطر الكريم.
عزيز (لصديق) :
عفوا يا والدي العظيم.
صديق (لعزيز) :
ولماذا لم تذكر ما قلته حينذاك إليك، إن أعمال والدك لحكمة تخفى عليك؟! وكيف ساغ لك التعريض بما صدر مني كأنك خبير بتصريف الزمان عني؟! وهل أنتم معشر الشبان النجباء، مهما بلغتم من العلم والذكاء، تضارعون الشيوخ في التدريب، بعد ما حنكتهم الأيام بالتجاريب، وطبقوا العلم على العمل، ومارسوا كل حول وحيل؟! لعمري إن هذا هو البهتان، منكم يا أيها الشبان.
عزيز (لنفسه) :
ليت شعري ما هذه الحكمة الخافية، بعد ما عامل نديما بتلك المعاملة الجافية؟! (ثم يلتفت صديق للباب ويقول):
صديق (لعزيز) :
ها هو صاحبك نديم مقبل علينا، وسيرسل سهام العتاب واللوم إلينا، فقابلوه أيها الخدام والبواب، بغاية التعظيم لعظيم الجناب. (ثم يدخل نديم والبواب يلثم ذيله.)
نديم (للبواب) :
عجايب! (ثم يقوم صديق ويقابل نديم.)
صديق (لنديم) :
أهلا وسهلا بولدي الرشيد، الحبيب ابن الحبيب رشيد.
نديم (لصديق) :
عجايب!
صديق (لنديم) :
تفضل يا أمير بارك الله فيك، وجعلك الخلف الصالح لأبيك. لقد طالت علينا غيبتك، وأوحشتنا يا ولدي طلعتك.
نديم (لصديق) :
عجايب!
صديق (لنديم) :
ما هذا التعجيب والإعجاب؟! إن هذا يا ولدي لشيء عجاب!
نديم (لصديق) :
ليس العجب من تعجبي يا حضرة الأمير، ولكن أتعجب من تجاهلك بأمر أنت به خبير.
صديق (لنديم) :
ما هذا الإبهام يا ولدي العزيز، وأنت وحياتك عندي في منزلة ابني عزيز؟!
نديم (لصديق) :
عجايب! وهل صرت ولدك اليوم يا مولاي؟! وهل أنا الذي قلت بالأمس اتخذ لك والدا سواي؟! فما هذا التلون والانقلاب؟ وإن كنت نسيت فاسأل حضرة البواب، يوم أتيت أستغيث بك من ضيم الزمان، وقابلتني بكل جفاء وامتهان، ونقضت الزمام أي نقض، حتى ضربني بوابك وألقاني على الأرض.
صديق (لنديم) :
ثم ماذا؟
نديم (لصديق) :
يوم طردتني عن رحمتك طرد الأشرار، وصيرتني معك كالمستجير من الرمضاء بالنار، فما بالك الآن تبجلني وتودني، ومن أعز أولادك تعدني، على حين أني مستغن عنك، ولا أريد أي وداد منك، فبأي وجه تقابل الإنسانية والكرامة، وبأي لسان تعتذر لوالدي يوم القيامة؟!
صديق (لنديم) :
خفف عليك من حدتك، وصن لسانك في لهجتك، وقل لي هل هذه الإهانة أصابتك وحدك؟! أم أصابت أيضا أمك وأختك؟!
نديم (لصديق) :
كلا، بل أصابتنا يا أمير جميعا، ووقع كل منا في هولها صريعا، وستلاقي يا ابن الكرام، كل تأنيب منا وملام.
صديق (لنديم) :
إذا فليكن عتبك والتأنيب، بحضرة أمك وأختك يا ابن الحبيب، وعن إذنك ابعث من يأتي بهما لهذا المجلس السعيد.
نديم (لصديق) :
شأنك وما تريد.
صديق (لعزيز ) :
امض يا عزيز لبيت أخيك نديم، وأت بهما على التجلة والتعظيم.
عزيز (لصديق) :
اللهم روق لنا الحال؛ لأبلغ من عزيزة الآمال. (ثم يخرج عزيز.)
