ثمة تخصص معرفي آخر كان الإقليم محل اهتمام جوهري تقليدي له، هو الجغرافيا البشرية. ميز هذا المجال نفسه تاريخيا عن المجالات الأخرى من خلال اهتمامه المحوري بالفئات الاجتماعية للمكان، والحيز، والمنظر الطبيعي. بالطبع يعد الإقليم عنصرا مهما من عناصر العلاقات المكانية الاجتماعية البشرية، وقد شكلت هذه الموضوعات الأساس أيضا لتصور الجغرافيا كمجال معرفي «مركب»؛ أي كنوع من المجالات الأولية المتعددة الاختصاصات، وظيفته توليف المعرفة التي تنشأ في المجالات الأخرى، واستعراض العلاقات فيما بينها في العالم المادي (جيمس 1972؛ ليفينجستون 1993). على الجانب الآخر، كان ثمة شكل واضح نوعا ما من التخصصية، غالبا ما يعاد تشكيله من خلال زيادة المجالات الفرعية مثل الجغرافيا السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية، والحضرية، التي غالبا ما تكون أبعد ما يكون عن مستوى التوليف المرجو.
إذا كان من الممكن وصف العلاقات الدولية كتخصص معرفي يعد الإقليم أساسيا بالنسبة إليه ولكنه في الوقت نفسه نادرا ما يتم تناوله وبحثه على نحو صريح، لا يمكن أن يسري الأمر نفسه بالنسبة إلى الجغرافيا، أو على الأقل ليس بالمعنى نفسه؛ فقد خلف الجغرافيون وراءهم على مر الأجيال قدرا كبيرا من المعرفة حول الأشكال، والوظائف، والعمليات المرتبطة بالإقليمية والحدود. سوف أتناول هذه الأمور لاحقا، ولكن سوف أذكر أولا سمتين عامتين لمعالجة الإقليم في الجغرافيا تختلفان عن معالجته في العلاقات الدولية؛ الأولى: بينما ركز الكم الأكبر من الاستكشاف التاريخي للإقليم على علاقته بالدولة القومية، شرع بعض الجغرافيين في منتصف القرن العشرين في دراسة آليات الإقليم «داخل الدولة» في سياقات مثل الفيدرالية، وتكوين الحدود داخل الدولة، وتوسعة حدود المدن، وإعادة تقسيم الدوائر، وما إلى ذلك (ديكشيت 1975؛ موريل 1981). الثانية: يوجد أيضا تقليد في الجغرافيا الاجتماعية يتمثل في فحص ودراسة آليات الإقليم في السياقات «البعيدة عن الدولة»، وفي هذا المقام، يتداخل الموضوع مع موضوع الحيز الاجتماعي الأعم (لي 1983).
من ناحية القرب، كانت معالجة الإقليم في الجغرافيا شديدة الشبه بمعالجة مجال العلاقات الدولية الواقعية، وكانت «السياسة الجغرافية» من الاهتمامات الأساسية. وبحسب تعريف سول كوهين لها، «السياسة الجغرافية هي الدراسة التطبيقية لعلاقة الحيز الجغرافي بالسياسة» (1994، 17). وفي التاريخين القديم والمعاصر للجغرافيا السياسية يعرف فريدريك راتزل (1844-1904) عموما كواحد من «آبائها المؤسسين» (باركر 1998)؛ فخلال ذروة التوسع الإمبريالي الأوروبي صاغ رؤية للإقليم ربما يراها المراقبون المعاصرون غريبة الأطوار، غير أن هذه التفسيرات كانت لها أهميتها آنذاك، وظل لها نفع واستمرارية في القرن الحادي والعشرين، على الرغم من حقيقة أن عالمه وعالمنا مختلفان اختلافا جذريا من نواح عدة. ولكن ربما يكمن نفعها الدائم تحديدا في جدواها في «رفض» هذه الاختلافات، وتأكيد الرؤية الراسخة المفترضة سابقا من قبل مجال العلاقات الدولية الواقعية وخطاب إدارة الدولة لدى القوى العظمى.
