لا تهتم الدولة بفتح العقول، شعب مغلق العقل يسهل حكمه، انفض الناس عنها بعد فقدانها المنصب، لم يعد اسمها يظهر في الصحف، وبعد منع كتاباتها أصبحت تنشرها في مجلات الشباب غير المعروفة، لا يزورها في مكتبها إلا القليل، شابات وشباب متمردون فقراء يشقون طريقهم بصعوبة.
بدرية
عانت بدرية البحراوي العزلة، أصبحت تكره المدينة وشوارعها الملأى بالقمامة، وجوه الناس المعفرة المرهقة، أكثر ما تكره الوجوه المغسولة في الصحف المنشورة، تجلس وراء مكتبها، الساعة وراء الساعة، اليوم وراء اليوم تمد يدها قبل النوم إلى الصحف، ترى صورهم داخل البراويز، منشورة مقالاتهم وقصصهم ورواياتهم مع الرئيس والوزير، الكاتب الروائي والمفكر والأديب العالمي، تلقي بالصحف في صفيحة القمامة، قادت فؤادة سيارتها في الحواري المتربة المتفرعة من الشارع الرئيسي، أكوام القمامة تسد مدخل المباني والعمارات، أطفال الشوارع ينبشونها مع القططة والكلاب الشاردة، وجوههم تشبه وجوه العجائز وعيونهم يأكلها الذباب، امرأة عجوز عمياء تجلس مسندة ظهرها إلى الحائط، ذراعها ممدودة ويدها مفتوحة، لا ينظر إليها أحد، كل يجري إلى رزقه، ألقت فؤادة في اليد الفارغة قطعة نقود، فانفرجت الجفون المغلقة عن شق رفيع وصوت مشروخ: كتر خيرك يا بنتي. ابتسمت، تفعل الابتسامة ما تفعله قطعة نقود، أمام العمارة توقفت، صعدت السلم إلى الدور الثاني، فوق لوحة نحاسية صدئة قرأت الحروف المحفورة: بدرية البحراوي. دقت الجرس، فتحت لها فتاة طويلة نحيفة عيناها سوداوان تلمع فيهما ابتسامة، في الصالة بعض من المكاتب الصغيرة، تحمل أكواما من الكتب والأوراق والمجلات والصحف، الرفوف من الأرض إلى السقف ملأى بالكتب، في ركن الصالة مائدة دائرية يجلس من حولها عدد من الشباب والشابات يتناقشون، لم ينتبه أحد إلى دخولها فجلست في أقرب مقعد وراحت تتصفح المجلات والكتب، انقضى ما يقرب من نصف ساعة، ثم نادتها الفتاة الطويلة النحيلة، كانت الأستاذة بدرية البحراوي تجلس وراء مكتبها مرتدية قميصا أبيض واسعا، من خلفها لوحة للبحر، اسمك ايه؟ - فؤادة. - جيتي هنا ليه؟ - لأقابلك. - ليه؟ - كتاباتك. - كتاباتي؟
شجعتني، راحت تحملق في الوجه أمامها، حركت الكرسي قليلا لتراها عن قرب، لفؤادة وجود يحس به الآخرون بشكل غامض، عيناها الثابتتان بهذه التحديقة انتبهت بدرية فجأة، لم تدرك وجودها إلا هذه اللحظة التي تحدق إليها، ماذا تريدين مني؟ - أريد أن أعمل معك. - أنا لا أعمل شيئا. - ألا تكتبين؟ - كنت في زمن مضى. - لماذا لا تفتحين مدرسة للإبداع الأدبي؟ - سيغلقونها. - لأ يا أستاذة. - استمري في عملك بعيدا عني. - ليس لي عمل. - كيف؟ - فصلوني بقرار وزاري. - أصبح لديك وقت أكثر للكتابة. - فعلا. - مبروك، أنت محظوظة.
ابتسمت بدرية، تغير وجهها مع الابتسامة، بدت شابة وليست كهلة.
