Introductions to the Science of Recitations
مقدمات في علم القراءات
Mai Buga Littafi
دار عمار
Lambar Fassara
الأولى
Shekarar Bugawa
١٤٢٢ هـ - ٢٠٠١ م
Inda aka buga
عمان (الأردن)
Nau'ikan
المقدمة
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين، أنزل الكتاب على نبيه الأمين، ويسره للذكر فقال:
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: ١٧]، ورفع عن هذه الأمة الحرج والمشقة، فأمر رسوله أن يقرئ أمته القرآن على سبعة أحرف، كلها كاف شاف، وبأيها قرءوا فقد أصابوا.
والصلاة والسلام على رسول الله الرءوف الرحيم بأمته، الذي كان منهجه دائما طلب التخفيف والتهوين: «هوّن على أمتي»، «أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك»، وحين أجيب دعاؤه بالتخفيف على الأمة أعطي ثلاث دعوات مستجابات فقال: «اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلى الخلق كلهم حتى إبراهيم ﵊» (١).
وبعد:
فالكتاب الذي نقدمه اليوم للقراء الكرام بعنوان «مقدمات في علم القراءات» جاء ثمرة جهد متواصل لمدة غير قليلة، وبعد خبرة طويلة في تدريس هذا العلم ومعرفته والاطلاع على معظم ما كتب فيه من دراسات وبحوث.
والكتب التي ألفت في هذا الباب كثيرة جدا، وفيها فوائد قيمة، ومباحث نافعة، ومعلومات طيبة.
ولكن الذي يميز هذا الكتاب أمران:
أحدهما: أنه كتاب منهجي أعدّ وفق الخطة التدريسية لمادة «مدخل إلى القراءات القرآنية» التي تدرس في كلية الدعوة وأصول الدين، وفي عدد من الكليات والمعاهد الشرعية في الأردن وخارجه.
_________
(١) هذه العبارات مقتبسة من روايات حديث الأحرف السبعة وسيأتي تخريجها في موضعه من الكتاب.
1 / 5
وثانيهما: أنه أضاف كثيرا من الإضافات النوعية فيما يتعلق بمحتوى المادة العلمية التي يحسن أن يدرسها الطلبة ويلمّوا بمعرفتها في هذا العلم، كالتعريف بأصول القراءات، وبالأصول التي يقرأ بها القراء العشرة، وكالمؤلفات في علم القراءات والعلوم المتصلة به، وأقسامها، والإشارة إلى بعض الشبهات التي أوردت على القراءات والرد عليها.
وكان من دوافع تأليف هذا الكتاب أن المدرّس لعلم القراءات لا يجد في المكتبة الإسلامية كتابا يجمع هذه المباحث ويعرضها بطريقة علمية ميسرة قريبة، بل كان مضطرا لمراجعة العديد من الكتب واختيار مباحث وصفحات من كل منها، وفي هذا ما فيه من المشقة على الطلبة والمدرّس في آن.
أما أسلوب الكتاب فقد كان سهلا واضحا إلى حد كبير، وبين أبحاثه ولغته انسجام رغم اشتراك ثلاثة في تأليفه وصياغته. وسيجد القارئ الكريم أن الكتاب يتسم بمنهجية البحث العلمي الجاد، والتوثيق الصحيح، وتنوع وغزارة المصادر والمراجع، وتحرير القول في كثير من المواضع التي كثر فيها الخلاف بين العلماء.
وكشأن أي جهد بشري، نعترف عن يقين أننا لن نبلغ الكمال مهما حاولناه، وقد نختلف في الرأي مع بعض القارئين الكرام، ونرجح ما يضعفه غيرنا، ولا بأس بذلك ولا ضير، فاختلاف الرأي لا يفسد للودّ قضية، وحسب الباحث أن يكون موضوعيا في التزامه الرأي الذي يقود إليه الدليل ويهدي إليه البرهان العلمي والنقل الصحيح.
ونرحّب بكل توجيه جاد وتنبيه على ما في الكتاب من أخطاء، لا بد من وجودها رغم المراجعة الكثيرة، والرغبة الصادقة في تجنبها، وعسى أن يتم استدراك ما يصلنا من تنبيهات القراء الكرام في طبعات لاحقة.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم المؤلفون
1 / 6
الفصل الأول الأحرف السبعة وعلاقتها بالقراءات العشر المتواترة
1 / 7
الفصل الأول الأحرف السبعة وعلاقتها بالقراءات العشر المتواترة
المبحث الأول روايات حديث نزول القرآن على سبعة أحرف
نزل القرآن الكريم على سبعة أحرف كما ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي ﷺ وقبل إيراد الروايات، وبيان معناها، ينبغي بيان معنى الحرف، فإن الأحرف:
جمع حرف، والحرف من كل شىء طرفه وشفيره وحدّه، ومن الجبل أعلاه المحدد ... وواحد حروف التهجي والناقة الضامرة أو المهزولة أو العظيمة ومسيل الماء، ... وعند النحاة: ما جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل (١)، ومن معاني الحرف في اللغة: الوجه، كقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ [الحج: ١١]، والمراد بالحرف هنا: الوجه، أي النعمة والخير، وإجابة السؤال والعافية، فإذا استقامت له الأحوال اطمأنّ وعبد الله، وإذا تغيرت عليه وامتحنه بالشدة والضر ترك العبادة (٢).
وقال الأزهري: «وكل كلمة تقرأ على وجوه من القرآن تسمى حرفا، يقرأ هذا في حرف ابن مسعود، أي: قراءة ابن مسعود» (٣).
ويرى الإمام أبو عمرو الداني (٤٤٤ هـ): أن الحرف يطلق على أمرين:
الأمر الأول: أن معنى الحرف الوجه من اللغات.
والأمر الثاني: أن معنى الحرف القراءة (٤).
_________
(١) طاهر أحمد الزاوي، ترتيب القاموس المحيط على طريقة المصباح المنير وأساس البلاغة (١: ٥٣٧)، والرازي، مختار الصحاح ص ١٤٨.
