إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز
تأليف / بديع الزمان سعيد النّورسي
الكتاب عبارة عن نظرات للأستاذ سعيد النورسي في كتاب الله تعالى
تنم عن بصيرة نافذة، ومعرفة كلامية وبلاغية عميقة، وذوق ذاتي رفيع، ومنهج عقلي سديد
تحقيق / إحسان قاسم الصالحي
Shafi da ba'a sani ba
بِسْم الله الرّحمن الرّحيم
المقدمة١
الدكتور محسن عبد الحميد
استاذ التفسير والفكر الاسلامي
جامعة بغداد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من اُنزل عليه القرآن الحكيم محمد بن عبد الله خاتم الانبياء والرسل، وعلى آله واصحابه والتابعين لهم باحسان الى يوم الدين.
اما بعد:
فيكاد يجمع المنصفون من العلماء والدارسين المطلعين على تطور اوضاع المسلمين في العصور الاخيرة، ان الاستاذ الجليل بديع الزمان سعيد النورسى، كان شخصية اسلامية كبيرة، صادق الايمان، عظيم الاخلاص، عزيز النفس، عارفًا بحقائق التوحيد، نابغة من نوابغ الزمان، غزير العلم، نافذ الفكر، داعية ثبتًا الى الله تعالى على بصيرة، حمل هموم المسلمين منذ شبابه، وقضى حياته في الجهاد الدائب في سبيل توضيح عقيدة الاسلام وبيان علل احكامه، ودحض الافكار المنحرفة والفلسفات الجاحدة المناقضة له والتخطيط العملي لاجل انقاذ المسلمين من الغزو الفكري الجارف الذي تعرضوا له منذ اوائل القرن الرابع عشر الهجري، بل قبله.
_________
١ ثبتنا مقدمة الدكتور محسن عبد الحميد التى قدّمها مشكورًا للطبعة الاولى المطبوعة في العراق سنة ١٤٠٩هـ - ١٩٨٩م - المحقق.
1 / 4
ولقد لقى، رحمه الله تعالى في سبيل ذلك مالقى، مما ليس جزاؤه الا عند الله تعالى البصير بعباده الصالحين واوليائه الصادقين وعلمائه المجاهدين، الذين صدقوا العهد مع الله تعالى، ولم يخشوا فيه سبحانه لومة لائم.
وهذا الكتاب الذي بين يديك - قارئي العزيز - جليل القدر، رصين السبك، قوي الحجة، يمثل اجلى تمثيل القدرة السَرَيانية الفائقة للاستاذ النورسى، وراء المعاني الدقيقة في كتاباته كلها، لاسيما العلمية المختصة منها. ولقد كانت تلك موهبة عبقرية، وهبه الله تعالى اياه، لينظر في كتاب الله تعالى من خلالها ببصيرة نافذة، ومعرفة كلامية وبلاغية عميقة، وذوق ذاتي رفيع، ومنهج عقلي سديد، يلتمس الكشف عن الحقيقة، ويبغي ايصال الانسان الى اقتناع كامل بكون هذا القرآن معجزًا، بحيث يجد العقلاء والفصحاء في انفسهم ضرورة الايمان والاعتراف بانه الكتاب الحق الذي نزل من عند علام الغيوب على رسوله الاكرم محمد بن عبد الله عليه افضل الصلاة وازكى التسليم، كي يضع الانسانية على طريق دعوة الحق، وينور بصيرتها بنور الايمان، وادراك اليقين للوصول الى العبودية الخالصة لرب العالمين.
لقد استطاع الاستاذ النورسى ان يصقل موهبته الفذة بدراسة العلوم الاسلامية والفلسفات القديمة والعلوم الانسانية والصرفة المعاصرة، زيادة على اطلاعه الواسع على الادب والبلاغة العربية في كتب امثال الجاحظ والزمخشري والسكاكي لاسيما كتب النحوي البلاغي الكبير الامام عبد القاهر الجرجاني حيث آمن بنظريته المشهورة في النظم واعجب بها ايما اعجاب في هذا الكتاب.
ولم تكن نظرية النظم جديدة اخترعها الجرجاني من غير مقدمات، وانما لفت النظر اليها الجاحظ في كتابه نظم القرآن والواسطي في كتابه اعجاز القرآن في نظمه والباقلاني في كتابه اعجاز القرآن غير ان الجرجاني شرحها شرحا نحويا بيانيا وافيا مترابطا وصاغ منها نظرية متكاملة تقوم على اساس عدم الفصل بين اللفظ ومعناه وبين الشكل والمضمون وقرر ان البلاغة في النظم لافي الكلمة المفردة ولا في مجرد المعاني، دون تصوير الالفاظ لها. وبناء على ذلك فانه يعرّف النظم بانه: تعليق
1 / 5
الكلمة بعضها على بعض، وجعل بعضها بسبب من بعض، اي تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه واصوله وتعرف مناهجه فلا تزيغ عنها.
