أمسكت عينيها بعيني، ومددت يدي فأمسكت بيدها، وفي التلامس المفاجئ الغريب انتفض جسدي بلذة عميقة قديمة، أقدم من عمري الذي أعيه، وأعمق من وعيي الذي عاش معي، أحسها في مكان ما في كياني، فكأنما ولدت معي، وكبرت أنا وحدي وهي لم تكبر، أو أنني عرفتها قبل أن أولد، أو ولدت أنا وبقيت هي دون أن تولد.
تذكرت شيئا وانفرجت شفتاي لأقوله، لكن صوتي اختنق كأنما نسيت الشيء لحظة تذكره، وقلبي اختنق بضربات قوية تشبه الخوف على شيء ضاع أو سيضيع، ويدي أمسكت يدها في قبضة قوية، ولا يمكن لأي قوة أخرى أن تنزع يدها من يدي.
أصبحت في كل مرة ألقاها تنفرج شفتاي بشيء أذكره وأنساه، ويدق قلبي بضربات خوف أو ما يشبه الخوف، وأود أن أمد يدي وأمسك يدها، لكنها كانت تدخل إلى الفصل ثم تخرج دون أن تراني، وإذا نظرت إلي فهي تنظر إلى أي تلميذة أخرى.
وفي سريري قبل أن أنام أفكر: هل نسيت أبلة إقبال؟ وتقرب «وفية» سريرها من سريري وتسألني: نسيت ماذا؟ وأقول لها: لا أعرف يا وفية، وتقول وفية: أنت تعيشين في الخيال يا فردوس، وأقول لها: أبدا يا وفية، أبدا، لقد حدث. وتسألني وفية: ما الذي حدث؟ أحاول أن أقول لها ما حدث، لكني لا أعرف كيف أقوله أو لا أجد ما أقوله، شيء ونسيته، أو كأنما لم يحدث شيء على الإطلاق.
وأغمض عيني أحاول أن أسترجع الصورة، وتتراءى لي الدائرتان الشديدتا السواد ومن حولهما البياض الشديد أحملق فيهما، وكلما حملقت فيهما اتسع السواد واتسع البياض واتسعت الدائرتان، ويصبح السواد كبيرا بحجم الأرض، والبياض أبيض ساطعا بحجم قرص الشمس، وعيناي تغرقان في البياض وفي السواد معا، تعميان عن البياض وعن السواد، وتختلط أمامهما الصور، فلا أعرف وجه أمي من أبي من عمي من محمدين من إقبال من وفية، وأفتح عيني في ذعر كمن أوشك أن يفقد البصر، وأرى حدود وجه وفية أمامي في الظلمة، لم تنم بعد، وتقول لي: أتحبين أبلة إقبال يا فردوس؟ وأرد بدهشة: أنا؟ وتقول: نعم، أنت ومن غيرك؟! وأقول لها: نعم، ولكنها امرأة، وهل يمكن أن أحب امرأة؟
لم يكن قد بقي على الامتحان النهائي إلا بضعة أيام، ووفية لم تعد تحدثني عن حبيبها، وجرس النوم لم يعد يدق مبكرا، وفي كل ليلة أجلس مع وفية والبنات في حجرة المذاكرة، وضابطة الداخلية تمر علينا من حين إلى حين، تفتش على مذاكراتنا كما كانت تفتش على نومنا، فإذا ما رفعت واحدة منا رأسها من فوق الكتاب لتتنفس أو لتحرك عنقها أو تفرد ظهرها؛ ظهرت الضابطة فجأة من حيث لا تدري، فتضع رأسها في الكتاب على الفور.
كنت أحب الدروس والمذاكرة رغم الضابطة ورغم كل شيء، وظهرت نتيجة الامتحان النهائي، وكان ترتيبي الثانية على مدرستي والسابعة على جميع مدارس القطر، وفي ليلة حفل توزيع الشهادات نادت الناظرة على اسمي في القاعة المليئة بمئات الآباء والأمهات والأقارب، ولم يتقدم إليها أحد، ودب الصمت في القاعة، ونادت الناظرة على اسمي مرة ثانية، حاولت أن أقف، لكني لم أقف، وقلت وأنا جالسة: نعم، ورأيت الرءوس تستدير، والعيون كلها تتجه نحوي، عيون كثيرة تحولت أمام عيني إلى دوائر كثيرة من البياض داخلها دوائر كثيرة من السواد، كلها تتحرك في حركة دائرية واحدة، تستقر في النهاية في عيني أنا وحدي.
وجاءني صوت الناظرة يقول بلهجة آمرة: لا تردي وأنت جالسة، قفي. وعرفت أنني وقفت؛ لأنني رأيت الدوائر البيضاء ومن داخلها الدوائر السوداء تتحرك إلى أعلى، وتصل مرة أخرى إلى عيني لتستقر عليهما.
وقالت الناظرة بصوت عال رن في أذني عاليا، أعلى من أي صوت سمعته في حياتي: أين ولي أمرك؟ ودب الصمت في القاعة ثقيلا، كأنما أصبح له صوت، وهواء القاعة أيضا أصبح له صوت وأنفاس الجالسين أصبح لها صوت، وصل إلى أذني وأنا أقف وراءهم، وكانت الرءوس قد عادت إلى موضعها، ولم أر إلا الظهور من الخلف.
عينان فقط ظلتا في عيني، عينان فقط رأيتهما أمامي تمسكان بعيني، ومهما أبعدت عيني أو حركت رأسي تتبعاني وتمسكان بي، وأظلمت القاعة في عيني، وغاب عنها الضوء تماما، إلا من هاتين العينين السوداوين الشديدي السواد ومن حولهما دائرتا البياض الشديد، وكلما نظرت فيهما يشتد السواد ويشتد البياض كأنما ينفذ إليهما الضوء من مكان مجهول لا أعرفه؛ لأن القاعة مظلمة والليل خارج القاعة مظلم.
Shafi da ba'a sani ba