(٢) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري (٩: ٢٤).
(٣) ابن منظور، لسان العرب (٤: ٨٨).
(٤) د. عبد الصبور شاهين، تاريخ القرآن، ص ١٩٥، وما بعدها.
1 / 9
وقال الحافظ ابن الجزري نقلا عن الإمام الداني: «والوجه الثاني من معناها أن يكون سمى القراءات أحرفا على طريق السّعة، كعادة العرب في تسميتهم الشيء باسم ما هو منه، وما قاربه وجاوره، ... وكلا الوجهين محتمل، إلا أن الأول محتمل احتمالا قويا في قوله ﷺ: «سبعة أحرف»، أي: سبعة أوجه وأنحاء.
والثاني محتمل احتمالا قويا في قول عمر ﵁ في الحديث: «سمعت هشاما يقرأ سورة الفرقان على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله ﷺ، أي على قراءات كثيرة» (١).
وسيكون عرض هذا الموضوع ضمن النقاط التالية:
أولا: إيراد أهم روايات الأحاديث الواردة في الأحرف السبعة.
ثانيا: أقوال العلماء في معنى الأحرف السبعة، ومناقشتها، مع بيان الرأي الراجح.
ثالثا: التمثيل للأحرف السبعة بأمثلة تبين معناها، وذلك على النحو التالي:
أولا: بعض الأحاديث الواردة في أن القرآن الكريم نزل على سبعة أحرف:
لقد تواترت الروايات الواردة في نزول القرآن على سبعة أحرف عند المحدثين (٢) وقد نصّ الإمام الكبير أبو عبيد القاسم بن سلام على أن هذا الحديث تواتر عن النبي ﷺ.
وقال الحافظ ابن الجزري: «وقد تتبعت طرق هذا الحديث في جزء مفرد جمعته في ذلك، فرويناه من حديث عمر بن الخطاب، وهشام بن حكيم بن حزام، وعبد الرحمن ابن عوف، وأبي بن كعب، وعبد الله بن عباس، وأبي سعيد الخدري، وحذيفة بن اليمان، وأبي بكرة، وعمرو بن العاص، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، وسمرة بن جندب، وعمر بن أبي سلمة، وأبي جهم، وأم أيوب الأنصارية ﵃ (٣) وهذه بعض الروايات:
_________
(١) ابن الجزري، النشر في القراءات العشر (١: ٢٣ - ٢٤).
(٢) أشار إلى هذا التواتر، ونقل جملة من الأحاديث الواردة في موضوع الأحرف السبعة، الدكتور عبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ، في بحثه: حديث الأحرف السبعة، دراسة لإسناده ومتنه، واختلاف العلماء في معناه، وصلته بالقراءات القرآنية، ص ٢٧.
(٣) ابن الجزري، النشر في القراءات العشر (١: ٢١).
1 / 10
١ - عن ابن عباس ﵄ أنه قال: «قال رسول الله ﷺ: «أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف» (١).
٢ - وعن أبي بن كعب ﵁: أن النبي ﷺ كان عند أضاة بني غفار (٢) قال:
فأتاه جبريل فقال: «إن الله يأمرك أن تقرأ أمّتك القرآن على حرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمّتك القرآن على حرفين، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاء الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمّتك القرآن على ثلاثة أحرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاء الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمّتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا» (٣).
٣ - وعن أبي بن كعب ﵁ قال: «لقي رسول الله ﷺ جبريل فقال: يا جبريل إني بعثت إلى أمة أمّيين (٤): منهم العجوز، والشيخ الكبير، والغلام، والجارية، والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط، قال: يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف» (٥).
وفي رواية أبي داود: «ليس منها إلا شاف كاف ...» (٦).
_________
(١) رواه البخاري ومسلم، انظر: ابن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، في فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف (٩: ٢٣)، والنووي، صحيح مسلم بشرح النووي، في صلاة المسافرين، بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف (٦: ١٠١).
(٢) الأضاة: بوزن القناة والحصاة: الماء المستنقع كالغدير، وأضاة بني غفار موضع بالمدينة، ومنازل بني غفار غربي سوق المدينة، وبالسائلة من أجبل جهينة إلى بطحان، انظر: الخطابي، معالم السنن مع سنن أبي داود (٢: ١٦٠)، وابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر (١: ٥٣).
(٣) رواه مسلم، انظر: النووي، صحيح مسلم بشرح النووي، في صلاة المسافرين، باب: بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف، (٦: ١٠٣ - ١٠٤).
(٤) الأمّي: هو الذي لا يكتب، ولا يقرأ، ممن بقي على خلقته لم يتعلم الكتاب، انظر: الفيروزآبادي، القاموس المحيط، مادة «أمم»، ص ١٣٩٢.
(٥) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، انظر: سنن الترمذي، كتاب القراءات، باب ما جاء أنزل القرآن على سبعة أحرف (٥: ١٩٤ - ١٩٥).
(٦) سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف، رقم (١٤٧٧)، (٢: ١٦٠).
1 / 11
٤ - وعن عمر بن الخطاب ﵁ قال: «سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله ﷺ، فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله ﷺ، فكدت أن أساوره في الصلاة (١)، فانتظرته حتى سلّم، ثم لبّبته بردائه (٢)، فقلت: من أقرأك هذه السورة؟ قال: أقرأنيها رسول الله ﷺ، قلت له: كذبت، فو الله إنّ رسول الله ﷺ أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤها، فانطلقت أقوده إلى رسول الله ﷺ، فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان، فقال رسول الله ﷺ: أرسله يا عمر، اقرأ يا هشام، فقرأ هذه القراءة التي سمعته يقرؤها، فقال رسول الله ﷺ: هكذا أنزلت، ثم قال رسول الله ﷺ: اقرأ يا عمر، فقرأت القراءة التي أقرأني رسول الله ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: هكذا أنزلت، ثم قال رسول الله ﷺ: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه» (٣).