وكأني بالاستاذ النورسى درس نظرية النظم هذه دراسة متقنة ثم ظهر له ان المفسرين الذين سبقوه كالزمخشري والرازي وابي السعود لم يحاولوا تطبيقها من حيث هي منظومة متكاملة تشمل ترتيب السور والآيات والالفاظ سورة بعد سورة وآية بعد آية ولفظا بعد لفظ، بتفاصيلها الكاملة فاراد ان يقتدي بهؤلاء المفسرين العظام فيؤلف تفسيرًا يطبق فيه نظرية النظم تطبيقًا تفصيليًا شاملًا من حيث المباني والمعاني ومن حيث المعارف اللغوية والعقلية والذوقية، الكلية منها والجزئية، والتي اعتمد عليها في الكشف عن تفاصيل المنظومة القرآنية التي بها يظهر الاعجاز، وتتكشف دقائق خصائص الاسلوب القرآني التي خالفت خصائص التعبير العربي البليغ قبله، والتي حيرت البلغاء واخرست الفصحاء، ليحق عليهم التحدي المعجز الى يوم القيامة.
ولم تتوجه جهود النورسى الى بيان نظرية النظم، مقدمة لاثبات اعجاز القرآن البلاغي فحسب، بل اتجهت كذلك الى التغلغل في معاني الآيات، حيث اراد بناءها تفصيلًا على المرتكزات العقلية للوصول الى اظهار العقائد الاسلامية وارتباطها بحقائق الوجود.
ومن الواضح جدا لمن تأمل في الكتاب وترتيبه، انه كان يريد ان يؤلف تفسيرًا كاملًا في هذا الاتجاه. ولو قدر للاستاذ - رحمه الله تعالى - ان ينهي عمله العظيم هذا كاملًا، اذن لقدّم تفسيرًا بلاغيًا وعقليًا كاملًا شاملًا، كان جديرًا بان يأخذ منه عمره كله حيث كان من المحقق ان يحوي حينئذ عشرات المجلدات الضخام، لو انه مشى في ضوء منهجه هذا الذي نقرأه في هذا الكتاب.
ولكن الله ﷾ قدّر له الافضل من ذلك اذ وفقه لعمل اجلّ من ذلك واعظم. عمل استطاع فيه ان يضع مسلمي بلده في ظروف عصره في مواجهة القرآن الكريم، دون اشغالهم بقضايا بلاغته واعجازه اللغوي والتي لم تكن مشكلة عصره
1 / 6
من خلال التحقيق في جزئيات دقيقة لا يقوى على فهمها الا الخواص جدًا. وكان من المؤكد حينئذ ان يبقى الجمهور الاعظم من المسلمين في عصره بمعزل عن الاستفادة من مواهبه الفذة وحماسه الايماني المنقطع النظير، وكذلك بمعزل عن الصراع الفكري الحضاري الرهيب غير المتكافئ مع الغزو الفكري المادي الجاحد، الذي بدأ يتسلل رويدًا رويدًا الى الحياة الاسلامية حتى تصدر السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والفن والاعلام في كثير من بلاد الاسلام.
من اجل ذلك، وقف النورسى عند هذا المجلد من التفسير، ودفعته ظروف عصره وبلده الى اتون الصراع، ولكن في قالب جديد ممثلا بسعيد الجديد سمتُه الهدوء، والتدرج، والبناء، والنفوذ المحكم الى عقول المسلمين وقلوبهم دون صراخ عاطفي او تهريج مدمر، او صدامات فوقية، لم يكن الوضع الاسلامي يومئذ مهيئا لها ويقوى فيها على مجابهة الاعداء الاقوياء في الداخل والخارج.
لقد كان اسلوب رسائل النور في وضوحه الحاسم، وهدوئه العلمي الباهر، وبيانه الذوقي الرفيع، وحججه العقلية الدامغة هو البديل العصري الذكي لاسلوب اثبات اعجاز القرآن اللغوي والبياني والعقلي من خلال نظرية النظم، لان ما اثاره الاعداء لم يكن يتصل بالطعن في بلاغة القرآن او مناقشة ما يتعلق باعجازه او بتناسب سوره وآيه وكلماته. وانما كان يركز على شن هجوم عام شامل على اصول الايمان، وحكمة التشريعات، ومحاولة تفكيك النظام الاخلاقي الذي جاء به القرآن الكريم.
لقد وعى الاستاذ النورسى التغييرات الهائلة التي احدثها الصراع الجديد فتوجّه اليها بحقائق القرآن التي قدمها من خلال اصول المنطق العقلي الفطري وعلوم ومعارف عصره.
انه استطاع ان يثبت من خلال جزء كامل من هذا الكتاب اعجاز القرآن الكريم وبرهن للدارسين وطلاب الحقيقة، انه من السهل ان يستمر في ضوء منهجه العلمي والعقلي والذوقي الرفيع الى النهاية، اذن فليكن هذا كافيا، وليتوجه بكليته وبقية
1 / 7
حياته العامرة الى القضية الاساس، وهي انقاذ ايمان المسلمين في عصر الصراع الاعلامي الرهيب، فأنتج في هذا المجال ايما انتاج من خلال عشرات الكتب والرسائل التي وجهها الى النشئ الجديد، لإلحاق الهزيمة العقيدية والفكرية باعداء الاسلام من الملاحدة وارباب التغريب.
