259

Iliyadha

الإلياذة

Nau'ikan

وأطل الفجر الوردي الأنامل فوقهم، وهم لا يزالون يبكون حول الجسد المسكين. فأمر الملك أجاممنون بأن تخرج البغال والرجال من المعسكر بأسره، لتحضر الأحطاب، وأشرف على ذلك ميريونيس الجسور، خادم أيدومينيوس الرحيم. فانطلقوا لتوهم يحملون الفئوس والحبال المتينة في أيديهم، ليحتطبوا. وسارت البغال أمام الرجال بعضها صاعد، وبعضها هابط، وبعضها يسعى إلى الجانبين، أو في اتجاه منحرف. فلما بلغوا ممرات أيدا الزاخرة بالنافورات أسرعوا في الحال إلى قطع أشجار البلوط الباسقة، بالبرونز الطويل النصل. وراحت الأشجار تتساقط في ضجيج. ثم شق الآخيون الجذوع نصفين. وربطوها وراء البغال، فهدت هذه الأرض بأقدامها وهي تسرع نحو السهل خلال الأدغال الكثيفة. وحمل الحطابون الكتل الخشبية، كما أمرهم ميريونيس - خادم أيدومينيوس الرحيم - وألقوها فوق الشاطئ، رجلا بعد رجل، حيث اعتزم أخيل أن يقيم رابية عظيمة لباتروكلوس ولنفسه. وبعد أن فرغوا من إلقاء الحطب الكثير في جميع الجهات، جلسوا هناك جميعا، وانتظروا في حشد واحد. وفي الحال أمر أخيل المورميدون المحبين للقتال، أن يلبسوا البرونز، ويشد كل واحد منهم جياده إلى نير عربته، فنهضوا وارتدوا حللهم الحربية وركبوا عرباتهم، محاربين وسائقي عربات. وانطلق الرجال بالعربات في المقدمة، تتبعهم سحابة من المشاة، جيش يفوق الحصر، وكان أصدقاء باتروكلوس في الوسط يحملونه، وقد غطوا الجسد كله بشعورهم التي قصوها ونثروها فوقه حتى صارت كالثوب. وسار أخيل العظيم وراءهم ممسكا برأس صديقه، حزينا؛ إذ لم يكن هناك مثيل لهذا الصديق الذي كان يسرع به إلى بيت هاديس.

فلما وصلوا إلى المكان الذي حدده أخيل من قبل، أنزلوا الجثة، وكوموا مقدارا ضخما من الحطب بسرعة، وعندئذ غير أخيل العظيم السريع القدمين رأيه، فوقف بعيدا عن كومة الحطب، وقطع خصلة من شعره الذهبي، أعز خصلة كانت برأسه، وكان قد أنماها من أجل النهر سبيرخيوس. وإذ كان شديد التأثر، نظر إلى البحر القاتم كالخمر وقال: «أي سبيرخيوس، بغير هذا وعدك أبي بيليوس، وعدك بأن أقص لك شعري - عندما أصل إلى بيتي في وطني العزيز - وأقدم ذبيحة مقدسة من مائة ثور، وفي البقعة التي تقوم فيها أراضيك ومذبحك المعطر، أضحي في مياهك بخمسين كبشا، وبغالا فتية، هذا ما تعهد به ذلك الشيخ، ولكنك لم تحقق له رغبته، وما دمت لن أذهب إلى بيتي في وطني العزيز، فإني أرغب في منح المحارب باتروكلوس هذه الخصلة من الشعر لتمضي معه!»

وإذ قال هذا، وضع الخصلة في يد صديقه الحميم، فانخرط الجميع في البكاء. وكاد ضوء الشمس أن يغيب، وهم يبكون، فاقترب أخيل من أجاممنون وقال له: «يا ابن أتريوس، لا يطيع جيش الآخيين أمر أي رجل كما يطيع أمرك. وها قد نالوا كفايتهم من البكاء، فاصرفهم الآن عن كومة الحطب، ومرهم بأن يعدوا طعامهم، بينما نهتم نحن - أكثر المقربين إلى الميت، وأعزهم لديه - بما يجب له، وليبق الرؤساء معنا كذلك!»

