ثمة بعد أخير للإقليم قليلا ما يمنح الانتباه المستحق، ولكنه يتيح لنا رؤية مدى تعقيده على نحو أوضح وهو «العمودية». إن أكثر السبل شيوعا التي يناقش بها الإقليم هي تلك التي تتعامل معه «أفقيا» فقط؛ أي كمساحة محدودة ذات بعدين أو مجموعة من المساحات «المتشابهة»، كتلك التي تشكل المنظومة الدولية للدول أو أنماط الحيازات العقارية، أو أقلمة أماكن العمل الداخلية. والإقليم في هذه السياقات إنما يشير إلى طرق تمييز «دواخل» و«خوارج» متعارضة، مثل: محلي/أجنبي، أو خاص/عام، أو مسموح/ممنوع، أو ملكنا/ملكهم، أو ملكي/ليس ملكي. ولكن كما يشير الطرح السابق حول قابلية الإقليم للتأويل، فإنه في نظام اجتماعي حديث يتسم بالأنظمة العالمية الشاملة لسيادة الدولة (وكذا بنظم تأجير أو امتلاك الأراضي)، يتمركز كل مكان مادي - كالمكان الذي تجلس فيه وأنت تقرأ هذه الكلمات - داخل مصفوفة كثيفة من الأقاليم والتشكيلات الإقليمية «المتعددة المتداخلة»، و«المعاني» الخاصة بكل واحد من هذه الأقاليم (وعلاقات السلطة التي تتضمنها هذه المعاني) تتشكل بالنسبة إلى الأقاليم الأخرى عبر «المستويات» المتباينة.
تتعلق «العمودية» بالتوزيع الإقليمي للسلطة بين كيانات متمايزة مفاهيميا فيما يتعلق بجزء ما منفصل من الحيز الاجتماعي. وهكذا فإن المناقشات أو المجادلات بشأن نطاق أو حدود الحكومات القومية - وأبرزها الأنظمة الفيدرالية - والدول التأسيسية، أو المقاطعات، أو المناطق؛ تشير ضمنا إلى عمودية الأقاليم، وكذلك تفعل الحجج المتعلقة ب «الاستقلال المحلي» في مقابل مستويات «أعلى» من الحكومة أو التنظيمات الهرمية الأخرى. ربما يجدر بنا أن نشير إلى أن الحديث عن «العمودية» وعن المستويات «الأعلى» و«الأدنى» من الإقليم حديث مجازي، وهذه طرق تقليدية للحديث عن العلاقات داخل الأقاليم (وعلاقات السلطة التي تتضمنها) من مختلف النوعيات. وبصرف النظر عن التفاصيل الخاصة بالكيفية التي تعمل بها الفيدراليات المتعددة مثل الولايات المتحدة والمجموعة الأوروبية، على سبيل المثال، لا يوجد شيء «أعلى» بالمعنى الحرفي للكلمة بشأن هذه الفيدراليات في مقابل الوحدات «الأدنى» التي تتألف منها؛ فشيء يسمى «كندا» ليس أقرب إلى الشمس من شيء يدعى «جزيرة الأمير إدوارد». ويجذب مفهوم العمودية وأساليب الخطاب الشائعة الخاصة فيما يتعلق ب «مستويات» الانتباه (أو ربما يكون مصطلح «استحضار» أفضل من «الانتباه») إلى «الحدود» التنظيمية المجازية المفاهيمية التي تفصل وتميز الأقاليم المتمايزة التي ترى بالنسبة إليها. وإذا كان المعنى والمدلول العملي لإقليم ما - سواء أكان غرفة، أم شقة، أم مجمعا سكنيا، أم بلدية، أم مقاطعة، أم دولة قومية - مفتوحا على الأرجح لتأويلات متباينة، وإذا كانت معاني الحدود المحددة ماديا بين الأمثلة المختلفة لنوع الإقليم نفسه قابلة للنقاش والجدل؛ فإن «الخطوط» العديدة المجازية التي تفصل مختلف أنواع الأقاليم لا يمكن أن تكون أقل من ذلك. والواقع أن سياسات الإقليمية في هذه السياقات قد تكون ذات أهمية، شأنها شأن السياسات المعترف بها على نحو أكثر شيوعا للأقاليم «الأفقية» والمتشابهة. وعادة ما تكون النقاشات بشأن العمودية قاسما مشتركا بين الاستعارات المجازية الخاصة ب «الغزو» و«الانتهاك» المستخدمة في فهم الإقليم «الأفقي».