على انني اظلم هذا الكتاب اذا ادعيت انه خلا من منهج مواجهة الصراع الجديد، بل ازعم هنا - على قدر ما لي من علم بافكار النورسى من خلال قراءتى لبعض رسائله في عهده الجديد - انه مامن فكرة شرحها او بسطها او مثَّل عليها الا تجد لها بذورًا موجزة او مفصلة في هذا الكتاب العلمي الرصين الذي بين يديك، لاسيما في عرض اصول العقائد الاسلامية باسلوب عصري علمي. غير انه اتجه في كتابه هذا الى مخاطبة خاصة تلامذته من خلال دمج المصطلحات الكلامية القديمة ببدايات منهجه الجديد الذي استقر عليه فيما بعد في رسائل النور.
ولعل هذا هو سر تسمية رسائل النور بانها تفسير حقيقي للقرآن الكريم، والحق ان تفسير القرآن ومخاطبة المسلمين بآياته لم يبارح قط فكر النورسى الى آخر لحظة من لحظات حياته الحافلة بالمحن والاحزان، والعلم والدعوة الى التمسك بكتاب الله وسنة نبيه ﷺ.
ان نشر هذا الكتاب بثوبه الجديد هذا سيضع نموذجًا تحليليًا بلاغيًا رائعًا امام المهتمين بالدراسات الاعجازية والبلاغية والنقدية المعاصرة. لاسيما في الاوساط العلمية. وسيجد المهتمون بدراسات العقائد الاسلامية من وجهة المنطق العقلاني زادهم فيه من خلال المباحث العقلية والعلمية العميقة التي قدمها الاستاذ تعليقًا على الايات التي حللها من اوائل سورة البقرة.
لقد احسن الاستاذ الفاضل احسان قاسم الصالحي بتحقيقه هذا الكتاب من جديد، حيث اغناه بتدقيقاته المفيدة وشروحه القيمة في الحواشي، وهذا فضل يكمل به افضاله السابقة على قراء العربية حين قضى سنوات عدة في ترجمة مجموعة متنوعة من رسائل النور التي دبجها يراع الامام الممتحن سعيد النورسى حجة الاسلام بحق في حياة تركيا الحديثة.
1 / 8
فجزى الله الاستاذ النورسى خير الجزاء ونفع المسلمين بعلمه وحججه الدامغة وكلماته النورانية الصادقة في خدمة كتاب الله تعالى وسنة رسوله الاكرم ﷺ.
وفي ختام هذه الكلمات ادعو الله تعالى ان يوفق المحقق الكريم الى تقديم ترجمة كاملة لرسائل النور الى قراء العربية المجيدة.١
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
د. محسن عبد الحميد
كلية التربية - جامعة بغداد
٢ شعبان ١٤٠٧هـ
_________
١ لقد استجاب المولى الكريم هذا الدعاء وامثاله من الدعوات الخالصة لاخوة كرام بررة فوفقنا لترجمة كاملة لكليات رسائل النور وطبعها ونشرها، فالحمدلله اولًا وآخرًا - المحقق.
1 / 9
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ
هذا التحقيق ١
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد؛
ففي ايام قاحلة وشهور عجاف اكرمني الله العلي القدير بقراءة هذا التفسير الجليل قراءة لا ارجو من ورائها سوى شرح للصدر، وتغذية للروح وتنضير للذهن.
كررت قراءته مرات ومرات، فاطفأ - باذن الله - ظمأ القلب بعذبٍ برود.. ولكن..
ولكن لمست انه بحاجة الى تنسيق جديد وتحقيق سديد ليسهل تناوله ولا يتعذر فهمه لكل من يريد ان يستفيد.
وشاء القدر الإلهي ان يأتيني اخ كريم بنسخة مخطوطة منه واخر بطبعته الاولى، وقد كنت احتفظ بترجمته التركية وبطبعته الثانية والاخيرة.. فاستجمعت العناصر الاولى للتحقيق. فايفاءًا لشكره تعالى على ما أنعم عليّ واعدادًا لنسخة جيدة من هذا التفسير الجليل هممت ان اقوم بتحقيقه، ولكن..
ولكن قصوري، وقلة خبرتي، وضخامة الموضوع، وجلال المقام، وخشية الزلل.. كانت تكّفني عن القيام بالتحقيق.. بيد ان النظر الى ما عند الله، وفضله العميم، والثقة به، وحسن القصد اليه في خدمة كتابه العزيز.. كانت تدفعني الى العمل.. فتخليت عن الإحجام ولازمت الإقدام متوكلًا على العلي العلام، وسرت بخطوات متئدة، كالآتي:
_________
١ ابقيت هذه المقدمة للتحقيق على ما هي عليه في الطبعة الاولى المطبوعة في العراق سنة ١٤٠٩هـ - ١٩٩٣م. الاّ ما استوجب من حذف واضافة ليوافق هذه الطبعة. - المحقق.
