«... وأرقدوا هكتور على فراش موشى، وإلى جانبه وقفت خير النائحات اللائي ينشدن المراثي ... وكانت زوجته وأمه هما البادئتان بالعويل ...»
كيف افتديت جثة هكتور، وكيف شيعت جنازته؟
الآلهة تتشاور بشأن هكتور!
انفض الجمع - بعد ذلك - فتفرق القوم، ليذهب كل رجل إلى سفينته. وفكر الباقون في تناول طعام العشاء والنوم اللذيذ، وأن يحصلوا على كفايتهم منهما، ولكن أخيل انخرط في البكاء، متذكرا صديقه الحميم، فلم يتمكن النوم - الذي يسيطر على الجميع - من التغلب عليه، بل بقي يتقلب على هذا الجانب وذاك، متحسرا على رجولة باتروكلوس وقوته وجرأته، وكل كرب احتمله معه، بما في ذلك حروب الرجال، والأمواج المفجعة، وكان كلما فكر في ذلك ذرف الدموع الغزيرة، راقدا تارة على جنبه، وطورا على ظهره، وحينا على وجهه، وكثيرا ما كان ينتصب واقفا على قدميه، ويهيم - شارد الفكر - على طول ساحل البحر. ولم يكن يغفل الفجر، حين كان يشرق فوق ماء البحر وشواطئه، كل يوم. فكان يشد جواديه السريعين - تحت النير - إلى العربة، ويربط هكتور وراء هذه، ثم يمضي يجره. حتى إذا دار به ثلاث دورات، حول أكمة ابن مينويتيوس الميت، لجأ إلى كوخه يستريح، تاركا هكتور منكفئا على وجهه في الثرى. غير أن أبولو أبعد كل تشويه عن لحمه - مشفقا على البطل حتى في موته - وغطاه كله بالترس الذهبي، حتى لا يمزق أخيل جسده وهو يجره.
هكذا، كان أخيل في غضبه يصب جام غيظه المستحكم على هكتور العظيم، ولكن الآلهة المباركة أشفقت عليه إذ أبصرت به على تلك الحال، فأوعزت إلى أرجايفونتيس
1
الحاد البصر، أن يسرق الجثة. فسر الباقون لذلك، ما عدا «هيرا» وبوسايدون والعذراء المتألقة العينين. فاستمرت الربتان على ما كانتا عليه مذ بدأتا تمقتان طروادة المقدسة، وبريام وقومه، بسبب جزيرة ألكساندر، الذي وجه اللوم إلى هاتين الربتين حين حضرتا إلى كوخه، فأعطى الأولوية لتلك التي شجعت شهوته القاتلة.
فلما كان اليوم الثاني عشر - بعد ذلك - تكلم أبولو وسط الخالدين، قائلا: «ما أقساكم أيها الآلهة، مدبرو الخراب. ألم يحرق هكتور لكم أفخاذ الثيران والماعز بغير تردد؟ ألا يعطف عليه قلب أحدكم فينقذه - رغم كونه جثة هامدة - من أجل زوجته لتراه، وكذا أمه وولده وأبوه بريام وشعبه الذين سيدفنونه في النار ويؤدون له الطقوس الجنائزية؟ أم أنكم تؤثرون أخيل القاسي - أيها الآلهة - فتبادرون إلى مساعدته؟ مع أن عقله ليس سليما بحال ما، ولا هو ينثني عما في صدره، وإنما هو يعقد قلبه على القسوة، كالأسد الذي يغتر بقوته البالغة وروحه الملكية، فيهجم على قطعان البشر ليفوز لنفسه بوليمة، هكذا أيضا، فقد أخيل كل رحمة، فلا حياء لمن يؤذي الناس ويجني النفع من ورائهم. وكم من رجل فقد من هو أعز من هذا الذي فقده أخيل - أخا أنجبته أمه، أو ولدا - ومع ذلك فإنه لا يلبث أن يكف عن أن يبكيه؛ إذ إن ربات القدر منحت الإنسان روحا صابرة، ولكن هذا الرجل دأب - منذ أن سلب هكتور العظيم روحه - على ربطه وراء عربته، وجره حول أكمة صديقه العزيز. والحق أنه لن يجني من وراء ذلك شرفا ولا نفعا. فليحذر أن ننقم عليه، رغم أنه رجل عظيم، لأنه في ثورته يصب جام غيظه القذر على طين لا يحس!»
فاستشاطت «هيرا» - البيضاء الساعدين - غيظا، وخاطبته بقولها: «قد يكون الأمر كما تقول، يا سيد القوى الفضية، إذا كنتم - أيها الآلهة - تعتزمون أن تمنحوا مجدا لكل من أخيل وهكتور على السواء. على أن هكتور بشر رضع ثدي امرأة، أما أخيل فابن ربة، غذيتها أنا نفسي وربيتها وزوجتها للمحارب بيليوس، الذي كان عزيزا جدا على الخالدين. قد حضرتم كلكم حفل زواجهما، وجلست أنت شخصيا بينهما إلى مائدة الوليمة، والقيثارة في يدك، يا صديق الأشرار، الدائم الغدر!» وإذ ذاك، أجابها زوس - جامع السحب - قائلا: «لا يكن غضبك على الآلهة كاملا يا هيرا، فلن يكون مجد هذين متماثلا. لقد كان هكتور - هو الآخر - أعز البشر الموجودين في طروادة، لدى الآلهة. وهكذا كان هو عندي على الأقل، فإنه لم يؤخر عني الهدايا المقبولة، بأية حال من الأحوال. ولم يحدث قط أن افتقر مذبحي إلى وليمة لائقة، من تقدمات الشراب، ورائحة القرابين المحترقة، والعبادة التي هي من حقنا. أما سرقة هكتور الجسور، فيجب أن نتخلى عنها؛ إذ لا يليق أن يتم ذلك دون علم أخيل، لأن أمه دائما ما تقف إلى جانبه كالليل والنهار. وإني لأود أن يذهب أحد الآلهة فيستدعي ثيتيس، كي أقول لها كلمة حكيمة، عسى أن يتقبل أخيل الهدايا من بريام ويعيد هكتور إليه.»
هكذا تكلم، فأسرعت أيريس - العاصفة القدمين - تحمل رسالته. وفي منتصف الطريق بين ساموس وأمبروس الوعرة، قفزت إلى البحر القاتم، فأحاطت بها المياه صاخبة فوقها. وغاصت مسرعة إلى الأعماق، كخيط المطمار - المثبت إلى قرن ثور من ثيران الحقل - يهبط إلى أسفل حاملا الموت للأسماك الجارحة.
Shafi da ba'a sani ba