إن المنطقة الحدودية ليست بدولة، بل إنها حتى ليست دولة في حد ذاتها. إنها مكان اجتماعي سياسي للديناميكيات التاريخية والاقتصادية المثيرة التي يحدد معالمها تهجير أو نزوح واسع الانتشار، يعاش على نحو مختلف للغاية من قبل الأفراد والمؤسسات المعنية. ونظرا لهذه الاختلافات والتباينات الواسعة الانتشار، فإن ثمة غموضا متواصلا يتخلل معظم تفاعلاتها وتعيينات حدودها؛ فالتحدي والتعزيز الدائمان للحدود يولدان الإدراك المتناقض للمنطقة الحدودية في وقت واحد كمنطقة رابطة ومنطقة فاصلة تحت تدخل ذي طابع عسكري على نحو متزايد. وهكذا تكون المنطقة الحدودية أكثر قليلا من كونها إقليما متنازعا عليه إنه جبهة حدودية. (أورتيز 2001، 98)
من هذا المنظور، يمكن أن تبدو وجهة النظر التي يميل ساك إلى افتراضها كنسخة من قصة المسيطر، ولكن يوجد دوما تفاصيل أكثر للقصة، ويوجد دوما أكثر من قصة.
ثمة عنصر أساسي آخر لنظرية الإقليمية هو «التواصل»، وعلى نحو أكثر تحديدا، التواصل من خلال الحدود. ربما يكون النموذج لذلك - مثلما أشار العديد من الأمثلة التي يسوقها ساك - تحذيرا (شفهيا أو مكتوبا) يقول «ابتعد» (يرافقه ملحق ضمني مفاده «وإلا»). فالمرء في هذا المقام يتخيل نموذجا للتواصل يشمل مرسلا (المصنف/المسيطر)، ومتلقيا (المسيطر عليه)، ورسالة واضحة (ابتعد). وتحت ظروف الحداثة من المحتمل أن يكون هذا الحدث التواصلي غير شخصي (أي موجها إلى «كل العالم») مثلما من المحتمل أن يكون شخصيا. ولكن قد يشير المرء إلى احتمال وجود ما هو أكثر - بل أكثر بكثير - بالنسبة إلى معاني الأقاليم والتخوم والسلطة، مما قد تشير إليه هذه التعليمات والأوامر الشفافة نسبيا؛ فوجهات النظر المتعلقة بالإقليم التي تعد أقل حداثة قد تشكك في دقة هذا النموذج الشفاف للتواصل، وتكمله باهتمام أكبر بمسائل الخطاب واستطرادية الإقليم. وسوف أعود إلى هذا الموضوع لاحقا.
مرة أخرى ، ينبغي التأكيد على أن عرض هذه التباينات المحتملة لا يشكل في حد ذاته نقدا لكتاب «الإقليمية البشرية»، كما أنني لست بصدد تأييد منظور خلاف المنظور الحداثي. في الواقع، من الممكن أن يعرض المرء، بأسلوب ما بعد حداثي تماما، قراءة لكتاب «الإقليمية البشرية» باعتباره هو ذاته نصا ينتمي إلى ما بعد الحداثة (الأولية). ورفض القصة الاحتفائية للتقدم والحداثة، وحيادية التقييم التي يمكن أن تفهم كتأييد لنوع من النسبية، والتأكيد على العمودية، والالتزام بتعددية الاختصاصات؛ كل ذلك من شأنه المساعدة في إدراك هذا المعنى للكتاب. ولكن في النهاية لن توفي مثل هذه القراءة إنجازات كتاب «الإقليمية البشرية» ولا فائدة النزعات ما بعد الحداثية حقهما.
