تتلفت حولها وهي تسير في الشارع، وحين تسمع صوتا من خلفها تتوقف وتستدير كأن أحدا يناديها، وتدرك بعد لحظة أنه ينادي اسما آخر على وزن بهية، كوفية أو نجية أو علية أو زكية.
وحين تركب الترام يخيل إليها أن أحدا ركب وراءها، أنه يتبعها، وحين تهبط في شارع القصر العيني تكاد تسمع خطواته من خلفها، وحين تدخل من باب الكلية يدخل.
في فناء الكلية الواسع المزدحم تفقده، تختلط الأصوات والملامح ، وتحس أنها تغرق في بحر وحدها، دون أن يراها أحد، ودون أن يميزها أحد، وأن وجهها أصبح كوجه زميلاتها لا فرق بين بهية أو علية أو سعاد أو إيفون، وفي هذه اللحظة تدرك المعنى الحقيقي للموت، كانت تبحث عن الموت في جثث المشرحة، لكن الموت كالحياة لا يعيش في الجثث.
الموت لا يعيش إلا في ذهن حي، شديد الحياة، قادر على التقاط أدنى الأحاسيس وأكثرها اختفاء وسرية، كذلك الإحساس بالضياع الذي تحسه ذرة هواء سابحة في الكون تقاوم الضياع بين ملايين الذرات، أو كتلك الرغبة المحيطة التي تحسها قطرة ماء تقاوم الذوبان في ماء البحر. المقاومة المجنونة اليائسة في قمة الإحباط، تصنع الاستسلام الكامل كالسكون الأبدي. من ينظر إلى وجهها في تلك اللحظة يظن أنها عمياء وخرساء، وأن جسدها ساكن لا يتحرك، مع أن قدميها تنتقلان على الأرض، القدم وراء القدم والأشياء أما عينيها بلون واحد وشكل واحد، والأجسام كلها متشابهة، والحركات والأصوات متشابهة. تجد نفسها تجري بغير وعي، هاربة من فناء الكلية، هاربة من التشابه المميت، داخلها وخارجها، في جسدها وفي العالم الخارجي.
كان لها ركن صغير منفصل، منعزل، بحذاء سور الكلية، وراء المبنى الضخم، تجلس. فيه مقعد خشبي بغير ظهر، تجلس محنية إلى الأمام، تحملق في قطعة صغيرة من الأرض بحجم كف اليد لم ينبت عليها العشب الأخضر، ودون بقية الأرض من حولها ظلت طينية اللون، مشققة، ومن بين الشقوق الرفيعة تدخل وتخرج ملايين الكائنات الدقيقة بحجم النمل. - بهية!
يرن الاسم في أذنها غريبا كاسم واحدة غيرها، وتنتفض من فوق المقعد، وفي انتفاضة جسدها تدرك أن لها جسدا خاصا، يمكن أن تحركه وتهزه فلا تهتز معه الأجسام الأخرى، وأن له اسما خاصا، حينما يرن في الجو ترفع رأسها وتندهش، وقد تسأل: من يناديني؟ في كل مرة تسمع النداء تندهش، وتدرك بإحساس خفي أن أحدا يناديها باسمها من دون الأسماء الأخرى، ويتعرف على جسدها من ملايين الأجساد، ويستطيع أن يميزها من بين المخلوقات السابحة في الكون بالبلايين.
يهرب الدم من وجهها في شحوب غير بشري، كشحوب التماثيل المنحوتة من الصخر، أو كوجوه الجثث المرصوصة على المناضد الرخامية في المشرحة. ورأت لون وجهها حين نظرت في مرآة حجرة الطالبات، وأصابعها حين لمست بشرتها كانت باردة مثلجة. وتعرف عن يقين أنها ترتعد وأنها تريد أن تهرب من ذلك الصوت الذي ناداها، من ذلك النداء الذي يقصدها هي بالذات، من تلك القدرة الخارقة التي استطاعت أن تميزها هي دون الآخرين، أرادت أن تهرب. بسرعة لم تألفها قدماها دست نفسها بين الطالبات وجعلت جسدها يتوه بين أجسادهن، ورأسها يختفي بين رءوسهن. وحينما تتحرك الرءوس تحرك رأسها معها، إلى اليمين أو إلى اليسار أو إلى الأمام أو إلى الخلف، تحتمي فيها كدرع، وتظل كذلك بينهن مختفية، لا تقوى على أن تطل برأسها إلى الخارج، فهناك في الخارج قوة خارقة للطبيعة تستطيع أن تلتقطها من وسط الزحام، وتميز جسدها من بين الأجساد. قوة قادرة رهيبة، ما إن تطل برأسها حتى تشدها إليها بمغنطة أشد من جاذبية الأرض، وما إن تشدها حتى تدخل مجالها الكهربي، وتدور في فلكها كنحلة مجنونة نزعوا عنها قرنها فراحت تدور حول نفسها حتى يسحقها الدوران.
