الاقتضاب
في شرح أدب الكتاب
لأبي محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي (٤٤٤ - ٥٢١ هـ)
(طبعة مزيدة منقحة)
تحقيق
الأستاذ مصطفى السقا - الدكتور حامد عبد المجيد
مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة
١٩٩٦
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على نبيه الكريم محمد وعلى آله وسلم تسليمًا.
الحمد لله موزع الحمد وملهمه، ومبدع الخلق ومعدمه، وصلى الله على صفوته من بريته، ونقوته من خليقته، وسلم تسليمًا.
قال أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي:
غرضي في كتابي هذا، تفسير خطبة الكتاب الموسوم «بأدب الكتاب» وذكر أصناف الكتبة ومراتبهم، وجل مما يحتاجون إليه في صناعتهم، ثم الكلام بعد ذلك على نكت من هذا الديوان يجب التنبيه عليها، وإرشاد
1 / 27
قارئه إليها، ثم الكلام على مشكل إعراب أبياته ومعانيها، وذكر ما يحضر لي من أسماء قائليها.
وقد قسمته ثلاثة أجزاء:
الجزء الأول: في شرح الخطبة وما يتعلق بها من ذكر أصناف الكتاب وآلاتهم.
والجزء الثاني: في التنبيه على ما غلط. فيه وضع الكتاب أو الناقلون عنه، وما منع منه وهو جائز.
والجزء الثالث، في شرح أبياته.
وأنا أسال الله عونًا على ما اعتقده وأنويه، وأستوهبه عصمة من الزلل فيما أورده وأحكيه، إنه ولي الفضل ومسديه، لا رب غيره.
قال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة:
(أما بعد حمد الله بجميع محامده): أما حرف إخبار، يدخل على الجمل المستأنفة، ويتضمن معنى حرف الشرط، والفعل المشروط له، ولذلك احتاج إلى الجواب بالفاء، كما يجاب الشرط. فإذا قيل لك: أما زيد فمنطلق، فمعناه: مهما يكن من شيء فزيد منطلق. فناب (أما) مناب حرف الشرط الذي هو (مهما)، ومناب الفعل المجزوم به، وما تضمنه من فاعله، فلذلك ظهر بعده الجواب، ولم يظهر الشرط، لقيامه مقامه. وجوابه هاهنا من مدخول الفاء التي في قوله: فإني رأيت.
1 / 28
وقوله: (بعد حمد الله): بعد: ظرف، يعرب إذا أضيف إلى ما يتصل به، فإذا انقطع عن الإضافة، بنى على الضم إن اعتقد فيه التعريف، وأعرب إن أعتقد فيه التنكير. ولا يضاف إلا إلى المفرد، أو ما هو في حكم المفرد. فالمفرد كقولك: جئتك بعد الظهر، وبعد خروج زيد. والذي في حكم المفرد كقولك: جئتك بعد ما خرج زيد، وبعد أن أذن الظهر. فهذا الكلام وإن كان جملة، فهو في تأويل المفرد. ألا ترى أن تأويله، جئتك بعد خروج زيد، وبعد آذان الظهر.
وقوله: (أما بعد حمد الله): بعد: ينتصب هاهنا على وجهين: أحدهما أن يكون العامل فيه ما تضمنته (أما) من معنى الشرط، لأن التقدير والمعنى: مهما يكن من شيء بعد حمد الله. والثاني أن يكون العامل فيه (رأيت) على معنى التقديم والتأخير، كأنه قال: مهما يكن من شيء، فإني رأيت بعد حمد الله. فيكون بمنزلة قوله ﷿: (فأما اليتيم فلا تقهر. وأما السائل فلا تنهر). فالعامل في اليتيم والسائل، الفعلان اللذان بعدهما، كأنه قال: مهما يكن من شيء، فلا تقهر اليتيم، ومهما يكن من شيء، فلا تنهر السائل. ولا يصح عندنا نصب اليتيم والسائل، بما تضمنته (أما) من معنى الشرط، كما صح في قوله: (أما بعد حمد الله) لأن المعاني تعمل في الظروف، ولا تعمل في المفعولات الصحاح. فأما إعمال
1 / 29
معنى الشرط في (بعد) فجائز باتفاق. وأما إعمال (رأيت) فيه، فرأى غير متفق عليه، فأبو عثمان المازني لا يجيزه، وحجته، أن خبر إن، لا يعمل فيما قبلها، لأن عامل غير متصرف. فلا يجوز أن يقال: زيدًا إنك ضارب، على معنى إنك ضارب زيدا. وكذلك لا يجو عند المازني ومن وافقه، أما زيدًا فإنك ضارب.
