Infallibility of the Holy Quran and the Ignorance of the Evangelists
عصمة القرآن الكريم وجهالات المبشرين
Mai Buga Littafi
مكتبة زهراء الشرق
Lambar Fassara
الأولى ١٤٢٦ هـ
Shekarar Bugawa
٢٠٠٥ م
Inda aka buga
القاهرة
Nau'ikan
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب: عصمةُ القرآنِ الكريمِ وجهالاتُ الْمُبَشِّرِينَ
المؤلف: د. إبراهيم عوض
الناشر: مكتبة زهراء الشرق - القاهرة
الطبعة الأولى ١٤٢٦ هـ - ٢٠٠٥ م
عدد الأجزاء: ١
تنبيه:
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
جَزَى اللَّهُ كَاتِبَهُ وَمَنْ تَحَمَّلَ نَفَقَةَ الْكِتَابَةِ خَيرَ الجَزَاءِ وَأَوفَاهُ.
1 / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
في البدء كانت هذه الكلمة!
منذ أن جاء الرسول ﷺ بدعوة الإسلام، وهو وقرآنه يتعرضان لهجوم شرسٍ لا يرعى في منطقه ولا بواعثه إلًا ولا ذمة، هجومٍ كله باطل: هجومٍ ينطلق تارة من الوثنية والقبلية، وهو هجوم القرشيين. وتارة يقوم على العصبية القومية الغبية والأنانية الحاقدة الفتاكة، وهو هجوم اليهود، الذين لم يطيقوا أن يرَوْا نبيًا من خارج بني إسرائيل، إذ كانوا يتوهمون أنهم أبناء الله، وأن الله إلههم وحدهم مهما كفروا ومهما اجترحوا من جرائم، وأنه لن يعذبهم إلا لأيام معدودة، فهم شعب الله المختار، وبقية الخلق "أغيار" منحطّون لا قيمة لهم. وتارة يقوم على رفض التوحيد النقي الذي لا يقر بوارثة البشرية لخطاٍ أبيهم آدم وأمهم حواء حين نسيا فأكلا من الشجرة المحرّمة فأهبطهما الله من الجنة، ولا بما يترتب على ذلك المبدأ الظالم الغريب من أن الله ﷾ قد أرسل ابنه الوحيد بعد خطاٍ آدم وحواء بأزمنة متطاولة كي يفتدي البشر من هذا الخطأ (أو فلنقل كما يقولون: كم هذه الخطيئة)، وذلك بتألمه وموته على الصليب ممل يُعَدً صورة من صور الوثنيات القديمة، مع أن من المستحيل أن يكون لله سبحانه ولد، فالألوهية والتعدّد نقيضان لا يجتمعان في العقل أساسًا.
1 / 5
وإني كلما تأملت هذا الهجوم الحاقد على الرسول الأعظم لم أجد له سببًا مقنعًا: لا إنسانيًا ولا أخلاقيًا ولا عقيديًا ولا.... ولا.... لقد دعا ﷺ إلى أنقى صور التوحيد، وأكَّد أن رب الإسلام إلهَّ عادل رحيم تسبق رحمتُه غضبَه، ويجازي على الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، على حين لا يجزي السيئة إلا بمثلها، وكثيرًا ما يغفرها، إلهَّ لا يكلّف نفسًا إلا وسعها، إلهّ لا يحاسب الأبناء بذنوب الآباء، إلهَّ يأخذ الناس بنياتهم لا بمظاهر أعمالهم، إله أقبر إلى عباده من حبل الوريد، إلهَّ يريد لهؤلاء العباد أن يسعَوْا وراء العلم وأن يستزيدوا منه وأن يفتحوا عيونهم وقلوبهم لتأمل الكون وما فيه من جمال، إلهَّ يحب العمل والإنتاج ويكره الثرثرة والكسل، إله لا يفرق بين البشر على أساس عرقي أو قومي أو قَبَلي بل على أساس من إيمانهم وأعمالهم الصالحة، فالبشر عنده سواسية، إلهَّ مفتّحة أبوابه ليل نهار للتوبة والحصول على الغفران دون وساطة من أحد أيًا كان ودون أية تعقيدات أو إراقة دماء بشرية، إلهَّ يحضّ على العفو والتسامح ما أمكن، وإلا فليأخذ المظلوم حقه ممن ظلمه دون أي تثريب، إلهَّ يُحِلً الطيبات ويحرَم الخبائث ... إلخ مما لو ذهبتُ أستقصيه ما انتهيت.