٥ - عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، قال: سمع عمرو بن العاص رجلا يقرأ آية من القرآن، فقال: من أقرأكها، قال: رسول الله ﷺ، قال: فقد أقرأنيها رسول الله ﷺ على غير هذا، فذهبا إلى رسول الله ﷺ فقال أحدهما: يا رسول الله آية كذا وكذا، ثم قرأها، فقال رسول الله ﷺ: هكذا أنزلت فقال الآخر يا رسول الله، فقرأها على رسول الله ﷺ فقال: أليس هكذا يا رسول الله، قال: هكذا أنزلت، فقال رسول الله ﷺ: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فأيّ ذلك قرأتم فقد أحسنتم، ولا تماروا فيه، فإن المراء فيه كفر، أو آية الكفر» (٤).
_________
(١) أي آخذ برأسه في الصلاة، انظر: ابن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري (٩: ٢٥) حديث رقم (٤٩٩٢).
(٢) أي: جمعت عليه ثيابه عند لبّته أي موضع نحره، وموضع القلادة من الصدر، لئلا يتفلت مني، وأخذت بمجامع ردائه في عنقه، وجررته به، وكان عمر بن الخطاب ﵁ شديدا في الحق، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفعل ذلك اجتهادا منه لظنه أن هشاما قد خالف الصواب، ولهذا لم ينكر عليه النبي ﷺ، وأمره بإرساله، أي: بتركه، انظر: المرجع السابق، والنووي، صحيح مسلم (٦: ٩٨)، والفيروزآبادي، القاموس المحيط، مادة (لبب)، ص ١٧٠.
(٣) رواه البخاري ومسلم، انظر: ابن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، في فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف (٩: ٢٣)، والنووي، صحيح مسلم بشرح النووي، في صلاة المسافرين، باب بيان أن القرآن نزل على سبعة أحرف (٦: ٩٨ - ١٠١).
(٤) الإمام أحمد، المسند، حديث رقم (١٧٨٥٥)، (٤: ٢٠٥).
1 / 12
٦ - عن أبيّ بن كعب ﵁ قال: قرأت آية، وقرأ ابن مسعود ﵁ خلافها، فأتيت النبي ﷺ فقلت: ألم تقرئني آية كذا وكذا، قال: بلى. فقال ابن مسعود: ألم تقرئنيها كذا وكذا، فقال: بلى كلاكما محسن مجمل، قال: فقلت له: فضرب صدري فقال: يا أبيّ بن كعب إني أقرئت القرآن، فقيل لي: على حرف أو على حرفين؟ قال: فقال الملك الذي معي: على حرفين، فقلت: على حرفين، فقال: على حرفين أو ثلاثة؟ قال الملك الذي معي: على ثلاثة، فقلت: على ثلاثة، حتى بلغ سبعة أحرف ليس منها إلا شاف كاف، إن قلت:
غفورا رحيما، أو قلت: سميعا عليما، أو عليما سميعا، فالله كذلك، ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب (١).
٧ - عن أبي بن كعب قال: «كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله ﷺ، فقلت: إنّ هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه، فأمرهما رسول الله ﷺ فقرءا، فحسّن النبيّ ﷺ شأنهما فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية، فلما رأى رسول الله ﷺ ما قد غشيني ضرب في صدري، ففضت عرقا، وكأنما أنظر إلى الله ﷿ فرقا، فقال لي: يا أبيّ أرسل إليّ أن أقرأ القرآن على حرف فرددت إليه أن هوّن على أمتي، فردّ إليّ الثانية: اقرأه على حرفين، فرددت إليه أن هون على أمتي، فردّ إليّ الثالثة: اقرأه على سبعة أحرف فلك بكل ردة رددتكها مسألة تسألنيها فقلت: اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي وأخرت الثالثة ليوم يرغب إليّ الخلق كلهم حتى إبراهيم ﷺ» (٢).
ثانيا: أقوال العلماء في معنى الأحرف السبعة
: قبل البدء باستعراض أقوال العلماء في معنى الأحرف السبعة لا بد من طرح بعض التساؤلات بين يدي الموضوع توطئة لبيان المعنى الذي يبدو راجحا في معناها.
_________
(١) الإمام أحمد، المسند، حديث رقم (٢١١٨٧)، (٥: ١٢٤).
(٢) صحيح مسلم (٦: ١٠١ - ١٠٣) رقم الحديث ٨٢٠.
1 / 13
هل نصّ النبيّ ﷺ على معنى الأحرف السبعة؟ وهل نصّ أحد من رواة الحديث على ذلك؟ وهل عرف الصحابة الكرام ﵃، وهم الصدر الأول معناها؟ أم أن معناها كان غير واضح لديهم؟
أما الجواب عن السؤالين الأولين، فهو أن النبي ﷺ لم ينص على معنى الأحرف السبعة، ولا نصّ أحد من رواة الحديث كذلك.
قال ابن العربي: «لم يأت في معنى هذه السبع نص ولا أثر، واختلف الناس في تعيينها» (١).
أما أن الصحابة الكرام ﵃ عرفوا معناها أو لم يعرفوا، فنقول بادئ بدء: بأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولا شك أن الأمة- وقتئذ- محتاجة لمعرفة معنى الأحرف السبعة لكي تتمكن من الإتيان بالرخصة، وهي القراءة وفق الأحرف السبعة وقد عمل الصحابة بهذه الرخصة.
ولذلك، فان النبي ﷺ والصحابة الكرام ﵃ لم يبيّنوا حقيقتها لأحد أمرين لا ثالث لهما:
الأمر الأول: أن معنى هذه الأحرف السبعة واضح عندهم مما جعلها غير محتاجة للبيان والتفسير؛ ولذلك لم يرد في شيء من روايات الحديث على تعددها وكثرتها أن أحدا سأل عن معناها، وقد اطلعوا عليها وعملوا بها، وهذا أقرب الأمرين إلى النصوص الواردة في معنى الأحرف السبعة.
