وظلت الرماح - من كلا الطرفين - تصل إلى أهدافها ما دامت الشمس عالية في كبد السماء، واستمر القوم يتردون. فلما حان موعد رفع النير من فوق أعناق الثيران
17
أثبت الآخيون تفوقهم بما يزيد على نصيبهم، ونجحوا في سحب المحارب كيبريونيس بعيدا عن وطيس معركة الطرواديين، وبعيدا عن مدى الرماح. ونزعوا الحلة الحربية عن كتفيه، وهجم باتروكلوس على الطرواديين بعزيمة قاسية. ثلاث مرات انقض عليهم، كأنه أريس السريع، وهو يصيح صيحة مخيفة، وثلاث مرات قتل تسعة رجال. بيد أنه عندما انقض للمرة الرابعة - كإله - عندئذ ظهرت لك يا باتروكلوس، خاتمة الحياة، إذ تصدى لك أبولو في الصراع العنيف، وإنه لإله بغيض، ولم يلحظه باتروكلوس وهو يمر خلال الشغب؛ لأنه كان ملتفا بضباب كثيف. فوقف أبولو خلفه، وضرب ظهره وكتفيه العريضتين براحة يده، وإذا بعينيه تدوران. وأطاح أبولو بالخوذة عن رأسه، فسقطت تصلصل وهي تتدحرج تحت أقدام الجياد، تلك الخوذة ذات الخصلة المتخذة من شعر الخيل، فتلطخ الشعر بالدماء والتراب، ولكن الآلهة أبت - إذ ذاك - أن تتلوث الخوذة ذاتها؛ فقد كانت دائمة الحرص على صيانة رأس الرجل الشبيه بالإله - «أخيل» - وجبينه الجميل. على أن زوس منحها لهكتور كي يلبسها على رأسه. ومع ذلك فقد كان الهلاك قريبا منه. وتحطم الرمح تماما في يدي باتروكلوس، ذلك الرمح الطويل الظل، الثقيل، الضخم، القوي، ذو الطرف البرونزي المدبب. وسقط الترس - ذو الأهداب - بحمائله إلى الأرض من على كتفيه. أما درقته فقد فكها أبولو، الأمير ابن زوس. وما لبث العمى أن سيطر على قلب باتروكلوس وارتخت أطرافه المجيدة تحته، وغامت الدنيا أمام عينيه. ووقف خلفه درداني من كثب، وضربه في ظهره ما بين كتفيه برمحه الحاد، ذلك هو يوفوربوس بن بانثوس، الذي كان يفوق جميع أترابه في قذف الرمح والفروسية، وفي سرعة القدمين. وللعجب أنه عندما ركب عربته لأول مرة، ألقى بعشرين محاربا من فوق عرباتهم، وهو يتعلم أول درس له في القتال! لقد كان أول من رماك برمحه، أيها الفارس باتروكلوس، ومع ذلك فإنه لم يخضعك، وإنما تقهقر مسرعا واختلط بالحشد، بعد أن سحب الرمح الدرداري من جسدك، ولم يصمد أمام باتروكلوس، رغم أن هذا لم يكن مسلحا في العراك، ولكن باتروكلوس إذ قهرته ضربة الرب والرمح، تقهقر إلى حشد زملائه، متحاشيا الموت.
