وأضاف على سبيل التنبؤ: «سوف يحتاج المرء لتحديد ما إذا كان العراقيون قد طوروا مفهوما قوميا بحق منذ ذلك الحين أم لا» (ص40).
انخرط جغرافيون آخرون من حقبة منتصف القرن في «دراسات عن الحدود»، وقدمت دراسات حالة فيما يتعلق بالنزاعات الحدودية، والتغيرات الحدودية، والمراجعات الحدودية الأخرى مثل الضم والتقسيم. بالإضافة إلى ذلك، وإن كان هذا موضوعا ثانويا بشكل قاطع، بدأ بعض الجغرافيين في تحليل الحدود «الداخلية»، كتلك التي تتضمن ولايات الولايات المتحدة والمناطق الحضرية الكبرى والحكومات المحلية، وكذا العمليات المرتبطة بإعادة تقسيم الدوائر السياسية؛ غير أن هذه الأمور كانت في العادة لا تنظر في إطار الإقليم.
قبل سبعينيات القرن العشرين كان الإقليم في إطار معالجة الجغرافيين البشريين له مجال يكاد يقتصر على الجغرافيين السياسيين، الذين كانوا بدورهم مهتمين على نحو شبه حصري بالدولة القومية. ومع أواخر عام 1973، استطاع الجغرافي البارز جون جوتمان تأليف كتاب بعنوان «أهمية الإقليم»، اهتم فيه اهتماما شبه حصري بتاريخ الإقليم التابع للدولة في أوروبا الغربية، وحاول تبرير تطوره في إطار حالة عدم الاتزان بين «الأمن في مقابل الفرصة» و«الحرية في مقابل المساواة». ولكن وقتئذ، كما سوف نرى لاحقا في هذا الفصل، كان تخصص الجغرافيا البشرية قد بدأ يتغير. (2-3) الأنثروبولوجيا
على عكس العلاقات الدولية والجغرافيا السياسية، لم يكن الإقليم موضوعا محوريا لهذه الدرجة في الأنثروبولوجيا التقليدية، غير أنه كان يدرس كجانب من موضوعات أساسية مثل الثقافة والتغيير الثقافي، والعلاقات بين العرقيات المختلفة، ورابطة الدم والنسب، ومنظومات المعنى الرمزي، واستخدام الموارد وحيازة الأرض، والتنظيم السياسي في مرحلة اللادولة أو ما قبل الدولة. وبالنسبة إلينا يمثل أهمية كمصدر للتفسيرات الخاصة بالإقليم في سياقات خلاف تلك التي تركز على الدولة ذات السيادة؛ وبمقتضى ذلك، يشكل أهمية كمصدر لعمليات إعادة تنظير أكثر حداثة.
ركزت مجموعة فريدريك بارث المؤثرة بعنوان «الجماعات العرقية والحدود: التنظيم الاجتماعي للاختلاف الثقافي» تركيزا صريحا على آليات صنع الحدود الإثنوجرافية والحفاظ عليها؛ فقد أشار بارث إلى أن: «جل الاستدلال الإثنوجرافي يرتكز على فرضية أن التباين الثقافي متقطع. والاختلافات بين الثقافات وحدودها وروابطها التاريخية أوليت الكثير من الاهتمام؛ أما تكوين الجماعات العرقية، وطبيعة الحدود بينها، فلم يلقيا نصيبا مماثلا من البحث» (بارث 1969، 9). تختلف هذه المساحات الثقافية ذات الحدود من نواح مهمة عن الإقليم حسبما عولج في العلاقات الدولية والجغرافيا. والتركيز في الأنثروبولوجيا ينصب على العزلة والتنوع أكثر من الإقصاء والاستئثارية؛ على الهوية والعضوية الذاتية النسب أكثر من استخدام السلطة. تتضمن الحدود وممارسات الحفاظ على الحدود والتفاوض بشأنها قضايا تشابه واختلاف. و«التركيز الأهم» ينبغي - وفقا لبارث - أن ينصب على «الحد العرقي الذي يعرف المجموعة، وليس المحتوى الثقافي الذي يحيط به» (ص15). فالمساحات المحددة بفعل هذه الحدود قد تكون لها، أو لا تكون، صيغة مادية ثابتة؛ بل إنها، في الواقع، قد تتحرك بتحرك «المضمون الثقافي». ومثل هذه الممارسات الخاصة بالحدود، من منظور يفترض الثبات المكاني للإقليم، من شأنها أن تكون لا إقليمية بالضرورة؛ أو ربما كان «الحد» و«الإقليم» يستخدمان بمعنييهما الأكثر مجازية. غير أنه من منظور آخر، ذلك الذي لا يرى تعارضا بالضرورة بين التنقل والإقليم، تنبع الاحتمالية من التفكير في الإقليم بطرق تحيد على نحو أكثر إثارة عن نموذج العلاقات الدولية؛ على سبيل المثال: بحث بعض علماء الأنثروبولوجيا آليات الإقليم والإقليمية بين مجتمعات الصيد وجمع الثمار، والرعويين، والبدو. قد يبدو ذلك محيرا للوهلة الأولى؛ نظرا لأن هذه النوعيات من المجتمعات ربما تعد «غير» إقليمية بالضرورة مقارنة بالشعوب المقيمة المستقرة. ولكن مرة أخرى، قد يكون اللغز أقرب إلى كونه نتيجة ترتبت على مفهوم بالغ السذاجة أو متمركز حول الدولة للإقليم.