الأمر الثاني: أن معنى هذه الأحرف السبعة غير واضح عندهم مع تعسّر فهمها لكثرتها وتشعّب فروعها مما احتاج مع ذلك إلى بحث واستقصاء قام به اللاحقون، وهذا قول يتناقض ومعنى الرخصة والتوسعة على الأمة، فقد فهموا معناها وعملوا بها، وحصل المقصود منها (٢).
_________
(١) الزركشي، البرهان في علوم القرآن (١: ٢١٢).
(٢) د. عبد العزيز القارئ، حديث الأحرف السبعة وصلته بالقراءات القرآنية، ص ٧٧ - ٧٨، وانظر نحوا من هذا الكلام بصورة موجزة مقتضبة: د. محمد سالم محيسن، القراءات وأثرها في علوم العربية (١: ٢٦).
1 / 14
ولا بد من التنبيه على أن الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ليست هي القراءات السبع التي اشتهرت في الأمصار باتفاق القراء (١)، بل هي جزء من الأحرف السبعة، وقد نقل ابن الجزري عن غير واحد من العلماء أنهم كرهوا ما فعله ابن مجاهد، فقال: «... ولذلك كره كثير من الأئمة المتقدمين اقتصار ابن مجاهد على سبعة من القراء، وخطّئوه في ذلك، وقالوا: ألا اقتصر على دون هذا العدد أو زاده أو بيّن مراده ليخلص من لا يعلم من هذه الشبهة ...» (٢).
وهذه أهم الأقوال التي قيلت في معنى الأحرف السبعة وقد بلغت أربعين قولا، كما حكى ذلك القرطبي والسيوطي وغيرهما (٣):
١ - أن هذا الحديث من المشكل المتشابه الذي لا يعلم معناه، وذلك لأن (الحرف) مشترك لفظي يصدق على معان كثيرة، وهو ينسب إلى ابن سعدان النحوي.
ويناقش هذا القول بأن الأحرف السبعة، هي كيفيات قد عمل بها الصحابة، ونقلوها إلى الآفاق رواية وتحملا وأداء، ولو كانت من المتشابه الذي لا يعلم معناه، لما عملوا بها، فإن التمكن من العمل بالرخصة، وهي نزول القرآن على سبعة أحرف، يلزمه معرفة معناها، أو كيفية أدائها، فيبعد حينئذ أن تكون الأحرف السبعة من المتشابه الذي لا يعرف معناه.
_________
(١) وهي قراءة نافع المدني، وابن كثير المكي، وابن عامر الشامي، وأبي عمرو البصري، والكوفيين الثلاثة: عاصم وحمزة والكسائي.
(٢) انظر هذه المسألة في عامة كتب القراءات وعلوم القرآن، ومنها: ابن الجزري، النشر في القراءات العشر (١: ٣٦)، وابن الجزري منجد المقرئين، ص ٥٤، ومكي بن أبي طالب، الإبانة عن معاني القراءات، ص ٣٨، وما بعدها، ومناع القطان، مباحث في علوم القرآن، ص ١٦٢.
(٣) انظر تفصيل الأقوال في معنى الأحرف السبعة: ابن الجزري، النشر في القراءات العشر (١: ٢٤) وما بعدها، وابن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري (٩: ٢٣) وما بعدها، وأبو شامة، المرشد الوجيز، ص ٩١ وما بعدها، وابن كثير، فضائل القرآن، ص ٦٧، والقرطبي، الجامع لأحكام القرآن، (١: ٣١) وما بعدها، والقرطبي، التذكار في أفضل الأذكار من القرآن، ص ٣٠، والزركشي، البرهان في علوم القرآن (١: ٢١٣ - ٢٢٧)، والصفاقسي، غيث النفع في القراءات السبع، ص ٩ - ١٥، ومكي بن أبي طالب، الإبانة عن معاني القراءات، ص ٨٠، ود. عبد العزيز ابن عبد الفتاح القارئ، حديث الأحرف السبعة، دراسة لإسناده ومتنه، واختلاف العلماء في معناه، وصلته بالقراءات القرآنية، ص ٧٨ - ٧٩، والزرقاني، مناهل العرفان (١: ١٥٣ - ١٨٣).
1 / 15
ثم إنه لا يسلم أن المشترك اللفظي لا يدرى أي معانيه هو المقصود؟ بل إن المشترك اللفظي يدل على معناه المقصود متى قامت قرينة تعين ذلك المعنى، ومن الأحاديث السابقة في معنى الأحرف السبعة تبين أن المقصود بالحرف معنى من معانيه على التعيين، وهو الوجه الأدائي، أو كيفية الأداء، وهذه الأوجه هي التي يرجع إليها الاختلاف في قراءة ألفاظ القرآن الكريم (١).
٢ - أن حقيقة العدد ليست مرادة لأن لفظ السبعة يطلق في لسان العرب، ويراد به الكثرة في الآحاد، وهذا القول ينسب إلى القاضي عياض.
ويناقش هذا القول: بأن العدد مراد في الحديث بدليل استزادة النبي ﷺ الحروف حرفا حرفا، ويزيده جبريل ﵇، فلو لم يكن العدد مرادا، لما
توقف العدد عند سبعة.
٣ - أن المقصود سبعة أصناف من المعاني والأحكام هي: الحلال والحرام، والأمر والزجر، والمحكم والمتشابه، والأمثال، وقيل: الحلال والحرام، والمحكم والمتشابه، والأمثال، والإنشاء، والإخبار، وقيل: الناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، والمجمل والمبين، والمفسر، وقيل: الوعد والوعيد والمطلق والمقيد، والتفسير، والإعراب والتأويل، وقيل غير ذلك.
ويناقش هذا القول: بأن الصحابة ﵃ قد اختلفوا وترافعوا إلى النبي ﷺ، كما ثبت في حديث عمر وهشام وأبيّ بن كعب، وابن مسعود وعمرو بن العاص، وغيرهم، فلم يختلفوا في تفسيره ولا في أحكامه، ولكنهم اختلفوا في قراءة حروفه، وكيفية أدائه.
