202

Iliyadha

الإلياذة

Nau'ikan

هكذا قال، فغشي الحزن الأرجوسيين من جراء خيلائه، وأثار حمية «أنتيلوخوس» الحكيم القلب أكثر من سواه. وبرغم ذلك الحزن فإنه لم ينس زميله العزيز، بل جرى وسوى مرقده وغطاه بترسه. وبعد ذلك انحنى اثنان من الزملاء الصادقين، هما «ميكيستيوس بن أخيوس»، و«ألاسطور» العظيم، وحملا «هوبسينور» - وهو يئن أنينا عاليا - إلى السفن الجوفاء. «أينياس» ينشد الثأر!

ولم تفتر قوة «أيدومينيوس» الجبارة، بل ظل متلهفا دائما إلى أن يلف أحد الطرواديين في ظلمة الليل، أو يسقط هو شخصيا وهو يدفع الخراب عن الآخيين. وما لبث أن صرع «الكاثوس» المحارب، ابن أيسويتيس، الذي تبناه زوس، وكان زوجا لابنه «أنخيسيس» الكبرى «هيبوداميا»، التي كان أبوها وأمها الجليلة يحبانها من كل قلبيهما وهي في قصرهما، إذ كانت تفوق أترابها من الفتيات فتنة وجمالا، وحكمة وبراعة الأعمال اليدوية كذلك. لذلك تزوجها خير رجل في طروادة الفسيحة. وقد أخضع بوسايدون «الكاثوس» هذا لأيدومينيوس، بأن ألقى تعويذة على عينيه اللامعتين وعرقل أطرافه المجيدة، فلم يستطع أن يتراجع أو يتحاشى الرمح - بأية حال - بل تسمر في وقفته كأنه العمود أو الشجرة العالية، فطعنه المقاتل «أيدومينيوس » برمحه فوق صدره مباشرة، فاخترق مدرعته البرونزية التي كانت تحيط بصدره، والتي تمنع الموت من قبل عن جسمه، فصلصلت عاليا حين شقها الرمح. وسقط صاحبها على الأرض في جلبة، وقد استقر الرمح في قلبه - الذي ظل ينبض - جاعلا أطرافه ترتجف. ثم أراحه «أريس» القوي من هياجه أخيرا. وعندئذ وقف أيدومينيوس مبتهجا بمصرعه في غير تورع، وأخذ يصيح عاليا: «يا دايفوبوس، لنعتبر الآن أنك قد نلت جزاء وفاقا، فلقد قتلنا ثلاثة رجال في مقابل رجل واحد، فليس لك أن تزهو! كلا، يا سيدي الكريم، قف الآن وواجهني بنفسك، حتى تعرف أي صنف من أبناء زوس أنا، أنا الذي جئتك إلى هنا. فقد أنجب زوس في بادئ الأمر «مينوس» ليكون رقيبا على كريت، وهذا أنجب بدوره «ديوكاليون» المنقطع النظري، ثم أنجبني ديوكاليون، سيدا على رجال عديدين في كريت الفسيحة. وها قد جاءت بي السفن وبالا عليك وعلى أبيك وغيركما من الطرواديين!»

هكذا قال، فحار «دايفوبوس»: أي رأي يتخذ، أيتقهقر ويتخذ له رفيقا من الطرواديين العظيمي الهمة، أم يقوم بالمحاولة وحده فقط؟ وبينما هو يفكر في ذلك، بدا له رأي أفضل: ذلك هو أن يذهب وراء «أينياس»، فلما بلغه وجده واقفا وسط الجمع في المؤخرة، إذ كان «أينياس» حاقدا دائما على بريام العظيم، لعدم تبجيل بريام له رغم شجاعته بين المقاتلين. فاقترب منه دايفوبوس، وتحدث إليه بكلمات مجنحة قائلا: «يا أينياس، يا مستشار الطرواديين، عليك الآن بحق أن تقوم بمساعدة زوج أختك، إذا حدث وشعرت بالحزن على قريبك، هيا، تعال معي. كي ننقذ جثمان الكاثوس زوج شقيقتك. الذي أعزك في قصره في الماضي وأنت بعد صغير السن، والذي قتله أيدومينيوس - المشهور برمحه - وجرده من أسلحته!»

