Islamic Jurisprudence Encyclopedia - Egyptian Endowments
موسوعة الفقه الإسلامي - الأوقاف المصرية
Nau'ikan
موسوعة الفقه الإسلامي (^١)
إصدار: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، مصر
عدد الأجزاء: ٤٨ (حتى الآن) (^٢)
_________
(^١) كان اسمها حتى جـ ١٠: «موسوعة جمال عبد الناصر فى الفقه الإسلامى»، ثم تغير بعد ذلك إلى اسمها الحالي «موسوعة الفقه الإسلامي»
(^٢) صدر الجزء الأول عام ١٣٨٦ هـ - ١٩٦٦ م، وما زالت تصدر أجزائها تباعا حتى الآن
وإلى وقت كتابة هذه الكلمات (١٤٤٢ هـ)، قد صدر الجزء ٤٨، وينتهي بمصطلح (تيمم)
المقدمة / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسّلام على سيدنا محمد النبى الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الهداة الراشدين، ومن تبعهم باحسان الى يوم الدين. … أما بعد
فان شريعة الاسلام هى المحجة البيضاء، والصراط المستقيم، شرعها الله تعالى بعلمه، وأنزلها على خاتم أنبيائه ورسله، ووفر لها من أسباب القوة والحفظ ما جعلها خالدة على الدهر، معصومة عن أن تميل الى باطل، أو تنحرف الى ضلال، ويسر لها، منذ عهد الصحابة والتابعين ومن جاءوا بعدهم، أقواما آمنوا بها، وأخلصوا لها، فشمروا عن سواعد الجد فى خدمتها، وتجلية أحكامها وأدلتها، وتوسيع آفاقها، وبيان أصولها وفروعها، ودراسة أحوال الناس على ضوئها، وفى نطاق مبادئها وقواعدها، حتى أصبحت بحورها زاخرة، ورياضها ناضرة، ونجومها زاهرة، وتبين للناس أنها محيطة بكل ما يعرض لهم من شئون الحياة فى جوانبها العقيدية والعبادية والتعاملية والنظامية والادارية والحكمية والسياسية والاجتماعية، وفى مختلف الصلات التى تكون بين الأفراد فى داخل الأمة، وبين الأمة وغيرها من المسالمين أو المحاربين، كل ذلك على نحو يكفل حل المشكلات، ودفع المحرجات، وتيسير الصعاب، كما يكفل أسباب السعادة والأمن والعدل والقوة والاستقامة على النهج الراشد والمثل الأعلى.
ولقد كان الفقه الاسلامى فى مختلف العصور، مظهرا من مظاهر عناية الأمة بهذه الشريعة المطهرة: شريعة العدل والرحمة والاصلاح، وكانت المذاهب التى تستند الى أصوله الثابتة، وقواعده المقررة، مدارس للنظر والبحث والاستنباط والترجيح اعتمادا على الأدلة المستمدة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ، وما استند اليهما من اجماع صحيح، أو قياس واضح، أو أدلة ظنية، أو قواعد أصولية أو فقهية.
وقد دونت فى ذلك كله كتب نافعة، ومصنفات جامعة، تحوى آراء أصحاب المذاهب، وأقوال متبعيهم، وترجيحات مرجحيهم، حتى أصبحت المكتبة الفقهية
المقدمة / 5
الاسلامية غنية بهذه الثمرات الطيبة من آثار السلف التى تعد من أعظم مفاخر المسلمين، والتى شهد لها العالم كله، واقتبس منها واضعو قوانينه فى الشرق والغرب، حتى اننا لنستطيع أن نقول انه ما من تشريع وضعى عادل عرفه العالم الا وهو مستمد من مذهب من مذاهب الفقهاء المسلمين، أو مندرج تحت قاعدة كلية أو نص عام أو خاص من نصوص الشريعة، عدا ما خرجت فيه القوانين الوضعية عن نطاق الاسلام من اباحة لشئ مما حرم الله، أو تحريما لشئ مما أباحه.
فالفقه الاسلامى اذن بأصوله وقواعده ومذاهبه، هو المصدر الأعظم للتقنين والتشريع فى مختلف العصور، وكتبه ومصنفاته هى المراجع الأصلية لكل من أراد أن يستقى من المنابع الصافية الشافية.
وفى هذا العصر الحديث آمن بهذه القضية كثير ممن كانوا لا يؤمنون بها واتجهت الأنظار الى هذا الفقه، رغبة فى الافادة منه، والتعويل عليه، والاقتباس من أحكامه فى مختلف مذاهبه. بيد أن كتبه ومصنفاته التى تحوى فوائده وغرره انما هى بحار زاخرة بعيدة الغور تحتاج الى غوص وبحث تمدهما تجربة ومعرفة لا يتيسران لكل الناظرين، ولا تتوافر أدواتهما لكثير من الباحثين. فكان من الآمال العظيمة التى تتردد فى نفوس المحبين لهذا الفقه المؤمنين بأنه هو صراط الله المستقيم، أن يكون له موسوعة منظمة منسقة مرتبة مصطلحاتها على حروف المعجم، تجمع شتاته، وتؤلف بين مذاهبه، وتضم الشبيه الى شبيهه، حتى يستطيع الناظر فيه، الراغب فى معرفة خوافيه، أن يجد الموضوع الواحد فى المكان الواحد، مهما تعددت المذاهب، واختلفت الأبواب والكتب، وتعددت الفروع، وأن يلم فى ايجاز بما استدل به القائلون فيما يحتاج الى بيان للمدارك ووجهات النظر.
وقد أراد الله جل شأنه أن تحتضن جمهورية مصر العربية فى عيدها الاسلامى الزاهر هذا العمل الضخم، فتشرع فى تصنيف موسوعة جامعة للفقه الاسلامى فى مذاهبه المشهورة، يحقق آمال الراغبين فيه، الحريصين عليه، وتكون منارة يهتدى بها كل من أراد الفقه السليم، والتشريع المستقيم.
ويقتضينا واجب الانصاف للحق وللعاملين المخلصين أن نسجل الحقائق الآتية:
المقدمة / 6
أولا: ان وضع هذه الموسوعة الفقهية عمل سارعت اليه عصبة الخير، ورهط الايمان من اخواننا فى جامعة دمشق، لما جمعتهم المجامع، وأحسوا أن للفقه الاسلامى حقا أكيدا على خاصة المسلمين وعامتهم، لا يقبل التغاضى ولا التقصير ولا التسويف، فأجمعوا أمرهم على أن يبدأوا العمل فى هذه الموسوعة، وأخذوا يعدون عدتها، ويهيئون مراجعها، ويجمعون مصطلحاتها، وساروا بخطى توائم استطاعتهم.
ثانيا: ان الذى تلقى شرف التوجيه الأول الى احتضان هذا العمل الصالح هو وزير الأوقاف يومئذ السيد أحمد عبد الله طعيمة - فسارع الى تكوين لجنة خاصة بالموسوعة تابعة للمجلس الأعلى للشئون الاسلامية تعمل على تنفيذ هذا التوجيه، وهى اللجنة التى جاء ذكرها فى المقدمة التالية، والتى كانت مشتركة بين السوريين والمصريين.
وكان المجلس الأعلى للشئون الاسلامية قد أصدر فى سنة ١٣٨١ هـ - ٢٣ يوليو سنة ١٩٦١ م جزءا نموذجيا للموسوعة على سبيل التجربة أراد به أن يكون تحت أنظار العلماء والمشتغلين بالفقه والقانون على أن يبدأ باعداد الجزء الأول من أجزائها فى صورته النهائية.
