نطقت كلمة «متعة» بشفتين مرتعشتين بإتقان، عيناي لم يرف لهما رمش، أثبتهما في عينيه بنظرة مفعمة بالصدق، تدريب طويل على التمثيل أمام الكاميرا في شقة أشرف نور في الزمالك، أراد أن يجعلني ممثلة في فيلمه الأخير، كانت شهوته الجنسية تتغلب على رغبته الفنية، وانتهى بي الأمر إلى عملية إجهاض نزفت فيها نصف دمي، بعد موت أمي خلعت الحجاب والنقاب والقفازين الأسودين، لكني عدت لأومن بوجود الله، المنتقم الجبار، انتقم لي من أشرف نور، قرأت خبره في الجورنال، وقع حادث أليم للفنان أشرف نور، انقلبت سيارته في الطريق الصحراوي بعد اصطدامها بعربة لوري، فاضت روح الفنان الكبير في مستشفى الهرم بعد منتصف الليل بعشر دقائق، تشيع الجنازة من جامع عمر مكرم الحادية عشرة صباح الغد، بعد أكثر من شهر جاءني صوت الأستاذ شاكر في التلفون، كان متوترا وغاضبا، زميلك طلع عيني يا حميدة، السطر الواحد فيه عشرون غلطة، غير السطور الساقطة والنقط والفواصل الناقصة، صححت ثلاث صفحات في أسبوعين، لا يمكن أن أكمل، لازم تكتبي إنتي الرواية، ما فيش غيرك هيكتبها. حاضر يا أستاذ أنا تحت أمرك. أصبحت أتردد إلى شقته، يراجع معي الأخطاء على الكومبيوتر، نشرب عصير الليمون في الشرفة المطلة على النيل، يعد لي كوب الشاي الأخضر، ويملأ له كأس النبيذ الأحمر، سألته مرة عن زوجته الكاتبة، قرأت لها رواية في ليلة واحدة، لم أتركها لحظة واحدة لأفرد ساقي أو أشرب كوب ماء، روايتها جميلة حقيقي يا أستاذ. التقطت أذنه كلمة «حقيقي» فانقبضت عضلة تحت عينه، ارتفعت يده تدلكها بحركة بطيئة، هل تشعر بالغيرة من زوجتك يا أستاذ شاكر؟ - بالعكس أنا بافرح لنجاحها. - الرجل لا يشعر بالغيرة إلا من الرجال.
ثبتت عينيها في عينيه وابتسمت، زم شفتيه وغير الموضوع. - فقدنا فنانا كبيرا، أشرف نور. - يمهل ولا يهمل يا أستاذ. - مش فاهم. - ربنا منتقم جبار يا شاكر بيه. - إنتي مؤمنة بوجود ربنا؟ - طبعا، وأنت مؤمن؟ - أنا لا أتكلم في الدين أو السياسة مع البنات الجميلات.
هذه العبارة أعجبته في رواية من الروايات، أصبح يكررها مع الفتيات. - إنتي جميلة جدا. - شكرا. - أخذت من وقتك كتير. - أبدا. - الحوار معاكي ممتع، احكيلي عن حياتك يا حميدة. - الدنيا ظلمت يا أستاذ لازم أروح. - أستلم الرواية ع الكومبيوتر إمتى، قوليلي؟ - بعد أسبوعين. - شكرا يا حميدة. - والمبلغ يا أستاذ؟
تدربت أن أطلب حقي عن أي عمل، كنت أخجل وأتلعثم عند الحديث عن الفلوس، ثبت عينيه الخضراوين الضيقتين في عيني، أفاق لحظة من نشوة النبيذ، وقال: عاوزة كام؟ - حسب السعر في السوق. - قولي عاوزة كام؟ - زي السوق يا أستاذ مش أكتر. - يعني كام؟ - الرواية كام كلمة؟ - هي بالكلمة والا بالصفحة؟ - بالكلمة يا أستاذ.