وكان أبو العباس المبرد يجيز أن يعمل خبر (إن) فيما قبلها مع (أما). ولا يجيزه مع غير (أما). فكان يجيز، أما زيدا فإنك ضارب ولا يجيز، زيدًا إنك ضارب.
وكان يزعم أنه مذهب سيبويه. وحجته أن (أما) وضعت في كلام العرب على أن يقدم معها على الفاء، ما كان مؤخرا بعد الفاء، ألا ترى أنك تقول: مهما يكن من شيء فزيد منطلق، فتجد زيدًا بعد الفاء، فإذا وضعت (أما) مكان (مهما)، فقلت: أما زيد فمنطلق، وجدت زيدًا قد تقدم قبل الفاء. فلما كانت (أما) موضوعة على معنى التقديم والتأخير، جاز معها من التقديم والتأخير ما لم يجز مع غيرها.
ومن الحجة له أيضًا، أنه لو استحال أن يعمل خبر إن فيما قبلها مع
1 / 30
(أما)، لما جاز أن يعمل (ما) بعد الفاء فيما قبلها في قوله ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ﴾، لأن الفاء موضوعة للإتباع، فهي ترتب الثاني بعد الأول، ولا يجوز لما بعدها أن ينوى به التقديم على ما قبلها. فكما جاز لما بعد الفاء أن يعمل فيما قبلها مع (أما)، كذلك جاز في خبر (إن).
والمازني يفرق بين الفاء وإن، لأن الفاء قد وجدنا ما بعدها يعمل فيما قبلها مع غير (أما) في قولك! زيدًا فاضرب، وبعمر فامرر، على ضروب من التأويل. ولم نجد خبر (إن) يعمل فيما قبلها مع غير (أما)، فنقيس (أما) عليه.
ومن النحويين من يجيز أما اليوم فإنك خارج، فيعمل خبر (إن) في اليوم، ولا يجيز أن يقال: أما زيدًا فإنك ضارب. وحجته أن الظروف يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها.
وأما سيبويه- ﵀ فإنه قال في كتابة قولًا مشكلا، يمكن أن يتأول على مذهب أبي العباس، وهو الأظهر فيه. ويمكن أن يتأول على مذهب المازني.
فإن قال قائل: لأي علة لزم أن يقدم مع (أما) قبل الفاء ما كان مؤخرًا بعدها مع (مهما)؟ لأنا نقول: مهما يكن من شيء فعبد الله خارج، ثم يقول: أما عبد الله فخارج، فنجد عبد الله الذي كان مؤخرًا بعد الفاء (مع مهما)، لوجب أن يقال: مهما يكن من شيء فلا تقهر اليتيم. أو يقال:
1 / 31
مهما يكن من شيء فاليتيم لا تقهر. فلما وضعت (أما) موضع مهما، صار الكلام: فأما اليتيم فلا تقهر، فتقدم اليتيم الذي كان حكمه التأخير؟
فالجواب عن ذلك من وجهين:
أحدهما: أن (أما) كان القياس أن يظهر بعدها فعل الشرط. كما يظهر مع (مهما). فلما حذف للعلة التي قدمنا ذكرها. قدم بعض الكلام الواقع بعد الفاء ليكون كالعوض عن المحذوف.