وقد نشطت اللجنة منذ صدور هذا القرار وواصلت العمل فى اعداد هذا الجزء، غير آلية جهدا ولا مدخرة وسعا، رغم المشاق والصعاب حتى استطاعت أن تتمه.
فباسم الله تعالى وعلى بركته، نقدم أول جزء من أجزاء «موسوعة الفقه الإسلامى» إلى جميع المشتغلين بالفقه والقانون فى مختلف بلاد العالم، وإلى كل مؤمن يريد أن يستبصر بشريعة الله، ويهتدى بهديها، وإن اكتمال هذا الجزء لايذان باطراد العمل ومواصلة السير لتحقيق هذا الأمل.
وانه - وايم الله - لعمل جد عظيم
وما هذا العمل الا جهاد فى سبيل الله فهو من خير الوسائل للتحرر من الاستعمار التشريعى الذى بغى وطغى على التشريع الاسلامى فى جميع دياره ولا سلاح له الا الافك والمفتريات.
المقدمة / 7
وهو فى الوقت نفسه انتصار للتشريع الذى خلق القومية العربية، وبرهن التاريخ على أنه أعظم مقوماتها، وأقوى دعائمها، لا تحيا إلا بحياته، ولا تقوى إلا بقوته،
فباسم الله مجرى «موسوعة الفقه الاسلامى» وبأنعم الله وأفضاله يطيب مسيرها، ويحمد ان شاء الله مرساها.
رئيس اللجنة
حسن مأمون
المقدمة / 8
التعريف بالفقه الاسلامى
معنى الفقه لغة:
قال فى الصحاح: الفقه الفهم. قال أعرابى لعيسى بن عمر: شهدت عليك بالفقه.
تقول منه فقه الرجل بالكسر، وفلان لا يفقه ولا ينقه (أى يفهم).
وفى القاموس المحيط: الفقه بالكسر العلم بالشئ والفهم لة. وفى المصباح المنير الفقه فهم الشئ. قال ابن فارس: وكل علم لشئ فهو فقه.
فالفقه هو الفهم لما ظهر أو خفى، قولا كان أو غير قول، ومن ذلك قول الكتاب الكريم: «ما نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمّا تَقُولُ» (^١).
«وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» (^٢).
«اُنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ» (^٣).
غير أن القرافى قال فى شرح تنقيح الفصول: وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازى: الفقه فى اللغة إدراك الأشياء الخفية. فلذلك تقول: فقهت كلامك ولا تقول فقهت السماء والأرض. وعلى هذا النقل لا يكون لفظ الفقه مرادفا لهذه الألفاظ، والألفاظ التى يشير إليها القرافى هى: الفهم والعلم والشعر والطب.
ولفظ الفقه من المصادر التى تؤدى معناها، وكثيرا ما يراد منها متعلق معناها كالعلم بمعنى المعلوم، والعدل بمعنى العادل.
معنى الفقه فى الصدر الأول:
وقد غلب فى الصدر الأول استعمال الفقه فى فهم أحكام الدين جميعها، أى فهم كل ما شرع الله لعباده من الأحكام، سواء أكانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها، أم كانت أحكام الفروض والحدود والأوامر والنواهى والتخيير والوضع، فكان اسم الفقه فى هذا العهد متناولا لهذين النوعين على السواء، لم يختص به واحد منهما دون الأخر، وكان مرادفا إذ ذاك لكلمات «شريعة، وشرعة، وشرع، ودين» التى كان يفهم من كل منهما النوعان جميعا.
وكما كان اسم الفقه يطلق على فهم جميع هذه الأحكام، كان يطلق على الأحكام نفسها، ومن ذلك قولة ﵊: «رب حامل فقه غير فقيه» «رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه».
وهذا الاستعمال الجامع قد استمر أمدا ليس بالقصير، يرشدنا إلى هذا ما نقل عن الإمام أبى حنيفة: من أن الفقه هو معرفة النفس ما لها وما عليها، وما هذه المعرفة إلا معرفة أحكام الله بنوعيها، كما أنة سمى كتابة فى العقائد «الفقه الأكبر».
_________
(^١) الآية: ٩١ سورة هود.
(^٢) الآية: ٤٤ سورة الإسراء.
(^٣) الآية: ٦٥ سورة الانعام.
المقدمة / 9
ثم تغير هذا الاستعمال ودخل التخصيص على اسم الفقه، ونشأ اصطلاح للأصوليين وآخر للفقهاء.
معنى الفقه عند الأصوليين:
يحسن بنا أن نشير أولا إلى أن ما نزل به الوحى الإلهى على رسول الله ﷺ، كتابا كان أو سنة، من الأحكام العملية، قد يكون دليله قطعى الثبوت وقطعى الدلالة معا، وهو ما تعورف إطلاق النص علية، وهذا النوع لا مجال فيه للاجتهاد، وإن كان محلا للنظر، فمنه ما يكون ضروريا وشعيرة إسلامية كوجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج، ومنة ما هو نظرى. ومثل النص فى كل هذا الإجماع إذا كان ثابتا ثبوتا قطعيا.
وقد يكون الدليل قطعى الثبوت ظنى الدلالة، وقد يكون ظنى الثبوت قطعى الدلالة، وقد يكون ظنى الثبوت والدلالة.
وهذه الأنواع الثلاثة هى محل الاجتهاد وتسمى أحكامها أحكاما ظنية وأحكاما اجتهادية، فقولة تعالى: «وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ» (^١) قطعى الثبوت وقطعى الدلالة على وجوب أصل المسح، فهو حكم قطعى، لكن دلالته على مقدار ما يمسح من الرأس، أهو الكل أو الربع أو البعض، دلالة ظنية، فالأخذ بأى مقدار يكون حكما ظنيا اجتهاديا.
بعد هذا نقول: إن الأصوليين قد اتجهت عنايتهم إلى بيان مفهوم الفقه فى اصطلاحهم بالمعنى الوصفى، أى الحال التى إذا وجد عليها المرء سمى فقيها. ولم يعرضوا لمعناه الاسمى، أى المسائل والأحكام التى يطلق عليها اسم الفقه، وإن كان من الممكن أن يقال: إن الأحكام التى تسمى معرفتها فقها هى التى يمكن أن تسمى فقها بالمعنى الاسمى، والأحكام التى لا تسمى معرفتها فقها لا تسمى فقها بذلك المعنى. غير أن المسألة مسألة اصطلاح ونقل له - لا مسألة استخراج وتفهم واستنباط لوازم.
وقد أفاض الأصوليون، وبخاصة المتأخرين منهم، فى بيان معنى الفقه الوصفى فى مصطلحهم، وكانت لهم فى ذلك تعريفات واعتراضات ومناقشات وكلام طويل خلاصته أن لهم فى ذلك ثلاث طرائق.
فالطريقة التى جرى عليها جمهورهم هى أن الفقه معرفة الأحكام الشرعية التى طريقها الاجتهاد كما قال الشيرازى فى اللمع. وهو بعينة ما عرّف به غيره الفقه: من أنه العلم بالأحكام الشرعية العملية بالاستدلال كما قال بعضهم أو من طريق أدلتها التفصيلية كما قال البعض الآخر، فالعلم بالذوات من أجسام وصفات وسواها ليس فقها لأنه ليس علم أحكام.
