وقناتنا الهضمية لا تزال تدل على أننا كنا وما زلنا نتغذى بالنبات، بالأثمار والجذور وورق الشجر، ولكننا بعد أن تركنا الشجر بسبب الجفاف شرعنا نتعود افتراس الحيوانات الصغرى ونأكل اللحم، وهذا هو ما يفعله البابون الذي يعيش على السهول والوديان المعشبة في إفريقيا، فإنه يأكل العشب ولكنه يفترس الحيوانات الصغرى، وأحيانا يهجم على القطعان لافتراس جدي أو خروف.
وحين تركنا الشجر وتعودنا افتراس الحيوانات الصغرى تغيرت أسماؤنا بعض الشيء وتغيرت أسناننا، وكسبنا من أكل اللحم شيئين؛ أولا: هو هذا الوقت الذي كنا نقضيه في تناول الأعشاب والأثمار القليلة الغذاء والتي كانت تستغرق نهارنا كله، فإننا أصبحنا نقتنع بالوجبة من اللحم تكفينا مع صغر حجمها لأن نرتاح مدة طويلة ونحن في شبع لوفرة ما في اللحم من الغذاء، وكانت هذه الراحة مجالا وفرصة لنا كي نفكر، وثانيا: تعلمنا من الافتراس كيف نتناول، بل كيف نقذف الحجر على الفريسة، فتمرنت أيدينا بالقذف على وزن الأشياء وعلى التعاون مع المخ على التدبير في الافتراس.
وكان هذا أول الطريق نحو الاختراع.
ليس القذف اختراعا، وإنما هو شيء نجده مصادفة فنتناوله ونقذف به الفريسة، والقردة، حتى الدنيا، تعرف كيف تقذف خصمها، ولكن هذا القذف قد علمنا قيمة الحجر الذي نقذف به؛ إذ يجب أن يكون على وزن معين وعلى شكل معين.
ولكن الفرق بيننا وبين القردة أننا «نخترع» وهي «تستعمل» فقط.
ولكن حتى هنا يجب ألا نجزم، فإن الشمبنزي استطاع أن يخترع فإن كوهلر علق بعيدا عنه بعض الموز ووضع أمامه عصوين إحداهما أنبوبية، فحاول القرد أن يصل إلى الموز بإحدى العصوين فوجد أنها دون المسافة، فعمد، بعد تفكير، إلى الأخرى وتأملها، ثم أدخلها في العصا الأنبوبية حتى طالت، واستطاع بذلك أن يجعل من العصوين عصا واحدة تبلغ الموز وتسقطه.
وهذا اختراع بدائي، فإن القرد هنا صنع «آلة» وبذلك ارتفع عن «الإدراك الحسي» الحيواني إلى «التصور الذهني» البشري.
الإدراك الحسي لا يحتاج إلى تفكير؛ لأني «أحس» أن حجرا قريب مني فأتناوله وأقذف به حيوانا، وليس هنا اختراع؛ لأن الاختراع يحتاج إلى «تصور»؛ أي: أني أؤلف فكرة مع فكرة أخرى أو مع جملة فكرات أتصورها كلها من البداية إلى النهاية، ولما أدخل القرد العصا الصغيرة داخل العصا الكبيرة تصور ما سوف يعمل بها بعد إطالتها.
وهذا هو الاختراع وإن يكن مؤلفا من فكرتين فقط.
أما في الإنسان فالاختراع يتألف من طائفة من الفكرات؛ لأننا نحن نتصور بعقولنا صورا مختلفة نؤلفها ونستخرج منها الفكرة المركبة، أما الحيوان فيدرك بإحساسه: حجر على اليمين، وعصفور على الشمال، فيمكن أن يقذف.
Shafi da ba'a sani ba