1 / 10
اولًا: قابلت بين النسخ التي توفرت لديّ وهي:
أ - نسخة بخط (الملا عبد المجيد النورسي) ١مصححة من قبل المؤلف نفسه. فأعتبرتها الأساس في التحقيق٢.
ب - الطبعة الاولى من الكتاب، المطبوع سنة ١٣٣٤ في مطبعة (اوقاف اسلامية) باستانبول ومصححة من قبل المؤلف وعليها بعض الهوامش بخط يده. وقد رمزت اليها بـ (ط١) .
ج - مخطوط بخط السيد (طاهر بن محمد الشوشي) ٣ انتهى منه سنة ١٣٧٣هـ، وضم فيه تعليقات واستدراكات جيدة على النسّاخ، مع وضع لعناوين صغيرة لاهم الموضوعات في الصفحة، وقد رمزت اليه بـ (ش) . فكل اضافة او تعليق مذيل بـ (ش) هو منه.
د - الترجمة التركية له، والتي قام بها (الملا عبد المجيد النورسى) ونَشرَتْها (دار سوزلر في استانبول) سنة (١٩٧٦) . وقد رمزت اليها بـ (ت) .
هـ - تحقيق قام به الشيخ صدرالدين البدليسي، حيث وضع بعض الهوامش وصحح اخطاء مطبعية، فرمزت اليها بـ (ب) .
_________
١ وهو شقيق الاستاذ النورسى، كان مدرسًا للغة العربية، ثم مفتيًا، ثم مدرسًا للعلوم الاسلامية في المعهد العالي في قونيا، ترجم كثيرًا من رسائل النور الى العربية، وترجم اشارات الاعجاز والمثنوى العربي النوري من العربية الى التركية. توفي سنة ١٩٦٧ عن ثلاث وثمانين سنة من العمر. تغمده الله برحمته الواسعة.
٢ هذه النسخة مع مجموعتين كامتلتين من كليات رسائل النور المستنسخة باليد والمصححة من قبل المؤلف قد بعثها المؤلف سنة ١٩٥١م الى مدينة "أورفة " داخل صندوقين، وهي محفوظة الأن لدى الدكتور عبد القادر بادللي، الذي تتلمذ على الأستاذ النورسي وزاره مرات كثيرة، وسعى في نشر الرسائل وما زال وترجم "المثنوي العربي النوري " ورسائل اخرى الى اللغة التركية، وله مصنفات عدة منها: حياة الأستاذ النورسي (٣مجلدات) ومصادر الآيات والأحاديث الشريفة الواردة في رسائل النور، وغيرهما. مع مقالات كثيرة. وهو الذي يسّر لنا الإطلاع على النسخة الأصلية لـ "إشارات الإعجاز " فجزاه الله خيرًا على عمله النبيل.
٣ وهو من قرية "شوش " التابعة لقضاء "عقرة " في شمالي العراق. قرأ العلوم الاسلامية وتضلّع بها. نذر خطه الجميل لرسائل النور، ولاسيما لاشارات الاعجاز، حيث كتب منها اربع نسخ علاوة على ما استنسخه من الرسائل المترجمة في وقته حتى كان يستنسخ بعضها في ضوء القمر. من تأليفاته "رياض النور " في سيرة الرسول الاعظم ﷺ في ثلاثة عشر ألف بيت باللغة الكردية. توفي سنة ١٩٦٢ عن اربع واربعين سنة من العمر. أسكنه الله فسيح جناته.
1 / 11
و- الطبعة الاخيرة المطبوعة في مؤسسة الخدمات الاجتماعية في بيروت سنة ١٣٩٤ (١٩٧٤) وقد لاحظت فيها:
١- ترجمة السيد عاصم الحسيني لمقدمة الكتاب التي كتبها الاستاذ النورسى بالتركية، اقتصرت على قسمٍ منها، فاجريتُ فيها تغييرات طفيفة لتفي بمراد المؤلف، ثم اتتمت ترجمة بقية المقدمة.
٢- كلمة ثناء او (تقريظ) للشيخ صدرالدين البدليسي، وهي كلمة قيمة لبيان ظروف تأليف التفسير، ومقارنته مع تفاسير اخرى مشهورة، فأبقيتها كما هي.
٣- هناك في ختام الكتاب ثلاث عشرة شهادة من شهادات الفلاسفة وعلماء اوربا حول أحقية القرآن، اهملتُها لركاكة ترجمتها اولًا ولعدم عثوري على اصولها كي اترجمها مجددًا، ووضعت بدلًا منها ما قدّمه الاستاذ الدكتور عمادالدين خليل مشكورًا فصلًا من كتابه القيم قالوا عن الاسلام وهو الفصل الاول الخاص بالقرآن الكريم، فألحقناه كاملًا بالكتاب، فجزاه الله خيرًا على عمله الجليل.