ويبحث المساهمون في كتاب منقح مهم تأليف مايكل كازيمير وأبارنا راو بعنوان «التنقل والإقليمية: الحدود الاجتماعية والمكانية بين مجتمع الصائدين البريين، وصائدي الأسماك، والرعويين، والرحالة» (1992)، في هذه المسألة تحديدا. على سبيل المثال: كان وصف آلان برنارد للإقليمية بين جامعي الثمار والصيادين في جنوب أفريقيا على النحو التالي:
إن الحدود الاجتماعية المحفوظة لدى قبائل البوشمن، أو مجتمع الصيد وجمع الثمار الجنوب أفريقي؛ محددة وفقا للغة والثقافة وعلاقات النسب والدم، وتضم هذه الحدود تلك القائمة بين البوشمن وغير البوشمن، وبين جماعة وأخرى من البوشمن، وداخل مجتمعات معينة من البوشمن، وبين تجمعات عنقودية خاصة (أي من تجمعهم روابط)، والمجموعات والعائلات. والحدود المكانية تسير في خط مواز مع هذه الحدود بدرجة ما، إلا أنها ليست دائما متطابقة؛ فهي تعتمد على حقوق الدخول إلى الإقليم ومفاهيم استخدام الحيز فيما يتعلق بأنماط السلوك الملائمة. وبعض جوانب الحفاظ على الحدود المكانية والاجتماعية تقتصر على طوائف معينة من البوشمن، بينما الجوانب الأخرى تكون مشتركة بين جميع أفراد البوشمن أو مجتمع الصيد البري وجمع الثمار عموما. وبالنظر إلى أن الإقليمية توجد في سياق مجموعة أوسع من العلاقات بين الإنسان والبيئة وبين الأفراد، فلا بد أن يكون البحث في مسألة الإقليمية داخل مجتمع الصيد وجمع الثمار مبررا لأهميتها ضمن هذه المجموعة الأكبر من العلاقات. (1992، 137-138)
قد نلاحظ أيضا أن أي حساسية إثنوجرافية من شأنها إبراز التفاصيل العملية للعوالم الحياتية على نحو يفوق ما يحدث عادة في النظريات العامة المتعلقة ب «الدولة». ويناقش مساهم آخر في هذه المجموعة، وهو أندزاي ميجرا، بعضا من الآليات الخاصة للإقليمية داخل طائفة الروما بأوروبا الشرقية:
ثمة شكل خاص للإقليمية يتصل بالوحدة الاجتماعية الاقتصادية الأساسية ل «الغجر» الرحالة المعروفين في السياق البولندي ب «تابور». لم يكن مفهوم الإقليمية هنا ينطبق على منطقة جغرافية أو إدارية واحدة، بل يطابق مجموعة من الأماكن التي وجدت فيها - أو استطاعت أن توجد فيها - مجموعة ما من التابور وجودا ماديا في أي لحظة بعينها؛ فكان يستدعى إلى الذهن كلما حدث واستقر أعضاؤها في مكان ما؛ ومن ثم كان أقرب إلى منطقة متنقلة أو متغيرة. كان أساسها هو حق الأولوية الذي كان يحترم من قبل طوائف «التابور» الأخرى، ووجود شعور بأنهم «ملاك مؤقتون»؛ إذ كان التفاوض يحدث جزئيا مع السلطات المحلية. (ميجرا، في كازيمير وراو 1992، 268)
وبقدر أدق من التحليل، يناقش جوزيف برلاند «الأقاليم المتنقلة» لشعوب باكستان الرحالة؛ فكتب يقول إنه في جميع أنحاء مجتمعات باكستان المتنقلة:
Shafi da ba'a sani ba