ابتلعت ريقي وأنا أقف أمام مطعم يشوي الفراخ على نار متوهجة من خلف زجاج شفاف، عيناي تدوران مع اللهب تتبعان دورة الفراخ المحمرة حول سيخ حديدي، اخترت مائدة بجوار النافذة تغرقها الشمس، واخترت فرخة حمراء سمينة، وجلست آكل ببطء، ببطء شديد أمضغ، وأستبقي الطعام في فمي بضع لحظات قبل أن أبتلع، وفمي وهو مملوء كفم طفل منتفخ بالحلوى، والطعام داخل فمي أصبحت له حلاوة، حلاوة شديدة كقطعة العسلية التي اشتريتها بأول قرش أخذته من أبي، لم تكن أول مرة أذوق فيها العسلية؛ فقد اشترتها لي أمي من قبل، لكنها كانت أول عسلية أشتريها أنا، وبقرشي أنا، وأختارها من بين أنواع الحلويات الأخرى.
انحنى جرسون المطعم وهو يضع بقية الصحون أمامي، يداه تمتدان أمامي بصحن ممتلئ، وعيناه تبتعدان عن الطعام، لا تنظران في صحني، حركة عينيه وهما تبتعدان عن طعامي مزقت الستار عن عيني، ولأول مرة في حياتي أرى أنني آكل من صحن لا تنظر فيه العينان. منذ ولدت، وهناك عينان مفتوحتان دائما، وكلما جلست وأمامي صحن الأكل، فهما تنظران في الصحن ولا ترمشان.
أيمكن أن تفعل الورقة المالية كل هذا؟ وكيف لم أعرف من قبل؟ وهل كنت لا أعرف من قبل؟ وأدركت أنني كنت أعرف من قبل، منذ زمن بعيد عرفت، منذ ولدت وفتحت عيني، ورأيت أول ما رأيت من أبي قبضة يده، وأصابعه مضمومة بقوة حول شيء في كفه لا يفتحها، وإذا فتحها فهو يستبقي الشيء في يده، شيء مستدير أبيض اللون، يتحسس بأصابعه الخشنة الكبيرة سطحه الأملس، ويحركه فوق قطعة حجر ملساء، فإذا بصوت يرتفع في الجو كالرنين.
كنت لا أزال جالسة في الشمس، والورقة المالية في حقيبتي لم أدفع ثمن الغداء بعد، وفتحت الحقيبة لأخرجها، وجاء الجرسون في هذه اللحظة، وانحنى في أدب شديد وهو يلم الصحون الفارغة، يداه تمتدان فوق المائدة أمامي تلمان الصحون، وعيناه تبتعدان عن حقيبتي، لا تنظران إلى الورقة المالية، حركة عينيه كحركة رأيتها من قبل، وإغماضة الجفن وهو يغض الطرف عن النقود، ومن تحتها نظرة تمتد إلى يدي، كإغماضة زوجي الشيخ محمود حين كان يصلي وتمتد نظراته من تحت الجفن إلى المائدة تبحث عن صحني، وكإغماضة عمي حين كان يقرأ، ثم تمتد يده من وراء الكتاب تبحث عن ساقي، إغماضة الجفن نفسها، وحركة العينين نفسها، والجرسون لا زال واقفا، والورقة المالية لا زالت في يدي، يلمح حركتها بطرف عين، وبعينه الأخرى يغض البصر في حياء، كمن يغض البصر عن عورة محرمة، ودهشت: أيمكن أن تكون الورقة المالية محرمة كاللذة المحرمة؟ كدت أفتح فمي وأسأل الجرسون: من حرمها؟ لكني أطبقت شفتي كأنما أعرف الجواب من قبل، من زمن بعيد حين ضربني أبي لأول مرة على يدي وأنا أمدها لآخذ القرش، وحين ضربتني أمي حين ضيعت في السوق قرشا، وحين أعطاني عمي قرشا وقال لي: لا تقولي لأمك، وحين كانت شريفة تعد الجنيهات، فإذا ما لمحتني خبأتها، وأصبحت كلما رأيت أحدا يعد النقود، أو يخرج من جيبه أي قروش أبعد عيني، كأنما النقود عورة أو شيء محرم علي أنا وحدي ومباح للآخرين، كدت أسأل الجرسون: من أباحها؟ ومن حرمها؟ لكني أطبقت شفتي في صمت، ودفعت له أجره، فأطرق رأسه وهو يمد يده، وعيناه لا تزالان بعيدتين.
