Islamic University Magazine in Madinah
مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
Mai Buga Littafi
موقع الجامعة على الإنترنت
Nau'ikan
العدد ١
فهرس المحتويات
١- أخلاق الرسول ﷺ: للشيخ عبد المحسن العباد
٢- الاختبار: للشيخ عبد العزيز القاري
٣- البضاعة الفاسدة: للشيخ أبي بكر جابر الجزائري
٤- الثقافة الإسلامية: للشيخ أحمد حسن
٥- الجامعة الإسلامية
٦- ندوة الطلبة: كيف نعمل للإسلام - لجلال الدين مراد
٧- الفتاوى: الشيخ عبد العزيز بن باز
٨- الفقه في الدين: للشيخ حماد الأنصاري
٩- القدس.. والفتوحات: لمحمد محمد صالح ضيائي
١٠- دروس من الوحي: للشيخ محمد شريف الزيبق
١١- ذكرياتي في أفريقيا: للشيخ محمد العبودي
١٢- شكوى: للشاعر محمد إقبال
١٣- صفحة من التاريخ: للشيخ أبي عمر
١٤- طرائف - وسوانح
١٥- طرق الدعوة إلى الله: للشيخ عبد القادر شيبة الحمد
١٦- قبسات من نور النبوة في الدعوة والتعليم: للشيخ صالح رضا
١٧ - ماليزيا: لمحمد أحمد ملاك
١٨- مشاكل الطلاب الجامعيين وحلها على ضوء الإسلام: للشيخ عطية سالم
١٩- مع الصحافة: الطريق إلى مجتمع عصري: لأحمد علي الإمام
٢٠- معركة الإسلام على مدى التاريخ: للشهيد سيد قطب
٢١- مكتبات المدينة ومخطوطاتها: للشيخ محمود ميره
٢٢- ملحمة قرآنية: للشيخ محمد المجذوب
٢٣- هذه المجلة: لفضيلة نائب رئيس الجامعة الإسلامية - الشيخ عبد العزيز بن باز
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة ١٤٢٣ هـ / ٢٠٠٢ م
1 / 1
هذه المجلة
لفضيلة نائب رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ عبد العزيز بن باز
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد:-
فهذا هو العدد الأول من مجلة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، نقدمه إلى القراء الكرام راجين أن يجدوا فيه ما يفيدهم وينفعهم في أمور دينهم ودنياهم وما يزيدهم بصيرة وفقها في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
كما نرجو أن تكون هذه المجلة نبراسا لحل مشاكلهم وإنارة السبيل لهم.
ولقد تأخر صدور مجلة الجامعة الإسلامية وكان هناك بعض الآراء تقول بأنه لا ينبغي ذلك بل ينبغي أن تصدر مجلة الجامعة مع افتتاح الجامعة نفسها حتى تكون تلك المجلة لسانا ناطقا للجامعة يشرح أهدافها ومراميها ويوضح سير أمورها إلى غايتها.
إلا أن الرأي الأغلب قد استقر على أن يترك الحديث لأعمال الجامعة في مرحلة تأسيسها لا لأقوالها وأن تكون ثمرتها ملموسة لا موصوفة. وهكذا أوعزنا إلى المسئولين عن المجلة بأن تكون ميدانا تجري فيه أقلام المنتمين إلى الجامعة الإسلامية وغيرهم من رجال الفكر والعلم في جميع الأقطار لتكون بمثابة نقطة الالتقاء تتجمع حولها تلك الأقلام، لاسيما وهي المجلة التي تصدر عن المدينة المنورة عاصمة المسلمين الأولى ومنطلق الغزاة والفاتحين والدعاة المصلحين. وإن هذه المجلة تستهدف أن تكون ذات مستوى يتمكن من فهمه أغلبية القراء في البلدان الإسلامية وغيرها فهما يمكنهم من متابعة ما ينشر فيها وهضمه، ولن تكون مقصورة على الصفوة من العلماء والفقهاء والباحثين قصرا يمنع سواهم من ذوي الثقافات المتوسطة أو المستويات العليمة المحدودة أن يفهموها وينتفعوا بما ينشر فيها. الشيء الذي ستتجنبه المجلة إنما هو لغو القول وسفساف الأمور وكلما في نشره ضرر للمسلين أو خطر على وحدتهم وتضامنهم. وستكون – بإذن الله – مجلة إسلامية ثقافية لا مجلة سياسية حزبية تلك هي خطتها وذلك هو هدفها.
