تعد نظرية الحدود، ونظرية الثقافة، والجغرافيا النقدية، والنظرية ما بعد البنائية للعلاقات الدولية جميعا، من نواح عدة، استجابات (أو جوانب) للارتباطات المتعددة الاختصاصات والأوسع نطاقا مع العولمة. وتفهم العولمة في هذا المقام باعتبارها مجموعة من العمليات، وكمجموعة من أساليب الخطاب حول الظروف المتغيرة في العالم. وكما هي الحال مع الموضوعات والأفكار الأخرى محل النقاش في هذا الفصل، فإن العولمة مفهوم محل جدل شديد (براولي 2003؛ سكيماتو وويب 2003). فالعولمة على المستوى الأبسط والأقل جدلية تشير إلى «المستوى التوسعي، والضخامة المتنامية، والتأثير التسريعي والتوسعي لتدفقات وأنماط التفاعل الاجتماعي العابرة للقارات. إنها تشير إلى تغير أو تحول في مستوى التنظيم البشري الذي يربط المجتمعات البعيدة ويوسع نطاق علاقات السلطة عبر مناطق وقارات العالم» (هيلد وماكجرو 2002). وينصب الاهتمام على تلك العمليات التي أصبحت من خلالها الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية المتنوعة، التي كانت حتى عهد قريب فعالة ومؤثرة على نطاقات محلية أو قومية أو إقليمية - منتشرة انتشارا كليا (تقريبا) على مستوى الكوكب. وتشمل هذه العمليات كل شيء من الإنتاج الصناعي إلى الهوية الثقافية، من الوعي القانوني إلى المطبخ، من المعاملات المالية إلى الحركات الاجتماعية، من غرف الدردشة إلى الجماعات شبه المسلحة. والعولمة، إذ ينظر إليها على هذا النحو، تؤدي إلى نزع الطابع المحلي، أو حل الارتباط بين الظواهر الاجتماعية والموضع أو «المكان». وبينما تخضع أسباب ونتائج وتاريخية العولمة للجدل، يلاحظ عادة أن اشتدادها في أواخر القرن العشرين قد تيسر بفعل التغيرات المؤثرة في تقنيات النقل والاتصال، لا سيما السفر الجوي والإنترنت. ولكن فيما يتعلق بأهدافنا، فإن الأكثر أهمية هو أن العولمة أيضا عادة ما تعد مؤدية للاأقلمة؛ بعبارة أخرى، الظواهر الاجتماعية التي كان من المفهوم أنها محتواة أو مقيدة من قبل الهياكل الإقليمية (القومية في العادة)، لم تعد الآن محاطة بالسهولة نفسها من جانب هذه الهياكل. ومن هذا المنظور أوجدت العولمة «عالما بلا حدود» على نحو متزايد (أوماي 1999). وهذا، كما رأينا بالفعل، عالم يتسم ببروز التدفقات والشبكات التي لا تعرقل نسبيا بفعل الإقليمية. وإلى حد التلازم بين الإقليم والسيادة، تبدو العولمة أيضا مؤدية إلى زوال الدولة (كوزيمانو 2000؛ هدسون 1999). فيكتب يان آرت شولت، على سبيل المثال:
إن العولمة تضع الوجود الإقطاعي للنظرية الاجتماعية الحديثة موضع شك؛ فهذه الفرضية المستحكمة تؤمن بأن الحيز الاجتماعي مخطط في إطار الأماكن والمسافات والحدود داخل جغرافيا ثلاثية الأبعاد؛ غير أن العولمة تقدم نوعية جديدة من الحيز الاجتماعي، حيز غير إقليمي وغير ناء. لقد جعلت العولمة قضية تحديد الحدود أكثر إشكالية من أي وقت مضى؛ ولهذا السبب، توجد حاجة لخرائطية جديدة لا إقليمية للحياة الاجتماعية. (1996، 48-49)
ويتفق نيل برينر في الرأي على أن العولمة قد جعلت «السمات الأشبه بحاوية للدول إشكالية إلى حد كبير» (1999، 40)، إلا أنه في استقصاء عبقري للإقليمية في ظل هذه الظروف، يرفض القراءة الخاصة باللاأقلمة التي عادة ما يتضمنها هذا. ولعل من العناصر البالغة الأهمية لتحليله وجود تقدير مدروس لأهمية العمودية أو مستوى الإقليمية في العالم المعاصر؛ فهو يقول إن «العولمة تتطور تطورا متزامنا على مستويات جغرافية متشابكة عديدة؛ ليس فقط داخل الحيز العالمي، بل من خلال إنتاج وتمييز وإعادة تشكيل وتغيير المساحات العالمية الفرعية مثل الدول الإقليمية، والمناطق، والمدن، والمواقع المحلية» (ص44). وفي ضوء مناقشتنا السابقة للأجسام والحدود قد نلاحظ أن هذه ليست المساحات الوحيدة التي تتطور من خلالها العمليات المرتبطة بالعولمة. ويرى برينر التفسيرات التي مثل تفسير شولت كتعبير عن نوع من «الإقطاعية العالمية» التي «تمثل الحيز العالمي بأسلوب متمركز حول الدولة، وكحاوية إقليمية مفترضة سابقا تتطور بداخلها العولمة» (ص59)، وفي الواقع، ك «دولة إقليمية على نطاق كبير» (ص61). ومن العناصر المحورية لتحليل برينر الحجة القائلة بأن عمليات إعادة الأقلمة على مستوى ما أو في وقت ما توجب «عمليات إعادة أقلمة» على مستويات أخرى أو في أوقات أخرى (ص43).