والثاني: أن الفاء إنما وضعت في كلام العرب للإتباع أي لتجعل ما بعدها تابعًا لما قبلها. ولم توضع لتكون مستأنفة، والإتباع فيها على ضربين: إما إتباع اسم مفرد، كقولك: قام زيد فعمرو. وإما إتباع جملة لجملة كقولك: قمت وضربت زيدًا. فلو قلت: (أما فزيد منطلق)، لوقعت الفاء مستأنفة، ليس قبلها اسم ولا جملة يكون ما بعدهما تابعًا له، إنما قبلها حرف معنى لا يقوم بنفسه، ولا تنعقد به فائدة الاسم، فقالوا: أما زيد فمنطلق، ليكون ما بعدها تابعًا لما قبلها، على أصل موضوعها.
واستيفاء الكلام في هذه المسألة يخرجنا عن غرضنا الذي قصدناه، وليس كتابنا هذا كتاب نحو، فنستوعب فيه هذا الشأن. فمن أراده فليلتمسه في مواضعه إن شاء الله.
قوله (بجميع محامده): ذهب أكثر اللغويين والنحويين إلى أن المحامد جمع (حمد) على غير قياس، كما قالوا المفاقر، جمع فقر، والمذاكر جمع ذكر.
1 / 32
وقال قوم: المحامد: جمع محمدة وهذا هو الوجه عندي، لأن المحمدة قد نطقت بها العرب نثرًا ونظمًا. قال الأحنف بن قيس ألا أدلكم على المحمدة؟ .... الخلق السجيح والكف عن القبيح وقد قال النحويون: إن الأفعال التي يكون منها الماضي على (فعل) بكسر العين، فقياس (المفعل) منها أن يكون مفتوح العين في المصدر والزمان والمكان، كالمشرب والمعلم والمجهل إلا كلمتين شدتا، وهما المحمدة والمكبر فجاءتا بكسر العين. قال أعشي همدان:
طلبت الصبا إذ علا المكبر ... وشاب القذال فما تقصر
فإذا كانت المحمدة موجودة في كلامهم، مشهورة في استعمالهم، فما الذي يحوجنا إلى أن نجعل المحامد جمع حمد على غير قياس.
قوله: (والثناء عليه بما هو أهله): الثناء ممدود، إذا قدمت الثاء على النون. فإذا قدمت النون على الثاء، قلت: نثا مقصورًا. والغالب على الثناء الممدود أن يستعمل في الخير دون الشر. فأما المقصور فيستعمل في الخير والشر.
1 / 33
وقد جاء الثناء الممدود في الشر إلا أنه قليل، ومحمول على ضرب من التأويل. أنشد أبو عمر المطرز عن ثعلب.
أثنى على بما علمت فإنني ... أثنى عليك بمثل ريح الجورب
وقد يجوز لقائل أن يقول إنما أراد أني أقيم لك الذم مقام الثناء، كما قال تعالى ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾. والعذاب ليس ببشارة، إنما تأويله: أقم لهم الإنذار بالعذاب الأليم مقام البشارة. فإذا حمل على هذا التأويل، لم يكن في البيت حجة.
وفعل الثناء الممدود رباعي. يقال: أثنيت إثناء. والاسم: الثناء، كقولك: أعطيت إعطاء، والاسم: العطاء.
وفعل النثا المقصور ثلاتي يقال: نثوت الحديث نثوا: ذكرته ونشرته نثيا. وحكى سيبويه ينثو نثا، بالقصر، وثناء بالمد.
قوله: (والصلاة على رسوله المصطفى): الصلاة منه تعالى: الرحمة. ومن الملائكة: الدعاء. ومن الناس: الدعاء والعمل جميعًا. قال الأعشى:
تقول بنتي وقد قربت مرتحلا ... يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضى ... نومًا فإن لجنب المرء مضطجعا
1 / 34
فمرتحل، بفاء الحاء: جمل قد وضع عليه الرحل.