1 / 2
إن الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة مؤسسة حديثة التكوين بالنسبة إلى عمر الجامعات والمؤسسات العلمية الكبرى فهي لم تستكمل من عمرها السابعة؛ ولكنها – بحمد الله – قد قطعت شوطا بل أشواطا طيبة إلى الهدف المقصود من إنشائها، فتخرج منها مئات من الطلاب الذين ينتسبون إلى عشرات من أوطان المسلمين في مختلف أنحاء العالم، وأخذوا أماكنهم في تلك الأوطان وغيرها يعلمون الناس الخير ويرشدونهم إلى الصواب.
ولن أفيض هنا بالتحدث عن هذه الجامعة فذلك له مكان آخر من المجلة وإنما القصد هنا الإشارة إلى هدف المجلة. وأسأل الله مخلصا أن يأخذ بأيدينا إلى مواقع الحق والصواب. وأن يرزقنا جميعا صادق القول وصالح العمل وأن ينصر دينه ويعلي كلمته إنه سميع قريب. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
1 / 3
أخلاق الرسول ﷺ
للشيخ عبد المحسن العباد
المدرس في الجامعة
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبا مبارك فيه كما يحب ربنا ويرضى، نحمده سبحانه ولا نحصي ثناء عليه أرسل نبيه محمدا ﷺ بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله فارتضى له الإسلام دينا، وجعل القرآن له خلقا، أمتن عليه بالصفات الفاضلة، ثم أثنى عليه قائلا: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ .ونشهد أن لا إ له إلا الله وحده لا شريك له، له الخلق والأمر وبيده الخير وهو على كل شيء قدير، يعطي من يشاء بفضله ويمنع من يشاء بعدله، قسم بينهم أخلاقهم كما قسم بينهم أرزاقهم فجعل نصيب المصطفى ﷺ من الرزق كفافا ومن الأخلاق أكملها وأحسنها وأوفاها، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
1 / 4
ونشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله وخيرته من خلقه بعثه الله إلى أهل المعمورة ليجدد به صلة السماء بالأرض، فأنزل عليه الكتاب مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، ختم به الرسل وختم بكتابه الكتب وجعله معجزته الخالدة، فهدى الناس به إلى الصراط المستقيم وحذرهم السبل التي تنتهي بهم إلى الجحيم، وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، ومن وحشة القلوب وتقلباتها في أنواع المعبودات إلى انسها وثباتها على عبادة فاطر السموات والأرض، قد أعظم الله عليه المنة وأتم به وعليه النعمة إذ بعثه ليتم مكارم الأخلاق. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الذين اختارهم الله لصحبته ونشر سنته، فجعلهم طليعة الخيار، وصفوة الأبرار، وعلى من سلك سبيلهم وسار على منوالهم مترسما خطاهم، مقتفيا آثارهم، عامر القلب بحبهم، رطب اللسان بذكرهم بالجميل اللائق بهم بالثناء عليهم بما هم أهله والدعاء لهم بما علمنا الله في قوله: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ .
1 / 5
أما بعد: فموضوع هذه المحاضرة موضوع حبيب إلى النفوس المؤمنة هو (أخلاق النبي ﷺ قبل البعثة وبعدها) وكيف لا يكون حبيبا إلى النفوس الحديث عن أخلاق نبي بعثة الله رحمة للعالمين، نبي لا نكون مؤمنين حتى يكون أحب إلينا من أنفسنا ووالدينا والناس أجمعين، نبي لا يؤمن أحدنا حتى يكون هواه تبعا لما جاء به ﷺ، نبي رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من ذكره عنده فلم يصل عليه ﷺ وبارك عليه وعلى آله وأصحابه واتباعه إلى يوم الدين. وهذا الموضوع العظيم الذي اخترته وآثرت الحديث فيه اعتذر مقدما عن تقصيري في توفيته حقه واعتقد أن توفيته حقه على الحقيقة نادر إن لم يكن متعذرا لكن كما يقولون.. ما لا يدرك كثيرة لا يترك قليلة.