والعلم بالأحكام العقلية والحسية والوضعية كأحكام الحساب والهندسة والموسيقى والنحو والصرف لا يسمى فقها لأنه علم أحكام ليست بشرعية.
وعلم أحكام أصول الدين وأصول الفقه ليس فقها، لأنها أحكام شرعية علمية وليست عملية.
_________
(^١) الآية: ٦ سورة المائدة.
المقدمة / 10
وبقيد الاستدلال خرج عن أن يكون فقها علم جبريل ورسول الله ﷺ وعلم المقلد بالأحكام الشرعية العملية، لأنه علم ليس عن استدلال، وكذلك العلم بشعائر الإسلام كوجوب الصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك مما هو معلوم بالضرورة.
من غير استدلال، فهذا لا يسمى فقها لحصوله للعوام والنساء والأطفال المميزين، فالفقه هو العلم الاجتهادى والفقيه هو المجتهد.
والطريقة الثانية:
هى ما انتزعه صدر الشريعة مما جاء بأصول البزدوى مع شئ من التصرف. فقد اختار فى التنقيح تعريف الفقه: بأنه العلم بكل الأحكام الشرعية العملية التى قد ظهر نزول الوحى بها والتى انعقد الإجماع عليها من أدلتها مع ملكة الاستنباط الصحيح منها، فلكى يتحقق معنى الفقه عنده، يجب العلم بالأحكام الشرعية العملية المعروفة أخذا من أدلتها، قطعية كانت أو ظنية، وليس الاستدلال بمعنى الاجتهاد شرطا لحصول هذا العلم، ويجب أيضا أن تكون مع هذا ملكة الاستنباط الصحيح من الأحكام الشرعية التى نزل بها الوحى، أو انعقد عليها الإجماع. فالفقيه على هذا من كان أهلا للاجتهاد وإن لم يقع منه اجتهاد.
والطريقة الثالثة:
هى التى جرى عليها الكمال بن الهمام فى التحرير ولا تعرف لغيره، وهى لا تختلف عن الطريقة السابقة إلا فى بعض أمور أهمها ما يرجع إلى المراد من الأحكام الشرعية، فقد ذهب إلى أنها القطعية لا الظنية، وأن الظن ليس من الفقه، وأن الأحكام المظنونة ليست مما يسمى العلم بها فقها.
فالفرق بين الطرائق الثلاث يرجع إلى المراد من الأحكام. فمنهم من أراد منها الظنية وحدها، ومنهم من أراد القطعية وحدها، ومنهم من جعلها شاملة للقطعية والظنية، وقد نقل ابن عابدين فى رد المحتار عن شرح التحرير، أن التعميم قد نص غير واحد من المتأخرين على أنه الحق وعليه عمل السلف والخلف. ودعوى هذا الشارح فى جريان العمل عليه دعوى جريئة لا يصدقها الواقع.
معنى الفقه فى اصطلاح الفقهاء:
واسم الفقه قد استعمل فى اصطلاح الفقهاء للدلالة على أحد معنيين، أحدهما:
حفظ طائفة من مسائل الأحكام الشرعية العملية الواردة بالكتاب والسنة وما استنبط منها، سواء أحفظت مع أدلتها أم حفظت مجردة عن هذه الدلائل. فاسم الفقيه عندهم ليس خاصا بالمجتهد كما هو اصطلاح الأصوليين، بل يتناول المجتهد المطلق، والمجتهد المنتسب، ومجتهد المذهب، ومن هو من أهل التخريج وأصحاب الوجوه، ومن كان من أهل الترجيح، ومن كان من عامة المشتغلين بهذه المسائل.
وتكلموا فى المقدار الأدنى من هذه المسائل الذى يسمى حفظه فقها وانته تحقيقهم إلى أن هذا متروك للعرف، غير
المقدمة / 11
أنهم لا يصفون بفقه النفس إلا من كان واسع الاطلاع، قوى الفهم والإدراك، متين الحجة، بعيد الغور فى التحقيق والغوص على المعانى، ذا ذوق فقهى سليم نقى، وإن كان مقلدا، كما اعتادوا أن يصفوا بذلك الكمال بن الهمام وأضرابه من الفقهاء المقلدين.
والمعنى الثانى الذى يطلق عليه اسم الفقه:
مجموعة هذه الأحكام والمسائل. فإذا ذكرت دراسة الفقه أو فهم الفقه، أو ما ورد فى الفقه، أو التأليف فى الفقه، أو كتب الفقه أو ما هو من هذا القبيل، فإنهم لا يعنون إلا هذه المجموعة التى تحتوى على الأحكام الشرعية العملية التى نزل بها الوحى، قطعية كانت أو ظنية، وعلى ما استنبطه المجتهدون على اختلاف طبقاتهم، وعلى ما اهتدى إليه أهل التخريج والوجوه، وعلى ما ظهرت روايته واشتهرت وما لم يكن كذلك، وعلى الأقوال الصحيحة والأقوال الراجحة والأقوال غير الصحيحة والمرجوحة والضعيفة والشاذة، وعلى ما أفتى به أهل الفتوى فى الواقعات والنوازل، وإن لم يقم على استنباط ولم يكن إلا تطبيقا للأحكام المقررة، وعلى بعض ما احتيج إليه من مسائل العلوم الأخرى كبعض أبواب الحساب التى ألحقت بالوصايا والمواريث، وعلى ما رآه متأخر والفقهاء الذين ليسوا من أهل الاجتهاد ولا التخريج من طريق ما سموه تفقها، أو استظهارا أو أخذا، أو ما أشبه ذلك، فكل هذا الذى ذكرنا قد اندمج بعضه ببعض وصار فقها.
ولكل مذهب من المذاهب الفقهية مجموعته الخاصة التى تنسب إليه، فيقال فقه مذهب أبى حنيفة، وفقه مذهب مالك وفقه مذهب الإمامية، وفقه الزيدية، وفقه الإباضية، وهكذا. ومنذ الأزمنة البعيدة وجدت مجموعة عامة شاملة لفقه المذاهب الفقهية كلها أو أشهرها، وهى التى اختصت باسم اختلاف الفقهاء، والمجموعات الخاصة والمجموعة العامة كلاهما يتناوله اسم الفقه.
والفقه بهذين المعنيين يطلق عليه أيضا علم الفروع، أو الفروع، أما فى مقابلة العقائد وأصول الدين، لأن التصديق بالأحكام العملية فرع للتصديق بالعقائد، وأما فى مقابلة أصول الفقه لتفرع تلك الأحكام عن أصولها وأدلتها التى هى موضوع أصول الفقه.
وقد يطلق الفقهاء اسم الفروع أيضا على بعض المسائل المتفرعة على أصول المسائل الفقهية الكلية.
الشريعة والفقه
الشريعة والشرعة معناها فى اللغة: مورد الناس للاستقاء، سمى بذلك لوضوحه وظهوره، وتجمع الشريعة على شرائع والشرع مصدر شرع بمعنى وضح وأظهر.
وقد غلب استعمال هذه الألفاظ فى الدين وجميع أحكامه «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» (^١).
«لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجًا» (^٢).
«ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها» (^٣).
_________
(^١) الآية: ١٣ سورة الشورى.
(^٢) الآية: ٤٨ سورة المائدة.
(^٣) الآية: ١٨ سورة الجاثية.