واحتج بعضهم لهذا القول بما روى عبد الله بن مسعود ﵁ عن رسول الله ﷺ قال: «نزل الكتاب الأول من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف زاجرا وآمرا، وحلالا، وحراما، ومحكما، ومتشابها، وأمثالا، فأحلّوا حلاله، وحرّموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه،
_________
(١) الزرقاني، مناهل العرفان (١: ١٧٢).
1 / 16
واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا» (١).
وقد أجيب عن هذا الحديث بثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن هذه السبعة غير السبعة الأحرف التي ذكرها النبي ﷺ في الأحاديث، فقد فسرها في هذا الحديث بأنها الحلال والحرام ...، ثم أكد ذلك بالأمر بقوله: قولوا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا فدل ذلك على أن هذه غير القراءات.
الأمر الثاني: أن السبعة الأحرف في هذا الحديث هي تفسير للسبعة أبواب، وليست هي عين الأحرف السبعة.
الأمر الثالث: أن قوله: الحلال والحرام ... لا تعلق له بالسبعة الأحرف، ولا بالسبعة الأبواب، بل هو إخبار عن القرآن، أي هو كذا وكذا.
٤ - أن المراد سبع لغات من لغات العرب الفصحى أنزل القرآن بها فهي متفرقة فيه، فبعضه بلغة قريش وبعضه بلغة هذيل وبعضه بلغة هوازن، وبعضه بلغة اليمن، وهو قول أبي عبيد القاسم بن سلام.
ويناقش هذا القول: بأن هناك بعض الكلمات ليست من اللغات التي عدّوها، بدليل أن القرآن الكريم نزل بلغات كثيرة متعددة ليست منحصرة فيما ذكروا، فمثلا:
لفظ (سامدون) في قوله تعالى: وَأَنْتُمْ سامِدُونَ [النجم: ٦١] باللغة الحميرية، و(رفث) بمعنى الجماع، بلغة مذحج، وهكذا ... (٢).
٥ - أن المراد سبع لغات من لغات العرب، ثم اختلفوا في تعيينها فقال بعضهم:
قريش، وهذيل، وثقيف، وهوازن، وكنانة، وتميم، واليمن، وقال البعض الآخر: إنها خمس لغات في أكناف هوازن: سعد وثقيف، وكنانة وهذيل، وقريش، ولغتان على جميع ألسنة العرب.
ويناقش القول الرابع والخامس: بأن عمر بن الخطاب ﵁ وهشام بن حكيم قد اختلفا في قراءة سورة الفرقان كما ثبت في الصحيح، وكلاهما قرشي من
_________
(١) قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وانظر: الحاكم، المستدرك على الصحيحين، حديث رقم (٢٠٣١) (١: ٧٣٩).
(٢) الزرقاني، مناهل العرفان (١: ١٨٠).
1 / 17
لغة واحدة وقبيلة واحدة، ولو كان المقصود بالأحرف السبعة اللغات المختلفة أو كانت لغات متفرقة، لما اختلف القرشيان، ولغتهما واحدة، فظهر بأنّ المقصود من الأحرف السبعة شيء آخر غير لغات العرب.
٦ - أن المراد هو أنها لغات سبع تكون في الكلمة الواحدة في الحرف الواحد باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني، كقول القائل: هلمّ، وأقبل، وتعال، وإليّ، وقصدي، وقربي، ونحوي ...، فهذه الألفاظ السبعة: معناها واحد هو:
الطلب والإقبال، وهو منسوب لجمهور أهل الفقه والحديث، منهم: سفيان الثوري، وابن وهب، وهو قول ابن جرير الطبري (١).
واستدلوا بما جاء في حديث أبي بكرة من قوله ﷺ: «كلّها شاف كاف ما لم تختم آية عذاب برحمة، ولا آية رحمة بعذاب»، وما جاء في حديث أبي بن كعب أنه كان يقرأ: «كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ، مروا فيه، سعوا فيه»، وما جاء عن ابن مسعود أنه كان يقرأ: «لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا، أمهلونا، أخرونا».
يناقش هذا القول بعدة أمور (٢):
الأمر الأول: أن ما ذكر في الأحاديث ليس من قبيل حصر الأحرف السبعة، بل هو من باب التمثيل فقط لما نزل من القرآن الكريم، ويؤيد ذلك قول ابن عبد البر:
«أراد بهذا ضرب المثل للحروف التي نزل القرآن عليها أنها معان متّفق مفهومها، مختلف مسموعها، لا يكون في شيء منها معنى وضده، ولا وجه يخالف معنى وجه خلافا
ينفيه ويضاده، كالرحمة التي هي خلاف العذاب وضده» (٣).
الأمر الثاني: أن الواقع الحقيقي للقراءات الثابتة عن النبي ﷺ يخالف ما ذهبوا إليه مخالفة صريحة، إذ كثير من أوجه الاختلاف ليست داخلة في معنى الترادف الذي قصروا عليه معنى الأحرف السبعة، وأدنى تأمل للقراءات العشر المتواترة يجد هذا الاختلاف يتجاوز المرادفات اللفظية.
_________
(١) الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن (١: ٢٣).
(٢) الزرقاني، مناهل العرفان، (١: ١٧٤) وما بعدها.
(٣) الزركشي، البرهان (١: ٢٢١).
1 / 18
الأمر الثالث: أن هذا القول يلزم منه أن الأمة أسقطت واطرحت ستة أحرف، واختارت حرفا واحدا، وفي هذا إهدار لجملة كثيرة للثابت عن النبي ﷺ، بل إن الصواب: أن عثمان ﵁ جمع الناس على العرضة الأخيرة التي عارضها النبي ﷺ جبريل ﵇ لم يغادر منها حرفا واحدا، وما كان له ﵁، ولا لغيره فعل ذلك، فإن القرآن بأوجهه المتعددة منزل، منقول إلينا بالتواتر.
