في هذا البيت الذي سقف بالقرميد الأحمر، كأكثر البيوت البيروتية، كانت تسكن هذه العائلة المؤلفة من رجل وزوجته وأولادهما الثلاثة.
وسليم هذا، ولد كثير الإحساس، دقيق الملاحظة، حبته العناية ذوقا مرهفا، فكان يمضي وقته بالرسم والتزويق، خلافا لأقرانه من الأولاد، مما كان يضايق أمه ويدفعها أحيانا لضربه.
وكانت الأم هي المشرفة على البيت بعد وفاة زوجها، وكانت منصرفة بكليتها لتدبير مستقبل عائلتها؛ فكان أول ما فكرت به بناء هذا البيت الصغير كي تستر عائلتها؛ إذ كانت تعتقد - كما كان يعتقد أكثر أهل عصرها - أن البيت سترة الإنسان، أما «اللقمة» - على حد تعبيرهم - فالله يدبرها، لا سيما إذا اقترنت بالقناعة والعمل وحسن التدبير.
وكان سليم أصغر أولادها، وله من العمر نحو السابعة، أرسلته إلى الكتاب القريب من البيت، حيث يتلقى بعض مبادئ القراءة والكتابة، وكان يحلق حوله الرفاق الذين كانوا يعجبون بما كانت تخطه أنامله الصغيرة من أشكال وصور.
كان والده قبل وفاته على رغم حبه له، يؤنبه على هذه الرسوم، ويخوفه من عذاب جهنم ونارها الهائلة، أما أمه فكانت أشد قسوة في هذه الناحية؛ فكانت تزجره ولا تتورع عن ضربه قبل أن يتمكن من الاختباء تحت الكنب العارم كي يقلع عن الرسم.
وكان لسليم الصغير صندوق صغير يضع فيه وريقاته وقلمه الصغير، وكانت أمه كلما أرادت إغاظته، وهي تدرك شدة ولع سليم وحبه لصندوقه الصغير، تأخذ هذا الصندوق وترمي به على درج البيت حتى يترك ولدها الرسم، وقد ثار هذا الولد مرة وقال لأمه: لماذا تمزقين رسومي وتكسرين أقلامي؟ هل تؤذيك رسومي؟ أرجوك يا أمي وأتوسل إليك أن تتركي الرسوم، إني أحبها، أحبها كثيرا مثلك يا أمي.
ولكن الأم لم تكن تدرك ما تعني هذه الرسوم وما يعني تعلق الولد بها، وما تخبئ وراءها من موهبة. وللأم عذرها، وأنى لها أن تدرك معنى الرسم وتمسك الصغير به وما تنطوي عليه كل هذه القضية النفسية، وعصرها نفسه وبيئتها بأسرها كانت تجهل الفن والطفولة ونوازعها.
إن الأم كانت ترى في عمل ولدها شذوذا عن غيره من الأولاد الذين تعرفهم، إن ولدها لا يلعب ولا يلهو ولا يصرخ ولا يعاشر، حتى إنه كان يدفع إلى الطعام دفعا، همه أن يرسم دائما؛ لذلك كانت تتضايق منه ومن مغايرته لحالة الأولاد أمثاله.
كانت ترى أولاد الجيران يملئون الزاروب الذي يصل إلى بيت سليم بصراخهم ولعبهم، بينما كان سليم همه تخطيط رسومه التي لا يفتر دقيقة عن مزاولتها بصبر ووله عجيبين، وما كان صوت الأولاد ولعبهم ليدفع فيه غريزة الاشتراك مع أمثاله من الصغار في اللعب والتسلية.
وكان بين أولاد الجيران العديدين ولد وهبته العناية جسما ضخما وعضلا قويا، وحنجرة رنانة، ولسانا طلقا، وقحة مزعجة، ولكنها إلى كل هذا قد ضنت عليه بالعقل والنباهة وحسن الذوق، فكان أشبه بالحيوان شكلا وحركة.
Shafi da ba'a sani ba