هكذا قال، فأثار قلب أينياس في صدره، وذهب ليبحث عن أيدومينيوس، متحمسا للحرب. بيد أن الهلع لم يتملك أيدومينيوس، فمع أنه كان فتى رقيقا، بعض الشيء، إلا أنه وقف متجلدا كخنزير بري يعتمد على قوته في الجبل، فيصمد أمام حشد الرجال الذين يهاجمونه في مكان منعزل، ويتوتر شعر ظهره، وتقدح عيناه بالشرر، ويشحذ أنيابه، مصمما على إبعاد الرجال والكلاب، هكذا أيضا تحمل أيدومينيوس - المشهور برمحه - هجوم «أينياس» الذي جاء للنجدة، فلم يتقهقر، ولكنه استغاث بزملائه، متطلعا إلى «أسكالافوس» و«أفاريوس»، و«دايبوروس»، و«ميريونيس»، و«أنتيلوخوس» - سادة صرخة الحرب - إذ خاطب هؤلاء بكلمات مجنحة وحفزهم قائلا: «إلي، يا أصدقائي، أغيثوني فإني هنا وحيد، وأخشى بأس أينياس - السريع القدمين - الذي يهاجمني. إنه قوي جدا في قتل الرجال في المعركة، كما أنه يتمتع بزهرة الشباب، التي تكمن فيها منتهى القوة. ولو أنه وإياي كنا في سن واحدة، وكنا بنفس الحمية التي نحن فيها الآن، لنال أحدنا النصر العظيم عاجلا!»

هكذا قال، وهب جميعهم بروح واحدة، فاتخذوا مواقفهم - الواحد بجانب الآخر - واضعين التروس متلاصقة على أكتافهم. كما استغاث «أينياس» في الجهة المقابلة له برفاقه، ناظرا إلى «دايفوبوس»، و«باريس»، و«أجينور» العظيم، قادة الطرواديين. وعندئذ سار وراءهم الجيش. وكما تتبع الأغنام الكبش من مرعاها إلى مورد الماء، فيبتهج قلب الراعي، هكذا أيضا كان قلب أينياس مبتهجا في صدره، عندما أبصر حشد الجيش الذي يسير خلفه.

وما لبثوا أن التحموا في قتال حول «الكاثوس»، برماحهم الطويلة. وراح البرونز يصلصل عاليا حول صدورهم، وهم يضربون الرماح بعضهم نحو بعض وسط الحشد. بينما بقي خلف الجميع رجلان مبرزان في الحرب - هما «أينياس»، و«أيدومينيوس» نظيرا «أريس» - يكافح كل منهما في سبيل تمزيق جسد الآخر بالبرونز العديم الرحمة. وفي البدء صوب «أينياس» رمحه نحو «أيدومينيوس»، ولكن هذا نظر إليه بثبات وتحاشى الرمح البرونزي، فاندفع سن رمح أينياس نحو الأرض مهتزا؛ إذ طاش انطلاقه من يده القوية. بيد أن «أيدومينيوس» سدد رمية، فأصاب «أوينوماوس» - فوق بطنه تماما - وحطم لوح درقته، فأخرج البرونز الأحشاء من جوفه، فهوى إلى التراب، وأمسك الثرى في راحته. وجذب «أيدومينيوس» الرمح الطويل الظل من الجثة، بيد أنه لم يتمكن من انتزاع بقية العدة الحربية البديعة عن منكبيه، إذ كانت السهام تنهال عليه، ولم تعد قدماه ثابتتين في الهجوم، ولا عاد في وسعه أن يندفع وراء رمحه، أو يتحاشى رمية غيره، وبينما ظل يدفع عنه يوم الأجل - الذي لا يعرف إشفاقا - في النزال، فإن قدميه لم تعودا تسرعان به في المعركة. وفيما كان ينسحب في بطء، قذفه دايفوبوس برمحه البراق؛ لأنه كان دائما يحمل له ضغينة دفينة. ومع ذلك فقد أخطأه هذه المرة أيضا، وضرب برمحه «أسكالافوس بن أنواليوس»، فشق الرمح القوي طريقه خلال الكتف، وسقط في التراب وأمسك الثرى براحته. ومع ذلك، فإن «أريس» المهيب العالي الصوت لم يكن قد فطن بعد إلى أن ابنه سقط في معركة عنيفة، بل كان يجلس فوق قمة أوليمبوس، تحت السحب الذهبية، إذ احتجز بإرادة من زوس، حيث كان الآلهة الآخرون مبعدين كذلك عن الحرب.