وقال يصف الخمار والخمر.
وقابلها الريح في دنها ... وصلى على دنها وارتسم
والمصطفى: المختار، وهو مفتعل من الصفوة، وهي خيار كل شيء، وأصله مصتفو أبدلوا التاء طاء لتوافق الصاد في الاستعلاء، وتجاوزت الكلمة ثلاثة أحرف، فانقلبت الواو ياء كانقلابها في أغزيت وأعطيت. ثم تحركت الياء وقبلها فتحة، فانقلبت ألفا.
وقوله: (وآله): ذكر أبو جعفر بن النحاس أن (آلا) يضاف إلى الأسماء الظاهرة، ولا يجوز أن يضاف إلى الأسماء المضمرة. فلم يجز أن يقال صلى الله على محمد وآله. قال: وإنما الصواب: (وأهله). وذكر مثل ذلك أبو بكر الزبيدي في كتابه الموضوع في لحن العامة. وهذا مذهب الكسائي. وهو أول من قاله، فاتبعاه على رأيه، وليس بصحيح، لأنه لا قياس له يعضده ولا سماع يؤيده. وقد رواه أبو علي البغدادي عن أبي جعفر بن قتيبة عن أبيه هكذا، ولم ينكره. وروى أبو العباس المبرد في الكامل أن رجلًا من أهل الكتاب، ورد على معاوية، فقال له معاوية: أتجد نعتي في شيء من كتب الله؟ فقال: إي والله، حتى لو كنت في أمة لوضعت عليك يدي
1 / 35
من بينها. قال: فكيف تجدني؟ قال: أجدك أول من يحول الخلافة ملكا، والخشنة لينا. ثم إن ربك من بعدها لغفور رحيم.
قال معاوية: فسرى عني ثم قال: لا تقبل هذا مني ولكن من نفسك، فاختبر هذا الخبر. قال: ثم يكون ماذا؟ قال: لا تقبل هذا مني ولكن من نفسك، فاختبر هذا الخبر. قال: ثم يكون ماذا؟ قال: ثم يكون منك رجل شراب للخمر، سفاك للدماء، يحتجن الأموال، ويصطنع الرجال، ويجند الجنود، ويبيح حرمة الرسول. قال: ثم ماذا؟ قال: ثم تكون فتنة تتشعب بأقوام حتى يفضى الأمر بها إلى رجل أعرف نعته، يبيع الآخرة الدائمة، بحظ من الدنيا مخسوس، فيجتمع عليه، من آلك، وليس منك، لا يزال لعدوه قاهرًا، وعلى من ناوأه ظاهرًا، ويكون له قرين مبين لعين. قال: أفتعرفه إن رأينه؟ قال: شد ما، فأراه من بالشام من بنى أمية، فقال ما أراه هاهنا. فوجه به إلى المدينة مع ثقات من رسله، فإذا بعبد الملك بن مروان يسعى مؤتزرا، في يده طائر. فقال للرسول: ها هو ذا. ثم صاح به! إلى أبو من قال: أبو الوليد. قال: يا أبا الوليد. إن بشرتك ببشارة تسرك،
1 / 36
ما تجعل لي؟ قال: وما مقدارها من السرور، حتى نعلم ما مقدارها من الجعل. قال: أن تملك الأرض. قال: مالي من مال. ولكن (أرأيتك) إن تكلفت لك جعلًا، أأنال ذلك قبل وقته. قال: لا. قال: فإن حرمتك، أتؤخره عن وقته؟ قال: لا. قال: فحسبك ما سمعت. هكذا روى أبو العباس وغيره في هذا الخبر (من آلك وليس منك) بإضافة (آل) إلى الكاف. وأبو العباس من أئمة اللغة بالحفظ. والضبط.
وقال أبو علي الدنيوري في كتابه الذي وضعه في إصلاح المنطق. تقول: فلان من آل فلان، وآل أبي فلان. ولا تقل: من آل الكوفة ولكن من أهل الكوفة فإذا كنيت قلت: هو من أهله، ولا تقول: من آله إلا في قلة من الكلام فهذا نص بأنها لغة.