ثانيًا: وبعد المقابلة او في اثنائها صححت الاخطاء المطبعية والاملائية، مع تشكيل وضبط الكثير من الكلمات، ثم عزوت الآيات الكريمة الى سورها. وخرّجت الاحاديث الشريفة الواردة فيه من الكتب المعتمدة المتوفرة لديّ، وبمساعدة الاخ الكريم فلاح عبد الرحمن. وتركنا قسما من الاحاديث كما هو، لعل الله يهئ لنا من المصادر الحديثية ما نتمكن من تخريجه، او يرشدنا اليه علماؤنا الافاضل.
ثالثًا: راجعت امهات القواميس كالمحيط والمصباح ومختار الصحاح وغيرها لتفسير بعض ما استغلق عليّ من كلمات..
رابعًا: استخرجت الامثال الواردة فيه، وقابلتها مع اصولها في مجمع الامثال للميداني.
1 / 12
خامسًا: وضحت بعض ما أُبهم عليّ من العبارات، استنادًا الى الترجمة التركية، حيث جاءت فيها تلك العبارات اكثر وضوحا. وادرجتها في الهامش مع تذييلها بـ (ت) ورقم الصفحة.
سادسًا: استشكلت عليّ امور نحوية ومسائل لغوية. اضطرتني الى مراجعة امهات الكتب اللغوية كالمغني والاشموني وغيرهما، حتى اطمأن القلب وحصلت القناعة التامة بان ما اقره الاستاذ النورسى هو الصواب، او فيه جواز، وان ما الفته وتعلمته من قواعد النحو ما هو الا النزر اليسير من بحر محيط عظيم بل ما هو الا الوجه الشائع من بين وجوه كثيرة.
وبعد الفراغ من العمل بتوفيق الله ﷾، وضعت كل ماقمت به بين يدي اخي الاستاذ الدكتور محسن عبد الحميد ليدلني على عثراتي ويبصرني على ثغرات العمل؛ اذ هو الذي صاحَبَ الرازي سنين، ولازم الالوسى سنين اخرى، وخَبَر اصول التفسير وضوابطه درسا وتدريسًا لسنين طويلة، ومازال، فكلل جهدي جزاه الله خيرًا بمقدمة وافية شافية.
وبعد:
فلقد بذلت ما بوسعى في تحقيق الكتاب، ولست زاعما اني اوفيت حقه، ولكن حسبي انني حاولت، وبذلت ما استطعت ابتغاء ان يكون من العمل الصالح عندالله، ورجاء ان تنالي دعوة خالصة ممن ينتفع به.
والله نسأل ان يوفقنا الى حُسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل.
وصلّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
احسان قاسم الصالحي
ليلة النصف من شعبان سنة ١٤٠٧
1 / 13
اشارات الاعجاز
في
مظان الايجاز
تأليف
بديع الزمان سعيد النورسي
تحقيق
احسان قاسم الصالحي
1 / 14
باسمه سبحانه
كلمة
لستة من طلاب النور
لقد درسنا على استاذنا الفاضل قسمًا من تفسيره الموسوم "اشارات الاعجاز" الذي ألّفه قبل اربعين سنة اثناء الحرب العالمية الاولى، حينما كان يؤدي فريضة الجهاد في الخط الامامي لساحة القتال واحيانًا كان على صهوة جواده.
ونحن مع قصر فهمنا بدقائق اللغة العربية واسرار البلاغة، فقد ادركنا عندما قرأنا هدا التفسير على يد استاذنا الفاضل انه تفسير بديع وخارق للعادة، فرأينا من الانسب ان نذكر النقاط الاربع الآتية حول بيان هذا التفسير للاعجاز النظمي فحسب من وجوه الاعجاز للقرآن الكريم:
النقطة الاولى:
ان معانى القرآن الكريم معانى شاملة كلية وعامة لا تقتصر على طائفة معينه او على معنى جزئي، بل يقدم اطيب الاغذية طرًا وألذها طعمًا الى الوف الطبقات المتباينة من الجن والانس، فيوفي حاجة افكارهم ويشبع عقولهم ويغذى قلوبهم وينمي ارواحهم، كل بما يليق به؛ وذلك لانه وحي سماوي وخطاب صمداني يخاطب الله سبحانه جميع طبقات البشر المصطفين خلف الاعصار، فيجيب عن اسئلة واستفسارات جميع الطوائف ويلبي حاجاتهم كلها؛ فلا غرو انه كلام رب العالمين، صادر من ارفع مراتب الربوبية المطلقة.
النقطة الثانية:
ان الفاظ القرآن الكريم التي هي بمثابة الاصداف لنفائس لآلئ المعاني الكلية الشاملة، والتي نزلت من صفة الكلام الازلي وخاطبت جميع الاعصار وجميع البشرية، لا ريب انها كلية جامعة. وقد لمسنا في هذا التفسير قسمًا من الاعجاز - القطعي الثبوت - في كل حرف من حروف ذلك الكتاب الحكيم والتي يثمركل
1 / 15
منها عشر حسنات او مائة او الفًا او الوفًا بل في الاوقات المباركة - كليلة القدر - ثلاثين الف ثمر من ثمرات الجنة.