نعم إن جهد المقل أعرضه في هذه السوق التي أتاحت لي رئاسة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة أن أساهم فيها، وأسأل الله العظيم رب كل شئ ومليكه أن يوفقنا جميعا للتأدب بآداب هذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وأن يحينا على دين الإسلام الذي ارتضاه لنا دينا حتى يتوفانا عليه إنه ولي ذلك والقادر عليه ولا حول ولا قوة إلا به. وقبل الشروع في نفس الموضوع أرى أن أتحدث بين يديه إجمالا عن شدة الحاجة إلى بعثته ﷺ، واختيار الله له واعتزاز المشركين على ذلك، والامتنان على الناس ببعثته، وضرب أمثلة للأمور والخصال التي حصلت بين يدي بعثته توطئة وتمهيدا لها.
شدة الحاجة إلى بعثته ﷺ:
1 / 6
ما أكثر نعم الله على عباده وما أحوجهم دائما وأبدًا إلى شكره سبحانه على هذه النعم التي أمتن عليهم بها في قوله: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾ وقوله: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ وأعظم نعمة أنعم بها على هذه الأمة أن بعث فيها رسولها الكريم محمد ﷺ ليرشد إلى كل نافع في الحاضر والمستقبل، ويحذر من كل ضار في العاجل والآجل، أرسله على حين فترة من الرسل، واند راس من الكتب في وقت انتشرت فيه الضلالة وعمت فيه الجهالة وبلغت البشرية منتهى الانحطاط في العقائد والعادات والأخلاق فانتشلهم به من هوة الضلالة ورفعهم إلى صرح العلم والهداية، فأزاح به عن النفوس تعلقها بغير خالقها وفاطرها ﷾، ووجهها إليه بقلبها وقالبها حتى لا يكون فيها محل لغيره سبحانه، بل تكون معمورة بحبة وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه تستسلم لأوامره، وترعوي عن زواجره ونواهيه. شيء من أمراض القلوب التي انتشرت قبيل بعثته ﷺ، وكيف عالجها صلوات الله وسلامه عليه. خلق الله الإنسان مركبا من شيئين بدون وروح، وجعل لكل منهما ما يغذيه وينميه، وأرشد إلى طرق العلاج التي يعالج بها كل منهما عندما يطرأ عليه مرض أو سقم فقد أغدق نعمه على عباده وقال: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ . أما الروح فقد استحكمت أمراضها قبل بعثته صلوات الله وسلامه عليه حتى كانت من قبيل الأموات فأحياها الله بما بعث به نبيه ﷺ من الهدى والنور: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ . وأرشد سبحانه إلى أن شفاء أمراضها وجلاء أسقامها إنما هو بما أنزل الله على محمد ﷺ فقال ﷾: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ
1 / 7
وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ وقال: ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ﴾ .
نعم لقد بعث الله نبيه ﷺ في مجتمع انتشرت فيه الأمراض القلبية على اختلافها وتنوعها وأعظم هذه الأمراض على الإطلاق تعلق القلوب بغير الله وصرف خالص حقه سبحانه إلى غيره من مخلوقاته، فعالج ﷺ هذا المرض الخطير والداء العضال باستئصاله وتطهير القلوب من أدرانه أولا، ثم شغلها وعمارتها بحب الله وخوفه ورجائه وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له لكونه سبحانه المتفرد بالخلق والإيجاد، فهو بحق المستحق لأن يعبد وحده لا يعبد معه غيره كائنا ما كان، وقد لقي صلوات الله وسلامه عليه من المشركين في هذا السبيل ألوانا مختلفة من الإيذاء، فصبر حتى ظفر بنصر الله وتأييده وكانت العاقبة له ﷺ وأنصاره والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين والعاقبة للمتقين والعاقبة للتقوى، ولقي أيضا منهم ألوانا من المعارضة والتعنت أوضحها الله في كتابه العزيز في سورة الحجر والإسراء وغيرها من سور القرآن ومن ذلك ما ذكره الله عنهم في سورة ص ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا﴾ . وقد حملهم على هذه المقالة الكبر والحسد، ومثل هذه المقالة التي حكاها الله عن كفار قريش ما ذكره الله سبحانه في سورة القمر عن قوم صالح بقوله: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ﴾ وأبرز الطرق التي عالج بها ﷺ ذلك الداء الذي هو
1 / 8
أعظم الأدواء على الإطلاق إلزام الكفار بأن يفردوا الله في العبادة لما كانوا معترفين بانفراده سبحانه بالربوبية، وأكتفي بالتمثيل لذلك بما ذكره الله سبحانه في سورة النمل من الآيات التي أوضحت تلك الطريقة غاية الإيضاح وذلك قوله سبحانه: ﴿آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ . وبما ذكره الله سبحانه في سورة الحج من التصوير العجيب والتمثيل البليغ لعجز المعبودات التي أشركوها مع الله حيث قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ..﴾ .