فلما سمع أجاممنون - ملك البشر - هذا الكلام، صرف القوم في الحال إلى السفن البديعة. أما أقرب المقربين والأعزاء للميت، فمكثوا هناك، وكوموا الحطب، وأقاموا أكمة تمتد مسافة مائة قدم في هذا الاتجاه وذاك، ثم وضعوا الرجل الميت أعلاها، وقلوبهم مفعمة بالأسى. وذبحوا الكثير من الكباش الكبيرة، والأبقار العديدة السمينة، ذات المشية المتثاقلة وسلخوها وأعدوها أمام كومة الحطب. وجمع أخيل العظيم دهنها، فغطى به الميت - من الرأس إلى القدم - وكدس حوله الحيوانات المذبوحة. ثم وضع فوق الجميع جرتين بمقبضين. مملوءتين بالعسل والزيت، وأسندهما فوق المحفة، وألقى بسرعة فوق كومة الحطب أربعة جياد ذات أعناق مقوسة إلى الخلف، وهي تزمجر وتهل عاليا. وكان للأمير تسعة كلاب، تتغذى بفضلات مائدته، فقطع أخيل عنقي اثنين منها، ورماهما فوق كومة الحطب. وقتل بالبرونز اثني عشر فتى من الطرواديين البواسل؛ إذ كان قد أضمر الشر لهم في قرارة نفسه. ثم أشعل نارا جبارة عاتية، لتتغذى على كل هؤلاء، وأرسل أنينه عاليا، ونادى صديقه العزيز باسمه قائلا: «يا باتروكلوس، إنني الآن أنفذ كل شيء سبق أن وعدتك به، رغم أنك في بيت هاديس، اثنا عشر فتى مغوارا من الطرواديين الصناديد، هؤلاء جميعا تلتهمهم وإياك النيران. أما هكتور بن بريام، فلن يكون طعمة للنار، وإنما للكلاب!»

هكذا قال متوعدا. غير أنه لم يقدر للكلاب أن تمس هكتور، إذ إن أفروديت ابنة زوس، منعت الكلاب نهارا وليلا، وكانت تدهنه بزيت من رحيق الأزهار، أمبروسي، كي لا يمزقه أخيل وهو يجره، وأنزل أبولو سحابة قاتمة فوقه - من السماء إلى السهل - خيمت على المكان كله، فوق الميت، خشية أن تغضن قوة الشمس - قبل الأوان - لحمه المحيط بطنبه وأطرافه!

بيد أن كومة حطب باتروكلوس لم تشتعل. ففكر أخيل السريع القدمين تفكيرا آخر، ووقف بعيدا عن كومة الحطب، وصلى للريحين الشمالية والغربية، ووعد بتقدمات جميلة. وبينما هو يصب السكائب متحمسا، من كأس ذهبية، توسل إليهما أن تحضرا لتشتعل الجثث بسرعة بالنار، وليشتعل الحطب. وفي الحال سمعت أيريس صلاته، وعجلت بالرسالة إلى الريحين - وكانتا في بيت الريح الغربية الهوجاء تتناولان الطعام على مائدتها - فوقفت أيريس على العتبة الصخرية. وما إن أبصرتها عيونهما، حتى هبتا واقفتين تدعوانها إليهما، ولكنها رفضت الجلوس، وخاطبتهما بقولها: لا أستطيع الجلوس، لأن علي أن أعود إلى مجاري أوقيانوس المائية، إلى أرض الأثيوبيين، حيث يقدمون ذبيحة للخالدين من مائة ثور، لأشترك في الوليمة المقدسة. إن أخيل يتوسل إلى الريح الشمالية والريح الغربية المزعجة أن تذهبا إليه، ويعدهما بتقدمات بالغة، لتجعلا النار تستعر في كومة الحطب الذي يرقد فوقها باتروكلوس، الذي ينتحب من أجله الآخيون عاليا.»

وما إن أفضت بهذه الكلمات، حتى انصرفت. فنهضت الريحان بقصف مدو، تدفعان السحب أمامهما في صخب. وسرعان ما وصلتا إلى البحر لتهبا فوقه. فهاجمت الأمواج تحت هبوبهما الشديد. وبلغتا أرض طروادة العميقة التربة، وانقضتا على كومة الحطب، فزمجرت النار وهي تتأجج بعنف عجيب. وبقيتا كذلك طوال الليل تهبان بقوة واحدة على نار كومة الحطب. وكان أخيل السريع القدمين ممسكا - طيلة الليل كذلك - بكأس ذهبية ذات مقبضين، يغترف بها الخمر من طاس من الذهب، ويسكبها فوق الأرض حتى بللها، وهو ينادي روح باتروكلوس المسكين. وكما يبكي أب وهو يحرق عظام ابن حديث الزواج، جلب موته فجيعة والديه البائسين، هكذا أيضا بكى أخيل صديقه وهو يحرق عظامه، ويدور حول كومة الحطب بأنين لا ينقطع.