كذلك كان رسولنا الكريم هو الصورة المثلى للإنسانية صبرًا
1 / 6
وتسامحًا، وحُنُوًا على الضعف البشري، ورغبةً في تحويل هذا الضعف إلى قوة، وحضًا على تحصيل أسباب الحضارة من علم وعمل ونظام وخُلُقٍ طاهر وذوق راقٍ، وعدلًا في تطبيق القانون، وتوازنًا في النظر إلى الدنيا والآخرة، والجسد والروح، فالدنيا طيبة ما دامت من حلال، والطعام والشراب والعطر والنساء مِنَنً من الله على عباده ليستمتعوا بها، ولكن بحقها وفي اعتدال ... وهلم جرا. ترى ما الذي في هذا أو في ذاك مما يمكن أن يكرهه عاقل سليم القلب مستقيم الضمير؟ وهل بعد رفض الدين الذين جاء به محمد يستطيع أي إنسان عاقل سليم القلب مستقيم الضمير أن يجد دينًا يصلح لاعتناقه والعمل به؟
وفي الفترة الأخيرة ازداد الهجوم على الإسلام ورسوله شراسةً ظنًا من المهاجمين الحاقدين أن الفرصة سانحة لتوجيه ضربة قاضية إلى ذلك الذين في ظل ضعف المسلمين وهوانهم وتخلفهم، والواقع أن هؤلاء الحاقدين واهمون، فالإسلام، وإن كان المنتسبون إليه الآن ضعافًا أذلاء، هو دين قوي عزيز كريم يستحيل القضاء عليه، والأيام بيننا! ولقد مرت على المسلمين أزمان كانوا اشد ضعفًا وهوانًا مما هم الآن، ولم يستطيع أعداء الإسلام أن ينالوا من دين الله منالًا، بل إن جوهرته لتزداد على الأيام ومعاودة الهجوم عليه تألقًا وجمالًا!
1 / 7
ومما ظهر في الفترة الأخيرة من كتب تهاجم الإسلام كتاب تافه صدر في النمسا سنة ١٩٩٤م بعنوان "هل القرآن معصوم؟ " لشخص يتسمى باسم "عبد الله عبد الفادي" (أو بالأحرى: العبد الفاضي) راح يهاجم القرآن في رعونة وجهل، ويتهم لغته بالضعف والخطأ، ويحاول أن ينال من الرسول الكريم، الذي حتى لو صدقت كل افتراءات هذا الكاذب الأفاك هو وجميع المبشرين والمستشرقين عليه ﷺ لكان من ذلك أفضل من أنبيائهم جميعًا حسبما يصور كتابهم المقدس هؤلاء الأنبياء: فنوح يشرب الخمر حتى يسكر وينطرح على الأرض عريان السوأة ثم يلعن حفيده كنعان لعنًا شنيعًا لا لشيء إلا لأن حامًا أبا كنعان هذا قد تصادف أن رآه على هذه الحال. وإبراهيم يتنازل عن زوجته لأبيمالك خوفًا منه قائلًا إنها أخته، ولولا أن أبيمالك قد عرف حقيقة الأمر في المنام لوقعت الواقعة. ولوط تسقيه ابنتاه خمرًا حتى يفقد وعيه ثم تنامان معه الواحدة بعد الأخرى لتحبلا منه. وموسى يقتل المصري عن عند وسبق إصرار وقسوة إجرامية أصلية، وحين يختاره الله
1 / 8
رسولًا إلى فرعون يردّ عليه سبحانه في جلافةٍ غريبة أغضبته سبحانه عليه. وهارون يصنع العجل الذهبي لبني إسرائيل ويبني له مذبحًا ويبارك عبادتهم له وطوافهم ورقصهم جولة عراةً صاخبين. وداود يرى امرأة قائده الحربي من فوق سطح قصره وهي تستحم عارية في فناء بيتها المجاور فيُحْضِرها إليه ويزني بها ثم يتخلص من زوجها بمؤامرة خسيسة لا يقدم عليها إلى القتلة المتوحشون كي يخلو له وجهها، ثم يتزوجها وينجب منها سليمان. وسليمان ينظم نشيدًا غزليًا شهوانيًا يتفوق فيه على كل شعراء المجون يصف فيه سُرّة الحبيبة