صديق (لنديم) :
ما نغص عليك العيش، غير جهلك والطيش، وقل لي بالله أين أضعت تلك الأموال، حتى افتقرت للتكفف والسؤال؟ وهلا علمت يا ابن رشيد، أن السؤال أثقل من الصخر والحديد؟
كن باقتصادك حازما شهما فلا
تحتاج يوما للورى بسؤال
وإذا السؤال مع النوال وزنته
رجح السؤال وخف كل نوال
وماذا أفادتك أصحابك والخلان، بعد ما أخنى عليك يا نديم الزمان؟
نديم (لصديق) :
وماذا تفيدنا الآن هذه النصيحة، ويا ليتها صادرة عن نية مليحة؟ (ثم تدخل ليلى وعزيزة ويقبلون يده.)
صديق (لليلى) :
أهلا وسهلا يا أختي، ويا مرحبا بك يا بنتي.
نديم (لصديق) :
عجايب! هل صارت أمي الآن أختك، وأصبحت عزيزة اليوم بنتك؟! ولماذا لم تكن عندك كذلك، يوم كنا يا أمير في أشد المهالك، يوم أتيتك وتركتهما يتضوران من الجوع، وقد عدمنا لذة العيش والهجوع، يوم كانت ثياب أمي بالية، وأقدام أختي حافية؟!
صديق (لنديم) :
كفى يا ولدي كفى.
نديم (لصديق) :
اسمع يا عديم الوفا، يوم كنا نتقلب على جمر الفضا، وضاق في وجهنا رحب الفضا، يوم استرحمتك وما رحمت، واستقدمتك للخير وما قدمت، هلا كان في قلبك ذرة من الشفقة؟! أما كان في بيتك لقمة للصدقة؟! يا خيبة النفس وضيق الأنفاس، بعد ما ذهب الفضل والوفاء من الناس.
صديق (لنديم) :
هون عليك يا نديم.
نديم (لصديق) :
اسكت أيها الأمير الحميم، واعلم بأني ما أتيت إليك لأستفيد، وإن إكرامك لنا الآن لا يفيد، وإنما أتيت لأريك ما نحن فيه من العز والرخاء، رغم أنف الحساد وشماتة الأعداء.
يا ناكثي عهدنا تعالوا
إلى الوفا فقد وفا الأمان
يا أيها المعرضون عنا
عودوا فقد عاد لي الزمان
صديق (لنديم) :
كيف عاد إليك الزمان يا نديم؟ ومن أين وافاك هذا الحظ العظيم؟
نديم (لصديق) :
من عند من يقول للشيء كن فيكون، وفي السماء رزقكم وما توعدون.
صديق (لنديم ) :
نعم، ولكن هل أمطرت عليك السماء نضارا؟ أم أنبتت لك الأرض من اللجين أثمارا؟ أنبئنا وأبيك بما صار، ومثلك لا يليق به الكذب في الأخبار.
نديم (لصديق) :
المال مال أبي وفقدناه، وهو الذي بسره عوضنا إياه.
صديق (لنديم) :
هل خرج أبوك من اللحد، وأنقدك يا نديم هذا النقد؟
نديم (لصديق) :
كلا، بل هبت علينا نفحاته الأبوية، وجاءت لنا صاحبته مباركة المغربية وغمرتنا بخيراتها، وأفاضت علينا من بركاتها.
صديق (لنديم) :
هل رأيتها عند أبيك من قبل، يا معدن البساطة والجهل؟ أم كيف سلمتك أموالها بغير ضمان، مع ما رأتك عليه من الفقر والامتهان؟
نديم (لصديق) :
قد خرجت يا أمير عن حد الإنسانية.
صديق (لنديم) :
تأدب يا فاقد الشعور والروية، وهلمي إلينا أيتها المباركة المغربية. (ثم يصفق جهة الباب وتخرج المغربية بحالتها الأولى.)