ولم أعد أبعد عيني، ولم أعد أطرق رأسي، أصبحت أسير في الشارع رافعة رأسي، رافعة عيني أنظر إلى الناس في عيونهم مباشرة، وإذا عد أحدهم الجنيهات، فأنا أنظر إلى النقود ولا أبعد عيني، وكنت لا أزال أسير في الشارع والشمس تغرق ظهري، وسخونة الطعام الشهي تسري في جسدي، وبقية الجنيهات العشرة لا تزال في جيبي، وحذائي يدب على الأسفلت بقوة ونشوة كنشوة طفل حطم اللعبة وعرف اللغز.
اقترب مني رجل وهمس في أذني، فنظرت إليه مباشرة ولم أبعد عيني، وقلت: لا. واقترب رجل آخر وهمس لي بالسر، فحصته بعيني، وقلت: لا. وقال: لماذا؟ فقلت: لأن هناك رجالا كثيرين قادمين، سوف أختار مما أشاء. فقال: ولماذا لا تختاريني؟ قلت: لأن أظافرك سوداء، وأنا أحب الأظافر النظيفة. واقترب رجل آخر وهمس بالسر، فقلت: كم تدفع؟ قال: عشرة. قلت: لا، عشرين. قال: أمرك، ودفع لي.
كم من عمري مر قبل أن أملك نفسي وجسدي؟ كم من العمر راح قبل أن أشد نفسي وجسدي من قبضة الآخرين؟ فأختار طعامي الذي آكله، وأختار بيتي الذي أسكنه، وأرفض الرجل الذي أنفر منه، وأختار من الرجال من هو نظيف الأخلاق والجسد! مر من عمري ربع قرن، وكنت في الخامسة والعشرين حين أصبح لي بيت أختاره، ومن ينظم لي مواعيد عملي في الأوقات التي أحددها، وبالشروط التي أفرضها. وأصبح لي رصيد في البنك يزيد على الدوام، وأصبح لي أوقات فراغ للراحة والتريض، ومشاهدة السينما والمسرح وقراءة الصحف، ومناقشة أمور السياسة مع أصدقائي القليلين المقربين، أختارهم من بين كثيرين يحومون حولي ينشدون صداقتي.
أحد أصدقائي اسمه ضياء، كان صحفيا أو كاتبا أو شيئا من هذا القبيل، كنت أفضله لأنه مثقف، وأنا أحب الثقافة منذ دخلت المدرسة وعرفت القراءة، منذ أصبحت قادرة على شراء الكتب، وأملك في بيتي مكتبة كبيرة أقضي بها أوقات فراغي، وعلى جدرانها علقت اللوحات الفنية يتوسطها إطار ثمين داخله شهادتي الثانوية.
لم أكن أستقبل أحدا في مكتبتي، فهي حجرتي الخاصة بي وحدي، وحجرة نومي هي غرفة الاستقبال، وحين استقبلت ضياء لأول مرة، قال لي قبل أن أرفع الغطاء المزركش عن السرير: انتظري قليلا لنتكلم معا بعض الوقت، فأنا أحب الحديث قبل أي شيء آخر. كان وجهي ناحية السرير وظهري ناحيته، فلم أر وجهه وهو يقول هذا الكلام، لكن صوته حين لامس أذني أحسست له نبرة لم أسمعها من قبل في صوت الرجال. واستدرت لأرى وجهه. لم أكن أستدير ولا أرى وجه الرجل، وأغمض عيني ولا أفتحهما إلا بعد أن يتلاشى الثقل فوق جسدي.
ونظرت في وجه ضياء مباشرة بعينين مباشرتين مرفوعتين، ورأيت أن وجهه أيضا كصوته، له ملامح لم أرها من قبل. وجهه يبدو كبير الحجم بالنسبة لجسمه، وعيناه تبدوان صغيرتين بالنسبة لوجهه، بشرته سمراء وعيناه ليستا سوداوين، لم أتبين لونهما في الضوء الكهربائي الخافت، جبهته عريضة تبدأ عند منتصف رأسه وتهبط إلى أنف صغير، وليس له شارب فوق شفته العليا، وشعر رأسه يبدو قليلا بالنسبة لحجم رأسه الكبير.
Shafi da ba'a sani ba