هكذا قال ابن كرونوس، وقطب حاجبيه القاتمين. واستوت العدة الحربية على جسم هكتور، ثم تقمصه أريس - إله الصراع الفظيع
3 - فامتلأت أطرافه من الداخل قوة وجرأة. ومن ثم انطلق في طريقه إلى جماعة الحلفاء المشهورين، صائحا صيحة عظيمة، وتجلى لعيون الجميع، متلألئا في الحلة الحربية التي كانت لابن بيليوس البالغ الشجاعة. وسار إلى كل رجل، وراح يكلمه مشجعا: ميسثليس، وجلاوكوس، وميدون، وثيرسيلوخوس، ولسيروبايوس، ودايسينور، وهيبوثوس، وفوركوس، وخروميوس، وأنوموس العراف. فشجع هؤلاء بكلمات مجنحة قائلا: «أصغوا إلي، أيها القبائل العديدة من الحلفاء القاطنين فيما حولنا من بلدان. لم أجمع كل رجل منكم لافتقاري إلى أعداد غفيرة، أو لأن بي حاجة إلى ذلك، وإنما لتنقذوا - بقلوب متحفزة - زوجات الطرواديين وأطفالهم الصغار، من الآخيين المحبي القتال. بهذه النية أضيع أنا أموال قومي، حتى يمكنكم الحصول على الهدايا والطعام، وبذلك أزيد كلا منكم شجاعة. وعلى ذلك فليعد كل منكم فورا ويواجه العدو، سواء مات أو عاش، فهذه لذة الحرب. ومن يسحب باتروكلوس - في موته - إلى وسط الطرواديين مستأنسي الخيول، ويحمل أياس على الاستسلام، أعطه نصف الغنائم وأحتفظ لنفسي بالنصف الآخر، كما أن مجده سيتساوى مع مجدي!»
هكذا تكلم، فانقضوا فورا على الدانيين بكل قوتهم، حاملين رماحهم عاليا، آملين - في قلوبهم - أن يسحبوا الجثة من تحت أياس بن تيلامون، فما أحمقهم! وما أكثر من حرموا الحياة فوق تلك الجثة! وإذ ذاك تكلم أياس إلى مينيلاوس - الرائع في صيحة الحرب - قائلا: «أي مينيلاوس الحميم، يا ربيب زوس، إنني لم أعد أتوقع أن نعود - نحن الاثنين - إلى وطننا العزيز سالمين من الحرب. وإذا كان يساورني خوف، فليس ذلك من أجل جثة باتروكلوس - التي لن تلبث أن تشبع نهم كلاب وطيور طروادة - وإنما عليك أنت وعلى نفسي ؛ لأن سحابة من الحرب تطوق كل شيء حولنا، وحول هكتور كذلك، وإن الدمار ليحملق فينا. ومع كل، فهيا، استدع رؤساء الدانيين، إذا كان في مقدور أحد أن يسمع!»
هكذا تكلم، فلم يتردد مينيلاوس - الرائع في صيحة الحرب - عن إطاعة قوله، وأطلق صرخة حادة، ونادى على الدانيين قائلا: «أيها الأصدقاء، قادة وحكام الأرجوسيين، يا من على مائدة أجاممنون ومينيلاوس - ابني أتريوس - تشربون ما شئتم أن تشربوا ويعطى كل منكم الأمان إلى قومه، أنتم يا من يسير في ركابكم الشرف والمجد من لدن زوس، من العسير علي أن آمر كل رجل من الرؤساء، وصراع الحرب مستعر بهذه الدرجة، هيا، ليذهب كل رجل دون أن يؤمر، وليربأ بنفسه عن أن يدع باتروكلوس ألعوبة لكلاب طروادة.»
وإذ قال ذلك، سمعه أياس السريع، ابن أوليوس، فكان أول من أسرع يعدو لمقابلته وسط المعركة، ومن ورائه أيدومينيوس ورفيقه ميريونيس، نظير أنوالسيوس، قاتل البشر. ومن الذي يستطيع أن يعد - من ذاكرته - أسماء الآخرين الذين جاءوا وراء هؤلاء وأثاروا معركة الآخيين؟!
صراع صاخب عنيف!
اندفع الطرواديون - بعد ذلك - إلى الأمام في حشد متراص، بقيادة هكتور. وكما يحدث عندما تزأر الموجة العتيدة عند مصب أي نهر مقدس - ضد التيار - فتردد كثبان الشاطئ دويها على كل من الجانبين، عندما يجأر البحر الملح من الخارج، بمثل هذا الطنين من الصياح أقبل الطرواديون. ولكن الآخيين وقفوا ثابتين حول ابن مينويتيوس، متحدة قلوبهم، يحيطونه بدروع من البرونز. وأنزل ابن كرونوس ظلمة كثيفة على خوذاتهم اللامعة، لأنه لم يكن يمقت ابن مينويتيوس من قبل، عندما كان حيا، وتابعا لابن أياكوس، فكان زوس الآن يأنف من أن يدعه ألعوبة كلاب أعدائه - أهل طروادة - ومن ثم فقد أثار زوس رفقاءه لكي يذودوا عنه!