مباركة (لنديم) :
أسعد الله أوقاتكم يا أولادي. (فيندهشون)
صديق (لنديم) :
ألم تكن هذه مغربيتكم التي عادت على يدها إليكم نعمتكم؟ (ثم يصفق جهة الباب ويقول):
صديق (لحبيب) :
اخرج يا حبيب يا ملثم الوجه الأزهر، يا من اشتريت من نديم عقدي الجواهر. (ثم يدخل حبيب ملثما، ومعه صندوق الجواهر.)
حبيب (لنديم) :
الحمد لله بالسلامة يا نديم. (فيندهشون زيادة) (ثم يكشف صديق عن وجه المغربية ويقول):
صديق (لنديم) :
ألم تكن هذه والدتي الأميرة سلمى، التي أفاضت عليكم البركة والنعمى؟ أليست هي التي وافتكم مني بالخير الجزيل، حين يئستم وجفا الخليل الخليل، يوم جثوتم على الركب، وتقطع دونكم كل سبب؟ (ثم يكشف اللثام عن وجه حبيب ويقول):
صديق (لنديم) :
أليس هذا خالي حبيب الذي اعترضك عند خروجك من الدار، واشترى منك جواهرنا هذه بعشرين ألف دينار، وعلمك كيف تبيع وتشتري، وقال لك إن سعدك في طالع المشترى؟ (ثم يقع نديم وليلى وعزيزة على أقدام صديق وينشدون):
أنت رب الفضل يا غيث النوال
أنت غوث الناس صديق المعال
ولك الحكمة في كل الفعال
يا كريما ما له فينا مثال (ثم يقفون بغاية الخشوع.)
صديق (لنديم) :
ألم يكن هذا قرط والدتي يا نديم، الذي أهديناه لأختك هدية محب كريم، ولم نستنكف منكم وأنتم في تلك الكربة، وجعلناه تأكيدا لروابط الخطبة؟ (ثم يلتفت لعزيزة.)
صديق (لعزيزة) :
أرأيت يا عزيزة لو دام أخوك على هواه، هل كنا نتركك عندهم سدى؟ حاشا لله، بل أنت خطيبة ولدي الوحيد، ولا أنسى عهدي مع والدك المرحوم رشيد. فنحن قوم لا يغيرنا الحدثان، مهما تغير وجه الزمان. (ثم يقعون على أقدامه وينشدون):
أنت للعافي نصير يا أمير
ومن الضيم مجير المستجير
ولك الإجلال والشكر الوفير
هكذا الإفضال يا نعم النصير (ثم يقفون جميعا.)
عزيزة (لصديق) :
هكذا هكذا تكون الكرام
رضي الله عنكم والأنام
يا أميرا به الأماني تجلت
وتحلت بفضله الأيام
أنت روح الوجود تحيا بك النف
س وتنمو بجودك الأجسام
قمت بالفضل والوفاء علينا
بعد ما سام نفسنا الإعدام
فأعدت الحياة منك إلينا
هكذا هكذا تكون الكرام
صديق (لنديم) :
أرأيت حين أتيتني وأنت في تلك الكرب، وأعطيتك وقتها قنطارا من الذهب، أما كنت تذهب بها للحان، ويكون ربحك منها زيادة الخسران؟ وهكذا يحصل منك التكرار، حتى أصير فقيرا معك في آخر النهار؛ ولهذا قابلتك بتلك المقابلة، وعاملتك في الظاهر بسوء المعاملة؛ لكي تتهذب نفسك، ويرجع إليك معناك وحسك، وها أنت والحمد لله وفقت للعمل، ورجعت يا أمير ظافرا بالأمل؛ ولهذا فكل ما وصل منا إليك، هو هدية مباركة عليك؛ لأنه بعض ما لوالدك من الكرامة، والحمد لله يا ولدي على السلامة.
ليلى (لصديق) :
أبدلت إيحاشنا بإيناس
من بعد ما قد عافنا الأسى
أحييت منا يا إمام الهدى
نفوسنا عن طيب أنفاس
وقمت فينا بالوفا والولا
ولم تكن للعهد بالناس
وذدت عنا كل ضيم بدا
ذود كريم الأصل قسطاس
وبعد ما أن أظلمت دارنا
كنت علينا نور نبراس
وبعد ما أخنى الزمان بنا
أنجيتنا فضلا من الباس
قل لبني الدنيا ألا هكذا
فلتصنع الناس مع الناس
صديق (لعزيز) :
هل ظهرت لك يا عزيز حكمة أبيك، لعلها أعجبتك وترضيك؟ وعلى كل حال خلصنا من اللوم، ولا تثريب عليكم اليوم.