1 / 9
ومن الأمراض التي عالجها ﷺ بحكمته الظلم والجور، وازدراء المساكين، والتفاخر بالأحساب والأنساب. فنشر فيهم العدل، وعمهم الاطمئنان والاستقرار، وصار مقياس الفضل بينهم تقوى الله بدلا من اعتبار ذلك بالحسب والنسب، وقد أعلنها ﷺ صريحة في حجة الوداع في أعظم جمع شاهده ﵊ حيث قال: "ألا لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، الناس لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله اتقاكم " أو كما قال. ولما بلغه ﷺ شأن المخزومية التي سرقت أمر بقطع يدها فراجعه أسامه بن زيد فأنكر ﷺ عليه ذلك وقال ﷺ المقالة التي برهن بها عن مدى تحقيق العدالة: "وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". وقد أشار ﷺ في جوابه لأسامة ابن زيد بأن العدول عن العدل سبب هلاك الأمم المتقدمة حيث قال: "إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد.."
1 / 10
ولما قسم ﷺ غنائم حنين وأكثر العطاء للمؤلفة قلوبهم وجد الأنصار ﵃ في أنفسهم شيئا إذا لم يصبهم ما أصاب الناس، فأتى إليهم ﷺ وقال: "ألم آتكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم بي، وعالة فأغناكم الله بي" وقد ذكرهم الله سبحانه في كتابه العزيز بهذه النعمة وأنها من أعظم النعم عليهم فقال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ . وقال سبحانه: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ .
1 / 11
هذه بعض الأمراض التي انتشرت قبل بعثته ﷺ، منّ الله ﷾ على البشرية بإرسال رسوله الكريم محمد ﷺ لينقلها من ذل عبادة المخلوق إلى عز طاعة الخالق جل وعلا، ومن الظلم والجور وسفك الدماء إلى ساحة العدل والأمن والاطمئنان، من الفرقة والاختلاف إلى الاجتماع والائتلاف، من التعاون على الإثم والعدوان إلى التعاون على البر والتقوى، من الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من الغش والخيانة إلى النصح والأمانة، من الجزع والهلع والاعتراض على قضاء الله إلى الصبر والثبات والرضى بما قدره الله وقضاه، وفي الجملة: من كل ضار عاجلا وآجلا إلى كل نافع في الحال والمآل. وقد أرشد الله سبحانه إلى شكره على ذلك بعبادته وحده لا شريك له في قوله سبحانه: ﴿لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ .
اختيار الله لنبيه ﷺ:
1 / 12
يقول الله سبحانه: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾ . هذه الآية الكريمة تدل على أن الله ﷾ منفرد بالخلق يقول للشيء الذي أراده كن فيكون، وتدل أيضا على أن تلك المخلوقات التي أوجدها من العدم لم يسوها أختار منها ما شاء وله الحكمة البالغة فخصه بالتفضيل، فقد اختار من أرضه مكة حرسها الله فجعلها مقر بيته الحرام من دخله كان آمنا وصرف قلوب الناس إليه وأوجب على المستطيع منهم حجة، وحرم صيده، وقطع شجره، وضاعف الأعمال الصالحة فيه، وحذر من الخروج عن طاعته سبحانه وأشار إلى عقوبة إرادة السوء في الحرم بقوله سبحانه: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ . ويلي ذلك مهاجر رسوله ﷺ هذه المدينة المباركة حرم رسول الله صلى عليه وسلم "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام". واختار سبحانه من الشهور شهر رمضان ففضله على سائر الشهور، واختار منه ليلة القدر ففضلها على سائر الليالي، واختار من الأيام يوم عرفه فجعله أفضل الأيام، واختار من أيام الأسبوع يوم الجمعة فجعله أفضلها، وأختار من الملائكة جبريل وإسرافيل وميكائيل فوكلهم بأسباب الحياة، واختار من البشر أنبياءه ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ففضلهم على غيرهم وجعل أفضلهم أولي العزم منهم، واختار الخليلين إبراهيم ومحمدا صلوات الله وسلامه عليهما فجعلهما أفضلهم، وجعل محمدا ﷺ أفضل الخليلين، وأمته خير الأمم فهو ﵊ إمام المتقين وسيد المرسلين وخليل رب العالمين وخاتم النبيين، أقام الله به الحجة على الثقلين الجن والإنس، وأول قبر ينشق عند النفخ في الصور قبره، ولا يدخل الجنة أحد قبله، واختصه سبحانه بالمقام المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون وهو الشفاعة العظمى في فصل القضاء التي يتخلى عنها أولو العزم من الرسل كل واحد يقول نفسي
1 / 13
نفسي أذهبوا إلى غيري حتى تنتهي إليه صلوات الله وسلامه عليه فيقول: "أنا لها" ثم يشفع فيشفعه الله وصدق الله العظيم حيث يقول: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ . وقد أشار سبحانه في كتابة العزيز إلى اختياره من يشاء بقوله سبحانه: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ . وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أن رسول الله ﷺ قال: "إن الله اصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم" فهو ﷺ بنص هذا الحديث الشريف خلاصة خلاصة خلاصة باعتبار شرف النسب كما كان خلاصة باعتبار الفضل وعلو المنزلة عند الله.