وقد وجدنا مع ذلك (آلًا) في الشعر مضافًا إلى المضمر. قال عبد المطلب حين جاء أبرهة الأشرم لهدم الكعبة.
لا هم إن المرء يمنع رحله فامنع حلالك
لا يعلبن صليبهم ... ومحالهم غدوًا محالك
وانصر على آل الصليب ... وعابديه اليوم آلك
1 / 37
يعني قريشًا، لأن العرب كانوا يسمونهم آل الله. لكونهم أهل البيت.
وقال الكميت:
فأبلغ بنى الهندين من آل وائل ... وآل مناة والأقارب آلها
ألوكًا توافى ابني صفية وانتجع ... سواحل دعمي بها ورمالها
وقال خفاف بن ندبة:
أنا الفارس الحامي حقيقة والدي ... وآلي كما تحمي حقيقة آلكا
واختلف الناس في قول الأعشى:
كانت بقية أربع فاعتمتها ... لما رضيت من النجابة آلها
فقال قوم: أراد بآلها: شخصها. وقال آخرون: أراد رهطها.
وكذلك قول مقاس العائدي:
إذا وضع الهزاهز آل قوم ... فزاد الله آلكم ارتفاعا
ميل: أراد بالآل: الأشخاص. وقيل: أراد الأهل. وقد قال أبو الطيب المتنبي، وإن لم يكن حجة في اللغة:
والله يسعد كل يوم جده ... ويزيد من أعدائه في آله
1 / 38
وأبو الطيب وإن كان ممن لا يحتج به في اللغة، فإن في بيته هذا حجة من جهة أخرى. وذلك أن الناس عنوا بانتقاد شعره. وكان في عصره جماعة من اللعويين والنحويين كابن خالويه وابن جنى وغيرهما. وما رأيت منهم أحدًا أنكر عليه إضافة (آل) إلى المضمر. وكذلك جميع من تكلم في شعره من الكتاب والشعراء كالوحيد، وابن عباد والحاتمي وابن وكيع، لا أعلم لأحد منهم اعتراضًا في هذا البيت. فدل هذا على أن هذا لم يكن له أصل عندهم، فلذلك لم يتكلموا فيه.
و(آل): أصله أهل. ثم أبدلوا من الهاء همزة، فقيل أأل، ثم أبدل من الهمزة ألف، كراهية لاجتماع همزتين. ودل على ذلك قولهم في تصغيره: أهيل، فردوه إلى أصله.
وحكى الكسسائي في تصغيره أويل. وهذا يوجب أن تكون ألف آل بدلًا من واو، كالألف في باب ودار.
قوله: (عن سبيل الأدب ناكبين): السبيل: الطريق، وهي تذكر وتؤنث. والناكب: العادل. يقال: نكب عن الطريق ينكب نكوبا. وقد قيل: نكب (بكسر الكاف) ينكب نكبا. قال ذو الرمة:
وصوح البقل نأاج تجئ به ... هيف يمانيه في مرها نكب
قوله: (ومن أسمائه متطيرين): يريد أنهم يتشاءمون بالأدب ويجعلونه
1 / 39
حرفة على صاحبه فإذا رأوا متأدبًا محروبًا، قالوا: أدركته حرفة الأدب. وكذلك قال الشاعر:
ما ازددت من أدى حرفًا أسربه ... إلا تزيدت حرقًا تحته شوم
كذاك من يدعى حذفًا بصنعته ... أنى توجه منها فهو محروم
قوله: (أما الناشئ منهم فراغب عن التعلم): الناشئ: الصغير في أول انبعاثه، وجمعه: نشأة. كما يقال: كافر وكفرة. ويقال: ناشئ ونشأ. كما يقال: حارس وحرس. قال نصيب.