المقدمة / 12
فالشرع أو الشريعة أو الشرعة، هو ما نزل به الوحى على رسول الله ﷺ من الأحكام فى الكتاب والسنة، مما يتعلق بالعقائد والوجدانيات وأفعال المكلفين قطعيا كان أو ظنيا، ومعناه يساوى معنى الفقه فى الصدر الأول.
ولا نعرف أنه قد طرأ عليه تخصيص، اللهم إلا ما قد يشعر به استعمال بعض الفقهاء أحيانا لكلمة «شرائع الأحكام» ولا يريدون منها إلا الأحكام التكليفية والوضعية، ولكن هذا لا يرقى إلى مرتبة التخصيص والاصطلاح.
أما الأحكام التى لم ترد لا فى الكتاب ولا فى السنة نطقا ولا عملا، وكانت مما استنبطه المجتهدون من معانى تلك الأحكام، ولم يجمع عليها من أهل الإجماع، فليست إلا أفهاما وآراء لأربابها، ولا تسمى فى الحقيقة شرعا ولا شريعة. وما نسبت إلى الشرع وسميت أحكاما شرعية فى تعريف الفقه وفى غيره من المواطن إلا لأنها مستنبطة من الشرع، لا لأنها منه.
فإذا وازنا بين مفهوم الشرع أو الشريعة، ومفهوم الفقه بالمعنى الاسمى فى اصطلاح الفقهاء، وجدنا أن بينهما العموم والخصوص الوجهى، يجتمعان فى الأحكام التى وردت بالكتاب والسنة، وينفرد الشرع أو الشريعة فى أحكام العقائد وما إليها مما ليس فقها، وينفرد الفقه فى الأحكام الاجتهادية وما يلتحق بها.
وقد ظهر فى عصرنا إطلاق اسم الشريعة الإسلامية على الفقه وما يتصل به. وربما كان بدء ظهور هذا فى مدرسة الحقوق بالقاهرة، ثم كثر استعماله، حتى إنه لا يفهم الآن من الشريعة الإسلامية عند الإطلاق إلا هذا المعنى، وعلى هذا الأساس سميت الكليات التى خصصت فى بعض البلاد الإسلامية لدراسة الفقه، وما يتصل به، كلية الشريعة الإسلامية.
وقد فشا أخيرا فى القضاء استعمال عبارة «المنصوص عليه شرعا كذا»، وقد يكون ما ينقل ليس إلا رأيا لأحد المؤلفين فى الفقه.
على أن الأمر ليس ذا شأن كبير ما دامت المسألة مسألة اصطلاح، فقديما قالوا: أنه لا مشاحة فى الاصطلاح.
ما ليس فقها:
والأفهام والآراء التى يتوصل إليها من طريق النظر فى الأحكام الشرعية لا تسمى فقها، إلا إذا وقعت موقعها وصدرت عمن هو أهل لها، وإلا كانت مهدرة ليس لأحد أن يعول عليها، ولا أن يدخلها فى باب اختلاف الفقهاء ويعتبرها فقها.
ومن القضايا المشهورة المسلمة، أن الاجتهاد فى مقابلة النص لا يقبل. وقال الفقهاء: إن الاجتهاد إذا كان مخالفا للكتاب أو السنة أو الإجماع، أو كان قولا بلا دليل لا يكون معتبرا، ويكون خلافا، ولا يكون من قبيل اختلاف الفقهاء، وإذا قضى به القاضى وقع قضائه باطلا.
وواضح أنهم لا يعنون من مخالفة الكتاب والسنة، إلا مخالفة نصهما، أى ما هو قطعى الثبوت والدلالة منهما.
ومخالفة الكتاب الكريم تكون برد نصه القاطع فى دلالته، كالقول بحل الربا فى بعض
المقدمة / 13
صوره، لأنه مخالف لقوله تعالى: «وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا»
كما يكون بحمل النص على ما لا سبيل إلى حمله عليه، لا من دلالة اللغة ولا من سواها. كالقول بأن للمسلم أن يجمع بين تسع زوجات، بحمل قوله تعالى: «مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ» (^٢) على معنى اثنين وثلاث وأربع، فتكون الجملة تسعا، وهو حمل لا تسيغه لغة، ولا يقره فهم سليم.
ومن مخالفة السنة المشهورة القاطعة فى دلالتها، القول بحل المطلقة ثلاثا لزوجها الأول إذا تزوجها آخر بعقد صحيح ولم يدخل بها ثم طلقها، لأنه رد لحديث العسيلة المعروف الذى اشترط للحل الدخول والإصابة، وهو قوله ﵊، فيما رواه ابن عمر، قال: سئل نبى الله ﷺ عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا، فيتزوجها آخر فيغلق الباب، ويرخى الستر، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها. هل تحل للأول؟ قال: «لا، حتى يذوق العسيلة».
ومن مخالفة الإجماع القول بأن للقاضى أن ينقض الحكم الذى صدر فى مسألة اجتهادية بناء على اجتهاد معتبر إذا رفع إليه هذا الحكم وكان لا يرى الرأى الذى انبنى عليه.
ومن القول بلا دليل، القول بسقوط الحق بالتقادم، فإنه قول لا دليل عليه من أى نوع من أنواع الأدلة. والقول بلا دليل هو القول يكون لمجرد استحسان العقل من غير استناد إلى دليل من الأدلة المعتبرة، وهذا هو القول بالتشهى والهوى وهو الرأى المذموم الذى أفاض العلماء فى رده، وفرقوا بينه وبين الرأى المحمود.
أما الأقوال الضعيفة المنقولة فى المذاهب الفقهية، فإن كان ضعفها ناشئا عما يدخلها فى الأنواع السابقة، فهى من الخلاف وليست من قبيل الاختلاف.
أما إذا كان القول بضعفها ناشئا عن الموازنة بين دليلها ودليل ما يخالفها من ناحية القوة والضعف، فلا سبيل إلى إخراجها من دائرة اختلاف الفقهاء، وما مثلها إلا مثل مذاهب الأئمة المجتهدين، فان كل إمام يرى أن مذهبه أقوى دليلا من مذهب مخالفة، ويرى كل منهم أن مذهبه صواب يحتمل الخطأ ومذهب مخالفه خطأ يحتمل الصواب. وهذا هو الشأن فى الأقوال المختلفة فى المذهب الواحد.
والحكم فى كل ما ذكرت هو الرأى العام الفقهى. فهو الذى يعتمد عليه فى معرفة ما إذا كان الرأى من باب الخلاف أو من باب اختلاف الفقهاء. وسيان أن يكون هذا الرأى العام رأى الكل أو رأى الأكثرين وجمهور من يعتد بهم. فلا وزن لما ذهب إليه بعض الأقلين الذين انحرفوا وأسرفوا فى تطبيق قاعدة الخلاف، ورموا أعلاما يهتدى بهم، بالضلال ومخالفة الكتاب الكريم ورد السنة الصحيحة والخروج على الإجماع وقالوا فى بعض أقوالهم إنها خلاف وليست من الدين فى شئ.
أما أصحاب النظر وأهل الرأى الذى يعتد به فهم الأئمة المجتهدون، والمجتهدون (١) الآية: ٢٧٥ سورة البقرة.
_________
(^٢) الآية: ٣ سورة النساء.