إن إقليمية الدولة اليوم متراكبة ومتشابكة مع أشكال مكانية دخيلة متعددة على نحو متزايد ... لا يمكن وصفها وصفا وافيا كوحدات متجاورة ومتعارضة ومعزولة ذاتيا من الحيز ... فمؤسسات الدولة ... يعاد قياسها جذريا إلى أعلى، وإلى أسفل، وجانبيا في وقت واحد لخلق طبقات متعددة الأشكال للتنظيم الإقليمي للدولة. وفي ظل هذه الظروف، صارت الصورة الذهنية للحيز الاجتماعي العالمي كمجموعة معقدة من العقد والمستويات والنطاقات والتكوينات المتراكبة والمتداخلة، أكثر ملاءمة من النموذج الديكارتي التقليدي لوحدات الإقليم المتجانسة المتداخلة والمرتبطة بالمنظومة الحديثة التي تربط بين الدول. (برينر 1999، 69)
إذا «العولمة»، في منظور برينر، تشير إلى ظاهرة حقيقية ومعقدة لها آثار عميقة على أشكال معاصرة وناشئة للإقليمية، ولكنها لا توجب ظهور عالم «بلا حدود»، أو غير مؤقلم؛ فالأمر بعيد عن ذلك. وكما هي الحال مع قراءة دي جينوفا للحدود الأمريكية-المكسيكية، تدل العولمة على تكاثر وانتشار الحدود والأقاليم غير المتجانسة وترابطها الانسيابي عبر مجموعة من المستويات. غير أن قبول هذه المفاهيم الأحدث للإقليمية من شأنه أن يجعل التحليل أصعب بكثير؛ فالإقليمية، من جانب مهم، هربت من قيود الإقليمية (المتمركزة حول الدولة) دون محو تلك الهياكل الموروثة. والإقليمية في القرن الحادي والعشرين هي منظومة لا محدودة من الحدود والقيود. (4) ملاحظات ختامية
إن هذا الدليل التقريبي للطرق التي تغير بها البحث العلمي للإقليم، يكشف عن أن موضوعا بدا في وقت ما بسيطا وواضحا قد أصبح معقدا ومحل نزاع نوعا ما. والشعور المتصاعد بالتعقيد هو، في جزء منه، نتاج مقاربات متداخلة الاختصاصات على نحو متزايد لدراسة الموضوع، ولا شك أيضا أنه انعكاس للتغيرات التي طرأت على أقلمة العوالم التي يقطنها الباحثون والمعلقون (والآخرون جميعا) ويحاولون فهمها؛ فالتحولات الاجتماعية المكانية الضخمة المرتبطة - على سبيل المثال - بعمليات الاستعمارية، والإمبريالية، والحروب العالمية، والحروب المحلية، والحروب الباردة، وتصفية الاستعمار، والتمدن، والنضال من أجل الحرية، والعولمة، والثورات التي لا تنتهي في مجال الاتصال والنقل؛ تكفل على نحو كبير عمليات إعادة التشكيل الإقليمي المتواصلة على جميع مستويات الخبرة والتحليل. ويبدو أن هذه التحولات تتطلب تدبرا وإعادة تفكير على نحو مستمر.
الفصل الثالث
الإقليمية البشرية وحدودها
(1) مقدمة
استعرضت في الفصل السابق مجموعة من المقاربات للإقليمية من بعض التخصصات المعرفية المهمة، وأشرت إلى النزعة الحديثة لتحرير الموضوع من قيود هذه الرؤى المتخصصة، وغاب عن ذلك البيان أي مناقشة للمعالجة المطولة الأهم على نحو استثنائي للموضوع، وهي كتاب روبرت ساك «الإقليمية البشرية: نظريتها وتاريخها» (1986). ومن الإنصاف أن نقول إن كتاب «الإقليمية البشرية» ليس له مثيل في مجاله، ومحور تركيزه، وطموحه التحليلي، ويظل من أوجه عدة لا نظير له، بل إنه كان معتمدا على مدى أقل من 15 عاما بعد نشره ك «نص كلاسيكي» في الجغرافيا البشرية وإلهام إبداعي للباحثين اللاحقين (أجنيو 2000؛ باسي 2000ب). وخلافا لمعظم الأعمال التي تناولت موضوع الإقليم من قبله، كان أسلوب تناول ساك متعدد الاختصاصات على نحو قوي؛ إذ اعتمد على الأنثروبولوجيا، والاقتصاد، والتاريخ، والنظرية السياسية، وعلم الاجتماع ومجال تخصصه الأساسي وهو الجغرافيا البشرية. قد يكون من المهم أن نذكر أنه على الرغم من أن ساك قد وضع عمله وسط المجالات الفرعية للجغرافيا الاجتماعية والجغرافيا التاريخية، فإنه لم يفعل هذا فيما يتعلق بالجغرافيا السياسية، ذلك المجال الفرعي الذي كان حتى ذلك الوقت معنيا على نحو محوري بقضايا الإقليم. ربما كان المقصود من ذلك إشارة إلى التحرر، ولكن ربما أيضا كان - كما سأناقش على نحو أكثر استيفاء فيما يلي - دلالة على غياب نسبي للاهتمام بالعنصر السياسي في كتاب «الإقليمية البشرية».
Shafi da ba'a sani ba