ثمة ملاحظة أخيرة بشأن قضية الحداثة؛ عادة ما يقال إن تقسيم الحديث/ما بعد الحداثي ليس مجرد مسألة أكاديميات أو نزعة جمالية، ولكنه، شأنه شأن تقسيم ما قبل الحداثي/الحديث الذي يعمل كنموذج معياري له، يمثل دلالة على وجود تمزق وتفكك، ويدل على ظهور نوع جديد من العالم. في هذا العالم أدت العولمة المركزة، واللاأقلمة، وانهيار التنافس بين الشرق/الغرب الرامي إلى الهيمنة على العالم، والثورة السيبرانية، وما إلى ذلك؛ إلى نشوء مظاهر و«ميول» للإقليمية لم يتوقعها ساك في ثمانينيات القرن العشرين. (3-2) الخطاب
في السنوات التي أعقبت نشر كتاب «الإقليمية البشرية»، حدثت إعادة تركيز ملحوظة للانتباه في النظرية الاجتماعية والتفسيرات الجغرافية للإقليم نحو موضوعات الخطاب والتمثيل. وفي كتاب «الإقليمية البشرية» يجري تأطير قضايا ذات صلة في إطار الأيديولوجيا، وعلى نحو أوسع، «المفاهيم». والخطاب، كما ناقشنا في الفصل الثاني، يشير أكثر إلى التكوينات الثقافية-المعرفية الواسعة النطاق والبنيات اللغوية التي يدمج فيها اللاعبون الاجتماعيون، والتي تكيف الفكر أو الوعي والممارسة بطرق خاصة. وأساليب الخطاب ليست مجرد مجموعات من المعتقدات أو حتى الأيديولوجيات؛ إنها مجالات مفاهيمية يرصد من خلالها الاختلاف والتشابه. ربما حتى لا يكون معبرا عنها لفظا، ولكنها قد تؤدى أو تفعل. ويقال إن أساليب الخطاب، كطرق للتفكير والتعبير اللفظي، تتداول داخل الأنظمة الاجتماعية، وقد ترتبط ارتباطا وثيقا بإنتاج المعرفة وسلطة الخبير تحديدا؛ من أجل تكوين معنى رسمي للوقائع الاجتماعية. وثمة أساليب خطاب بعينها تنبع من علاقات السلطة وتدعمها، ولكنها أيضا قد تضعف أو تعدل الطرق التي تعمل بها السلطة، وقد تكون تسويغية أو نقدية، تطبيعية أو غير تطبيعية. والانتباه إلى الخطاب أو الاستطراد يميل إلى تحريف قصدية الفرد عن مركزها (أو على الأقل وضعها في سياق جديد)، وإبراز الأفعال أو الأحداث التواصلية، فيما يتعلق بأهدافنا الحالية، بمنظور جديد.
يوجد جانبان لتحليل الخطاب ينبغي الإشارة إليهما في أي «مقدمة قصيرة» للإقليمية؛ الأول أنه توجد أساليب خطاب تتخذ من عناصر الجانب الاجتماعي أهدافا أساسية لها، وتؤسس وتوجه الكيانات الإقليمية وفقا لها. الجانب الثاني يكمن في وجود أساليب خطاب أضيق أفقا بشأن الإقليمية في حد ذاتها. وفيما يتعلق بالأساليب الأولى، توجد أساليب خطاب لا حصر لها يفهم من خلالها العالم الاجتماعي، قد يعد البعض منها ذا دلالة أعم من البعض الآخر. الأمر المهم، أولا، هو معرفة كيفية تجميعها معا، وما هي اختلافاتها الجوهرية، وتأطيراتها الاعتيادية، وإقصاءاتها، وتسلسلاتها الهرمية المفاهيمية الأكثر ملاءمة. ثانيا، كيفية تفعيلها على نحو عملي في الممارسة الاجتماعية. إن أساليب الخطاب المتعلقة بالجانب الاجتماعي ليست جامدة أو خاملة؛ فهي تتغير وتتباين. وعلى نحو حاسم، يمكن أن تندمج معا، أو تعزز، أو يتحدى أحدها الآخر. وبعض أساليب الخطاب قد تنشأ باعتبارها أساليب خطاب «مهيمنة» أو «مسيطرة» وتتخذ شكل المنطق السليم. وهذه الأخيرة، إلى جانب تلك التي تتحداها تحديا مباشرا، لها أهمية خاصة لفهم الإقليمية؛ بل إن جزءا كبيرا من الإقليمية البشرية يمكن فهمه كأسلوب «تنقش» من خلاله أساليب الخطاب ذات الهويات المتباينة على أجزاء من العالم المادي.