فلما رأى هكتور أن باتروكلوس العظيم الهمة كان يتقهقر مصابا بالبرونز الحاد، اقترب منه خلال الصفوف، ورماه بطعنة من رمحه أسفل بطنه، وغرس البرونز عميقا فسقط باتروكلوس بشدة، وحزن جيش الآخيين حزنا بالغا. وكما يتغلب الليث على خنزير بري لا يتعب، عندما يتقاتل الاثنان بقلبين جسورين فوق ذؤابة أحد الجبال، من أجل ينبوع صغير - كل يريد أن يشرب منه - فيلهث الخنزير البري بصعوبة، ولكن الليث يقهره بقوته، هكذا أيضا، كانت حال الابن الجسور لمينويتيوس! فبعد أن قتل الكثيرين، سلبه هكتور بن بريام الحياة، ضاربا إياه برمحه من كثب. ووقف فوقه يزهو بكلمات مجنحة، فقال: «أي باتروكلوس، لقد كنت تحسب - كما أعتقد - أنك ستتمكن من تخريب مدينتنا، وأنك ستسلب نساء طروادة حريتهن، وتحملهن في السفن إلى وطنك العزيز، فيا لك من غر! إن جياد هكتور السريعة تمشي أمامهن مسرعة إلى القتال، وبالرمح أنا مبرز بين الطرواديين المحبين للقتال، أنا الذي أدفع عنهن يوم القضاء أما أنت فسوف تنهشك النسور هنا. ويحك، أيها الشقي! حتى أخيل لم يجدك نفعا - بكل جسارته - ذلك الذي أعتقد أنه - رغم تخلفه - قد أصدر إليك أمره مشددا، عندما انصرفت من عنده، فقال لك: «إني آمرك يا باتروكلوس، يا سيد الفرسان، ألا تعود ثانية إلى السفن الجوفاء، إلا بعد أن تكون قد مزقت من حول صدر هكتور، قاتل البشر، عباءته مخضبة بالدماء!» هذا ما أعتقد أنه قاله لك، وحمس به تهورك الطائش.»
خريطة للمنطقة في عصر حصار طروادة خريطة توضح مكان مدينة «طروادة» القديمة في آسيا الصغرى - التي يفصلها «بحر إيجه» عن شواطئ عدوتها اللدودة بلاد اليونان. وترى في الخريطة مواقع: جبل الأوليمب - أو «أوليمبوس» - مقر الآلهة عند الإغريق، ثم مدينة «أسبرطة» المشهورة ببسالة نسائها ورجالها على السواء، ومدينة أثينا (عاصمة اليونان الآن)، ثم مدينة «طيبة» - الإغريقية لا المصرية - وأخيرا جزيرة رودس، حيث كان يوجد تمثال ضخم للإله «أبولو» هدمه زلزال مروع، وقد كان التمثال يعتبر من «عجائب الدنيا السبع» القديمة.
وأجبته، أيها الفارس باتروكلوس، وقد تسربت منك كل قوتك: «لك أن تتباهى بحق - في هذه المرة - يا هكتور؛ لأن زوس بن كرونوس، وأبولو، قد وهباك النصر، وهما اللذان أخضعاني بمنتهى السهولة، فهما أنفسهما اللذان نزعا العدة الحربية عن كتفي. ولو أن عشرين من أمثالك نازلوني لهلكوا كلهم، مقتولين برمحي. فقد كان القدر المميت، وابن ليتو،
18
هما اللذان قتلاني من الآلهة، وكان يوفوربوس هو الذي ضربني من البشر. أما أنت فكنت قاتلي الثالث. وإني لأقول لك شيئا آخر، يجب أن تحتفظ به في قلبك: «إنك لن تعيش طويلا، فإن الموت يقف قريبا منك، وكذلك القضاء العتيد، وسيقتلك أخيل ، المنقطع النظير، ابن أياكوس»!»
وما إن قال هذا، حتى خيم الموت عليه، وأسرعت روحه بمغادرة أطرافه، ذاهبة إلى هاديس، منتحبة مصيرها تاركة الرجولة والشباب. وكذلك في موته، خاطبه هكتور المجيد بقوله: «لم يا باتروكلوس، تتنبأ لي بالهلاك الأكيد؟ من يدري، لعله مصير أخيل ابن ثيتيس الجميلة الجدائل، فقد أكون الضارب أولا برمحي، فيفقد حياته؟»
قال هذا وسحب الرمح البرونزي من الجرح، واضعا قدمه فوق الميت ليدفعه إلى الوراء مخلصا الرمح. وفي الحال طارد برمحه أوتوميدون، شبيه الإله، خادم ابن أياكوس السريع القدمين؛ لأنه كان تواقا إلى ضربه، ولكن جياده السريعة حملته بعيدا، تلك الجياد الخالدة التي أعطتها الآلهة لبيليوس كهدايا مجيدة.
Shafi da ba'a sani ba