فكيف تجمع الأمة على ترك ستة أحرف، ويتوافق الجميع على هذا الترك؟
٧ - أن المراد بالأحرف السبعة: الأنواع التي يقع بها التغاير والاختلاف في الكلمات القرآنية، ولا يخرج عنها ثم اختلفوا في تعيينها وحصرها.
فعند أبي الفضل الرازي- مثلا- هي سبعة أصناف:
١ - اختلاف أوزان الأسماء من الإفراد والتثنية والجمع.
٢ - اختلاف تصريف الأفعال وما تستند إليه نحو الماضي والمستقبل والأمر، والإسناد إلى المذكر والمؤنث والمتكلم والمخاطب والفاعل والمفعول به.
٣ - وجوه الإعراب.
٤ - الزيادة والنقصان.
٥ - التقديم والتأخير.
٦ - القلب وإبدال كلمة بأخرى أو حرف بآخر.
٧ - اختلاف اللغات من فتح وإمالة وترقيق وتفخيم، وتحقيق وتسهيل، وإدغام وإظهار، ونحو ذلك.
وقريب مما ذهب إليه أبو الفضل الرازي ذهب ابن قتيبة.
وقد درس الإمام ابن الجزري أوجه القراءة، فوجدها لا تخرج عن سبعة أنواع هي:
النوع الأول: في الإعراب بما لا يزيل صورتها في الخط، ولا يغير معناها، ومثاله: «هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ»، والوجه الثاني: «أَطْهَرُ».
النوع الثاني: الاختلاف في إعراب الكلمة، وحركات بنائها بما يغير معناها، ولا يزيلها عن صورتها، ومثاله: «رَبَّنا باعِدْ»، والوجه الثاني: «رَبَّنا باعِدْ».
1 / 19
النوع الثالث: الاختلاف في حروف الكلمة دون إعرابها، ومثاله: «وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها»، والوجه الثاني: «ننشرها».
النوع الرابع: الاختلاف في الكلمة بما يغير صورتها ومعناها، ومثاله: «طَلْعٌ نَضِيدٌ»، وفي موضع آخر: «وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ».
النوع الخامس: الاختلاف في الكلمة بما يغير صورتها في الكتاب ولا يغير معناها، ومثاله: «إلا زقية واحدة»، «صيحة واحدة».
النوع السادس: الاختلاف بالتقديم والتأخير، ومثاله: «وجاءت سكرة الحق بالموت»، و«جاءت سكرة الموت بالحق».
النوع السابع: الاختلاف بالزيادة والنقصان، ومثاله: «وما عملت أيديهم» و«عملته».
وهذا القول بما يتضمنه من تفصيلات واستقراء للقراءات القرآنية، ومحاولة تحديد معنى الأحرف السبعة، يعتبر أقرب الأقوال لمعنى الأحرف السبعة، بيد أنه لا يعطي تعريفا شاملا لحقيقة الأحرف السبعة.
ورغم تعدد وجهات النظر التي يوردها القدماء في معنى الحديث، والتي بلغ بها السيوطي نحوا من أربعين قولا، فإن الحديث- بمختلف رواياته- لا ينص على شيء منها ...، وكذلك فإنه لم يثبت من وجه صحيح تعيين كل حرف من هذه الأحرف، وكثير منها غير معروف النسبة إلى عالم معين وإنما هي مجرد استنتاج تحتمله الروايات ... ثم إن فهم معنى الحديث لا يمكن أن يكون في اتجاهه الصحيح إذا تخطى الدائرة التي تشير إليها روايات الحديث، وهي أن الخلاف كان في حدود ألفاظ التلاوة، وأن الرخصة التي كان يتحدث عنها الحديث لا تتجاوز حدود القراءة ... ومن هنا يمكن القول بأن الرخصة الواردة في الحديث ليست شيئا سوى هذه الوجوه المختلفة للتلاوة التي ينقلها القراء جيلا عن جيل حتى تنتهي إلى الصحابة الذين سمعوها من النبي ﷺ ...» (١).
_________
(١) غانم قدوري، رسم المصحف، ص ١٤٢ - ١٤٤، وقريب منه ما ذكره الدكتور عبد العال سالم مكرم، القراءات القرآنية وأثرها في الدراسات النحوية، ص ٢٧.
1 / 20
ثالثا: الرأي المختار في معنى الأحرف السبعة:
إن الأقوال السابقة لا تخلو من مناقشة وأخذ ورد، كما سبق، ولا تحدد حقيقة الأحرف السبعة، ولا تبين معناها، ولذا فإن الرأي الذي يظهر أنه منسجم ومتوافق والأحاديث الواردة في معنى الأحرف السبعة، هو الذي توصل إليه الدكتور عبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ بدقة وتفصيل، وهو أن الأحرف السبعة: «وجوه متعددة متغايرة منزلة من وجوه القراءة، يمكنك أن تقرأ بأي منها فتكون قد قرأت قرآنا منزلا، والعدد هنا مراد، بمعنى: أن أقصى حدّ يمكن أن تبلغه الوجوه القرآنية المنزلة هو سبعة أوجه، وذلك في الكلمة القرآنية الواحدة ضمن نوع واحد من أنواع الاختلاف والتغاير، ولا يلزم أن تبلغ الأوجه هذا الحد في كل موضع من القرآن» (١).
وهو قريب مما توصل إليه الدكتور عبد الصبور شاهين بقوله: «ما يمثّل اختلاف اللهجات وتباين مستويات الأداء الناشئة عن اختلاف الألسن وتفاوت التعليم، وكذلك ما يشمل اختلاف بعض الألفاظ وترتيب الجمل بما لا يتغير به المعنى المراد».
ويعلق الأستاذ الدكتور غانم قدوري الحمد على كلام الدكتور عبد الصبور شاهين فيقول: «... ويظل معنى الحديث يشير إلى تلك الرخصة التي جاءت تيسيرا، وحلا لمشكلة واجهت الجماعة المسلمة، دون تحديد لأبعاد تلك الرخصة، ولكنها لا تخرج عن إطار وجوه القراءات المروية ...» (٢).