النقطة الثالثة:
ان الحسن والجمال اللذين يلمعان في مجموع الشئ، لا يتحريان في كل جزء من اجزائه، ولا يعدّ نقصًا ما لم يشاهد ذلك الجمال في الجزء. ومع هذا فان الاعجاز النظمى الذي نراه في جميع سور القرآن الكريم وفي آياته نراه بنمط آخر عندما ندقق ونحلل هيئات وكيفيات كلماته وجمله. وهذا التفسير المؤلف بالعربية يبين منبعًا من المنابع السبعة لاعجاز الكتاب الحكيم، الا وهو الجزالة الخارقة في الفاظه مبينًا ادق فروعه واخفى اسراره. فلا شك انه لا يعد اسرافًا - بل هو حقيقة - اهتمام "اشارات الاعجاز" بكل حرف من حروف القرآن العظيم التي يثمر كل منها عشرًا من الحسنات بل يرتقى الثواب ثلاثين الفًا في بعض الاوقات.
النقطة الرابعة:
ان معانى القرآن الحكيم لها جامعية واسعة وكلية شاملة وذلك لصدوره من الكلام الازلى وخطابه جميع الطبقات البشرية في جميع الاعصار لذا لا تنحصر تلك المعاني على مسألة واحدة كما هي في الانسان بل هي كالعين الباصرة تنظر الى اوسع المدى. فيضم الكلام الازلى ضمن نظره المحيط جميع الازمان وجميع البشرية بطوائفها كافة.
فبناء على ما اسلفناه نقول: ان جميع الوجوه التي اوردها المفسرون في كتبهم التى تفوق العد وما استنبطوه من المعاني المشتمل عليها الكتاب الكريم صراحة او اشارة او رمزًا او ايماءً او تلويحًا او تلميحًا مرادة ومقصودة بالذات من الكتاب الكريم، شريطة ان لا تردها العلوم العربية وان تستحسنها البلاغة وان يقبلها علم اصول مقاصد الشريعة.
طاهري، زبير، صونغور، ضياء، جيلان، بايرام.
1 / 16
بسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمْ
مقدمة الترجمة التركية
تنبيه
لقد تم تأليف تفسير اشارات الاعجاز في السنة الاولى من الحرب العالمية الاولى على جبهة القتال بدون مصدر او مرجع. وقد اقتضت ظروف الحرب الشاقة وما يواكبها من حرمان أن يُكْتب هذا التفسير في غاية الايجاز والاختصار لاسباب عديدة.
وقد بقيت الفاتحة والنصف الاول من التفسير على نحو اشد اجمالا واختصارا:
أولًا: لان ذلك الزمان لم يكن يسمح بالايضاح، نظرًا الى ان (سعيدًا القديم) كان يعبّر بعبارات موجزة وقصيرة عن مرامه.
ثانيًا: كان (سعيد) يضع درجة افهام طلبته الاذكياء جدًا موضع الاعتبار. ولم يكن يفكر في فهم الآخرين.
ثالثًا: لما كان يبيّن أدق وأرفع ما في نظم القرآن من الايجاز المعجز، جاءت العبارات قصيرة ورفيعة.
بيد انني أجَلت النظر فيه الآن بعين (سعيد الجديد) . فوجدت ان هذا التفسير بما يحتويه من تدقيقات، يعدّ بحق تحفة رائعة من تحف (سعيد القديم) بالرغم من اخطائه وذنوبه.
ولما كان (اي سعيد القديم) يتوثب لنيل مرتبة الشهادة اثناء الكتابة، فيكتب مايعنّ له بنية خالصة، ويطبق قوانين البلاغة ودساتير علوم العربية، لم استطع ان اقدح
1 / 17
في اي موضع منه، اذ ربما يجعل الباري ﷿ هذا المؤلَّف كفارة لذنوبه ويبعث رجالًا يستطيعون فهم هذا التفسير حق الفهم.
ولولا موانع الحرب العالمية، فقد كانت النيّة تتجه الى ان يكون هذا الجزء وقفًا على توضيح الاعجاز النظمي من وجوه اعجاز القرآن، وان تكون الاجزاء الباقية كل واحد منها وقفًا على سائر اوجه الاعجاز.
ولو ضمت الاجزاء الباقية حقائقَ التفسير المتفرقة في الرسائل لأصبح تفسيرًا بديعًا جامعًا للقرآن المعجز البيان.