على سبيل المثال: في الجزء السابق عرضت لفكرة أن «الحداثة» قد لا تكون فترة زمنية تاريخية مميزة بقدر ما قد تكون قصة معقدة (أي خطابا)، وإن كانت قصة ظهرت في مكان وزمان، وتغيرت على نحو مثير بمرور الزمن. ومن بين العناصر الجوهرية المهمة لهذا الخطاب التميز الجوهري لما هو «حديث» في مقابل ما قبل الحديث (سواء اعتبر «بدائيا» أو «قديما»)، وقصة التقدم ومفاهيم الحرية والعقلانية المصاحبة لها، وتعزيز قيمة المواطن الفردي، والأولوية المعيارية التي تعطى للكفاءة، وأساليب الخطاب الفرعية للطبيعة التي تشكل مذهب العلمية. وفي بعض الأزمنة والأمكنة اندمجت خطابات الحداثة مع أساليب الخطاب المتمحورة حول العرق والجنسانية لتكوين معنى سردي للاستعمارية وغيرها من أشكال الهيمنة. وفي سياقات أخرى لعبت دورا في مقاومة الهيمنة العرقية. ويمكن أن تندمج مع خطابات الليبرالية بنفس سهولة اندماجها مع خطابات الاشتراكية؛ الفكرة المباشرة هي أن أساليب الخطاب المتعلقة بالحداثة «وتوزيعها العملي» ربما كانت لها تأثيرات بالغة على عمليات التدوين الإقليمي. ويمكن أن تكون الإقليمية ذات أهمية جوهرية لكيفية تفعيل هذه الأساليب في العالم.
على سبيل المثال: يمكن أقلمة الذكورة المتباينة الجنس بعدة طرق . تأمل مناقشة ليمان وسكوت لحانات الشواذ في الفصل الثاني. لقد لاحظا أن «نمط الملبس واللغة بين الزبائن في إحدى الحانات قد ينقل إلى شخص مثلي الجنس في الحال أنه قد دخل إلى إقليم أم» (1967، 240). ولكن في مكان آخر، قد ينقل هذا النمط في الملبس واللغة إلى آخرين في الحال أنه في غير مكانه، أو خارج الحدود، أو غير متجانس؛ وحينئذ قد يبرر هؤلاء الآخرون العنف ضده بالاعتماد على مفاهيم الذكورة المتعلقة بالخوف من المثلية (هيريك وبيريل 1992؛ كانتور 1998). بالمثل، قد يخضع العرق للأقلمة، ليس فقط بوضع لافتات «للبيض فقط» أو بطرد الناس من الأماكن بالقوة، ولكن قد يحدث ذلك، على نحو أكثر خفاء، من خلال الالتزام بقوانين الآداب العرقية «المعمول بها»، التي تسن من خلال سلوكيات الخضوع أو الدفاع النمطية.
تضمن الفصل الثاني إشارة إلى أساليب خطاب السيادة، والقومية، والاستعمارية، ومناهضة الاستعمار، والثقافة، والذات، والخصوصية. قد يفكر المرء بسهولة في التأثير العميق الذي تركته أساليب الخطاب المتعلقة بالعرق على تشكيل الإقليم عبر العالم. إن فكرة «العرق» في أساسها عارضة تاريخيا بالطبع، وفي بعض الروايات قد يكون من الأفضل أن ينظر إليها ليس كتبرير للاستعمار، ولكن كأحد آثاره. وتشمل التكوينات الخطابية التاريخية الخاصة العنصرية العلمية في القرنين التاسع عشر والعشرين، اللذين استخدم فيهما العلم لتطبيع العنصرية، والتعامل مع تفوق البيض كأمر طبيعي، وتبرير سياسات الإقصاء والإبادة الجماعية. وتختلف الخطابات العنصرية السائدة في مطلع القرن الحادي والعشرين اختلافا شديدا، والعمل الذي تؤديه في تشكيل الإقليم مختلف أيضا. بالمثل، تكيف أساليب الخطاب المتمركزة حول النوع والجنسانية التشكيلات التاريخية والمعاصرة بعمق، خاصة حين تندمج مع تمييز العام/الخاص. ومرة أخرى، قد لا يكون من السهل فصل أساليب الخطاب العرقية عن أساليب الخطاب الجنسانية، وقد تندمج هذه الأخيرة بسبل مختلفة مع أساليب الخطاب المتعلقة بالحقوق والليبرالية لتأسيس التشكيلات الإقليمية بطرق معقدة للغاية.
Shafi da ba'a sani ba