وقد عرف الدكتور نور الدين عتر الأحرف السبعة اصطلاحا بقوله: «هي سبعة أوجه فصيحة من اللغات والقراءات أنزل عليها القرآن الكريم» (٣)، وهو منسجم مع ما توصل إليه الدكتور القارئ أيضا.
_________
(١) د. عبد العزيز القارئ، حديث الأحرف السبعة، ص ٧٨ - ٧٩، وقد توصل إلى النتيجة ذاتها في الجملة د. محمد المجالي في بحثه المنشور في مجلة دراسات في العدد (٢٣)، بعنوان: «معنى الأحرف السبعة»، وقد اقترح الدكتور حازم الكرمي اختصار هذا التعريف، بحذف بعض مفرداته انظر علوم القرآن بين البرهان والإتقان، ص ١٧٣.
(٢) غانم قدوري، رسم المصحف، ص ١٤٤.
(٣) نور الدين عتر، علوم القرآن، ص ١٣٦.
1 / 21
وقد أشار ابن حجر العسقلاني إلى المعنى المتقدم، ونص كلامه: «باب أنزل القرآن على سبعة أحرف: أي على سبعة أوجه جوّز أن يقرأ بكل وجه منها، وليس المراد أن كل كلمة ولا جملة منه تقرأ على سبعة أوجه، بل المراد أن غاية ما انتهى إليه عدد القراءات في الكلمة الواحدة إلى سبعة» (١).
ودليل القول المختار في معنى الأحرف السبعة مستفاد من معنى الأحاديث الواردة فيه، ومن القراءات القرآنية الثابتة المتواترة، وذلك ضمن النقاط التالية:
١ - أن الحرف يراد به الوجه المتعلق بالقراءة، وأنها كيفيات لتلاوة الكلمة القرآنية الواحدة، بدليل اختلاف هشام بن حكيم وعمر بن الخطاب ﵄ واختصامهما عند النبي ﷺ.
٢ - وصفت هذه الأوجه بأنها متعددة؛ لأن القرآن لم يقرأ بوجه واحد، وقوله:
«متغايرة»: إشارة إلى وجوه الاختلاف بين هذه الوجوه سواء في اللفظ فقط مع اتفاق المعنى، مع أنه لا يوجد حرف قرآني يطابق الآخر من جميع الوجوه، ولا بد من زيادة المعنى فإن الزيادة في المبنى يكون معها زيادة في المعنى، أو كان الاختلاف في اللفظ والمعنى، ومن أمثلته الواقعة في القرآن ما قرئ في المتواتر: ربّنا بعد بين أسفارنا [سبأ: ١٩]، والمعنى في هذا الحرف هو أنهم من عتوّهم وطغيانهم طلبوا من ربهم ﷿ أن يباعد بين أسفارهم، وقرئ في حرف آخر: «ربّنا بعّد بين أسفارنا»، بالمبالغة في فعل الأمر، ومعنى هذا الحرف: يشير إلى إلحاحهم وإصرارهم على هذا المطلب، وقرئ في حرف متواتر ثالث: «رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا» فعلا ماضيا، ومعناه: فيه إخبار بما وقع منهم من الشكاية والتحسر، لمّا تحقق ذلك ورأوا ما ترتب عليه من الشدة والمشقة، وهو تباين في المعنى- كما هو واضح-، كما فيه تباين في اللفظ (٢).
وفيما سبق رد على من قصر الاختلاف بين الوجوه على نوع واحد هو: الترادف، وهو قول ابن جرير الطبري ومن وافقه.
_________
(١) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري (٩: ٢٣).
(٢) انظر هذا التفصيل: د. عبد العزيز القارئ، حديث الأحرف السبعة، ص ٩٧ - ٩٩.
1 / 22
٣ - أن هذه الأوجه وصفت بأنها منزلة، وهذا دليل على أن الرخصة إنما كانت في القراءة، واستخدام هذه الأوجه عند الحاجة إليها، ولا يعني هذا أبدا أنه يجوز الاستغناء عن شيء منها، لأن هذه الأوجه كلها منزلة، يعلمها جبريل ﵇ رسول الله ﷺ، ويلقنه إياها ثم يبلغها النبي ﷺ إلى الصحابة لكي يحفظوها ويقرئهم إياها، ويتخير لكل منهم ما يشاء حسبما يرى النبي ﷺ من أحوالهم، واستعداداتهم ولغاتهم ولهجاتهم.
٤ - قوله: «وجوه القراءة ...»: لأنه ورد في الحديث كما سبق في قول النبي ﷺ:
«أقرأني جبريل على حرف ...»، وقول جبريل- ﵇: «إن الله يأمرك أن تقرأ أمتّك القرآن على سبعة أحرف ...» وقول النبي ﷺ: «فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ...»، وهذه الألفاظ صريحة في أن الأحرف شيء يتعلق بالقراءة.
٥ - قوله: «يمكنك أن تقرأ بأي منها، فتكون قد قرأت قرآنا منزلا ...»: بدليل قول النبي ﷺ: «فأيما حرف قرءوا فقد أصابوا ...» أي أصابوا القرآن، ولا يجوز ترك شيء منها بالرأي أو التحكم الذي قد يفهم من بعض الأقوال التي قيلت في معنى الأحرف السبعة، بمعنى: أنها كلها كافية شافية ولا ترجيح بين شيء منها، إذ هي أبعاض القرآن، وهو متكون من مجموعها، ولذلك حرص عثمان ﵁ عند كتابتها في المصاحف أن يثبتها برسم واحد حتى لا يتوهم أحد أن هناك ترجيحا لبعضها على بعض.
٦ - قوله: «والعدد هنا مراد ...»: فقد صرحت الروايات كلها بالعدد سبعة بدليل التدرج في إنزال الأحرف السبعة التي وردت في حديث ابن عباس ﵄ المتقدم، وفيه: «أقرأني جبريل، فلم أزل أستزيده، ويزيدني، حتى انتهى إلى سبعة أحرف ...»، وهذا التدرج لا يكون له فائدة إذا لم يكن العدد مرادا، ومراجعة النبي ﷺ جبريل ﵇ دليل آخر على ذلك.