عزيز (لصديق ) :
عفوا أميري فأنت الوالد الأكرم
وأنت فيما تشأ الحاكم الأحكم
أتمم فديتك هذا الفضل منك لنا
أيضا فأنت بما في نفسنا أعلم
نديم (لعزيز) :
ماذا تقصد بهذا التعريض يا عزيز، وأنت ستنال غرضك في عهد وجيز؟ وأما أنا فأموت بحسرتي، وما كل حاجة يا أخي مثل حاجتي.
صديق (لنديم) :
وأنت يا نديم ماذا تقصد بهذا التعريض، وتحسرك الطويل العريض؟
نديم (لصديق) :
أدركني يا والدي الأمير، وساعدني على هذا الأمر الخطير، وأرني طريق السلامة، من قبل أن أموت حسرة وندامة.
صديق (لنديم) :
كن مستريح الخاطر يا نديم، فإني عالم بكل حديث وقديم، وأبشرك يا ولدي بنعمة الله العظمى، وهي أنك ستكون قريبا للملكة نعمى.
نديم (لصديق) :
للملكة نعمى! ما هذا الحظ الأسمى!
صديق (لنديم) :
هكذا صدرت لنا الإرادة السنية، مع كبير الوزراء بصفة رسمية، ومتى تم لك هذا الحظ العزيز، مع اقتران عزيزة بعزيز، نكون جميعا من بيت السلطان، ويزداد لنا إن شاء الله صفو الزمان.
نديم (لصديق) :
الحمد لله وافى بالهنا الأرب
وزاد باليمن فينا والمنى الطرب
صديق (لنديم) :
عناية الله تأتي من يشاء بلا
كد ولكن ما سعى الفتى سبب
عزيزة (لصديق) :
فاسلم ودم أيها الصديق مرتقيا
أوج العلا في الملا ما دامت الحقب (ثم يدخل صالح وبيده كتاب.)
صالح (لصديق) :
جاء حاجب من ديوان التشريفات العلية، ومعه هذا الكتاب لحضرتكم البهية. (ثم يتناول صديق الكتاب ويتلوه وهو):
إلى حضرة الفاضل الأمير، الشيخ صديق الوزير. بناء على ما صدر به نطق الحضرة الملوكية، أدعوكم للحضور حالا للسراي السلطانية، ومعكم نجلكم الفخيم، وحضرة الأمير الجليل نديم، مع أمه وأخته الفاخرتين، ومن يليق وجوده من العائلتين، وليكن حضوركم بصفة رسمية؛ لتغنموا بتعطفات الحضرة السنية.
الإمضاء
رئيس ديوان التشريفات العالي (ثم يطوي الكتاب ويقول):
صديق (لنديم) :
قد تأرج روض الهنا، وتبلج صبح المنى، وهيا بنا أيها الأحباب، نستعد للتشرف بذاك الرحاب. (ثم إنهم ينشدون هذه الأدوار):
صديق يا نعم الحكيم
يا من به لاح الفلاح
هيا إلى المولى العظيم
نلقى بناديه النجاح •••
هيا لذياك الرحاب
رحاب سلطان الأنام
سلطاننا عالي الجناب
منه لنا حسن الختام (ثم يخرجون جميعا وتنكشف الستارة عن المنظر الثالث.)
المنظر الثالث (تنكشف الستارة عن سراي السلطان جالسا مع الملكة، وأمامهما بعض الجواري.)
الملك (للملكة) :
قد أعجبني أيتها الملكة الفاخرة، ما أعددتيه في القصر من الزينة الباهرة، وإني بعثت في طلب الوزير صديق والأمير نديم؛ إنجاز ما أخبرتك به عن وعدنا الكريم، وهو اقتران نديم بكريمتنا نعمى؛ لتكون مكافأتنا له أكبر نعمى، ونتمم ما كان شرع فيه المرحوم رشيد، وهو زواج عزيزة بعزيز الرشيد، وسيأتون الآن إلى دارنا المنيفة، ويصبحون من أعضاء عائلتنا الشريفة.