وأثداءها وأفخاذها، كما يغض الطرف عن عبادة زوجاته للأوثان في بيته. وعيسى تُكِبً امرأة على رجليه تبللهما بالدموع وتمسحهما بشعر رأسها وتقبّل بفمها وتدهنهما بالطيب فيقول لها: "مغفورةً لك خطاياك"، وتأتيه أمه وإخوته يريدون أن يقابلوه فيرفض قائلًا إن أمه وأخوته هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها، مما لا يمكن أن يكون معناه إلا أنهم لم يكونوا من الذين يسمعون كلمة الله ويعلمون بها. وفي مناسبة أخرى يأمر اثنين من تلاميذه أن يدخلا إحدى القرى القريبة ويأتياه بجحش مربوط هناك دون استئذان من أصحابه ليركبه. وفي العشاء الأخير يمسك بكأس خمر ويقدمها لتلاميذه ليشربوا منها، بل إنه في أحد الأعراس التي دُعِيَ إليها قد حوّل نحو خمسة عشر مترًا مكعبًا من الماء إلى خمر ليشرب المدعوّون
1 / 9
ويسكروا، وكان هذا استجابةً لطلب أمه. وقد عدّ كاتبُ إنجيل يوحنا هذا العمل أولى معجزاته ﵇ ... وهكذا، وهكذا مما هو مذكور في كتب القوم، وإن كنا نحن المسلمين لا نصدّق بشيء منه. ترى ما دام كذلك فلم يكرهون محمدًا ﷺ، وهو لم يفعل ذلك ولا عُشْره بل ولا واحدًا على مائة أو على ألف أو حتَّى على مليون منه؟ الواقع أن القوم، يسبب حقدهم، قد سُلِبَتْ منهم عقولهم فهم لا يفقهون!
والآن مع الكتاب السخيف الذي يظن صاحبه ومن يقفون وراءه أن بإمكانهم تشويه صورة الرسول والإجلاب على القرآن وعظمته وإعجازه. والواقع أني لم أردّ على كل الشبهات بل اقتصرت على الشبهات اللغوية وعدد كبير من الشبهات الأخرى التي تتناول مضمون القرآن، وفيها غُنْيَةَّ عما أرد عليه من اعتراضات. وقد كتبتُ هذه الصفحات وأنا بعيد عن المراجع الكتابية، اللهم إلا الترجمة الكاثوليكية للكتاب المقدس، ثم إني سطَّرتُها في وقت انشغال ببعض الأعباء والأبحاث الأخرى.
إبراهيم عوض
٢٠٠٣م
1 / 10
الفصل الأول (الشبهات اللغوية)
1 / 11
الشبهات اللغوية
في هذا الفصل نتناول ما سمّاه الجاهل بـ "الأسئلة اللغوية"، وهي الأسئلة الخمسة والعشرون التي عقد لها فصلًا مستقلًا غطى الصفحات ١٠٧ - ١١٢. والهدف الذي يبتغيًاه من وراء هذه الشبهات هو أن يلقي في رُوع القراء بأن بالقرآن الكريم أخطاء لغوية، وهذه دليل على أنه لا يمكن أن يكون من عند الله، لأن الله لا يخطئ، وهو إذن من تأليف محمد، ولسوف أفاجئه وأسلك في الرد على هذا القيء سبيلًا لا يتوقعها هذا الجاهل ولا خطرت له ببال، إذ سأفترض أن محمدًا هو فعلًا صاحب القرآن، ثم أعالجه بمفاجأة أخرى لا تقلّ عن الأولى إذهالًا إن لم تزد، هذه هي المسألة كما يقول شكسبير!
فالمعروف أن أية لغة هي من صنع أهلها الأوائل الذين تكون ممارستهم لها حينئذ بالسليقة، أي بدون أن يكونوا واعين تمامًا بالقواعد التي تحكمها، بل يتشرًبها كل جيل من الجيل السابق عليه تشرَُبًا، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة تُجْمَع فيها اللغة وتُسْتَخْلَص قواعدها من كلام أهلها، فما قالوه يكون هو الصواب، وما لم يقولوه لا يكون مقبولًا.