عبر فريدريك راتزل، وهو صحفي متجول تحول إلى جغرافي أكاديمي، عما أطلق عليه مفهوما «عضوانيا» لإقليم الدولة (هيفرنان 2000؛ أوتواثيل 1996). فقد أكد في ورقته البحثية التي بعنوان «قوانين النمو المساحي للدول» (1896 [1969]) على «أننا نتعامل داخل الدولة مع طبيعة عضوية، ولا شيء يناقض طبيعة العضوي أكثر من التحديد الصارم» (1896 [1969]، 17). وكتب مردفا: «كل شعب، بالنسبة إلى السياسة الجغرافية، قائم على حيز ثابت بالأساس، يمثل كائنا حيا بسط نفسه على جزء من الأرض وميز نفسه عن كائنات أخرى لها حدود ممتدة على نحو مماثل، أو بحيز شاغر» (ص18). والكائن الحي هنا ليس مجرد مؤسسة - الدولة - وإنما «شعبه» المرتبط به: «ثقافة» أو «أمة». وقد وضع راتزل ما قد نطلق عليه النظرية الجلدية للحدود؛ ف «الحد هو العضو المغلق للدولة أو المحيط بها، والمنوط بنموها وكذا تحصينها، ويشارك في كل التحولات التي تمر بها الدولة ككائن» (ص23). ولما كانت الدولة أشبه بكائن حي، كانت هناك ضرورة شبه بيولوجية نحو «النمو» الحرفي والمجازي. والتوسع الإقليمي مفهوم في إطار نظرية لمراحل النضج الحضاري، وينص القانون رقم واحد من «قوانين النمو المساحي» على أن «حجم الدولة ينمو مع ثقافتها» (ص18). ولكن ما الذي يمكن أن يعنيه الحديث عن «حجم» ثقافة ما؟ يعتمد راتزل في هذا المقام على المفهوم التطوري للتاريخ أو الأنثروبولوجيا، الذي قد تتطور، أو لا تتطور، فيه الثقافات «الأدنى» أو «الأولية» إلى ثقافات أكثر أو أقل «تقدما» أو «نضجا». وبمقتضى التوسع المجازي تكون الثقافة الأكثر نضجا أكبر من ثقافة أقل نضجا؛ ومن ثم تقتضي وتستحق مساحة أكبر. والبعض من الأخيرة يرتقي إلى منزلة «الحضارات»، وعن ذلك قال: «كلما انحدرنا في مستويات الحضارة، تصبح الدول أصغر» (ص19). وقد أضفت هذه الضرورات شبه الداروينية التطبيعية مظهرا بلاغيا من العلمية على الخطاب الجغرافي السياسي في مطلع القرن العشرين. وكما ذهب أحد الجغرافيين مؤخرا: «لقد قدم فريدريك راتزل مفردات سياسية - أكثر من أي شيء آخر - تحيط بها هالة من العلم لليمين الألماني؛ مفردات عبرت عن رغبة قومية متطرفة، وبررتها، في حيز ما، وكان من شأنها أن عجلت بحربين عالميتين في القرن العشرين» (أوتواثيل 1996، 38).
يمكننا رؤية بعض من تأثير أفكار راتزل في النص الأمريكي الذي وضعه صامويل فان فالكنبرج بعنوان «عناصر الجغرافيا السياسية» (1940)؛ فقد استخدم فان فالكنبرج نموذجا تطوريا عضويا على نحو صريح لترتيب «الأمم» على مقياس يتدرج من «الشباب» إلى «المراهقة»، إلى «النضج»، إلى «الشيخوخة». في هذا النص الذي كتبه عام 1939، لم يجد سوى ثلاث دول «ناضجة» هي: الولايات المتحدة، والإمبراطورية البريطانية، وفرنسا. أما ألمانيا وإيطاليا واليابان، في المقابل، فكانت دولا مراهقة واتسمت ب «طبيعتها الديناميكية» (ص9). ولكن بالنظر إلى طبيعة المراهقين، «لا بد من إبقائها تحت السيطرة، على أمل أن يعمل النضج على تخفيف آرائها السياسية» (ص9-10). من الجوانب المهمة لأي أمة، في رأي فان فالكنبرج، تكوينها العرقي، ولفظة العرق هنا «مستخدمة بالمعنى البيولوجي» (ص233). وفي فقرة رائعة سعى فيها للتوصل إلى «فهم أفضل لأسباب الثورة المضادة لليهود» (ص242) في جمهورية الرايخ الثالث المراهقة، أشار إلى بروز اليهود في المهن المختلفة، والقيمة النسبية للممتلكات الاقتصادية لليهود بالنسبة إلى أعدادهم. «ها هو السبب الحقيقي للمشكلة»:
قد يسميها أحدهم عداء عرقيا قائما على حقيقة أن اليهود لهم صفات غير جاذبة للآخرين ، وقد يسميها آخر غيرة اقتصادية قائمة على حقيقة أن اليهود لديهم المقدرة على السيطرة على مجالات بعينها. في حالة ألمانيا، كان الأسلوب الذي تم التعامل به مع المشكلة هو ما استفز بقية العالم أكثر من المشكلة ذاتها. لقد كان بمقدور ألمانيا بالتأكيد أن تكون أكثر كياسة. (1940، 243)
ولعل هذا هو أفضل مثال توضيحي يمكن تخيله لملحوظة كيرنز عن أن «الرؤية الجغرافية السياسية ليست بريئة على الإطلاق؛ فهي دائما رغبة تفرض تحليلا ما» (2003، 173).