كانت تشعر بذلك الخطر ينمو داخلها ويكبر، ذلك الخطر الذي يهددها بأنها منسحقة لا محالة، وأن جرثومة ما تعيش في جسدها، تنهشه في حذر وهدوء لتسحقه بالتدريج دون أن تدري، أو أنه سينسحق فجأة وفي لحظة خاطفة تحت قضبان الترام، أو بين عجلات الأتوبيس، وأن أحدا لن ينقذها، وحينما تسمع صراخا وتطل برأسها من الترام وترى الجسد الممزق فوق القضبان تحس أنه جسدها، وهذا الوجه الشاحب هو وجهها، وهذا الدم الأحمر فوق الأسفلت هو دمها. ثم يتحرك الترام مرة أخرى وتجد جسدها قابعا في مكانه فوق المقعد سليما صحيحا، ودمها لا زال داخل عروقها لم يخرج، وتدرك بإحساس خفي، ولكنه يقيني، أن اليوم لم يأت بعد، وأنها لا زالت بهية شاهين، طالبة الطب المجدة حسنة السير والسلوك، ابنه محمد شاهين المدير بوزارة الصحة.
تدخل الكلية بحركة تشبه حركتها كل يوم، وتتجه إلى مدرج علي باشا إبراهيم، وتجلس في المقعد الذي تجلس فيه كل يوم، آخر مقعد في آخر صف من ناحية اليسار، من يراها يظن أنها نائمة في مقعدها، مع أنها يقظة شديدة اليقظة، ترى الطلبة بوضوح أشد من أي وضوح سبق، تراهم وهم يندفعون من الباب، يدوسون على أقدام بعضهم البعض، الحقائب المنتفخة بكتب التشريح مضغوطة تحت الإبط، والنظارة البيضاء السميكة تهتز فوق الأنف تسندها اليد اليسرى من السقوط، والذراع اليمنى ممدودة إلى الأمام تزيح الأجسام الأخرى من الطريق يتسارعون إلى احتلال الصفوف الأمامية من المدرج، ويجلس الواحد منهم في مقعد وهو يلهث، ويفتح كشكول المحاضرات بأصابع حمراء متورمة «بسبب التسلق على الترام» يدلكها بحركة سريعة ثم يضعها في جيبه، وقد يضع رأسه داخل الكشكول ليراجع المحاضرات السابقة، أو يمد عنقه إلى اليمين أو إلى اليسار ويهمس في أذن زميله بنكتة «في معظم الأحيان نابية»، وحين يدخل الأستاذ يدب الصمت في المدرج، ويصبح الواحد منهم قادرا على سماع الأصوات المنبعثة من معدة الآخر «بسبب عدم تناول الإفطار قبل الحضور»، يتحرك الأستاذ أمامهم من فوق المنصة، بخطوات بطيئة هادئة، وصوته هادئ وجسده هادئ وأعضاؤه مستريحة وخلاياه مطمئنة، كذلك الاطمئنان الذي تشعر به خلايا المعدة بعد غذاء دسم، أو خلايا الألية بعد الاسترخاء في مقعد وثير، ويغمض الطلبة عيونهم ويحلمون بالاسترخاء، ويدركون أنه حلم قديم منذ الطفولة، منذ لمحوا البريق في عيون آبائهم وأمهاتهم حين يرن في الجو اسم دكتور.
كانت تجلس في مقعدها الخلفي لا ترى عيونهم وإنما ظهورهم، وكلها محنية إلى الأمام فوق كشاكيل المحاضرات، ويخيل إليها أنهم سيظلون إلى الأبد محنيين ومنكفئين فوق وجوههم، وتندهش حين تراهم «بعد انتهاء المحاضرة» يتحركون، وأنهم ينهضون بسرعة ويندفعون نحو الباب، يدوسون على أقدام بعضهم البعض، ويتدافعون بالأذرع وعظام الكوع المدببة، وحينما يندس كوع الواحد منهم في ثدي طالبة تنفرج شفتاها في حركة غير مرئية، لا تكاد الشفة ترتفع عن الشفة، وبصوت مكتوم غير مسموع تقول: آه! وتضع حقيبة الكتب المنتفخة فوق صدرها. في ذلك الوقت يكون ملمس الثدي الطري قد سرى كالترياق من كوع الواحد منهم إلى كتفه إلى عنقه، وتتقلص العضلات وتصبح الأعناق مشدودة، والملامح مشدودة، وتبدو العيون من شدة التوتر كنقطة الوسط في حبل مشدود من طرفيه، ساكنة من السطح، لكن خلاياها العميقة تموج بحركة لا مرئية، حركة عنيفة مجنونة تقاوم الشد، وتلتوي عضلات العين ناحية كل شيء فيه طراوة اللحم، لا تفرق بين الأثداء أو الأرداف أو الحقائب الجلدية، ويضغط الواحد منهم بأسنانه، من غير وعي، على حقيبة كتبه الجلدية يقطع منها قطعة يمضغها، وحين يكتشف أنها قطعة جلد يخجل من نفسه، ويخفي بكفيه الثقوب المنتشرة في حقيبته. وفي الترام يصبح كل شيء فوق طاقته، ويجد نفسه مدسوسا، عن غير قصد، بين ثديي امرأة. وفي منتصف الليل يغلق كتب التشريح وينام على السرير، لكن جسده يأبى النوم فقد تجمع الترياق في بؤرة محددة، وتكون برأس مدبب كرأس الدمل، وما هي إلا ضغطة واحدة باليد حتى ينفقئ.
Shafi da ba'a sani ba