المقدمة / 14
المنتسبون، وهم الذين تلقوا فقههم عن إمام معين، وتأثروا بطريقته فى الاجتهاد إلى حد كبير، فإن له أثرا واضحا فى اجتهادهم ولكنهم يخالفون أستاذهم فى الأصول وفى الفروع.
والمجتهدون فى المسائل، وهم فقهاء أظهر أحوالهم أنهم مقلدون لإمام معين لا يخالفونه فى أصول ولا فى فروع، ولكنهم يجتهدون فى المسائل التي لا رواية فيها. وأهل الوجوه والتخريج وهم فقهاء مقلدون لا اجتهاد لهم وكل عملهم هو تفصيل ما روى مجملا وتكميل ما روى محتملا، ثم يأتى بعد ذلك أهل التفقه والاستظهار والأخذ الذين برزوا فى صفوف أواخر المتأخرين ودونت آراؤهم فى المذاهب وتنو قلت ولا سبيل إلى استبعادها بل ربما كان الحرص عليها أشد من سواها.
أما من لم يكن من أهل الاجتهاد بأنواعه، ولا من أهل الوجوه والتخريج ومن بعدهم فإنه لا يعتد برأيه ولا يعتبر ما ذهب إليه فقها، لأنه صادر عمن ليس أهلا له. ويكون رده أولى إذا كان مخالفا لرأى الإمام الذى يقلده.
ولذا ترى الحنفية يقولون - فى بعض ما يعترض به الكمال بن الهمام ويقرر خلال ذلك ما يراه، أن الاعتراض وارد والفقه مسلم، فإذن لا سبيل إلى جعل هذا الرأى من مذهب الحنفية، لمخالفته له، ولا سبيل إلى الأخذ به تقليدا لصاحبه، لأنه هو نفسه مقلد وليس ممن يقلدون، فلا يعتبر ما ذهب إليه فقها بأى حال.
وإذا كان عمل الفقيه أو المتفقه الذى ليس من الطوائف التى ذكرت هو الترجيح بين الأقوال المختلفة، أو تصحيح الروايات وتحرير الأقوال، فليس هذا مما نحن فيه هنا.
والحكم فى كل ما أوردناه فى هذه الناحية هو الرأى العام الفقهى على النحو الذى ذكر فى المسألة السابقة، فلا وزن لقول من قال تصريحا أو تلويحا: إن الإمام أحمد بن حنبل ليس فقيها، وإنما هو محدث، ولا لقول من قال: إن داود بن على الأصفهانى، رأس الظاهرية، ليس من المجتهدين، فقد حكم لهما الرأى العام الفقهى أقوى الأحكام فى مختلف العصور.
أما آراء المشتغلين بالفقه المعاصرين التى تخالف المعروف فى الفقه، أو التى لا رواية فيها، أو التى ترجح مذهبا على آخر، فإن الرأى العام الفقهى لم يصدر حكمه فيها، أما تحريرهم للمنقول وتحقيقه فالحكم فيه ما يكون عليه.
المقدمة / 15
المصادر الفقهية
لا حاكم سوى الله سبحانه، ولا حكم إلا ما حكم به، ولا شرع إلا ما شرعه.
على هذا اتفق المسلمون، وقال به جميعهم حتى المعتزلة (أهل العدل) الذين يقولون: إن فى الأفعال حسنا وقبحا يستقل العقل بإدراكهما، وأن على الله أن يأمر وينهى على وفق ما فى الأفعال من حسن وقبح، فالحاكم عند الجميع هو الله سبحانه، والحكم حكمه. وهو الشارع لا غيره، وإذا كان رسول الله ﷺ قد أطلق عليه اسم الشارع فى بعض عبارات العلماء، فما كان ذلك إلا تجوزا مراعاة لأنه المبلغ عنه.
وإذا كان الشاطبى فى بعض المواطن قد سمى عمل المجتهد تشريعا فما كان ذلك منه إلا تساهلا أساغه أن عمل المجتهد كاشف عن التشريع ومظهر له، فالسلطة التشريعية هى الله وحده.
والشريعة، أو الشرعة، أو الشرع، فيما يختص بالعمليات، هى حكم الله تعالى، وهو أثر خطابه جل شأنه المتعلق بأفعال العباد اقتضاء أو تخييرا أو وضعا.
والله جلت حكمته لم يفوض إلى أحد من عباده، لا إلى رسول ولا نبى ولا إمام ولا ولى ولا إلى غيرهم، أن يشرع للناس من الأحكام ما يريد وأن يحكم بينهم بما يراه هو من عند نفسه وكيف اتفق، وقد نقل القول بالتفويض أو العصمة عن بعض الناس، فمن العلماء من أبقاه على ظاهره وأقام الحجة البالغة على بطلانه، ومنهم من تأوله وحمله على إرادة النظر والاجتهاد.
والإحالة (بمعنى الإسناد فى لغة القانونيين) إلى شريعة أو أحكام أخرى تحل محل أحكام الشريعة الإسلامية أحيانا أو تكمل أحكامها، أمر يحتاج الى شئ من البيان.
فغير المسلمين الكتابيون إذا كانوا من أهل دار الإسلام، اتفق الجميع على أنهم لا يتعرض لهم فى عباداتهم والقيام بشعائر دينهم، أما فيما عدا ذلك فالجمهور على أنهم خاضعون للشريعة الإسلامية فيتعرض لهم إذا خالفوا أحكامها ويقضى بينهم بتلك الأحكام متى كان القضاء بينهم حقا لنا - وهى مسألة اختلافية - وذهب الإمام أبو حنيفة نفسه: إلى أنه لا يتعرض لهم فى معاملاتهم التى لا يتعدى ضررها إلى المسلمين ويقضى بينهم فى ذلك بأحكام دينهم. أما فيما يتعدى ضرره إلى المسلمين، فإنهم خاضعون لأحكام الشريعة الإسلامية، وهذا مجمل مذهبه بوجه عام. وذهب صاحباه إلى عدم التعرض لهم فى ذلك، ولكن يقضى بينهم بأحكام الشريعة الإسلامية.
ومن هذا الموجز يعرف من يقول بالإحالة ومدى قوله بها.
أما العرف فلا توجد إحالة تشريعية إلى أحكامه، فالعرف إنما يلجأ إليه فى معرفة
المقدمة / 16
ما يريده المتكلم من الأيمان والعقود وما إلى ذلك، وفى معرفة قيم المتلفات وأشباهها، وفى الوقوف على الشروط التى يصحح العرف اشتراطها فى العقود.
هذا هو كل ما يلجأ فيه إلى العرف، ولا يلجأ إليه فى معرفة حكم تشريعى ليطبق، وإنما يلجأ إليه فى تكييف الواقعات والنوازل ليطبق عليها الحكم المعروف فى الشريعة، ولا يترك بسببه حكم نص ولا إجماع ولا حكم فقهى لم يكن مبنيا على العرف، وإنما يترك به الحكم الفقهى إذا كان مبنيا على عرف ثم تغير إلى عرف آخر. فاعتبار العرف فى الشريعة الإسلامية ليس من باب الإحالة التشريعية، كما أنه ليس من الأدلة الإجمالية، ولا يعدو أن يكون قاعدة فقهية.