وكنتيجة مباشرة لهذا النمط من التفكير، ظهرت عقبة ملموسة في الجغرافيا السياسية في منتصف القرن، تمثلت هذه المشكلة في كيفية «إزالة» الطابع السياسي عن المعرفة العلمية بشأن السياسة والحيز من أجل تحقيق شيء أشبه ب «الموضوعية»، أو شيء جدير بصفة «العلم» المشرفة. وكان من بين أكثر المصلحين تأثيرا ريتشارد هارتشورن. سعى هارتشورن، الذي ألف بحثا بعنوان «المنهج الوظيفي في الجغرافيا السياسية» (1950 [1969]) في أعقاب الحرب العالمية الثانية، إلى تقديم تحليل غير متحيز للإقليم، أو «حيز منظم سياسي» كما سماه.
وقد ذهب إلى أن مهمة الدولة هي «إرساء سيطرة كاملة وخالصة على العلاقات السياسية الداخلية؛ بعبارة بسيطة: وضع القانون والنظام، والحفاظ عليهما»، وبالإضافة إلى هذا «تأمين الولاء الأسمى لدى الناس في كل أقاليمها، في منافسة أي ولاءات محلية أو إقليمية، وفي معارضة مطلقة لأي دولة أو إقليم خارجي» (1950 [1969]، 35). وأكد أن «المشكلة الأولى والمستمرة التي تواجهها أي دولة هي كيفية دمج مناطق متشعبة أقل أو أكثر انفصالا في كل فعال» (ص35). إن المشكلة التي تواجه المتخصص في الجغرافيا السياسية تكمن في تقييم نقاط القوة النسبية للقوى «الجاذبة» (ص38) و«النابذة» (ص36)، التي تعمل داخل دولة إقليمية بعينها وتؤثر عليها. وهذا يستلزم تحليلا لعلاقات الأجزاء بالكل، وعلاقات الكل بالخارج. وقد يتم إجراء هذا من خلال دراسة للأقاليم القائمة، ومن خلال فحص الأقاليم المقترحة من أجل التنبؤ بالكفاءة الوظيفية. وبينما كان لهارتشورن مفهوم أكثر اجتماعية وأقل طبيعية للدولة، فإنه استعاض عن الاستعارات البيولوجية باستعارات من علم الفيزياء.
كان من بين القوى النابذة التي ذكرها هارتشورن السمات الطبيعية، مثل سلاسل الجبال والمسافة، ووجود «شعب مختلف، وبالأخص شعب غير ودود» (ص36)، وتنوع في اللغة أو الديانة أو النشاط الاقتصادي معبر عنه إقليميا. وهذه الأمور، خاصة إن كانت مجتمعة، يمكن أن تنهك السلامة الإقليمية. وأهم القوى الجاذبة التي قد تتصدى لهذه الأمور هي ما أطلق عليه هارتشورن «فكرة الدولة» (ص38)، أو سبب الوجود لدى الدولة. ربما توجد «فكرة الدولة» في عقول هؤلاء الذين يسعون لإنشائها أو الحفاظ عليها، ولكن لا توجد فكرة دولة عالمية عامة؛ بل إن فكرة دولة بعينها يمكن فقط أن تكتشف من خلال بحث مفصل. ويمضي البحث إلى الإجابة عن أسئلة على غرار: «لماذا توجد فنزويلا؟»، «لماذا توجد لبنان؟»، «أي فكرة دولة تربط الأجزاء المختلفة لأفغانستان معا؟». قد يتساءل أحدهم حينئذ عما إذا كانت «فكرة الدولة» الخاصة بدولة بعينها قوية بما يكفي لصد القوى النابذة التي من شأنها أن تفككها إقليميا، أو ما إذا كان من الممكن لفكرة دولة مضادة أن تكون قوية بما يكفي لدعم الانفصال أو التقسيم. والمثير في الأمر، في ظل الأحداث الأخيرة، أن المثال الذي ساقه لفكرة الدولة يتعلق بالعراق الذي كان «سبب وجوده» متأصلا في: (1) الاعتراف من قبل القوى العظمى ذات الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية بمنطقة بلاد الرافدين، و(2) الحاجة لتوفير مكان للقومية العربية المطرودة من سوريا. وعلى أساس هذين الاعتبارين أسس إقليم (لاحظ صيغة المبني للمجهول) يضم منطقة سهول دجلة والفرات العربية المستقرة، جنبا إلى جنب مع مناطق القبائل الجبلية والصحراوية المتاخمة لها على الرغم من اختلافها، لينشأ الكل كدولة عربية منفصلة. (1950 [1969]، 40)
Shafi da ba'a sani ba