ولولا أن يقال صبا نصيب ... لقلت بنفسي النشأ الصغار
وراغب عن التعليم: تارك له. يقال: رغبت عن الشيء: إذا زهدت فيه، ورغبت عن الشيء: إذا حرصت عليه.
قوله: (والشادي تارك للازدياد): الشادي: الذي نال من الأدب طرفا. يقال: شدا يشدوا. ويقال: لطرف كل شيء: شدا، قال الشاعر:
فلو كل في ليلى شدا من خصومة ... للويت أعناق الخصوم الملاويا
والازدياد: افتعال من الزيادة، وأصله: ازتياد، أبدل من التاء دال، لتوافق الزاي في الجهر، طلبا لتشاكل الألفاظ، وهربًا من تنافرها.
قوله: (والمتأدب في عنفوان الشباب ناس أو متناس، ليدخل في
1 / 40
جملة المجدودين ويخرج عن جملة المحدودين). عنفوان الشباب: أوله، وكذلك عنفوان كل شيء والناسي: المطبوع على النسيان. والمتناسي: المتغافل مشتق من قولهم: حددته عن الشيء: إذا منعته من، وكل من منع من شيء فهو حداد. يقال لحاجب السلطان: حداد، لأنه يمنع من الوصول إليه. وكذلك البواب. وسمى الأعشى الخمار حدادًا فقال.
فقمنا ولما يصح ديكنا ... إلى جونة عند حدادها
وأراد بالمجدودين: أهل الأموال والمراتب العالية في الدنيا. وبالمحدودين: أهل الأدب الذين حدوا عن الرزق: أي منعوا منه. واللام في قوله: ليدخل في جملة المجدودين تسمى لام العلة والسبب كالتي في قولك: جئت لأضرب زيدًا. كأنه قيل له: لم جئت؟ أو توقع أن يطالب بالعلة الموجبة لمجيئه فقال: لأضرب زيدًا.
يريد أن المتأدب قد اعتد أن أهل الأدب محرومون محارفون عن الرزق، فهو يتناسى الأدب فرارًا من أن يدخل في جملتهم فيلحقه من حرفة الأدب ما لحقهم.
قوله: (فالعلماء مغمورون): كان أبو علي يرويه بالراء، وكان ابن القوطية يرويه بالزاي، ولكل واحدة من الروايتين معنى صحيح.
1 / 41
أما من رواه بالراء فهو من قولك: غمره الماء: إذا غطاه: ويقال: رجل مغمور: إذا كان خامل الذكر. يراد أن الخمول قد أخفاه، كما يغمر الماء الشيء فيغيبه. ومن رواه بالزاي فهو من قولك: غمزت الرجل: إذا عبته وطعنت عليه.
يريد أن العلماء يبدعون ويكفرون، وينسب إليهم ما لعلهم براء منه وقد قال علي ﵇: الناس أعداء ما جهلوا. وقال الشاعر:
والجاهلون لأهل العلم أعداء
ويروى: أن بعض الجهال شهد على رجل بالزندقة عند بعض الولاة، فقال المشهود عليه: قرره- أصلحك الله على شهادته- فقرره على شهادته، فقال: نعم. أصلحك الله هو قدري مرجئ رافضي، يسب معاوية بن أبي طالب الذي قتل علي بن أبي سفيان. فضحك الوالي وقال: يا بن أخي والله ما أدري على أي شيء أحسدك، أعلى حذقك بالمقالات، أم على علمك بالأنساب، وأبطل شهادته، وأمر بتخلية المشهود عليه.
وقوله: (وبكرة الجهل مقموعون): كرة الجهل: دولته، من قوله تعالى (ثم رددنا لكم الكرة عليهم) أي الدولة. والكرة أيضًا: (فعلة) من كر عليه في الحرب يكر كرًا: إذا حمل عليه.
يريد أن الجهل كر على العلماء، فقمعهم وأذلهم، كما يكر الفارس على قرنه، فيصرعه. ويقال: قمعت الرجل إذا أذللته وصرفته عما يريد.