على القدر نفسه من الأهمية، على الأقل في بعض الأماكن، يأتي الحد المفاهيمي الذي يميز السيادة والحيازة، أو الحكم والملكية؛ إذ يعتقد أن هذه الأمور تشير إلى أنظمة أو مساحات إقليمية متمايزة؛ فجزء كبير من قانون العقارات في النظم القانونية الليبرالية يختص بالعلاقات الأفقية، مثل تلك التي يتخللها ملاك أراض مجاورون، ولكن جزءا كبيرا منه أيضا يتركز على العلاقات المنظمة على أساس أقلمة حقوق الملكية وأقلمة الحكومات، أو البلدية المحلية، أو الدولة، أو المواطن، التي تكون الملكية مدمجة فيها. تأمل مرة أخرى قضية الولايات المتحدة ضد أوليفر، التي صدقت فيها المحكمة العليا الأمريكية على تفتيش دون إذن لعقار خاص من قبل الشرطة. كان من الأمور محل النزاع في هذه القضية معرفة ما إذا كان ينبغي اعتبار المواقع البعيدة نسبيا عن منزل المالك مواقع «خاصة» (ومن ثم تستحق الحماية المشددة التي تتوافر من خلال استصدار إذن)، أم «عامة» بصرف النظر عن الملكية. ولكن الحالات التي تشبه هذه الحالة تتضمن عمودية أيضا لأنها تستلزم تقليصا للسلطة (الحقوق) المرتبطة بنوع من الأقاليم (العقار)، وتعزيزا للسلطة (سلطة الشرطة) المرتبطة بإقليم مختلف مفاهيميا (الدولة) ولكنه متداخل. علاوة على ذلك، فقد حسمت هذه القضية على أساس فهم للعلاقة بين سلطة الولاية (التي كانت في هذه القضية ولاية كنتاكي)، والقانون الدستوري الفيدرالي (التعديل الرابع الذي فسر تاريخيا ليسري على حكومات الولايات). والحدود بين نظام الملكية المؤقلم ونظام الحكومة تقحم في عدد لا حصر له من المواقف المتنوعة، مثل: قوانين الإسكان، وحرية التعبير، وتنظيم النشاط الجنسي، وقوانين الأسرة، وحماية البيئة. وكما سنرى في الفصل الرابع فيما يتعلق بالنسب الإقليمي لإسرائيل/فلسطين، فإن الحد المجازي بين «السيادة» و«الملكية» - وسياسة وضعه وتعديله - من ضمن العناصر الأهم والأكثر نشاطا للإقليمية على نحو أعم. ويمكن طرح الفكرة نفسها فيما يتعلق بسياقات أخرى عديدة، مثل خصخصة أو تفكيك الملكية الجماعية للأرض في المجتمعات الاستعمارية أو ما بعد الشيوعية، أو إلغاء القيود في دول أخرى. وسواء أكان التصور الموضوع للسلطة يتمثل في كونها توزع «إلى أسفل» أو «إلى أعلى»، فإن العملية إقليمية نظرا لأن الأفراد المشاركين ذوي الصلة هم أنفسهم خاضعون للأقلمة. وعمودية الإقليم محل نزاع أيضا في تلك الهياكل المؤقلمة التي تضم عددا هائلا من الدول القومية؛ فالمناطق التجارية، مثل منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، ومنظمات التنسيق العسكري المحددة إقليميا مثل منظمة حلف شمال الأطلسي، والأنظمة والمنظمات الدولية المتعددة الأطراف التي لا تحصى؛ كثيرا ما تثير الجدل بشأن «تآكل السيادة» للدول الأعضاء فيها. وأي طرح عام للإقليم يتجاهل العمودية إنما يغلق ما قد يكون من ضمن أهم أبعاد الإقليم؛ لأن أي إقليم حديث راسخ داخل التشكيلات المعقدة من المساحات المتمايزة والبنيوية في ذات الوقت على نحو تبادلي، التي توزع من خلالها السلطة ويعاد توزيعها. وبمجرد إدراك هذا، تصبح «البواطن» و«الظواهر» البسيطة والتبسيطية للإقليم أكثر صعوبة في تقبلها. (6) ملاحظات ختامية
كان الهدف من هذا الفصل هو فتح موضوع الإقليم عن طريق تمييز جوانب الإقليم - كظاهرة اجتماعية، وتاريخية، وثقافية، وسياسية، ومفاهيمية - التي عادة ما تهمش أو تقصى كليا. وكما ذكرت مرارا، عادة ما يفهم الإقليم كأداة لتبسيط وتوضيح دور السلطة في العلاقات الاجتماعية. ولا شك أنه غالبا ما يكون له هذا التأثير؛ فعبارة «ابتعد» غالبا ما تعني ابتعد. ولكن ثمة مهمة أكثر إيجابية تتمثل في تجاوز هذه الرؤية البسيطة لنرى ما قد يكون غامضا، وفي الفصل التالي نتناول هذا الهدف بأسلوب مختلف نوعا ما، من خلال إجراء عملية استكشاف للإقليم مع ظهوره في فروع معرفية أكاديمية متعددة.