رأيته يرمقني بنظرة مخلبية، نظرة رجل إلى رجل، بعد خروجها شرب شاكر كأسا من الويسكي البلاك ليبل، أراد أن يمسح الإهانة بالخمر، يقول عقله من حقها أن تطلب أجرتها عن شغلها، قلبه يحدثه أنها منجذبة إليه، لماذا تأتي إلى بيته؟ كان يمكن أن تصر على لقائه في مكان عام مثل الفتيات المستقيمات، نهض متثاقلا يدلك عظام ظهره، إن جلس طويلا يشعر بآلام العمود الفقري، يقولون مرض الأدباء هو الانزلاق الغضروفي، يسعده الانتماء إلى الأدباء بأي شيء وإن كان انزلاق الغضاريف، فتح التلفزيون، رأى وجه زوجته يطل عليه وهي تتحدث في مؤتمر نيويورك، يقف في جوارها رجل طويل ممشوق يرمقها بإعجاب، ضغط بإصبعه الزر فأظلمت الشاشة، نهض متثاقلا، يسير بخطوة بطيئة وظهره منحن، دخل الحمام، أفرغ مثانته في المرحاض ثم بصق في الحوض متخلصا من المرارة.
على شاطئ الإسكندرية
تمددت فؤادة فوق شاطئ البحر بالإسكندرية، تلامس أشعة الغروب الدافئة ساقيها الناعمتين، يرفع الهواء الحنون ثوبها الهفهاف الأبيض، من تحت نظارة الشمس السوداء تتأمل جسد زوجها الممدود فوق الشيزلونج يقرأ الجورنال، يوحي الشيزلونج العتيق بأرستقراطية قديمة، عظامه مثل أرجل الشيزلونج، المايوه من النوع الحديث آخر صيحة، لا يخفي إلا العورة، لونه الأحمر الزاهي يزيد من شحوب بشرته، من تحت نظارته الزجاجية رآها تتأمله طويلا: أتعرف ما أريد أن أقوله؟ - تريدين أن تقولي إنك لا تحبينني. - متيقن؟ - أنت لا تحبين أي رجل. - متيقن؟ - أنت لا تحبين أحدا. - متيقن؟ - أنت لا تحبين إلا نفسك يا فؤادة. - أنت تتكلم مثل كوكب يا زوجي العزيز. - لو عرفت الحب ما أغرقت نفسك في الكتابة.
منذ التقينا وأنت تحملقين في وجهي، تشككين في أنني زوجك، أنت لا تحبين شخصي، هذه هي الحقيقة، نعم الحب يدفع الإنسان إلى عمل الاستثناءات، أشياء لم يفعلها قط، لو أنك عرفت الحب لشعرت بالرغبة في الخضوع والطاعة، بالرغم من اعتراضك على الخضوع والطاعة. وماذا عنك يا زوجي العزيز لو أنك عرفت الحب لفقدت الرغبة في السيطرة بالرغم من اعتراضك على السيطرة. - نعم. - نحن ندفن رءوسنا في الرمل مثل النعامة، نحن نتظاهر بما ليس فينا، أصبح الخداع متقنا فلا نتعرفه أنت وأنا؟ - نعم نحن الاثنان معا. - نواجه الحقيقة بعد مائة عام؟ - وبعد ألف عام. - نواجه التاريخ المزيف بعد سبعة آلاف عام! - ليه لأ يا زوجي العزيز؟
تقلبت سعدية فوق المرتبة النحيفة من البلاستيك، جسمها نحيف مهدود من التعب ، عظام عمودها الفقري تحتك بالبلاط تحت المرتبة، تتقلب من جنب إلى جنب عاجزة عن النوم، يدوي أذان الفجر بصوت متقطع متحشرج، قبل أن تضع جسدها المنهك فوق المرتبة أجهشت بالبكاء الجاف، جفت دموعها من طول ما بكت، تورمت جفونها والتهبت وقلبها احترق، مصائبها تهون أمام هذه المصيبة، ابنتها هنادي راقدة في جوارها على المرتبة المشققة الرمادية، غارقة في نومها، تمد ذراعها تريد أن تضمها إلى صدرها كما تفعل كل ليلة، ذراعها الطويلة الناحلة تعجز عن الامتداد، تتقلص عضلاتها في الهواء، رائحة العرق تحت إبطها تملأ أنفها، تؤكد لها الهوان والفقر، يثقل قلبها أكثر مما كان، تسقط ذراعها إلى جوارها، طويلة نحيفة كذراع المكنسة من الخشب، ترمق ابنتها النائمة إلى جانبها، نهداها لم ترهما إلا اليوم، كأنما في ليلة واحدة برزا من بطن الأرض، برعمان دقيقان كل منهما بحجم زيتونة صغيرة خضراء، تهبط عينها وتثبت فوق ارتفاعة البطن الصغيرة تكاد لا ترى، تبتلع لعابا مرا كالعلقم، طفلتها حامل في شهرها الثالث، كان موتها أهون، بالأمس ضربتها حتى انكسرت ذراع المكنسة الخشبية، تسألها والدم يغلي في رأسها: قولي مين المجرم؟ مين هو؟ اسمه إيه عشان أشرب من دمه؟ - ماعرفش. - انطقي يا بت قولي اسمه ماعرفوش!