ولعل الله يبعث هيئة سعيدة من المنورين تجعل من هذا الجزء ومن الكلمات والمكتوبات الست والستين، بل المائة والثلاثين من اجزاء رسائل النور مصدرًا، وتكتب في ضوئه تفسيرًا من هذا القبيل. (*)
سعيد النورسي
(*) ان هذا التفسير القيم بين دفتيه نكاتٍ ١ بلاغية دقيقة، قد لايفهمها كثير من القراء، ولايعيرون لها اهتمامهم، ولاسيما ما جاء ضمن الآيتين اللتين تصفان حال الكفار والآيات الأثنتى عشرة الخاصة بالمنافقين.
ان ذكر نكات دقيقة في تلك الآيات والاقتصار على بيان دقائق دلالات الفاظها وبدائع اشاراتها باهتمام بالغ، من دون تفصيل لماهية الكفر، مع تطرق يسير الى الشبهات التي يلتزمها المنافقون - خلافًا لما جرى في سائر الآيات من تحقيق وتفصيل - اقول ان سبب ذلك كله نلخصه في نكات ثلاث:
النكتة الاولى:
لقد احسّ سعيد القديم - بفيض من القرآن الكريم - انه سيظهر في هذا الزمان المتأخركفار لا يهتدون بكتاب ومنافقون من الاديان السابقة، كما ظهروا في بداية الاسلام، فاكتفى ببيان النكات الدقيقة لتلك الآيات من دون ان يخوض في حقيقة
_________
١ النكتة: هى مسألة لطيفة اُخرجت بدقة نظر وإمعان فكر، وسميت المسألة الدقيقة نكتة لتأثير الخواطر في استنباطها - "التعريفات للجرجاني".
1 / 18
مسلكهم وبيان نقاط ارتكازهم، بل تركها مجملة دون تفصيل، لئلا يعكّر صفو اذهان القراء الكرام. ومن المعلوم ان نهج رسائل النور هو: عدم ترك أثرٍ سئٍ مهما كان في ذهن القارئ، اذ تجيب اجوبة قاطعة على الشبهات التي يثيرها اعداء الاسلام من دون ان تذكر الشبهة نفسها - بخلاف سائر العلماء - فتسد بهذا دخول اية شبهة كانت في ذهن القارئ. فانتهج سعيد القديم في تفسيره هذا مسلك رسائل النور، فأولى اهتمامه بالجانب البلاغي لتلك الآيات وبيان الفاظها واشاراتها لئلا يكدّر الاذهان ويعكر صفوها.
النكتة الثانية:
لما كانت قراءة كل حرف من القرآن الكريم فيها عشر حسنات أو مائة حسنة أو ألفًا من ثمرات الآخرة أو الوفًا منها، فلا يعدّ اذن ايضاح سعيد القديم لنكات دقيقة تخص كلمات القرآن الكريم اسرافًا في الكلام، اذ رغم دقة الاهداب وصغر بؤبؤ العين فإن لهما اهمية عظمى. فلقد احسّ سعيد القديم في النكات البلاغية مثل هذه الاهمية، لذا لم تثنه شراسة المعارك وهول الحرب في الجبهة الامامية عن املاء ادق النكات القرآنية على تلاميذه.
النكتة الثالثة:
ان الترجمة التركية لهذا التفسير لم توف بلاغته الفائقة حق الوفاء، بل جاءت مختصرة في مواضع عدة. وسنلحق بها - باذن الله - التفسير العربي رفعًا لهذا النقص ما لم يكن من مانع. فيرجى بذل المستطاع ليكون طبعه مطابقًا للاصل محافظًا على توافقاته الرائعة التي لم تمسها ارادة انسان، وذلك لئلا تضيع علامات قبوله.
سعيد النورسي
1 / 19
افادة المرام
اقول: لما كان القرآنُ جامعًا لأشتات العلوم وخطبةً لعامة الطبقات في كل الاعصار، لا يتحصّل له تفسير لائق من فهم الفرد الذي قلما يخلُص من التعصب لمسلكه ومشربه؛ اذ فهمُه يخصُّه ليس له دعوة الغير اليه إلاّ ان يُعدّيه ١ قبول الجمهور. واستنباطُه - لا بالتشهي - له العمل لنفسه فقط، ولا يكون حجةً على الغير إلاّ ان يصدّقه نوعُ اجماع.
فكما لابد لتنظيم الاحكام واطرادها ورفع الفوضى - الناشئة من حرية الفكر مع اهمال الاجماع - من وجود هيئة عالية من العلماء المحققين الذين - بمظهريتهم لأمنية العموم واعتماد الجمهور - يتقلدون كفالة ضمنية للامة، فيصيرون مظهر سرَّ حجِّيةِ الاجماع الذي لاتصير نتيجةُ الاجتهاد شرعًا ودستورًا الاّ بتصديقه وسكّته ٢؛ كذلك لابد لكشف معاني القرآن وجمع المحاسن المتفرقة في التفاسير وتثبيت حقائقه - المتجلية بكشف الفن ٣ وتمخيض الزمان - من انتهاض هيئة عالية من العلماء المتخصصين، المختلفين في وجوه الاختصاص، ولهم مع دقةِ نظر وُسْعةُ ٤ فكرٍ لتفسيره.