1 / 13
ولْنُطبَّق الآن هذا الكلام على اللغة العربية: لقد كان الجاهليون يمارسون العربية بالسليقة، وكان كلامهم هو مقياس الخطأ والصواب، وبطبيعة الحال فإن شعراءهم وخطباءهم كانوا يمثًلون أرقى المستويات اللغوية لكونهم أفضل قومهم ثقافة وذوقًاَ أدبيًا ورهافة حسّ، وكان محمد واحدًا من هؤلاء المثقفين، مَثَلُه مَثَلُ امرئ القيس وطرفة وزهير والأعشى وقُسً بن ساعدة وحسًان بن ثابت وغيرهم من الشعراء والخطباء الذين أُخِذَتْ عنهم اللغة، ومن كلامهم قُعَّدَتْ قواعدها، فهل سمع أحد أن شخصًا قد خطأ أيًا من هؤلاء الشعراء أو الخطباء؟ إن هذا لم يحدث، ولن يحدث. فقرآن محمد إذن هو، على أسوأ الفروض، مثل شعر امرئ القيس مثلًا أو خُطَب قس بن ساعدة، أي أنه هو المعيار الذي يُحْتَكَمُ إليِه ويؤخذ منه ويُهْتَدَي به،
1 / 14
إما أن تطاول أحد وتطلع إلى تخطئته فتلك هي الطامة الكبرى، وهذا ما فعله هذا الأحمق الموسوم بـ "العبد الفاضي"!
وفضلًا عن ذلك فينبغي ألا يفوتنا أنه لو كان في القرآن الكريم أي خطأ لغوي مهما تَفِهَ لملأ مشركو العرب صياحًا واستهزاء بمحمد. لقد افترَوْا عليه الأكاذيب ولم يألوا جهدًا في اتهامه زورًا وبهتانًا بأنه مجنون وأنه ساحر وأنه كذاب وأنه إنما يعلمه بشر، ولكنْ رغم كل هذا لم يجرؤ أحد منهم قط أن يهمس مجرد همس بأن في القرآن أخطاء لغوية، مع كثرة ما تحداهم أن يأتوا بقرآن مثله أو بعشر سُوَرٍ منه أو حتى بسورة واحدة تشبه سُوَره، وكثرة ما نشب بينهم وبينه من حروب كلامية ومعارك بالسيف والرمح والحصان. فما معنى هذا؟ إن أعداء محمد من المبشرين لا يخجلون! ذلك أنهم إنما يحركهم الحقد والدناءة، وناس هذه دوافعهم كيف ننتظر منهم أن يُعْمِلوا عقولهم أو يتقوا ربهم؟
وطريقتنا مع الشُّبَه اللغوية التي لُقًنها العبد الفاضي كما يُلَقَّن الأطفال هي أن نذكر كل شبهة منها ونبيَّن نما فيها من رقاعة وجهل ثم ننفخ فيها نفخة خفيفة فتطير في الهواء هباءً منثورًا. ولكن قبل أن نبدأ نحب أن نوجه نظر القراء إلى أن معرفة هذا الجاهل بقواعد
1 / 15
اللغة العربية، حسبما يبدو من أسلوبه نفسه أو من الاعتراضات التي يثيرها ضد أسلوب القرآن، هي معرفة تافهة فجّة. وهذه جملة من أخطائه في الكتاب الذي بين أيدينا:
قال مثلًا: "فجملة السماوات والأراضي أربعة عشر" (ص ٢٢)، وصوابها لكل من له أدنى إلمام بقواعد اللغة هو: "أربع عشرة"، وقوله عن مريم أن المسيح ﵇: " ... مع أن بينها وبين عمران وهارون وموسى ألف وستمائة سنة" (ص ٣٠)، والصواب هو: "ألفًا وستمائة سنة"، وقوله: " ... مع أن بين الحادثتين زمن مديد" (ص ٥٨)، وصحته: "زمنًا مديدًا"، وقوله: "كيف يكون حال بيت يكذب فيه الزوجان على بعضهما؟ " (ص ٦٨)، والصحيح: "يكذب فيه الزوجان أحدهما على الآخر، أو يكذب فيه أحد الزوجين على الآخر"، أما ما قاله فهو كلام العوامّ من أشباهه. ومن أخطائه أيضًا قوله: "نتساءل إن كان ما رواه الأولون حقّ أم شبيه الحق" (ص ٩٩)، وصحته: "حقًا"، وقوله: "وتكون رسالة الأنبياء وتكليفهم بالكرازة والدعوة عبث لا ضرورة له ولا فائدة منه" (ص ١٠٣)، وتصويبه: "عبثًا"، وقوله: " ... بشرط أن تجامع رجلًا غيره يسمَّى محلَل" (ص ١٣٩)، وصوابه: "يسمَّى محلَّلًا، وقوله: "يعتقدون أن أحكامها ملغيَّة" (ص ١٩٨)،
1 / 16
وتصحيحه: "مُلغاة"، وقوله: "خانوا نظام المجتمع بإتيانهم نسائهم بعد صلاة العشاء" (ص ٢٠١)، وصحته "بإتيانهم نساءهم"، وقوله: "معروف أن لكل لغة أدباؤها" (ص ٢٠٣)، وتصويبه٨: "أدباءها"، وقوله عن الرسول الأكرم صلوات الله وسلامه عليه: "كانت له عند وفاته تسع نسوة أحياء وسُرَّيَّتَيْن" (ص ٢٠٧)، والصحيح: "وسُرَّيَتان"، وقوله عن الرَّبَاعِيةَ إنها "الأسنان الأربعة الأمامية" (ص ٢٤)، والصواب أنها الواحدة من هذه الأسنان الأربع لا كلها، وقوله: "كانوا اثني عشر ألفا: العَشْر الذين حضروا فتح مكة، وألفان انضموا إليه من الطلقاء: هوازن وثقيفا"، وفيه غلطتان قبيحتان: "العَشْر" وصوابها: "العشرة" (أي عشرة الآلاف الذين حضروا فتح مكة"، ثم "وثقيفًا"، وصوابها: "وثقيف" (فهي معطوفة على "هوازن"، التي هي بدل من "الطُّلَقاء" المجرورة)، وقوله: "فإذا أراد أن يزوج زينبًا لابنه زيد ...، وإذا أراد محمد زينبًا ... " (ص ٢٤٧)، وصحته "زينبَ" بفتحة واحدة لأنه ممنوع من الصرف ... وهكذا.
ويبلغ خِزْيُ هذا الجاهل أقصاه حين يخطئ القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ﴾، إذ يتحذلق في تعالم سفيه مؤكدًا أن وضع فتحة على همزة "ضرّاء" خطأ لأنها مجرورة، ومن
1 / 17
ثم يجب وضع كسرة تحتها (ص ١٠٨) . وفات هذا الأرعن أن "ضراء" ممنوعة من الصرف فتُجَرّ بفتحة واحدة كما هي في الآية، أما الجرّ بالكسر فلا تعرفه العربية إلا بكسرتين اثنتين لا بكسرة واحدة. بل إنه، لفَرْط جهله، يخطئ في نقل آية قرآنية دون أن يحسّ بأنه قد أتى شيئًا، ومرجع ذلك إلى بلاده إحساسه. جاء في كلامه عن نوح ﵇ أن القرآن يقول "وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِون" (الصافات/ ٧٧)، وهي بنصب ﴿الْبَاقِينَ﴾ لا برفعها كما كتبها الأحمق.
