كالحالمة، بين مصدقة وغير مصدقة، كانت تجلس في الحجرة المجاورة لحجرة العمليات في مستشفى قصر العيني القديم. أحداث كثيرة حدثت في وقت قصير جدا إلى حد عدم التصديق، لكن عيني سليم السوداوين الزرقاوين أمامها تؤكدان وجودها ويقظتها، وحين يغيب في الحجرة المجاورة تفقد الأشياء من حولها حقيقتها ووجودها، وحين يقبل مرة أخرى وتلتقي عيونهما يسري في جسدها ذلك الإحساس العجيب بحقيقة الأشياء، وحقيقة وجودها، وتدرك أن هذه اللحظة هي عمرها الحقيقي، وأن الأيام التي مضت والسنون لم تكن إلا حلما أو وهما.
أحست في فمها طعم الحياة ساخنا لاسعا وقد امتزج برائحة الأثير النفاذة وصبغة اليود، ورعشة محسوسة تحت ضلوعها، ورجفة يدها حين تمسك شيئا، ورجفة ساقيها حين تقف أو تمشي، رجفة الحياة الحقيقية، مزيج من الخوف والإقدام، الإحساس بالخطر والأمان، فقدان الإحساس بالزمان والمكان واكتساب قدرة عجيبة على الإحساس بالزمان والمكان. مزيج غريب من أحاسيس متناقضة ذائبة كلها في وعاء واحد وفي انسجام كامل كألوان الطيف.
خيل إليها أن العالم كله يتحرك من أجل إحداث هذا المزيج العجيب في جسدها، وأن الإضراب والمظاهرة والهتاف والنشيد وطلقات الرصاص، والأجسام التي سقطت، والدم الأحمر الذي سال فوق الأرض، والرأس النازف الذي ساعدت في حمله إلى العربة، وحجرة العمليات، ورائحة الإثير وصبغة اليود، والأطباء بمعاطفهم البيضاء، والممرضات ببرانيطهن البيضاء، كل ذلك حدث من أجل إحداث ذلك المزيج المتناقض في جسدها.
من ينظر في عينيها في تلك اللحظة ير حزنا عميقا دفينا تعلوه سعادة غريبة طاغية، تبدو كالبريق الخاطف فوق سواد عينيها، كالحركة السريعة، كلفحة هواء ساخن، كأنفاس طفل يلهث بالجري وراء كرة، كرفرفة جناح عصفور تحت أشعة الشمس، وسمعت صوت أحد الأطباء يقول: مجدي مات.
صوته نفذ في أذنها كطلقة رصاص جديدة مزقت الشعرة بين اليقظة والحلم، وبين الحياة والموت، وأدركت بوضوح أن سبعة من الطلبة ماتوا، وأن عددا أكبر أصيب بجراح، وأن عددا آخر حمل في العربات إلى السجن، وأن مصر ليست حرة، والقيود لا زالت باقية، وعيون الأطفال لا زالت بجوار البركة جائعة، وطوابير المرضى لا زالت واقفة في فناء المستشفى تبصق الدم، والنسوة بملابسهن السوداء لا زلن يبكين وينتحبن، وأبوها في الصالة لا زال قابعا في كرسيه الأسيوطي، والشرطي على ناصية الشارع لا زال من وراء الكشك الخشبي يتشمم رائحة الدم.
سقط رأسها فوق صدرها كأنما نامت، ويبدو أنها نامت فعلا؛ لأنها أفاقت على صوت سليم، وصوت سليم حين يناديها تبدو كل الأشياء كالحلم: بهية.
انتفضت من فوق الكرسي على صوت النداء، بهية، من دون الأسماء كلها يتعرف على اسمها، ومن دون الوجوه كلها يتعرف على وجهها، وبتلك الحركة الإرادية الوحيدة يتجه نحوها، وصوته المميز في أذنها: بهية، أنت متعبة، وملابسك عليها دم. نظرت إلى ملابسها، ورأت بقع الدم تلطخ صدرها وأكمامها، دم مجدي الذي تجمد في شرايينه منذ دقائق. وقال الطبيب فوزي: وأنت يا سليم قميصك كله دم. تعالوا معنا إلى بيت الأطباء، وهناك يمكن أن نزيل البقع.
كان بيت الأطباء في القصر العيني الجديد، فاجتازوا الكوبري الصغير الذي يفصل المستشفى القديم عن المستشفى الجديد. ومن بين قضبان الكوبري كان الماء يجري، وقارب صغير جلس فيه فتى وفتاة يجدفان ويضحكان ويلوحان لامرأة شقراء في شرفة قصر من قصور جاردن سيتي، وعلى باب المستشفى كان هناك الحشد المألوف، وعربات الكارو تحمل البرتقال، والوجوه الضامرة، وأجساد كالهياكل، ونساء يحملن أطفالا لهم وجوه عجائز، وعجائز يسيرون بأجسام صغيرة كأجسام الأطفال، ونساء لهن ملامح رجال، ورجال لهم ملامح نساء، وعلى الأسفلت بصاق دموي، وبراز أطفال، وكلاب جرباء جائعة تنبش في القمامة المبعثرة هنا وهناك.
ودوى من خلفهم بوق سيارة حاد، ورأوا العربة السوداء الطويلة داخلها أربعة وجوه سمينة وثماني عيون جاحظة. وهمس سليم: البوليس.
وتقدم نحوها الرجل ذو الفم المدبب الممدود كفم الفأر قائلا: تعالوا معي.
Shafi da ba'a sani ba