211

Iliyadha

الإلياذة

Nau'ikan

عندما انطلق الطرواديون في فرارهم فوق الممر والخندق، وفني الكثيرون منهم على أيدي الدانيين، وقف الباقون بجانب عرباتهم شاحبي الوجوه ذعرا وهلعا. وما لبث «زوس» أن استيقظ فوق ذؤابات أيدا - بجانب «هيرا» ذات العرش الذهبي - فهب واقفا على قدميه، وإذا به يرى الطرواديين، كما رأى الآخيين، أولئك ينشدون الفرار، وهؤلاء يطاردونهم من الخلف، وقد توسطهم الملك «بوسايدون». وأبصر «هكتور» راقدا في السهل، ورفاقه يجلسون حوله. وكان يلهث ملتقطا أنفاسه في عناء، وقد شرد فكره، وأخذ يتقيأ دما، لأن الذي ضربه لم يكن أضعف الآخيين. فلما رآه أبو البشر والآلهة، أشفق عليه، وبنظرة رهيبة - من تحت حاجبيه - تحدث إلى «هيرا» قائلا: «أي هيرا، أيتها الربة التي يصعب التعامل معها، إنها لمهارة أحابيلك الشريرة التي أوقفت هكتور العظيم عن القتال، ودفعت الجيش إلى الصخب، ولست أدري - في الحق - إذا كان مقدرا لك أن تكوني أول من يجني ثمار غدرك القاسي، حين ألهب جسمك بالسياط؟! ألا تذكرين عندما كنت مدلاة من أعلى، وقد علقت في قدميك سندانين، وأحطت معصميك بأصفاد من الذهب يتعذر تحطيمها؟ لقد كنت مدلاة في الهواء وسط السحب، وقد هاج الآلهة الآخرون في أوليمبوس الشامخ، ولكنهم لم يفلحوا في الاقتراب منك أو تخليصك، أجل، لقد كنت أقبض على كل من يقترب منك، وأقذف به من عتبتي ليهبط إلى الأرض مجردا من كل قوته. ورغم كل هذا، فإن الأسى الدائب لم يبرح قلبي من أجل هرقل الشبيه بالإله، الذي دفعت به عبر البحر الصاخب، بمعونة الريح الشمالية، بفضل تدبيرك الخبيث. ثم حملته بعيدا إلى كوس الآهلة بالسكان. وهناك أنقذته أنا، ورددته إلى أرجوس، مرعى الجياد، ولو أن ذلك كان بعد أن كابد المشقات. إنما أذكرك بهذه الأشياء من جديد، حتى تكفي عن خداعك، وحتى تعرفي ما إذا كان ينفعك ذلك الجماع والهوى، إذ رقدت معي - عندما جئتني - بمنأى عن الآلهة، وخدعتني!»

وإذ قال هذا، ارتعدت هيرا الجليلة - ذات عيون المها - وخاطبته بكلمات مجنحة قائلة: «فلتشهد علي الأرض الآن، وكذا السماء الواسعة في العلا، ومياه الستوكس الجارية إلى أسفل

1 - وهذا أعظم الأيمان وأرهبها لدى الآلهة المباركين - وكذا رأسك المقدس، وفراش حبنا الزوجي، الذي لا يمكنني حقا أن أحنث في القسم به مهما تكن الأمور، أن «بوسايدون» مزلزل الأرض لا ينزل - برغبة مني - الأذى بالطرواديين وهكتور، ويقدم المعونة لأعدائهم. كلا، بل إن نفسه هي التي تحثه على ذلك وتأمره به، فلقد أبصر الآخيين مهزومين شر هزيمة بجانب سفنهم، فأشفق عليهم. أما أنا، فكم أود أن أشير عليه بأن يسير حيثما توجهه أنت، يا سيد السحب القاتمة!»

هكذا قالت، فابتسم أبو البشر والآلهة، وأجابها بكلمات مجنحة قائلا: «أي هيرا الجليلة، يا ذات عيون المها، لو أنك نسقت منذ الآن تفكيرك مع تفكيري - وأنت تجلسين وسط الخالدين - لأسرع «بوسايدون» إلى تحويل تفكيره هو الآخر، مهما تكن رغبته مناقضة، فيتبع ما يبتغيه قلبك وقلبي. فإذا كنت تتكلمين صدقا وصراحة، فاذهبي الآن بين عشائر الآلهة واستدعي «أيريس» إلى هنا، و«أبولو» المشهور بقوسه، وذلك كي تذهب «أيريس» إلى جيش الآخيين المتدثرين بالبرونز، فتأمر السيد «بوسايدون» بأن يكف عن القتال، وتصرفه إلى منزله. أما الإله «أبولو»، فليحفز هكتور إلى القتال، وينفث فيه القوة من جديد، ويجعله ينسى الآلام التي تعكر صفو فؤاده، حتى يدفع الآخيين القهقرى من جديد، بعد أن يبث فيهم الهلع الرعديد. وبذلك يفرون ويسقطون بين سفن أخيل بن بيليوس، الكثيرة المقاعد، فيوفد هذا رفيقه «باتروكلوس»، فيقتله هكتور العظيم، بالرمح - أمام طروادة - بعد أن يكون هو قد قتل كثيرا من الشبان الآخرين، بينهم ابني «ساربيدون» العظيم. وفي سورة الغضب لموت باتروكلوس، سيقتل أخيل العظيم «هكتور». ومنذ تلك اللحظة، سأدبر مطاردة من ناحية السفن، تظل بلا هوادة، إلى أن يستولي الآخيون على طروادة الوعرة بفضل نصائح «أثينا»، ولكني حتى تلك الساعة لن أكف عن غضبي على الدانيين، ولن أدع أي إله آخر من الخالدين يساعدهم، ما لم تتحقق رغبة ابن بيبليوس، كما وعدته في البداية، وأحنيت رأسي تأكيدا لذلك، يوم أن أمسكت الربة «ثيتيس» ركبتي متوسلة إلى أن أخلع المجد على أخيل، مخرب المدن.»