وإن الإنسان ليذهل من إقدام مثل هذا الجاهل الغشوم الذي يخطئ تلك الأخطاء الأولية على تخطئة القرآن الكريم. بَيدَ أننا، عند مراجعة الأمر جيدًا في ضوء منطق الأشياء وطبيعتها، نرى ألا موضع للذهول ولا حتى للاستغراب، إذ ما أسهل أن يخبط الجاهلُ الذي لا يبصر ولا يقدر على التمييز بين الصواب والخطأ خبط عشواءَ، وفي حسبانه أنه يُحْسِن صنعًاَ! ولولا أن هناك جهلة مثله يمكن أن ينخدعوا بمثل هذه التشويشات ما بَالَيْنا بها ولا بتوجيه النظر إلى ما فيها من سخف وضلال. وعلى هذا فببركة الله نبدأ فنتناول تخطئاته الغشوم مبينين ما فيها من تفاهة وجهل:
1 / 18
١- يقول (ص ١٠٧) إن "الصابئون" في قوله تعالى في الآية ٦٩ من سورة "المائدة" ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ كان يجب أن تُنْصَب لأنها معطوفة على ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الواقعة اسمًا لـ "إنّ". وقد كان كلامه يكون صحيحًا لو أنها معطوفة فعلًا على ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ولم يكن إعراب آخر يهدف إلى نكتة بلاغية لا تتوفر في الإعراب الذي وَهِمَه. وهذا الإعراب الآخر قد أومأت إليه إيماءً بالطريقة التي استعملتُ بها علامات الترقيم في الآية، حيث وضعتُ عبارة "والذين هادوا.... وعمل صالحًا" بين فاصلتين بما يدل على أنها عبارة اعتراضية، ويكون تقدير الكلام هكذا: "ن الذين آمنوا لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وكذلك الذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا". أي أن ﴿الَّذِينَ هَادُوا﴾ مبتدأ خبره كلمة "كذلك"، فهو إذن مرفوع وكذلك المعطوفان عليه: ﴿الصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى﴾ . وقد حُذفت كلمة "كذلك"، وانتقلت جملة المبتدأ والخبر لتحتل المكان الذي يفصل بين اسم "إنّ" وخبرها. أما النكتة البلاغية في الآية فهي الإشارة إلى
1 / 19
أن اليهود والصابئين والنصارى هم أيضًا ممن يستطيعون النجاة يوم القيامة إذا دخلوا فيما دخل فيه المسلمون من الإيمان بالله واليوم الآخر وعملوا الصالحات، بمعنى أن الجنة في الإسلام ليست مقصورة على العرب وحدهم بل هي مفتحة الأبواب حتى لليهود والصابئين والنصارى وأمثالهم. أي أن الإسلام ليس كاليهودية مثلًا المقصورة على بني إسرائيل فلا يمكن أن يشاركهم غيرهم في الهداية والنجاة لأن ربّ الكون إلهَّ خاصّ بهم، والنجاة نجاتهم وحدهم ... وهكذا، فهذا ما أراده القرآن بصياغة الآية على ذلك النحو الموجز البليغ الذي لا يستطيع الجهلاء أن يدركوا مراميه لأن القرآن لم ينزل على أمة من الجهلاء المتحذلقين من أمثال هذا الأحمق بل نزل بالأسلوب الذي يفهمه العرب، ومن ثم لم يجدوا في هذا الإعراب ما يمكن أن يؤخذ عليه، وإلا لملأوا الدنيا صراخًا واعتراضًا، وهم الذين اتهموا الرسول، كما ذكرنا، بكل نقيصة مما هو بعيد عنه بعد السماء عن الأرض، إلا أنهم لم يحوَّموا حول اتهام لغته بالخطأ، وهناك من يوجّهون "الصابئون" على أنها منصوبة رغم ذلك، ولكن على لغة قبيلة بلحارث بن كعب، الذين يعربون جمع
1 / 20
المذكر السالم بالواو في كل الأحوال رفعًا ونصبًا وجرًا مثلما يعربون المثنى بالألف دائمًا في هذه الحالات الثلاث جميعًا، كما أن هناك توجيهات أخرى لا نقف عندها.