اعتراض المشركين على اختيار الله له ﷺ
1 / 14
ولما بعث الله رسوله ﷺ إلى الناس كافة ليهديهم به إلى الصراط المستقيم قابله المشركون بما يستطيعونه من الأذى والمناوأة وتأليب الناس عليه وتحذيرهم منه، فوصفوه بأشنع الأوصاف فقالوا: "أنه ساحر"وقالوا: "أخرى أنه كاهن"وقالوا: "مجنون"هذا وهم أعلم الناس بماضيه المشرق الوضاء، ولكن الذي حملهم على ذلك الكبر والحسد. فقد أخبر الله عنهم في كتابه العزيز أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم، فلما جاءهم نذير مازا دهم إلا نفورا استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله. وقال ﷾ مخبرا عنهم: ﴿وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ . إلى أن قال مشيرا إلى حسدهم له صلوات الله وسلامه عليه: ﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا﴾ . وقال ﷾: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ﴾ . ثم قال مخبرا عن اعتراضهم على الله في اختياره لهذا النبي الكريم ﷺ: ﴿وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ . فأنكر عليهم ذلك وبين أن الأمر أمره، والخلق خلقه، والفضل فضله يؤتيه من يشاء فهو أعلم حيث يجعل رسالته فقال سبحانه: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾ . ونظير هذا قوله سبحانه: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ . وقال سبحانه: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ
1 / 15
لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ - إلى أن قال- قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُم﴾ . وقال: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ﴾ وقد روى الحاكم بسند على شرط الشيخين أن أبا جهل قال للنبي ﷺ: "إنا لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به"فأنزل الله ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ . وروي أن الأخنس بن شريق دخل على أبي جهل فقال: "يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ههنا من قريش غيري وغيرك يسمع كلامنا"فقال أبو جهل: "ويحك والله إن محمدا لصادق وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي بالسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش"، وقال: "تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي ينزل عليه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه، والله لا نؤمن به ولا نصدقه". وهكذا يبلغ الكبر والحسد بهؤلاء القوم الذين دعاهم رسول الله ﷺ إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، حملهم ذلك على تجاهل الحقيقة وإبداء خلاف المستقر في القلوب، يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم متبعين في ذلك إمامهم في الضلال والحسد إبليس اللعين حيث فسق عن أمر ربه له بالسجود لآدم كبرا وحسدا استنادا منه لعنة الله على أنه أفضل منه على زعمه، لكونه خلق من نار وآدم ﵊ خلق من طين..