الملكة (للملك) :
نعم ما فعلت أيها السلطان العظيم، وهكذا تكون المكافأة من المولى الكريم.
الملك (لجوهر) :
علي بالملكة نعمى. (ثم يخرج جوهر.)
الملك (للملكة) :
إني أرى من الفروض الصحيحة، تفهم كريمتنا بواجب النصيحة؛ لكيلا تغتر بسمو أصلها، وتتعاظم بغير تبصرة على بعلها.
الملكة (للملك) :
كن مستريح البال من هذه الخطرات؛ لأن بنتنا لم تكن من البنات الجاهلات.
الملك (للملكة) :
إن حب العلو له في النفس أعظم تأثير، ولا سيما من ذوي الوجاهة والجاه الكبير. (ثم تدخل نعمى.)
نعمى (للملك) :
دمت يا والدي مليك البرايا
ولك الفضل في جميع الرعايا
الملك (لنعمى) :
مرحبا يا كريمتي بك فاصغي
واحفظي ما حييت هذي الوصايا
إنك يا ذات المجد العظيم، ستكونين قرينة للأمير نديم فيجب عليك أن توافقيه على هواه، وتطيعيه في كل ما يرضي الله، ولا يغرك أنك بنت سلطان الأنام، وتتوهمين أنك أسمى منه في المقام، بل تيقني أن زوجك سلطانك، وليس لي عليك معه سلطان، وفي يده زمامك وعنانك. فإياك والجموح والجنوح للخسران، وكوني له أمة يكن لك عبدا، وكوني له حساما يكن لك غمدا، وتبسمي عند رؤيته، ولا تعارضيه في حدته.
الملكة (لنعمى) :
واحفظي عليه ناموسه ومنزله، تكوني لديه رفيعة المنزلة، وساعديه على تدبير مصالحه، وكوني له يدا معينة لصالحه، وشاركيه في سروره، وغمه، وكوني عليه أشفق من أبيه وأمه، تطب لكما بذلك المعاشرة، وتفوزا بالراحة في الدنيا والآخرة.
جوهر (للملك) :
إن الأمير صديقا والأمير نديما وعائلتهما يستأذنون.
الملك (لجوهر) :
ليحضروا.
الملك (للملكة) :
أظن أنه ما رأت العين
أبهج من ملتقى العروسين (ثم يدخل صديق وليلى ونديم وعزيز وعزيزة ومباركة وحبيب، ويلثمون ذيل الملك ويقفون ثم يقف الملك والملكة.)
الملك (لنديم) :
أشكرك يا نديم على فضلك السابق، وسنمنحك بكل فضل لاحق، وننجز لك وعدنا الأشرف، فإن وعد الملوك لا يخلف.
نديم (للملك) :
أنت يا مولاي بحر الفضائل الذاخر، ولكم جزيل الفضل في الأول والآخر.
الملك (لجوهر) :
علي يا جوهر بالملكة نعمى. (ثم يخرج جوهر.)
الملك (لنديم) :
قد أحسنت عليك يا نديم برتبة الوزارة رفيعة العماد، وجعلتك وزيرا على ديوان الجهاد. فقم بحفظ الوطن في الخارج والداخل، وكن دائم الاستعداد في العاجل والآجل. (ثم تدخل الملكة نعمى وتقف خلف والدها.)
الملك (لنديم) :
وإني أنعمت عليك بأعظم نعمة، وزوجتك ابنتي الوحيدة الملكة نعمى. (ثم يضع يد نعمى في يد نديم ويقول):
الملك (لنديم) :
وهذه يدها فاحفظها يا نديم، فإنها هدية من أب بك رحيم ويوشك أن نجعلك ولي عهد السلطنة، وهذا يا ولدي من الأمور الممكنة، وفقكما الله للأعمال الناجحة، وجعل منكما الذرية الصالحة.