1 / 42
قوله: (حين خوى نجم الخير): أي سقط. وكانت العرب تنسب الأنواء إلى منازل القمر الثماني والعشرين.
ومعنى النوء: سقوط نجم منها في المغرب مع الفجر وطلوع نجم آخر يقابله من ساعته في المشرق. وسمى نوءًا إذا سقط الغارب، ناء الطالع ينوء نوءا، وكل ناهض بثقل فقد ناء.
وبعضهم يجعل النوء سقوط. النجم كأنه من الأضداد. وكانوا إذا سقط منها نجم وطلع آخر فحدث عند ذلك مطر أو ريح أو برد أو حر نسبوه إلى الساقط. على أن يسقط الذي بعده. وإذا سقط ولم يكن عند سقوطه مطر ولا ريح ولا برد ولا حر: قالوا: خوى نجم كذا، وأخوى. فضربه بان قتيبة مثلًا لذهاب الخير، كما ضرب كساد السوق مثلًا لزهادة الناس في البر، وإعراضهم عنه.
والأشهر في السوق: التأنيث. وقد حكى فيها التذكير. أنشدنا الفراء:
1 / 43
بسوق كثير ريحة وأعاصيره
وسميت سوقا، لأن الأرزاق تساق إليها. وقيل: سميت سوقًا: لقيام الناس فيها على سوقهم. والبر: الخير والعمل الصالح.
وقوله (وبارت بضائع أهله): البوار: الهلاك. يقال: بار الشيء يبور بورًا وبوارًا (بفتح الباء)، فإذا وصفت به، قلت: رجل بور، (بضم الباء) وبائر. قال ابن الزبعري.
يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور
والبضائع: الأموال التي يحملها التجار من بلد إلى بلد للتجارة، واحدتها بضاعة، وقد تكون البضاعة: المال على الإطلاق، واشتقاقها من البضع وهو القطع.
يراد أنها قطعة من المال. فجعل العلم للعالم كالبضاعة للتاجر. يقول: هلكت بضائع العلماء التي استبضعوها من العلم حين لم يجدوا لها طالبًا.
وقوله: (وأموال الملوك وقفا على النفوس): كل شيء قصرته على شيء آخر، ولم تجعل له مشاركًا فيه، قيل: إنه وقف عليه. ومنه يقول القائل لصاحبه: مودتي وقف عليك. ومنه قيل لما جعل في سبيل الله تعالى: وقف. يريد
1 / 44
أن الملوك كانوا أجدر الناس في النظر في العلوم لسعة أحوالهم، وهم أزهد الناس فيها، قد جعلوا أموالهم وقفا على نفوسهم، لا يصرفونها إلا فيما يأكلون ويشربون ويركبون وينكحون، لا فضل فيها لغير ذلك.
وقوله: (والجاه الذي هو زكاة الشرف يباع بيع الخلق): يريد أنه مبتذل يناله كل من يريده. والخلق للواحد والاثنين والجمع، والمذكر والمؤنث بلفظ واحد، لأنه يجرى مجرى المصادر. وقد يثنى ويجمع، فيقال: ثياب أخلاق، لأنه يوصف به فيجرى مجرى الأسماء وقد قالوا: ثوب أخلاق، فوصفوا به الواحد. قال الكسائي: أرادوا أن نواحيه أخلاق، فلذلك جمع. قال الراجز
جاء الشتاء وقميصي أخلاق ... شراذم يضحك منها التواق
والتواق: ابنه.
وقوله: (وآضت المروءات): أي رجعت. ومنه قيل: فعل ذلك أيضًا أي فعله عودًا.
وقد اختلف الناس في حقيقة المروءة ما هي؟ وحقيقتها أنها الخصال الجميلة التي يكمل بها المرء، كما يقال: الإنسانية: يراد بها الخصال التي يكمل بها الإنسان. وإلى هذا ذهب أبو بكر ابن القوطية.
1 / 45