واشتبكوا بعد ذلك في قتال ملتحم حول «أسكالافوس». ونزع «دايفوبوس» خوذة «أسكالافوس» البراقة عن رأسه، غير أن ميريونيس - نظير أريس - وثب على «دايفوبوس» وضرب ساعده برمحه. فسقطت الخوذة ذات الخصلة من يده إلى الأرض مجلجلة. وفي الحال، قفز «ميريونيس» ثانية كأنه نسر، وجذب الرمح القوي من كتف «دايفوبوس»، وانبرى عائدا إلى حشد رفاقه، ولكن «بوليتيس» - شقيق دايفوبوس - لف ذراعه حول وسطه، وقاده بعيدا عن رحى الحرب الشريرة، حتى بلغ الجياد السريعة التي كانت تنتظره عند المؤخرة مع سائقها، والعربة المرصعة ترصيعا فاخرا. فحملته تلك الجياد إلى المدينة وهو يئن ويتوجع من الألم المرير، وقد أخذ الدم ينثال من ذراعه المجروحة حديثا.

مغامرات «أنتيلوخوس» و«مينيلاوس»

ومضت بقية المحاربين تقاتل، وقد ارتفع صراخ لا يخبو. وبعد ذلك وثب «أينياس» على «أفاريوس بن كاليتور» - الذي كان قد استدار نحوه - وضربه على حلقه برمحه الحاد، فمال رأسه إلى جانب، وسقط ترسه فوقه، وكذلك خوذته، وأحاط به الموت قاتل الروح. عند ذلك انتهز «أنتيلوخوس» الفرصة، وقفز على «ثوءون» - بمجرد أن أدار ظهره - وأصابه بطعنة مزقت العرق الممتد بطول الظهر حتى العنق تمزيقا تاما، فانكفأ «ثوءون» في التراب، باسطا يديه معا إلى زملائه الأعزاء. غير أن أنتيلوخوس قفز فوقه وتأهب لنزع العدة الحربية عن كتفيه، متلفتا حوله بحذر، إذ أحاط به الطرواديون وشرعوا يقذفون ترسه العريض البراق، من هذا الجانب وذاك، دون أن يفلحوا في خرقه وتمزيق جسد «أنتيلوخوس» الرخص بالبرونز العديم الرحمة؛ لأن «بوسايدون» - مزلزل الأرض - كان متيقظا في حراسة ابن نسطور، حتى وهو وسط الرماح الكثيرة، فإن «أنتيلوخوس» لم يبتعد قط عن العدو، بل كان يسير بين صفوفه، ولم يسترح رمحه إطلاقا، وإنما كان دائما مشرعا، يلوح به. وكل همه دائما أن يصيب عدوا عن بعد، أو ينقض عليه عن قرب.

وفيما كان يصوب رمحه وسط الجمع، لم يقدر له أن يفلت من «أداماس بن أسيوس»، الذي أصابه فوق الترس تماما برمية من البرونز الحاد، وهو يهجم عليه من كثب، ولكن «بوسايدون» ذا الشعر الأسود جعل رميته بغير جدوى، إذ بخل عليه بروح أنتيلوخوس. واستقر جزء من الرمح في ترس أنتيلوخوس - كأنه الوتد الذي أكسبت النار سنه قوة ومتانة - بينما تدلت بقيته في الهواء على مسافة من الأرض، وقفل «أداماس» راجعا إلى حشد رفاقه، مجتنبا الموت. بيد أن «ميريونيس» تبعه وهو راجع، وقذفه برمحه، فأصابه في منتصف المنطقة التي تحت سرته - حيث يعاني التعساء من بني الإنسان وطأة «أريس» - وثبت رمحه هناك، فتداعى الآخر فوق النصل الذي أصابه، وهوى كثور قيده الرعاة بغصون الصفصاف المجدولة وأخذوا يجرونه إليهم بالقوة، هكذا أيضا كانت حاله عندما أصيب، فقد تلوى فترة غير طويلة، إلى أن أقبل المحارب «ميريونيس» وجذب الرمح بعيدا عن جسمه، فخيمت الظلمة على عينيه.

Shafi da ba'a sani ba