نديم (للملك) :
منحت البرايا منك فضلا بإحسان
فدانت لك الدنيا بأجمل إذعان
وأوليتني فضلا تبلج نوره
على البدر إذ صيرتني فوق كيوان
الملك (لصديق) :
وأما أنت أيها الصديق، والوزير الرفيق، فأشكرك على رعايتك لنديم، وهداه إلى الصراط المستقيم؛ لأنك حفظت بالصداقة صحبة أبيه، حتى وصل بحكمتك إلى ما أصبح فيه.
صديق (للملك) :
بقيت بقاء الدهر يزهو بك الدهر
ودام لك الإجلال والفوز والنصر
ملكت نفوس الناس بالعدل والندى
ودون محيا فضلك الشمس والبدر
الملك (لعزيز) :
وأما أنت أيها العزيز الفخيم، فقد تحسن لدينا زواجك بأخت الوزير نديم، وأحسنا إليك بالرتبة الأولى السامية، وبالوسام المرصع من الدرجة العالية، وجعلناك كاتب سر الصدارة؛ لما أنت عليه من الصداقة والجدارة. فسر على قدم أبيك، بارك الله لنا فيك.
عزيز (للملك) :
إلى بيتك المعمور نسعى ونقصد
لنيل المنى والمنهل العذب يورد
تدوم مدى الأيام يا كعبة الوفا
بكل الصفا ما لاح في الكون فرقد
الجميع :
وليحفظ كل منكم نعمته
ليفيض الله عليكم بركته
وحافظوا على الصداقة والوفاء
ليدوم بينكم صدق الإخاء (ستارة الختام)
تقاريظ الرواية
قال سعادة العالم الفاضل والأديب الكامل إسماعيل باشا صبري وكيل نظارة الحقانية: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، فإني طالعت رواية «صدق الإخاء» تأليف حضرة صديقنا الأديب الفاضل إسماعيل بك عاصم، فلم أتمالك دون أن قلت مرتجلا:
يا طالب الآداب دونك فاقتطف
من روضها ما تشتهيه نضيرا
إن رمت شعرا هذه أفنانه
يحملن من طيب الكلام زهورا
أو رمت نثرا هذه فقراته
قد مثلت بجمالها المنثورا
حكم تقر لها النهى ومناظر
إن جال فيها الطرف عاد قريرا
لو كانت الآداب تصبح أمة
لتخيرت «صدق الإخاء»
1
أميرا
وقال حضرة الفيلسوف الشهير والعالم الكبير المرحوم حسن باشا حسني الطويراني صاحب جريدة «النيل» ومجلة «الشمس»: باسم الله الودود، والصلاة والسلام على صاحب المقام المحمود وبعد، فهذا تقريظ بقدر ما جاء، لا بقدر ما وجب لرواية «صدق الإخاء»، تأليف حضرة الكامل العالم، والأديب الناثر الناظم، الكريم ابن الأكارم إسماعيل بك عاصم:
صدر الحوادث فصل تشخيص القدم
فانظر بعين الفكر أشباه الأمم
واعلم بأن الدهر مرسح نائب
عن غائب يحكي ويحكم ما حكم
وهي العوالم في معالم سيرها
عبر تجليها تصاريف القسم
وحقيقة الدنيا مناظر ناظر
في لوحها هذا خيال مرتسم
ورواية الآثار عين حاضر
عن غابر لم يفتتح إلا اختتم
فانظر تصاريف العصور بأهلها
واعجب لأسباب الشقاوة والنعم
وأمعن تجد «صدق الإخاء» خلالها
قد قام بين جميعها مثل العلم
وتروها واعجب لحسن سياقها
كيف استطاع تصور الدهر القلم
جادت بها فكر تلألأ بدرها
فمحا بأنوار النهى جون الظلم
وافى بها «إسماعيل عاصم» مجدها
حامي معانيها العلية بالهمم
وأقامها مثلا لكل فضيلة
تهدي العقول إلى المعالي والشيم
سنة 1312ه/1894م
Shafi da ba'a sani ba