امتنان الله سبحانه على الثقلين برسالته ﷺ
1 / 16
من رحمة الله سبحانه بعباده أن أرسل فيهم رسله يبشرون وينذرون كلما ذهب نبي خلفه نبي حتى ختمهم نبي الرحمة محمدا ﷺ. وفي ذلك يقول سبحانه: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَة﴾ . ولقد اختار منهم سيدهم وإمامهم فجعله خاتم النبيين واختصه بخصائص ومزايا لم يشاركه فيها أحد منهم، كما اختص أمته بخصائص ليست لغيرهم من الأمم السالفة، ومن تلك المزايا التي أمتاز بها على غيره من المرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين أن بعثه إلى الأسود والأحمر بل إلى الجن والإنس جميعا كما قال الله سبحانه عن الجن الذين استمعوا لقراءته ﷺ ثم ولوا إلى قومهم منذرين: ﴿يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ . وقال ﷺ في الحديث المتفق على صحته: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي -فذكر من بينها- وكان النبي يبعث إلى قومه خاص وبعثت إلى الناس عامة". وفي ذلك يقول سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ ويقول: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ . وقد أوضح ذلك صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحة حيث قال: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار.." قال سعيد بن جبير ﵀ مصداق ذلك في كتاب الله ﷿ قال الله سبحانه: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ
1 / 17
مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾ . ولا شك أن أعظم نعمة أنعم الله بها على أهل الأرض هي إرسال هذا النبي الكريم الذي أكمل الله به الدين وجعله حجة على الناس أجمعين. وقد أخبر الله في كتابه العزيز عن إبراهيم بأدعية من بينها: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ .وقد أجاب الله دعائه فبعث في الأمين وفي غيرهم محمدا ﷺ أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وتلك النعمة العظمى والمنة الجسيمة نوه الله بها في معرض الثناء على نفسه سبحانه في آيات كثيرة منها قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ . ومنها قوله تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ . ومنها قوله: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾ . ومنها قوله سبحانه: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ
1 / 18
رَحِيمٌ﴾ . وإنما كان إرساله ﷺ إلى الناس أعظم منة أمتن بها على عباده لأن في ذلك تخليص من وفقه الله وهداه منهم من العذاب السرمدي بسبب الإيمان بالله ورسوله ﷺ، والابتعاد عن الشرك الذي لا يغفره الله كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ . وقال: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ .
التمهيد لبعثته ﷺ
ومن حكمة الله وفضله أن هيأ لنبيه ﷺ قبل أن يبعثه جميع أسباب الشرف والرفعة وعلو المنزلة، ووفر فيه جميع الخصال التي تؤهله للقيام بأعباء الرسالة العظمى التي اصطفاه واختاره لها صلوات الله وسلامه عليه، وفيما يلي أذكر على سبيل المثال بعض تلك الأسباب والخصال وأبين كيف كانت توطئة وتقدمة لبعثته ﷺ:
أولا: أن الله سبحانه جعله عريق النسب، كريم المنبت، اصطفاه من أشرف قبائل العرب قبيلة قريش التي شهد لها غيرها بالسيادة والقيادة، وهذه سنة الله في رسله كما جاء ذلك في سؤال هرقل ملك الروم لأبي سفيان عن رسول الله ﷺ حيث قال يعني رسول الله ﷺ: "كيف نسبه فيكم"قال أبو سفيان: "هو فينا ذو نسب"ثم قال هرقل عند ذلك: "الرسل تبعث في نسب قومها"وإنما كانت هذه سنة الله في رسله ليسد على أعدائهم باب القدح فيهم والتنقيص لهم، فلا يجد أعداؤهم سبيلا إلى إلصاق العيوب بهم.
1 / 19
ثانيا: أنه ﷺ نشأ فقيرا يتيما في كفالة جده عبد المطلب ثم عمه أبي طالب وذلك من أسباب التواضع والتحلي بالصفات الحميدة والبعد عن الصفات الذميمة كالكبر والظلم وغير ذلك، وقد ذكر الله ذلك منوها بتفضله على نبيه ﷺ بإيوائه وإغنائه وهدايته حيث قال سبحانه: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ . ثم أرشده إلى شكر هذه النعمة بأن يعطف على اليتامى والمساكين ويتحدث بنعمة الله عليه قال: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ . وهذه تربية إلهية لنبي الرحمة ﷺ ذكرها الله في كتابه العزيز تنبيها لعباده المؤمنين بأن يحملوا أنفسهم على تلك الصفات الحميدة وغيرها شكرا لله سبحانه على توفيقه لهم بالهداية بعد الضلالة، والغنى بعد الفقر، وغير ذلك من نعمه عليهم، والمعنى لا تقهر ولا تنهر الفقير فقد كنت فقيرا تكره أن تنهر، ولا شك أن تذكير الإنسان بنعمة الله عليه من أقوى الأسباب في الإقدام على الخير والأحجام عن الشر لمن وفقه الله..
1 / 20