ودفع الطرواديون الآخيين ذوي العيون البراقة إلى الوراء - أولا - فتركوا الجثة وتقهقروا أمامهم، دون أن يقتل الطرواديون الشجعان القلوب أحدا برماحهم، رغم تلهفهم، ولكنهم تأهبوا لسحب الجثة. على أن الآخيين ما كانوا ليظلوا متراجعين إلا لفترة وجيزة فسرعان ما انقض عليهم أياس الذي كان يفوق جميع غيره من الدانيين في رقته وأعماله الحربية. ما عدا ابن بيليوس قريع دهره. وفي الحال خطا مسرعا بين محاربي المقدمة، في قوة أشبه بقوة الخنزير البري، الذي يعيث بين الجبال، يشتت الكلاب والشباب القوي بسرعة، عندما يكر عليهم في الممرات. على هذا النحو، لم يكد أياس المجيد، ابن الملك تيلامون يصل إلى كتائب الطرواديين، حتى شتتهم بسرعة، بعد أن كانوا يقفون حول باتروكلوس، متلهفين إلى سحبه إلى مدينتهم كي يحرزوا المجد لأنفسهم.
كان هيبوثوس المجيد، ابن ليثوس البيلاسجي يجر الجثة من قدميها - إبان الصراع الطاحن - وقد ربط حمالته حول أوتار كل من العقبين، كي يسر بذلك هكتور والطرواديين. غير أنه - بمنتهى السرعة - وافاه شر لم يستطع أي واحد منهم أن يدفعه، رغم ما كانوا عليه من لهفة. لأن ابن تيلامون انقض عليه وسط الحشد، وضربه من قرب فوق خوذته ذات القطع البرونزية الجانبية، فانشطرت الخوذة ذات الخصلة المتخذة من شعر الخيل عند طرف الرمح، تحت قوة الرمح العظيم واليد القوية. وتناثر مخه خارج الجرح بطول وصلة الرمح، وقد اختلط كله بالدم. وعندئذ خارت قواه، فخلى قبضته عن أقدام باتروكلوس الشجاع القلب، وتركه فوق الأرض، وسقط هو نفسه بالقرب منه، بل فوق الجثة مباشرة، بعيدا عن لاريسا العميقة التربة. ولم يعوض والديه العزيزين عن تربيته، إذ كان أجله قصيرا، فقتله أياس البالغ الشجاعة برمحه. وانبرى هكتور بدوره، فسدد نحو أياس رمحه اللامع، ولكن أياس ركز بصره نحوه بثبات، وتحاشى الرمح البرونزي بمسافة بسيطة، فأصاب هكتور برمحه سخيديوس بن أفينوس العظيم الجرأة، أفضل الفوكيين، الذي كان يقيم في بانوبيوس الشهيرة، ملكا على شعب كثير العدد. لقد ضربه هكتور أسفل منتصف عظمة الترقوة، فنفذ طرف البرونز إلى الداخل، وخرج من أسفل قاعدة الكتف. وسقط في عنف، وصلصلت حلته الحربية من فوقه وضرب أياس بدوره فأصاب فوركوس الحكيم القلب، ابن باينوبس، في بطنه تماما - بينما كان يتخطى هيبوثوس - وحطم لوح درقته، فأخرج البرونز الأحشاء. وسقط يتردى في الثرى، وأمسك الأرض براحته . عندئذ تقهقر محاربو المقدمة وهكتور المجيد، وصاح الأرجوسيون عاليا، وسحبوا القتيلين - فوربوس وهيبوثوس - وتأهبوا لينزعوا الحلة الحربية عن أكتافهما.
وكان مقدورا على الطرواديين أن ينسحبوا ثانية - أمام الآخيين، أحباء أريس - إلى طروادة، مقهورين بسبب جبنهم، وكاد الأرجوسيون يفوزون بالمجد - ولو بالرغم من زوس - جزاء قوتهم وبأسهم لولا أن أبولو نفسه أثار أينياس متنكرا في صورة المنادي بيريفاس بن أبوتوس، الذي شاخ في مهنة المناداة مع أبيه العجوز وكان فضلا عن ذلك طيب القلب نحوه، وفي هذه الصورة، خاطبه أبولو بن زوس بقوله: «يا أينياس، كيف استطعت قبل ذلك أن تصون طروادة العميقة، متحديا أحد الآلهة؟ الحق أنني رأيت رجالا آخرين، كانت لهم ثقة في قوتهم وشدتهم، وفي شجاعتهم وجيشهم. واحتفظوا بمملكتهم رغم تحديهم زوس. بيد أن زوس يرغب في أن يكون النصر لنا أكثر من أن يكون للدانيين. ومع ذلك فثمة ذعر لا حد له يتملككم، فلستم تقاتلون!»
Shafi da ba'a sani ba