تنهال الضربات فوق رأس البنت، تحمي رأسها بذراعيها، وهي تلهث ماعرفوش، لا ينتهي الضرب حتى تنهار الأم من التعب، يسقط جسمها الضامر مهدودا فوق الأرض، تئن وتنشج بصوت خافت، تكتم الصوت بكفها فوق فمها، تخشى الآذان المتلصصة من وراء الجدران، وخصوصا أذن الشيخ متولي، يسكن الغرفة المجاورة، يتلصص على الجيران من شق في الجدار، جدران البيوت من الصفيح المدهون بالبويا، الخشب المطلي بالجير، الطين المجبول بالتبن، أو قماش قلع المركب القديم، تتشقق الجدران في الشتاء كما في الصيف والربيع، تحت ماء المطر والصقيع، ولهيب الشمس ورياح الخماسين تسمح الشقوق في الجدران بمرور الأصوات، وإن كانت خافتة كالنشيج المكتوم، والحشرات الصغيرة كالبق والقمل والبراغيث، أو متوسطة الحجم مثل الخنافس والصراصير والفئران الصغيرة، نظرت سعدية إلى الساعة في معصمها ، لها قرص أبيض كبير، تبدو الأرقام فوقه واضحة سوداء، أهدت إليها الأستاذة فؤادة هذه الساعة وعلمتها قراءة الأرقام والحروف، ارتدت بسرعة جلبابها الأسود، لفت رأسها بالطرحة البيضاء، وحملت الصفيحة الفارغة بين ذراعيها كالطفل، قبل أن تفتح الباب وتخرج لكزت ابنتها في كتفها برأس إصبعها المدبب كرأس الدبوس، قومي يا بت قامت قيامتك ورانا شغل. الطفلة غارقة في النوم، انقلبت من جنب إلى جنب وهي تموء بأنين مكتوم، لعنتها أمها ولعنت يوم زواجها بأبيها متعوس الرجا، طردته من ذاكرتها، وانطلقت مسرعة حاملة الصفيحة، الطابور الطويل سبقها إلى حنفية الماء الوحيدة في الزقاق، وجوه شاحبة أجسام ناحلة، يسكنون معها في الحي العشوائي وراء المقابر، ليس لها واسطة في الحكومة لتحصل على غرفة في مقبرة مبنية بالطوب الأحمر، حصلت على هذه الغرفة من الخشب بعرق جبينها، لم تفرط في شرفها، لا يبقى يا سعدية بعد الموت إلا الشرف، صوت المرحومة أمها محفور في رأسها، سوف تذبحه المجرم الذي اعتدى على شرف ابنتها، تدور بعينيها الحمراوين على الوجوه الواقفة في الطابور، تستقر عيناها على عيني الشيخ متولي، يقف داخل جلبابه الأبيض، من فوقه معطف أسود قديم منحول عند الكوع، يلف عنقه بكوفية صفراء كالحة، يبربش بعينيه الغائرتين داخل الجبهة العريضة المنحدرة إلى صلعة كبيرة، هو؟ مش هو؟
Shafi da ba'a sani ba