الفصل الثاني
الإقليم داخل الإطار المعرفي وخارجه
(1) مقدمة
يمكن مراجعة الممارسات الإقليمية البشرية في فترات الانحسار والتراجع من التاريخ الإنساني، والحق أن الإقليمية في أشكالها المتنوعة عادة ما يتم تطبيعها كضرورة بيولوجية (أردلي 1966)، وكغريزة بدائية (جروسبي 1995)، وكظاهرة مستمرة بالأساس في ظل إظهار الرئيسيات وجميع الفصائل الحيوانية للإقليمية (تايلور 1988). وبالتأكيد يمكن، داخل السجل التاريخي للغرب، تحديد بقايا تمتد من أفلاطون إلى مونتسكيو تدعم فكرة وجود جوهر راسخ لماهية الإقليمية في الأساس؛ وأنها أساسية من ناحية ما (انظر، على سبيل المثال، المختارات لدى كاسبرسون ومينجي 1969). غير أن التنظير الصريح للإقليم والإقليمية هو ظاهرة حديثة نسبيا ظهرت في ظل مجموعة محددة من الظروف السياسية (الجغرافية) والتاريخية. علاوة على ذلك، فإن الاعتراف بالإقليمية كمفهوم موضع نزاع (وغير جوهري)، أو كمجموعة من الأفكار، والصور، والممارسات البالغة الإشكالية والجديرة بالتدقيق النظري؛ يعد إلى حد كبير تطورا نشأ بالأساس طوال الثلاثين عاما الماضية.
كان موضوع الإقليم مسألة جوهرية نوعا ما في مجموعة من الاختصاصات الأكاديمية، وقد كان بالنسبة إلى البعض منها، مثل مجال العلاقات الدولية والجغرافيا البشرية، في غاية الأهمية؛ وكان بالنسبة إلى البعض الآخر، مثل الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلم النفس، محور اهتمام أكثر تخصصا لمجالات فرعية مثل الأنثروبولوجيا السياسية، وعلم الاجتماع الحضري، وعلم النفس البيئي. وقد كان معنى الإقليم وأهميته بالنسبة إلى كل مجال مشروطين بشكل قوي بمحاور الاهتمام الخاصة بمجال الدراسة التابع لكل فرع معرفي، مثل: السيادة (العلاقات الدولية)، أو الثقافة (الأنثروبولوجيا)، أو الخصوصية (علم النفس)؛ لذلك قد تبدو للوهلة الأولى الصلة التي تربط بين الأدوار التي يلعبها الإقليم في أساليب الخطاب التخصصية محدودة. غير أنه عند النظر إليها عبر مجموعة من مثل أساليب الخطاب هذه، نجد أن المفاهيم المتعددة للإقليم مدعومة بمجموعة مشتركة من الافتراضات السابقة الجوهرية.
ينقسم هذا الفصل إلى جزأين؛ في الجزء الأول أعرض دراسة لكيفية معالجة الإقليم في مجموعة من أساليب الخطاب التخصصية، وفي ظل العدد الكبير من الفروع المعرفية وقيود المساحة لهذه «المقدمة القصيرة»، لا أدعي أنني سأعرض أي شيء يقترب بأي حال لأن يكون دراسة شاملة؛ فبحكم الضرورة ثمة جزء كبير لم يتطرق إليه وكان ينبغي إدراجه بلا شك، وما هو مدرج معالج معالجة سريعة نوعا ما. والأهداف من وراء ذلك هي إبراز بعض الإنجازات الأساسية التي جلبها كل مجال إلى فهمنا للموضوع، واستكشاف الدور الذي تلعبه المفاهيم الخاصة بالإقليم فيما يتعلق بالمسائل الأساسية التي تعالجها هذه الفروع المعرفية. كذلك أشير إلى ثغرات وأوجه تفكك مهمة تميز هذه المناهج المعرفية. والحق أن أفضل شكل يمكن أن ننظر به إلى هذا الجزء هو أن نعتبره استكشافا ل «الأقلمة الأكاديمية للإقليم»؛ لأن الاختصاصات المعرفية المختلفة استخدمت المفاهيم الخاصة بالإقليم استخداما تقليديا من أجل تعيين حدود لمحاور اهتمامها الأكثر محورية، وتمييز أنفسها عن الفروع والمجالات الأخرى.
Shafi da ba'a sani ba