وبناء على ذلك فليس من الضروري لمن يريد فهم تعليم المسيح أن يدرس تاريخ العقائد والأديان، ويطالع كتب الكنيسة الموضوعة، بل عليه أن يلتمسه من مأخذه الحقيقي؛ لأن هذه العقائد قد تفرعت عن ذلك التعليم، والفرع ابن الأصل، واعتقادي أنه ينبغي على المسيحيين أن ينبذوا هاته الفروع التي لا توصلهم إلى ضالتهم المنشودة، ولا يكون ذلك إلا أن يجاذبوا أصول هاته المعتقدات من تلك الحبة التي هي الأصل الأصيل في ذلك.
على أن المسيحيين وجدوا بالنفس من حياة أعمال المسيح، وعاشوا ليحذوا حذوه في أعمال الخير والصلاح اللذين هما مرجع اتحادهم.
وقد قادني إلى الإيمان حب البحث عن معنى الحياة أو إيجاد طريق الحياة، أو بعبارة أخرى: كيف يجب أن أعيش؛ فأجلت الطرف في مجاري حياة المؤمنين بتعليم المسيح، والتصقت بهم التصاقا، فألفيت بين أتباع جميع الطوائف من كاثوليك وبروتستانت وأرثوذكس كثيرين ممن تدل أعمالهم على إيمانهم، ثم درست أخلاق الكثير من أفاضل الطوائف المسيحية، فوجدتهم مجمعين على لزوم الإيمان للحياة، ومتفقين على التمييز بين الخير والشر في الحياة الدنيا.
نعم، إن الطوائف مختلفة بحسب الاعتقاد؛ وإنما الأصل واحد، وعليه فإنه يوجد لدى كل طائفة منهن أثر للأصل الحقيقي الذي أريد أن أدرسه دون زيادة ولا نقصان؛ لأن حقيقة الإيمان ليست في الشروح الموضوعة لتعاليم المسيح التي انشق بسببها المسيحيون إلى ألف طائفة، بل إنها محصورة في نفس تعاليم المسيح الموجودة في الأناجيل؛ ولذا فإني قد عنيت بدرس تلك الأناجيل بإمعان.
أسلفت أن تعاليم الكنيسة لا تنحصر في الإنجيل فقط، بل وفي موضوعات رجالها التي لا تحصى، وما تحتفظ به من التقاليد؛ ومن ثم فقد علم القارئ الكريم من سياق ما مضى من الكلام أني لا أتعرض للبحث في مجموعة تلك التآليف تاركا أمرها للكنيسة.
والأنكى من كل ما تقدم: أن الكنيسة تحرم على أتباعها مطالعة الإنجيل والبحث في قوانينها، وهو تمادي في المغالطة لا يغتفر لجميع الكنائس الآخذة بالتقاليد والتعاليم المتخالفة.
إن الله سبحانه وتعالى قد كشف عن الحقيقة للناس، وأوجد لهم نظامات وقواعد يسيرون بموجبها، ثم إنني أحد هؤلاء المبصرين بالكتاب الذي أعطي للخلق ليفهموه من أنفسهم دون أن يسألوا تفسير معنى من معانيه؛ فإذا كان ما في الكتاب هو كلام الله تعالى، فإنه سبحانه يعرف مقدار قصور عقلي وقلة إدراكي، فكان يلزم أن يكون كلامه سهل المأخذ حتى لا يستعصي على إدراك أوامره وتعاليمه؛ فأذهب في تأويلها كل مذهب، وقد أقع من ذلك في ضلال مبين.
ولذا فإن عدم إباحة الكنيسة لأتباعها مطالعة الإنجيل أولا، وعدم تناول البحث في تآليفها الدينية ثانيا، بدعوى أن ذلك يؤدي بهم إلى تشويش الذهن واضطراب الفكر، قد يوقعهم في الريبة، وهو ادعاء منبوذ ساقط؛ على أنها كانت تظفر بادعائها لو أنها كانت واحدة في تعاليمها وأجمع عليها المسيحيون.
ولا يخفى أن جميع ما تعطيه الكنيسة من التعاليم الخاصة بابن الله، والله وكونه في ثلاثة أقانيم، والعذراء التي ولدت ابنا دون أن تفسد عذارتها، ثم الخاصة بالخبز والخمر اللذين يستحيلان فعلا إلى جسد ودم الله، ويتناولهما المسيحيون على هذا الاعتقاد؛ غير معقول ولا محسوس.
وعدا ما تقدم: فإنه قد دخل على الكنيسة من المعتقدات ما لا حصر له، ولا يمكن أن يقرر منه الإنسان معتقدا واحدا؛ لأنه يتضمن لعقائد متعددة تناقض بعضها بعضا.
Shafi da ba'a sani ba