صوتها أصبح أكثر دفئا:
أنت لا تصلحين للعمل في هذا الجو الملوث، بؤرة فاسدة، أهنئك على خروجك منه سليمة، لا يمكن لمبدعة العمل في هذا المجرور باكابورت يا أستاذة بدرية، أعرف أعرف؛ لهذا يفصلون كاتبة مثلك، لا يطيقون الصدق لأنه يكشف كذبهم، كالمرآة تعكس صورهم المشوهة، أطرقت طويلا، تهدلت عضلات وجهها، بدت فجأة مثقلة بالحزن، متى قررت أن تكوني كاتبة؟ - مذ كان عمري تسع سنين. - في السن الصغيرة دي؟ - أيوه. - ليه قررتي تكوني كاتبة؟ - ماعرفش، كرهت المدرسة، وكرهت البيت، أقول لك الحقيقة كلها؟ - قولي الحقيقة كلها. - كرهت المدرسة والبيت، أبويا لأنه بيظلم أمي، وكرهت أمي لأنها تقبل الظلم كرهت الدنيا كلها، ابتديت أكتب لأكشف الظلم، كنت باحلم بالعدل. - الناس لا تتكلم بهذه الصراحة، أنت مختلفة؟ - أيوه. - لا أقصد أنك شاذة. - نعم. - أنت طبيعية لكنك شاذة في نظرهم. - أيوه.
سكتت بدرية، بدا عليها التعب والضجر، ثم قالت كأنما تكلم نفسها: أنا قررت العزلة الكاملة عن الناس، لا أريد أن يأتي أحد منكم إلي، اذهبوا وتمردوا بعيدا عني، لا أريد تحمل مسئولية أحد، أنت لا تعرفين خطورة اقترابك مني، الثمن باهظ لا يمكنك دفعه، أنت تسيرين نحو تحطيم نفسك، الأفضل لك ألا تأتي إلى هنا مرة أخرى، أنا قررت العزلة ولا أريد رؤية أحد. مرت لحظة صمت طويلة، يا أستاذة نحن في حاجة إليك، لست وحدي، جيلنا بأجمعه الشابات والشباب في حاجة إليك، أرجوك افتحي مكتبك وسأعمل معك من دون أجرة. ومن أين تأكلين؟ الكتابة تأتي بعد الأكل لا أحد يموت من الجوع يا أستاذة، حدقت بدرية إلى وجه فؤادة، ملامحها طفولية لم تكسرها الحياة بعد، أشفقت عليها من مشقة الطريق الذي تريد أن تمشي فيه، اسمعي يا بنتي لا تضيعي وقتك، لا فائدة من التعلق بفكرة مثالية يستحيل تحقيقها، روحك الجميل لن يستريحوا حتى يحطموه، تملكين العقل المفتوح، لا شيء يثير حقدهم مثل العقل المفتوح، لا تكوني صادقة؛ فالصدق لا يفيدك بل يضرك، هل أنت يا أستاذة التي تقولين هذا؟ هل أنت كذبت لتحققي ما تريدين؟
بالطبع لا، لكن لست أنت بدرية البحراوي، لا أعني أنك أفضل مني أو أنني أفضل منك، كل منا تختار طريقها وتتحمل مسئولية قرارها، أنا جئت إليك بملء حريتي وبمسئوليتي عن نفسك، واثقة بذلك، لكني لا أنصحك بالسير في طريقي، ألم يحذرك أحد من هذا الطريق الشاق؟
يا أستاذة كثيرون حذروني، لكني لا أحترم رأيهم، لا أريد أن أكون مثلهم، لن تكوني مثلهم، لديك موهبة ليست لديهم، أنا أعرفهم وهم يعرفونني، يحترمون رأيي وإن اختلفوا معي، يأخذون من أفكاري ما يشاءون من دون ذكر اسمي، يمكنني أن أعطيك خطاب توصية للوزير الجديد، لقد كان يعمل تحت رئاستي وهددته بالفصل، كان يسرق أفكار غيره من دون أن يذكرهم، لكنه يحترم رأيي وسوف يعينك على الفور في المجلة الأدبية الجديدة، لن يعجبك العمل معهم لكن سوف تتعودين هل توافقين؟ لا أوافق، أنت لم تفعلي هذا يا أستاذة، نعم لم أفعله؛ لهذا أقوله لك بصدق، لو كنت مثل الآخرين لما قلته لك لكنك مختلفة يا فؤادة، أنت تحبين الكتابة، الكتابة هي حبك الحقيقي، هذه هي اللعنة، الحب الصادق الحقيقي واضح في عينيك، يراك الناس ويخافون الصدق، ألا ترين الخوف في عيون الناس؟ - أنا لا أنظر إليهم. - ألا تعرفين ما فعلوه معي؟ - لم تخافي منهم. - الخوف يؤدي إلى الكراهية. - نعم. - أتريدين أن تكوني مثلهم؟ - ليتني أصبح مثلك.
Shafi da ba'a sani ba