أما شرائع من قبلنا، فالكل متفقون على أن ما لم يروه الشارع لنا لا يكون شريعة لنا، وأن ما رواه لنا وأمرنا باتباعه كان من أحكام شريعتنا، واختلفوا فيما رواه لنا ولم يأمرنا باتباعه، فذهبت طائفة: إلى أن مجرد الرواية يعتبر كالأمر فيكون من شريعتنا، وذهبت طائفة أخرى: إلى أنه لا يكون شريعة لنا. فمسألة شرائع من قبلنا أبعد ما تكون عن موضوع الإحالة وعن أن تكون دليلا إجماليا ومصدرا فقهيا.
والمعتزلة قد ذهبوا: إلى أن العقل يستقل بادراك ما فى الأفعال من حسن وقبح، وبالتالى يستقل بادراك حكم الله الملائم لذلك وإن لم يأت به شرع ولم ينزل به الوحى. فالمصدر الأصلى عندهم للوقوف على حكم الله هو العقل.
أما جمهور المسلمين فعلى أنه لا حكم للعقل وأن حكم الله لا يعرف إلا من قبله، ولا يكون ذلك إلا من طريق الوحى إلى رسول الله ﷺ (الكتاب والسنة) الذى أمر بتبليغه إلى الناس فبلغه.
فالطريق الوحيد إلى ذلك، هو تبليغ الرسول ﵊، فلا عبرة بالإلهام والمكاشفة وأشباهها، فكل هذا لا يكون طريقا لمعرفة حكم الله، لأنه ليس وحيا. والتبليغ إنما يكون من الرسول ﵊ فى يقظة المبلغ إليه، فلا عبرة بتبليغ الأحلام.
أ - المصادر عند الجمهور:
ذهب جمهور الأصوليين والفقهاء إلى أن مصادر الفقه أى أدلته الإجمالية هى الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وقالوا أن المصدر الحقيقى هو الوحى كتابا كان أو سنة، أما الإجماع والقياس فمردهما إليه، وما ذكرا استقلالا إلا لكثرة بحوثهما، وذلك لأن المجمعين لا يضعون أحكاما من عند أنفسهم، ولا يجمعون عن الهوى والتشهى، ولا يكون إجماعهم إلا مستندا لأحد هذين المصدرين.
وكل من الكتاب والسنة قد أديت معانيه بلغة العرب الفصحى، ويخضع فى إفادته لهذه المعانى لأنواع الدلالات اللغوية ومنها دلالة اللفظ بمنطوقه، ومنها دلالة معنى اللفظ ومناط الحكم الذى شرع باللفظ المنطوق، وهذه الدلالة هى القياس. فكل من الإجماع والقياس راجع إلى الكتاب والسنة.
المقدمة / 17
القرآن:
والقرآن هو كتاب الله تعالى الذى أنزله على رسوله محمد ﷺ بلفظة ومعناه، المكتوب فى المصاحف، المنقول عنه ﵊ نقلا متواترا، فغير المتواتر لا يسمى قرآنا. فالقرآن جميعه قطعى الثبوت.
والكتاب الكريم لا كلام لأحد فى حجيته ولا فى أنه أول المصادر الفقهية. وإنما اختلفوا فى مسائل كثيرة تتعلق بالنسخ والعموم والخصوص ومقتضى الأمر والنهى وغير ذلك مما يرجع إلى طرق استفادة الأحكام منه.
السنة النبوية:
سنة رسول الله ﷺ قولا أو عملا أو تقريرا - هى الأصل الثانى من الأدلة الإجمالية والمصادر الفقهية، ولم يتكلم فى ذلك ولم يشكك فيه إلا أهل البدع والأهواء الذين طار بعض المستشرقين فرحا بما ظفروا به من أقوالهم، وضموا إليها ما شاء الله أن يضموا من أخطائهم وتحريفاتهم ومفترياتهم.
أما ذوو الدين والاستقامة من العلماء وسائر المسلمين، فقد أدوا للسنة حقها، ومتى صح الحديث عن رسول الله ﷺ تقبلوه أحسن القبول، ولم يرد أحد منهم حديثا صحيحا، ولم يعمل على خلافه، إلا أن يكون قد خفى عليه ولم يبلغه أو تأوله تأولا يراه صحيحا، أو قدم عليه ما هو أقوى منه عند التعارض. والحق أن مخالفيهم كان له أكبر نصيب فيما تردى فيه أهل البدع والأهواء، وبعض المستشرقين وأشياعهم.
وقد عنى الأئمة بأسانيد السنة وطرق إثباتها وبيان أقسامها، وما يحتج به منها وما لا يحتج، واختلفوا فى كل هذا، كما اختلفوا فى مسائل النسخ المتعلقة بها وفى طرق الدلالة واستفادة الأحكام منها على النحو الذى سبقت الإشارة إليه فى الكتاب الكريم. وأيا ما كان الأمر فالسنة عند الجميع منها قطعى الثبوت ومنها ظنى الثبوت ومنها قطعى الدلالة ومنها ظنيها.
الإجماع:
الإجماع الفقهى هو اتفاق مجتهدى عصر من أمة محمد ﷺ على حكم شرعى عملى استنادا إلى الكتاب أو السنة أو القياس. وهذا ما جرى عليه الأكثرون، وقال النظام وبعض الشذاذ: إلا الإجماع لا يتصور وقوعه، وكذلك كانت بحوث ومناقشات حول الإجماع من بعد الصحابة، وإجماع بعض الصحابة وإجماع أهل البيت، وإجماع فقهاء بعض الأمصار، والأخذ بأقل ما قيل على أنه إجماع على الأقل.
والحق أن الكلام فى إجماع من عدا الصحابة ليس إلا جدلا نظريا، إذ لم يستطع أحد أن يأتى بحكم ثبت بالإجماع بعد عصر الصحابة. أما أصحاب رسول الله ﷺ فقد اجتهدوا واختلفوا واجتهدوا وأجمعوا ودون العلماء مسائل إجماعهم.
وإذا نقل الإجماع من طريق قطعى كان قطعى الثبوت وإلا كان ظنية، وهو قطعى فى دلالته على ما أجمع عليه.
القياس:
للقياس تعريفات مختلفة يطول إيرادها، والأكثرون على أن القياس حجة ودليل من
المقدمة / 18
الأدلة الإجمالية ومصدر فقهى، وقال الأقلون: ليس بحجة، ومنهم النظام والشيعة وأهل الظاهر.
وكان للأصوليين طرائق مختلفة فى تقسيم القياس، وبيان كل قسم منها، والقسم المتفق عليه من القائلين بالقياس، هو قياس العلة.
أما بقية الأقسام ففيها اختلافهم. وعلى القياس يقوم أكثر الفقه الاجتهادى وكله ظنى.
ب - مصادر أخرى:
وقد اعتاد كثير من الأصوليين أن يذكروا مصادر أخرى على أنها مصادر مختلف فيها وهى فى الواقع لا تعدو أن تكون أنواعا من المصادر الأربعة السابقة أو قواعد كلية فقهية محضة.
فيذكرون شرائع من قبلنا، وقد عرفت ما فيها آنفا، وهى إن كانت شريعة لنا فهى من الكتاب والسنة. ويذكرون إجماع الشيخين، وإجماع أبى بكر وعمر وعثمان، وإجماع الأربعة الراشدين، وإجماع أهل البيت، وإجماع أهل المدينة، وإجماع أهل الكوفة، وإجماع أهل البصرة، والأخذ بأقل ما قيل للإجماع عليه من المختلفين، وكل هذه ليست إلا أنواعا من أنواع الإجماع.
ويذكرون الاستحسان والمصلحة المرسلة والاستقراء وهى من أنواع القياس.