واستنبط بعض العلماء من قول النبي ﷺ: «على سبعة أحرف ...»، أن استخدام النبي ﷺ حرف (على) دون غيره مشعر بالشرطية، وتقدير الكلام: أن تقرأ أمتك القرآن بأحرف متعددة على ألا تتجاوز سبعة أحرف ....
1 / 23
٧ - قوله: «بمعنى أن أقصى حد يمكن أن تبلغه الوجوه القرآنية المنزلة هو سبعة أحرف ...»: إن الناظر والمتتبع للقراءات القرآنية الصحيحة المتواترة يجدها على نوعين:
١ - مواضع الاتفاق: وهي لم يرد فيها إلا وجه واحد، وهو معظم القرآن.
٢ - مواضع الاختلاف: وهذه تبدأ من وجهين فأكثر وتصل إلى سبعة أوجه، ولكن باستقراء القراءات المتواترة، وجد بأن أقصى ما يمكن أن تبلغه هو ستة أوجه، وقد تصل في بعض الحالات إلى سبعة أوجه إذا ضم إليها الروايات الشاذة (١).
٨ - قوله: «وذلك في الكلمة القرآنية الواحدة ضمن نوع واحد من أنواع الاختلاف والتغاير» (٢): قيدت السبعة كحد أقصى بالكلمة القرآنية الواحدة ضمن النوع الواحد من أنواع التغاير والاختلاف، وذلك احترازا من التفريعات التي يفرّعها القراء خشية التركيب في الطرق، فقد يكون في الكلمة الواحدة موضعان أو أكثر من مواضع الخلاف، كل موضع منها يندرج ضمن نوع من أنواع التغاير؛ فإذا جمع ما في ذلك كله من أوجه دون اعتبار للأنواع تولّد عدد كبير من الأوجه.
ولمزيد بيان لهذه النقطة نضرب مثالين يوضحان المقصود:
المثال الأول: قوله تعالى: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:
٣ - ٤]، ففي ياء «الرحيم» عند الوقف ثلاثة أوجه مقروءة: القصر والتوسط والإشباع ثم في ميم: «الرحيم» مع ميم «ملك» وجهان من حيث الإدغام والإظهار، مع الوجهين الآخرين في: «ملك» بالألف وبدونها.
فإذا جمعت هذه الأوجه على اعتبار أنها موضع واحد، فمجموع الأوجه سبعة أوجه، ولكن اعتبار هذه المواضع موضعا واحدا خطأ، فياء: «الرحيم» مد عارض، وهو موضع مستقل بنفسه فيه ثلاثة أوجه، والميمان المتماثلان بين لفظتي: «الرحيم» و«ملك» موضع مستقل بنفسه، وفيه وجهان، فلا يجمع أوجه المد العارض مع أوجه الميمين المتماثلين.
_________
(١) د. عبد العزيز القارئ حديث الأحرف السبعة، وصلته بالقراءات القرآنية، ص ٧٩ - ٨٧.
(٢) انظر هذا القيد مع أمثلته التي توضحه بتصرف يسير: د. عبد العزيز القارئ، حديث الأحرف السبعة، ص ٩٠ - ٩٣.
1 / 24
فالمد العارض نوع من أنواع التغاير، واجتماع الميمين المتماثلين نوع آخر من أنواع التغاير، وكذلك الوجهان في: «ملك» نوع ثالث من أنواع التغاير.
المثال الثاني: قوله تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ [البقرة: ٣٧]، في هذه الآية عدة مواضع وقع فيها الخلاف: فلفظة «آدم» منصوبة مع رفع: «كلمات»، وهي قراءة ابن كثير المكي، وقرأ باقي القراء العشرة برفع: «آدم» ونصب «كلمات»، وهما وجهان صحيحان مقروءان في هذا الموضع.
وكذلك فإن الألف في: «فتلقى» فيها ثلاثة أوجه مقروءة: الوجه الأول: الفتح، والوجه الثاني: التقليل، والوجه الثالث: الإمالة، وفيها من حيث المد ثلاثة أوجه:
القصر، والتوسط، والإشباع.
وكذلك فإن في ألف البدل في «آدم» ثلاثة أوجه مقروءة: القصر والتوسط والإشباع، وبين ميم (آدم) وميم (من) وجهان هما الإظهار والإدغام فإذا جمعت هذه الأوجه كانت أكثر من عشرة، ولذلك لا بد من اعتبار كل نوع من أنواع التغاير على حدة، فالخلاف في فرش كلمتي: «آدم» و«كلمات» بالرفع والنصب والعكس نوع تغاير واحد، والأوجه في «فتلقى» نوع تغاير في الفتح والتقليل والإمالة، ونوع آخر في مقدار المد المنفصل فيها، وأوجه مدّ البدل نوع مستقل من أنواع التغاير، ويكون كل نوع منها بمنزلة صور متعددة للأحرف السبعة في الكلمة الواحدة ضمن نوع التغاير المستقل، في كل نوع من الأنواع السابقة.
رابعا: أمثلة للأحرف السبعة:
سأكتفي في التمثيل للأحرف السبعة بثلاثة أمثلة يتضح بها المقصود منها، وهي على النحو التالي:
١ - قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: ٤]، فيه قراءتان متواترتان صحيحتان، القراءة الأولى: (مالك) بالألف بعد الميم، وهي قراءة عاصم والكسائي ويعقوب وخلف، والقراءة الأخرى: (ملك) بغير ألف، وهي قراءة نافع وأبي عمرو وابن كثير وابن عامر وحمزة وأبي جعفر (١).
_________
(١) ابن مهران، الغاية في القراءات العشر، ص ٧٥، وابن الجزري، النشر في القراءات العشر (١: ٢٧٣).
1 / 25