ولما أشرق نجم الصباح، مبشرا بالضوء وجه الأرض - النجم الذي يتبعه الفجر الزعفراني الثوب - زاحفا فوق سطح البحر - خمدت النيران ومات لهيبها. فقفلت الريحان عائدتين إلى دارهما فوق البحر التراقي، الذي دمدم بصخب بالغ. عندئذ انسحب ابن بيليوس بعيدا عن الكومة المشتعلة، ورقد منهوك القوى، فانقض عليه النوم اللذيذ. أما من كانوا مع ابن أثريوس فقد اجتمعوا معا، فأيقظت جلبتهم وصخبهم أخيل، فهب من نومه وجلس وتحدث إليهم قائلا: «يا ابن أثريوس، ويا أمراء جيوش آخيا، أطفئوا، أولا، الكومة المستعرة وكل ما وصلت إليه النيران، بالخمر. ثم لنجمع عظام باتروكلوس بن مينويتيوس، بعد أن نعزلها عن العظام الأخرى، ومن السهل تمييزها، لأنه كان يرقد فوق كومة الحطب، بينما احترق الآخرون - من رجال وجياد - على حافتها. ولنضع تلك العظام في قارورة نلفها بطبقتين من الدهن، إلى أن يحين الوقت الذي أرحل فيه - أنا الآخر - إلى هاديس. ومع كل، فلن أكلفكم أن تقيموا لي سوى أكمة تليق بي فحسب، ثم لكم أيها الآخيون أن تزيدوها اتساعا فيما بعد وليتول ذلك من يبقون بعدي وسط السفن ذات المقاعد.»

موكب العربات تكريما للميت!

هكذا قال ابن بيليوس السريع القدمين، فأطاعه الجميع، وبدءوا يخمدون كومة الحطب بالخمر، وكوموا الرماد عاليا. وبينما هم يبكون، جمعوا عظام صديقهم الكريم البيضاء، في قارورة من الذهب، ولفوها بطبقتين من الدهن. وبعد أن وضعوها في الكوخ، غطوها بقطعة من منسوج الكتان الأملس. ثم خططوا محيط الرابية، ووضعوا أساسها حول كومة الحطب، وكوموا التربة عالية، وما انتهوا من تكويم الرابية، حتى قفلوا راجعين، ولكن أخيل أبقاهم حيث كانوا، وأجلسهم في حشد واسع، وأحضروا الجوائز من سفنهم؛ قدورا وركائز وجيادا وبغالا ونيرانا قوية ونساء فاتنات وحديدا رماديا. فبدأ أن خص سائقي العربات - المتفوقين في السرعة - بجوائز عظيمة؛ فللفائز الأول امرأة ماهرة في الأعمال اليدوية الرائعة، وركيزة ذات مقابض تتسع لاثنين وعشرين مكيالا، وللثاني فرس سنها ستة أعوام، لم تحمل في رحمها مهرا، وللثالث قدر لم تمسها النار، قدر بديعة بيضاء تسع أربعة مكاييل، وللرابع وزنتان من الذهب، وللخامس قارورة ذات مقبضين لم تمسها النيران بعد. ثم نهض وتكلم وسط الأرجوسيين قائلا: «يا ابن أثريوس، وأيها الآخيون المدرعون جيدا، هذه الجوائز لسائقي العربات. ولو كنا نقيم هذه المباريات تبجيلا لشخص آخر، لكنت الفائز بالجائزة الأولى، ولحملتها إلى كوخي؛ لأنكم تعرفون إلى أي حد يتفوق جواداي في العدو؛ لأنهما خالدان أعطاهما بوسايدون لابن بيليوس، فأعطانيهما هذا بدوره، ولكني سأبقى في مكاني مع جوادي القويي الحوافر؛ إذ إنهما فقدا سائقا بالغ الشجاعة والمجد، كثير الرحمة، كثيرا ما كان يسكب الزيت الأملس فوق معرفتيهما بعد أن يغسلهما بالماء الصافي؛ لذلك فإنهما يبكيانه الآن، وقد تدلت معرفتاهما على الأرض، وهما يقفان هناك. والألم يحز في قلبيهما. أما أنتم أيها الآخيون، فمن منكم له ثقة في جياده ومتانة عربته، فليتأهب!»

Shafi da ba'a sani ba