ويذكرون الاستصحاب والبراءة الأصلية، وسد الذرائع، والعادة والعرف، وكلها قواعد فقهية وليست دليلا يستند إليه فى استنباط حكم شرعى.
ويذكرون العصمة وهى التفويض الذى سبق الكلام فيه.
وبهذا اتضح أن الدليل الحقيقى والمصدر الوحيد للتشريع الإسلامى والفقه الإسلامى بأجمعه، هو الوحى الإلهى، وأن مرد الإجماع والقياس اليه، وأن المصادر الأخرى ليست مصادر خارجة عن الأربعة أو هى ليست مصادر للفقه.
ج - أسباب اختلاف الفقهاء:
من الاستعراض السابق نفهم فى وضوح أن اختلاف الفقهاء المجتهدين يرجع إلى اختلافهم فى كون المصدر دليلا أو غير دليل، واختلافهم فى ثبوت المصدر أو عدم ثبوته، واختلافهم فى الترجيح عند التعارض، واختلافهم فى أنواع الدلالات وسائر طرق الاستفادة، ثم يأتى بعد كل هذا تفاوتهم فى الإحاطة وفى الأفهام وملكة الاستنباط وكمال الذوق الفقهى.
هذه هى الأمور الرئيسية التى ترجع إليها أسباب اختلاف الفقهاء من غير تفصيل، وهذه الأسباب قد عرض لها ابن حزم فى الأحكام، وابن تيمية فى رفع الملام وقال كل منهما: إنها عشرة، أما الشاطبى فقد روى فى الموافقات: أن ابن السيد وضع فيها كتابا وحصرها فى ثمانية، واكتفى بذكر عناوين الأبواب التى وردت فى ذلك الكتاب.
د - مصدر آخر:
ما سبق إيراده من المصادر هى مصادر الأئمة المجتهدين، أما غير المجتهدين من المقلدين فليس لهم إلا مصدر واحد، هو أقوال الأئمة الذين يقلدونهم وإن كانوا من أصحاب الوجوه وأهل التخريج، أو من أهل
المقدمة / 19
الترجيح، أو من المحصلين المطلعين القادرين على التمييز بين الأقوال الصحيحة والفاسدة والقوية والضعيفة، والراجحة والمرجوحة، فما داموا لم تتوافر لهم الأهلية لأى نوع من أنواع الاجتهاد، فليس لهم أن يرجعوا إلى الكتاب والسنة والإجماع، وليس لهم أن يقيسوا على ما ورد بها من الأحكام، وليس لهم إلا الرجوع الى أقوال أئمتهم ينظرون فيها نظر المجتهد فى الأدلة. ويستنبطون منها ما شاء الله أن يستنبطوا، وما استخرجوه منها يكون أقوالا فى مذهب إمامهم سواء وافقت أقوالا سابقة لفقهاء هذا المذهب، أو لم يسبقها ما يوافقها، ويقضى بهذه الأقوال ويفتى بها ويتبع فى شأنها ما يتبع فى العمل بأقوال مجتهدى المذهب عند اختلاف الرواية.
هكذا قال المتأخرون، وأمعن بعضهم فى هذا فقال: وإن قيل أن ما روى عن الإمام صاحب المذهب ليس قرآنا ولا أحاديث صحيحة. فكيف تستنبط الأحكام منه؟ قيل إنه كلام أئمة مجتهدين عالمين بقواعد الشريعة والعربية مبينين للأحكام الشرعية، فمدلول كلامهم حجة على من قلدهم، منطوقا كان أو مفهوما، صريحا كان أو إشارة، فكلامهم بالنسبة له كالقرآن والحديث بالنسبة لجميع المجتهدين.
قد لا يرضى بعض الناس عن هذا، وقد يمجده آخرون، إلا أن له فضلا عظيما لا يستطيع أحد إنكاره، وهو أنه فتح بابا واسعا لتطور الفقه ومسايرته لأحداث الحياة، بعد أن سادت لدى الجمهور فكرة انقطاع الاجتهاد، لأنه لا يوجد أهله. ومن الناس من لم يفهم الأمر على حقيقته، وسمى هذا الطور طور التقليد وجمود الفقه وشايعه من شايعه.
المقدمة / 20
التشريع والاجتهاد والمذاهب الفقهية
تكلم الأصوليون طويلا فى معنى الاجتهاد والتقليد وفى البحوث المتصلة بكل منها، ولا يعنينا من كل هذا هنا إلا أن نقول: أن القول فى دين الله وشرائع الأحكام بمجرد استحسان العقل من غير دليل لا يكون اجتهادا فقهيا ولا تقليدا، وليس إلا القول بالهوى والتشهى وهو الرأى المذموم الذى صان الله منه أئمتنا وأتباعهم، وما أسرف به بعضهم نحو الآخرين لا يحكى الواقع، وما دفع إلى الوقوع فيه إلا الحمية والتسرع.
وأن الأخذ والعمل بقول من ليس قوله من الحجج والأدلة الشرعية تقليد إذا كان ذلك بلا حجة. والأخذ بلا حجة يشمل العمل بقوله، من غير أن يعرف الآخذ من أين قال ذلك، والأخذ بقوله مع الوقوف على حجته، ولكن الآخذ لا يستطيع أن يستقل باستفادة الحكم من هذه الحجة، أما إن كان أهلا لأن يستقل بهذه الاستفادة لم يكن مقلدا، بل يكون موافقا له فى رأيه.
فمتبعو الأئمة من العامة ومن المتفقهة ومن الفقهاء على اختلاف مراتبهم فى التحصيل والقدرة على النظر فى أدلة من اتبعوا، لكنهم لم يصلوا إلى مرتبة الاجتهاد مقلدون لهم.
وأن اتباع كل ما جاء به رسول الله ﷺ فى حياته واتباع ما علم من الدين بالضرورة، وهو الثابت بنص قطعى أو بإجماع بعد وفاته ﵊ ليس اجتهادا ولا تقليدا.
أما الاجتهاد فى الشريعة فهو استنفاد الطاقة للوصول إلى الحكم من مصدره الشرعى. ومما أسلفنا فى بيان معنى الفقه عند الأصوليين يعرف من هو أهل الاجتهاد.
والاجتهاد يكون على ضريين: اجتهاد لمعرفة حكم الله، واجتهاد لمعرفة محل العمل بحكم الله المعروف.
والضرب الأول قد يكون راجعا إلى حجية الدليل ذاته، أو إلى ثبوته وطريق الوصول إليه، أو إلى قوته وترجحه على ما يعارضه، أو إلى بقاء الحكم أو نسخه.
وقد يكون راجعا إلى دلالة الدليل وفهمه.
وقد يكون راجعا إلى استنباط حكم ما لم ينطق الشارع بحكمه من معنى ما نطق الشارع بحكمه، وهذا الضرب بأنواعه هو الاجتهاد الفقهى الذى دار الجدل حول أن الزمان لا يخلو من وجوده، أو أنه مما يجوز انقطاعه، لعدم وجود أهله، وحول انقطاعه فعلا ووقت هذا الانقطاع.