نتيجة المرام:
انه لابد ان يكون مفسر القرآن ذا دهاء عال واجتهاد نافذ وولاية كاملة. وماهو الآن إلاّ الشخص المعنوي المتولد من امتزاج الارواح وتساندها وتلاحق الافكار وتعاونها وتظافر القلوب واخلاصها وصميميتها، من بين تلك الهيئة. فبسر للكل حكمٌ ليس لكلٍ كثيرًا مايُرى آثارُ الاجتهاد وخاصةُ الولاية، ونورُه وضياؤها ٥، من جماعة خَلَتْ منها افرادُها.
_________
١ عدّى الشئ: اجازه وأنفذه.
٢ سكة: شارة الدولة الموضوعة على مسكوكاتها.
٣ العلم الحديث.
٤ وُسعة واتساع وسعة بمعنى الطاقة والقدرة.
٥ نور الاجتهاد وضياء الولاية.
1 / 20
ثم اني بينما كنت منتظرًا ومتوجهًا لهذا المقصد بتظاهر هيئة كذلك - وقد كان هذا غاية خيالي من زمان مديد - اذ سنح لقلبي من قبيل الحس قبل الوقوع تقرّب زلزلة عظيمة ١، فشرعتُ - مع عجزي وقصوري والاغلاق في كلامي - في تقييد ما سنح لي من اشارات اعجاز القرآن في نظمه وبيان بعض حقائقه، ولم يتيسر لي مراجعة التفاسير. فان وافقها فبِها ونِعْمَتْ والاّ فالعُهدة عليّ.
فوقعتْ هذه الطامة الكبرى.. ففي اثناء اداء فريضة الجهاد كلما انتهزتُ فرصة في خط الحرب قيدتُ مالاح لي في الاودية والجبال بعبارات متفاوتة باختلاف الحالات. فمع احتياجها الى التصحيح والاصلاح لايرضى قلبي بتغييرها وتبديلها؛ اذ ظهرتْ في حالة من خلوص النية لا توجد الآن، فاعرضها لأنظار اهل الكمال لا لأنه تفسير للتنزيل، بل ليصير - لو ظفر بالقبول - نوعَ مأخذٍ ٢ لبعض وجوه التفسير. وقد ساقني شوقي الى ماهو فوق طوقي، فان استحسنوه شجعوني على الدوام.
ومن الله التوفيق.
سعيد النورسي
_________
١ لقد اخبرنا مرارًا في اثناء الدرس وقوع زلزلة عظيمة (بمعنى الحرب العمومية فوقعت كما اخبرنا) .
حمزة. محمد شفيق. محمد مهرى. (هؤلاء من تلاميذ المؤلف) .
٢ المصدر والمرجع.
1 / 21
لمعة من تعريف القرآن
فان قلت: القرآن ما هو؟
قيل لك: هو الترجمةُ الازلية لهذه الكائنات، والترجمانُ الابدي لألسنتها التاليات للآيات التكوينية، ومفسّرُ كتاب العالَم.. وكذا هو كشافٌ لمخفيات كنوز الاسماء المستترة في صحائف السموات والارض.. وكذا هو مفتاحٌ لحقائق الشؤون المضْمَرة في سطور الحادثات.. وكذا هو لسان الغيب في عالم الشهادة..وكذا هو خزينةٌ للمخاطبات الازلية السبحانية والالتفاتات الابدية الرحمانية.. وكذا هو أساسٌ وهندسةٌ وشمسٌ لهذا العالم المعنوي الاسلامي.. وكذا هو خريطةٌ للعالم الأُخروي.. وكذا هو القولُ الشارح والتفسيرُ الواضح والبرهان القاطع والترجمان الساطع لذات الله وصفاته واسمائه وشؤونه.. وكذا هو مربٍّ للعالم الانساني، وكالماء وكالضياء للانسانية الكبرى التي هي الاسلامية.. وكذا هو الحكمة الحقيقية لنوع البشر، وهو المرشد المهدي الى ما خُلِقَ البشرُ له.. وكذا هو للانسان: كما انه كتابُ شريعةٍ كذلك هو كتاب حكمةٍ، وكما انه كتابُ دعاء وعبودية كذلك هو كتابُ امرٍ ودعوة، وكما انه كتابُ ذكرٍ كذلك هو كتابُ فِكر، وكما انه كتابٌ واحد لكن فيه كتبٌ كثيرةٌ في مقابلة جميع حاجات الانسان المعنوية، كذلك هو كمنزل مقدسٍ مشحون بالكتب والرسائل. حتى انه قد أبرز لمشْرَب كلِّ واحدٍ من اهل المشارب المختلفة، ولمسلك كلِّ واحدٍ من اهل المسالك المتباينة من الاولياء والصديقين ومن العرفاء والمحققين رسالةً لائقةً لمذاق ذلك المشرب وتنويره، ولمساق ذلك المسلك وتصويره حتى كأنه مجموعة الرسائل.
سعيد النورسي
1 / 22