لم تكن تغسل قدمي عمي، ولم يكن عمي يضربها أو يرفع صوته على صوتها، كان يعاملها بأدب شديد، لكنه هذا النوع من الأدب الخالي من الاحترام الذي يعامل به الرجال النساء، كنت أحس أنه يخشاها أكثر مما يحبها، وأنها من طبقة أعلى من طبقته. وحين يزورنا أبوها أو أحد من أفراد أسرتها يشتري عمي اللحم أو الدجاج، وترن في البيت ضحكاته، وحين تزورنا عمته بجلبابها الريفي الطويل ويديها المشققتين ينزوي في ركن البيت لا يبتسم ولا يتكلم.
وتبكي عمته إلى جواري في السرير، وتتحسر على «الكردان» الذهبي الذي باعته ليتعلم في الأزهر، وفي الصباح تفرغ «السبت» من الدجاج والبيض والفطير، وتحمله في ذراعيها فارغا وتخرج، وأقول لها: ابقي معنا يوما آخر يا جدتي، لكن عمي لا يقول لها شيئا، زوجته أيضا تظل صامتة.
كنت أذهب إلى المدرسة، وأعود لأكنس البيت وأمسحه وأغسل الصحون والملابس، زوجة عمي كانت تطبخ فقط، وتترك لي الصواني والحلل لأدعكها وأغسلها، ثم أتى عمي بخادمة صغيرة أصبحت تنام معي في حجرتي، أنا فوق السرير وهي على الأرض، وفي ليلة باردة قلت لها: تعالي ونامي إلى جواري في السرير، وجاءت زوجة عمي ورأتها نائمة في سريري فضربتها وضربتني.
وعدت من المدرسة في يوم فوجدت عمي غاضبا مني، وزوجته ظلت غاضبة حتى أخذني عمي ومعي ملابسي وكتبي، وأصبحت أبيت في القسم الداخلي بالمدرسة، وفي نهاية كل أسبوع يأتي إلى المدرسة الآباء والأمهات أو الأقارب يزورون بناتهن في الداخلية أو يأخذنهن لقضاء الخميس والجمعة بالبيت، وأطل عليهم من فوق السور العالي، وأنظر إلى الشارع والناس كما ينظر السجين إلى الحياة خارج السجن.
وأحببت المدرسة رغم كل شيء؛ كتب جديدة، وعلوم جديدة، وصديقات في مثل عمري، نذاكر معا، ونحكي بعضنا للبعض حياتنا وأسرارنا وأعماقنا، لم ينغص علينا حياتنا إلا ضابطة الداخلية، تمشي على أطراف أصابعها تتجسس علينا بالليل والنهار، تتسمع أحاديثنا، وتفتش على نومنا وأحلامنا، فإذا ما تنهدت واحدة منا وهي نائمة أو صدر عنها - وهي تحلم - صوت أو حركة؛ انقضت عليها الضابطة بغتة كما ينقض الموت.
وكانت لي صديقة اسمها «وفية» سريرها إلى جوار سريري، أقرب رأسي من رأسها بعد أن يطفأ نور العنبر، ونظل نتحدث ونتحدث حتى منتصف الليل، تحكي عن ابن عم لها تحبه ويحبها، وأحكي لها عن آمالي في المستقبل، لم يكن في طفولتي أو حياتي الماضية ما أحكيه، ولم يكن في حاضري حب أو شيء من هذا القبيل، وأصبح المستقبل هو الشيء الوحيد الذي أستطيع أن أحكي عنه، فالمستقبل لا زال ملكي أنا، أرسمه بخيالي كما أريده، وأغير فيه بحريتي واختياري.
أحيانا أتخيل أنني سأكون في المستقبل طبيبة أو مهندسة أو محامية أو قاضية. وذات يوم خرجت المدرسة في مظاهرة كبيرة ضد الحكومة، فإذا بي محمولة على أكتاف البنات أهتف بسقوط الحكومة، وعدت إلى المدرسة مبحوحة الصوت، منكوشة الشعر، ممزقة الملابس، لكني قضيت الليل وقد تخيلت نفسي زعيمة كبيرة أو رئيسة دولة.
كنت أعرف أن النساء لا يصبحن رؤساء للدول، لكني كنت أحس أنني لست كالنساء، ولست كالبنات؛ فالبنات من حولي كلهن يتحدثن عن الحب، وأنا لا أتحدث عن الرجل، ما يشغل البنات لم يكن يشغلني، وما يهم البنات لم يكن يهمني.
وسألتني وفية ذات ليلة: هل أحببت يا فردوس؟ وقلت لها: أبدا يا وفية، لم أحب أبدا، ونظرت إلي بدهشة وقالت: غريبة! وقلت: لماذا غريبة؟ قالت: لأن شكلك يوحي بأنك تحبين. قلت: وما هو الشكل الذي يوحي بالحب؟ قالت وهي تهز رأسها: لا أعرف، ولكني أحس أنك أنت بالذات لا يمكن أن تعيشي بغير الحب. وقلت: ولكني أعيش بغير الحب، وقالت وفية: إما أنك تكذبين أو أنك لا تعيشين.
نامت وفية وظللت مفتوحة العينين أحملق في الظلام، صور بعيدة غارقة في الظلمة تظهر شيئا فشيئا، وأرى «محمدين» راقدا في «الخص» فوق القش، أستعيد رائحة القش في أنفي، وأستعيد ملمس أصابعه فوق جسدي، وينتفض كياني بلذة قديمة لا أعرف مكانها ولا أستطيع تحديدها، فكأنما تنبعث من شيء بعيد عني، خارج كياني، مع نهايتها شيء كاللذة، شيء أحاول أن أمسك به، أن ألمسه لو للحظة، لكنه يفلت مني كالهواء أو كالسراب أو كالحلم يتبدد ويضيع، وأبكي وأنا نائمة، كأنما ضاع الآن فقط، ولم يضع مني من قبل.
Shafi da ba'a sani ba