هكذا قال، فلم تتردد الربة «هيرا» - الناصعة الذراعين - في الإصغاء إليه، ثم ذهبت في طريقها من جبال أيدا إلى أوليمبوس الشامخ. وكما يحلق عقل الإنسان - الذي ارتاد بلادا نائية - فيفكر في حكمة وتبصر، قائلا: «ليتني كنت هنا، أو هناك.» وتنساب الأماني بسرعة إلى مخيلته.

هكذا انطلقت «هيرا» الجليلة متلهفة، حتى وصلت إلى أوليمبوس الشديد الانحدار، فوجدت الآلهة الخالدين مجتمعين معا في منزل زوس، وما إن رأوها حتى هبوا جميعا واقفين، وحيوها بكئوس الترحيب. أما هي فتركت كئوس الآخرين، وأخذت الكأس من «ثيميس» الجميلة الخدين، لأنها كانت أول من جرى للقائها، مخاطبة إياها بكلمات مجنحة قائلة: «لم جئت إلى هنا، يا هيرا؟ يبدو أنك شاردة الفكر، ولا بد أن زوس بن كرونوس - زوجك - قد أرهبك!»

عندئذ ردت عليها الربة «هيرا» - ذات الساعدين الناصعين - بقولها: «لا تسأليني كثيرا عن هذا الأمر أيتها الربة ثيميس، فإنك تعلمين من تلقاء نفسك طبيعة مزاجه، وكيف أنه شديد الغطرسة لا يلين، ولكن لنبدأ الوليمة التي تضم الآلهة على قدم المساواة، وستسمعين مع الخالدين جميعا أي شر يدبره زوس. ولست أعتقد أنه مما يسر قلوب الجميع - من آلهة أو بشر - أن توجد قلوب تجلس إلى الوليمة مستبشرة!»

وما إن قالت هيرا هذا، حتى استوت جالسة، بينما رجفت قلوب الآلهة في جميع أرجاء بهو «زوس». وابتسمت هيرا بشفتيها ، ولكن جبينها لم ينبسط فوق حاجبيها القاتمين. ثم راحت تقول لهم جميعا في حنق: «يا لنا من حمقى إذ نذهب في رعونتنا إلى درجة إغضاب زوس! وفي الحق أننا لا نزال تواقين إلى الاقتراب منه، وزحزحته عن مشيئته، سواء بالقول أو بالعمل، في حين أنه يجلس بعيدا غير مكترث أو مهتم؛ لأنه يعتقد أنه أعظم الآلهة الخالدين، وأشدهم بأسا وقوة؛ ومن ثم فلتقنعوا جميعا بأي أسى ينزله بكل منكم. وأحسب أنه قد نسج الأسى لأريس بالفعل، إذ إن «أسكالافوس»، ابن أريس وأعز البشر إليه، قد هلك في المعركة!»

وإذ قالت هذا، ضرب «أريس» فخذيه القويتين براحتي يديه، وبكى قائلا: «لا ينحين علي باللائمة أحد منكم يا من تسكنون فوق أوليمبوس، إذا ما ذهبت إلى سفن الآخيين وانتقمت لمقتل ابني، ولو كان نصيبي أن أضرب بصاعقة زوس، وأن أرقد بين الموتى، في الدم والتراب!»

وما إن قال هذا، حتى أمر «الفزع» و«الشغب» بأن يشدا خيوله إلى النير، وارتدى عدته الحربية البراقة. وكان من المحتمل أن يشتد الحنق والغضب ويستفحلا، بين «زوس» والخالدين، لولا أن أسرعت «أثينا» - وقد تملكها الخوف على جميع الآلهة - فوثبت خلال الباب، مغادرة العرش الذي كانت تجلس عليه، ثم نزعت الخوذة عن رأس «أريس» والدرع عن كتفيه، كما أخذت الرمح البرونزي من يده القوية، وألقت به جانبا. وراحت تؤنب أريس المارق، قائلة: «أيها الرجل المأفون، المجرد من الحصافة، إنك هالك لا محالة! إن لك أذنين حقا، ولكنهما لا تسمعان، وقد تلاشى فهمك وإدراكك للصواب. ألا تسمع ما قالته الربة «هيرا» البيضاء الساعدين، تلك التي لم تأت من لدن زوس الأوليمبي إلا منذ لحظات؟ أم تراك تود أن تملأ كأس الآلام والويلات، ثم تعود مكروها - بحكم الضرورة - إلى أوليمبوس وتزرع بذور الويل المرير لجميع الباقين؟ ذلك لأنه سيبادر إلى التحول عن الطرواديين والآخيين - ذوي القلوب الجسورة - ويهرع إلى أوليمبوس لينزل النقمة بنا، فيقبض علينا تباعا، البريء منا والمذنب على السواء؛ ومن ثم فإني آمرك بأن تتخلى عن غضبك من أجل ابنك. لقد هلك من قبل - وسيهلك فيما بعد - كثيرون يفوقونه قوة وبأس يد، ومن العسير أن تنقذ أنساب البشر جميعا وسلالاتهم!»

Shafi da ba'a sani ba