ومن الشواهد على الإعراب الذي اخترناه بيت ضابئٍ البُرْجُمي المشهور الذي يتحدث فيه عن غربته بالمدنية هو وقيًارٍ فَرَسِه:
فمن يَكُ أًمْسَى بالمدينة رَحْلُهُ ... فإني، وقياَّر، بها لَغَريبُ
وكذلك بيت بشر بن أبي حازم:
وإلا فاعملوا أنّا، وأنتم، ... بُغَاَّة ما بِقينا في شِقاق
حيث أتى بضمير الرفع "أنتم" بعد الواو، التي لو كانت واو عطف كما وهم الأحمق الجهول لقال: "فاعملوا أنّا وإياكم ... "، بل "أنتم" مبتدأ، وخبره محذوف، وجملة المبتدأ والخبر جملة اعتراضية. ومما يجري من الشعر أيضًا على هذه الصورة البيت التالي، وهو نم إنشاد ثعلب:
خليلَّي، هل طِبَّ؟ فإني، وأنتما، ... وإن لم تبوحا بالهوى، دِنَفان
وقول رؤية:
ياليتني، وأنت، يا لميسُ ... في بلدة ليس بها أنيسُ
1 / 21
وكذلك هذا البيت:
فمن يَكُ لم يُنْجِب أبوه وأمه ... فإن لنا الأمَّ النجيبةَ والأبُ
وهذا البيت أيضًا:
وما قصَّرتْ بي التسامي خؤولَّة ... ولكنّ عمىَّ الطيبُ الأصل والحالُ
* * *
٢- ويقول الكاتب النزق (ص ١٠٧) إن في نصب "الظالمين" في قوله تعالى في الآية الرابعة والعشرين بعد المائة من سورة "البقرة": "قال (أي الله لإبراهيم): لا ينال عهدي الظالمين" خطأ لأنها فاعل، فكان يجب أن يقال: "لا ينال عهدي الظالمون". وقد قال علماؤنا القدامى في تفسيرهم لهذه الآية إن هناك قراءتين: إحداهما هي هذه التي بين أيدينا، والأخرى بالرفع، ووجّهوا ذلك قائلين إن المعنيين متقاربان لأن كل ما نِلْتَه فقد نالك. وقد لاحظتُ أن بعض الآيات التي وَرَد فيها هذا الفعل قد وردت على نحو آيتنا هذه، وبعضها الآخر بالعكس. ومن الأخيرة قوله تعالى: ﴿لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ﴾، وقوله: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا
1 / 22
تُحِبُّونَ﴾، ومن الأولى قوله: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾ . وقد يصح أن نذكر هنا أيضًا قوله تعالى على لسان زكريا في حديثه عن تقدمه في السن في الآية ٤٠ من "آل عمران" والآية ٨ من "مريم" على الترتيب: ﴿وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾، ﴿وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا﴾ حيث أتى الضمير العائد على زكريا ﵇ في الأولى مفعولًا به و"الكبر" فاعلًا، وفي الثانية فاعلًا، و"الكِبَر" متعلقًا بالمفعول به. وفي كل من التركيبين نكتة خاصة، إذ توحي الأولى بأنه قد قطع الشوط الأكبر من مسيرة الحياة، على حين تومئ الثانية بأن الكبر يطارده ويسعى إلى اللحاق به، بينما يحاول هو فَوْتَه، لكن الكبر يدركه في نهاية المطاف.
وعودةً إلى آيتنا نقول إن "العهد" المذكور في الآية قد تمً بين الله سبحانه وإبراهيم ﵇ وانتهى الأمر، فلم يعد ثمة مجال للقول بأن ذرية إبراهيم يمكن أن تدركه أو لا تدركه، لكن من الممكن القول مع ذلك بأنه يصدق على بعضهم ولا يصدق على بعضهم الآخر حسب استحقاقهم ذلك أو عدمه. أي أن معنى الآية:
1 / 23
"لا يَصْدُق عهدي على الظالمين من ذريتك". وهذا هو الوجه الذي أختاره، وإن كنت لا أقلّل من شأن ما قاله علماؤنا ﵏.
وبهذا التركيب وردت الآيات التالية: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾، ﴿أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ﴾، ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ . وبه أيضًا وردت الجملتان التاليتان في الكتاب المقدس عند اليهود والنصارى: "لذلك نالتنا هذه الشدة"، "لم يَنَلْكم من قِبَلنا خسرانٌ في شيء".
وقد رجعتُ، رغم ذلك كله، إلى عدد من المعاجم التي ألفها نصارى لأرى ماذا تقول عن هذا الفعل، فوجدتُ "البستان" و"الوافي" لعبد الله البستاني، و"المنجد" المشهور، و"الرائد" لجبران مسعود تقول جميعًا في مادة "ن ى ل": "نالني من فلان معروف"، أي وصل إلىَّ منه معروف. وفي "مَدَّ القاموس" لإدوارد وليم لين (Edward William Lane) في المادة ذاتها أن من معاني
1 / 24