أما الضرب الآخر فقد يكون راجعا إلى ما يعبر عنه اليوم بالتكييف، ويكون بالنظر فى الحادثة وتعيين النوع الذى هى منه ليطبق عليها حكمه، فالاجتهاد ليس للوصول إلى معرفة حكم لم يكن معروفا، ولكن لتعيين
المقدمة / 21
حكم من الأحكام المعروفة ليعمل به فى حادثة معينة، وهذا ما يسميه الشاطبى تحقيق المناط. ويكون هذا الاجتهاد من المفتى والقاضى، وقد يكون هذا الاجتهاد راجعا إلى إثبات الحادثة المعينة، ليطبق عليها حكمها المعروف، وهو اجتهاد لا يعنى إلا القاضى وحده. وهذا الضرب من الاجتهاد بنوعيه قد وجد. وهو موجود، وهو ماض إلى يوم الدين.
والفقه الإسلامى بالمعنى الشامل وبالنظر إلى اجتهاد الضرب الأول وإلى التقليد.
قد مر بأطوار ثلاثة متعاقبة، وهى طور التشريع، وطور الاجتهاد، وطور التقليد.
أ - طور التشريع:
وطور التشريع الإسلامى هو عصر البعثة المحمدية، عصر الوحى الذى بدأ بمبعث رسول الله ﷺ وانقضى بلحاقه بالرفيق الأعلى، وكانت مدته ثلاثا وعشرين سنة، وكانت أحوال المسلمين الأولين ليست أحوال تشريع أحكام عملية فى أول الأمر، ولم ينزل منها إلا النزر اليسير.
ولما كانت الهجرة إلى المدينة ووجد الإسلام أنصاره وداره، وقامت الدولة الإسلامية بدأ نزول الأحكام العملية، وبدأ التشريع الا سلامى بمعناه الكامل.
وقد سايرت نشأته نشأة الدولة ينمو بنموها، فهو تشريع ليس شأنه كشأن ما يوضع من التشريعات لدولة قد اكتمل تكوينها واستقر بناؤها. فكان نزوله منجما، وكان أكثر أحكامه على التدرج، وكان فيها الناسخ والمنسوخ. وقد روعى فى ذلك عاملان هامان:
أحدهما: أن حملة هذا التشريع الأولين كانوا أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب، وجل اعتمادها على ما تعى وتحفظ، فمن حقها وحين التشريع نفسه أن يكون منجما وفى مناسبات معينة وحوادث معروفة حتى يعين ذلك على حفظه وتثبيته فى النفوس.
وثانيهما: أن ما يصلح للدولة فى أول تكوينها وحداثة عهدها وبدء قوتها قد لا يصلح البعض منه لها بعد أن تبلغ أشدها، ولا لمن يأتى بعد أهلها الأولين ممن يدخلون تحت سلطان هذه الأحكام من الأمم الأخرى، فكان لا بد من التغيير والتبديل، حتى إذا استقر أمر الدولة وأرسيت قواعدها اكتمل تشريعها وأحكمت أحكامه، وكذلك كان.
فما لحق رسول الله ﷺ بالرفيق الأعلى حتى أتم الله دينه وأبرم تشريعه، وصارت الأحكام الشرعية كلها محكمة.
وكان الفقه فى هذا الطور فقه الوحى لا مصدر له سوى الكتاب والسنة النبوية.
وقد اختلف العلماء فيما بعد فى اجتهاده ﷺ وفى اجتهاد أصحابه فى حياته وهو اختلاف فيما نرى ليس ذا شأن يذكر، إذ الوحى موجود فلو وقع اجتهاد منه لوجب أن يقره الوحى أو ينكره، ويكون إذ ذاك هو مصدره وهو ما يؤكده تتبع الحوادث، وليس فى وسع أحد من القائلين بهذا الاجتهاد أن يرشدنا إلى حكم واحد كان من طريق هذا الاجتهاد ولم يقره
المقدمة / 22
الوحى. ولو أن مثل هذا الحكم كان موجودا ما خالف فى هذا الاجتهاد أئمة أعلام.
وما نزل به الوحى من الأحكام الفقهية نوعان عظيمان، أما أحدهما: فهو ما من شأنه ألا يتأثر كثيرا باختلاف البيئات والأقاليم والأعراف والعادات، وتجدد الأحداث وتقلب الظروف، وهذا قد قررت أصول مسائله وفصلت أحكامه تفصيلا وافيا، ومع هذا كان تفصيلا يفسح الطريق للاجتهاد إذا دعا داعيه.
وأما الآخر: فهو ما من شأنه أن يتأثر تأثرا ملحوظا بالعوامل التى أشرت إليها، وهذا كانت له القواعد الكلية المرنة التى تصلح لكل زمان ومكان وبيئة، وتتسع لحاجات الناس، وتفتح للاجتهاد فى أحداثها بابا واسعا.
وهذه الأحكام بنوعيها إنما شرعها الله سبحانه لمصالح العباد تفضلا منه، وتقوم على تحقيق سعادتهم فى الدارين، وتدور مقاصدها على الضروريات التى لا غنى عنها بحال، لإقامة مصالح الدين والدنيا، حتى إذا فقدت اضطربت هذه المصالح وانتشر الفساد وساد الاضطراب، وعلى الحاجيات التى تكفل التوسعة على الناس ورفع المشقة عنهم، ويؤدى فقدانها إلى الاضطراب، غير أنه لا يبلغ ما ينشأ عن فقدان الضروريات، وعلى التحسينيات التى تكفل الأخذ بمحاسن العادات وتجنب ما تنبو عنه الفطرة.
هذا هو واقع تلك الأحكام، وواقع ما تدور عليه مقاصدها، وهذا ما فهمه أهلها وسار ركبهم فى طريقه فأفلح وأنجح، اللهم إلا شرذمة قليلة أنكرت دلالة المعانى، وتنكرت لتعليل الأحكام وللقياس، فيسرت على يوسف شخت المستشرق اليهودى وعلى أمثاله من قبله أن يفتروا الكذب على التشريع الإسلامى، وأن يقولوا أن شرع الله لا يمكن إدراك أسراره بالعقل، فهو تعبدى أى أن الإنسان يجب أن يقبله مع تناقضه وأحكامه التى لا يدركها العقل من غير نقد وأن يعد ذلك حكمة لا يمكن إدراك كنهها إلى آخر ما جاء به من المفتريات التى لا يتردد قارئها فى أنه يصف بها دينا آخر وأسرارا أخرى. ولقد افترى هذا وهو عالم بحقيقة كل شئ وقد تقلب بيننا فى القاهرة طويلا وحاضر وناقش وفهم كل شئ على حقيقته.
ولا ريب أن التشريع الإسلامى استبقى المحمود من عادات العرب وأقره، ولا فى أنه قضى قضاء مبرما على أكثر ما هو ممقوت منها، وسلك بباقيها سنة التدرج حتى ذهب ريحه. وتلك هى الطريقة المثلى، وسنة كل تشريع حكيم يراعى الصالح فيما يقرره من الأحكام.
كما أنه لا ريب فى أن التشريع الإسلامى امتداد لما قبله من الشرائع السماوية الحقة، التى تكون دينا واحدا ساير الإنسانية فى نموها وتطورها حتى إذا بلغت أشدها كانت الخاتمة الملائمة هى ما استقر عليه التشريع الإسلامى وتم به دين الله، والكتاب الكريم ينطق بهذا فى مواطن كثيرة، فلا غضاضة على هذا التشريع إن هو أقر عادات محمودة صالحة للبقاء أو كانت فيه آثار الشرائع الإلهية السابقة، فذلك من كماله ومن أفضل محاسنه.
المقدمة / 23