وما إن قال هذا حتى جلس، فنهض وسطهم بريام بن داردانوس نظير الآلهة في الرأي، وخاطبهم بنية طيبة، قائلا: «أصغوا إلي أيها الطرواديون والداردانيون والحلفاء، كي أقول لكم ما يأمرني به قلبي الكائن في صدري. تناولوا الآن عشاءكم في المدينة كسابق عهدكم، ولا تغفلوا المراقبة، بل ليكن كل رجل منكم متيقظا. وليذهب «أيدايوس» - عند مطلع الفجر - إلى السفن الخاوية ليعلن لابني أتريوس - «أجاممنون» و«مينيلاوس» - ما قاله «باريس»، الذي من أجله نشب الصراع وحمي وطيس القتال. ثم ليعلن إليهما هذه الكلمة الحكيمة، ويسألهما عما إذا كانا يزمعان الكف عن الحرب التي تفيض بالآلام، حتى ننتهي من دفن موتانا، على أن نستأنف القتال - بعد ذلك - إلى أن يحكم بيننا زوس، ويهب النصر لأحد الجانبين أو للآخر.»
هكذا تكلم، فأصغى الجميع إلى قوله باهتمام، وأطاعوه، فتناولوا عشاءهم في جماعات في سائر أنحاء الجيش. حتى إذا طلع الفجر، ذهب أيدايوس في طريقه إلى السفن الجوفاء، حيث وجد في مكان الاحتشاد «الدانيين» - خدم أريس - بجانب دفة سفينة «أجاممنون». فاتخذ الرسول الجهوري الصوت وقفته في الوسط، وخاطبهم بقوله: «أيا ابن أتريوس، وأيها الأمراء رؤساء جيش آخيا: إن بريام والطرواديين الآخرين الأجلاء قد أمروني بأن أعلن لكم - إذا راق لكم ذلك وسررتم به - قول «باريس»، الذي من أجله نشب الصراع وقام على قدم وساق. إن المال الذي حمله «باريس» إلى طروادة في سفنه الجوفاء - وليته هلك من قبل! - يعتزم أن يرده جميعه، بل وأن يضيف إليه بعضا آخر من خزائنه. أما زوجة «مينيلاوس» المجيد، فإنه يعلن أنه لن يعيدها، رغم أن الطرواديين أنفسهم يأمروننا بإعادتها، كما أمروني بأن أعلن لكم هذه الكلمة أيضا: هل لكم في الكف عن الحرب التي تفيض بالآلام، إلى أن ندفن الموتى، ثم نستأنف القتال من جديد، إلى أن يحكم الرب بيننا ويهب النصر لأحد الجانبين أو للآخر؟»
هكذا كلمهم، فلزموا جميعا الصمت. وأخيرا قام من بينهم «ديوميديس» - البارع في صيحة الحرب - وتكلم وسطهم قائلا: «لا يقبلن أحد منكم المال من «باريس»، كلا، ولا هيلينا! فقد صار معروفا - حتى لمن خلا ذهنه من الإدراك بالمرة - أن شباك الهلاك قد أحكمت خيوطها بسرعة حول الطرواديين!»
وإذ قال هذا، صاح جميع أبناء الآخيين بصوت مرتفع، يهللون لما قاله ديوميديس، مستأنس الخيول. ثم التفت الملك «أجاممنون» إلى «أيدايوس»، وقال له: «أي أيدايوس، لقد سمعت بأذني رأسك كلام الآخيين، وكيف كان جوابهم على ما قلته لهم، وإن ما يسرهم يسرني. أما فيما يتعلق بالقتلى، فلا يسوءني قط أن تدفنوهم؛ إذ ليس لأحد أن يبخل على القتلى - بعد موتهم - بالعزاء السريع بالنار، ولكن فليشهد على عهودنا «زوس»، زوج هيرا هذا الذي يرعد عاليا.»
وما إن قال هذا حتى رفع صولجانه في وجه جميع الآلهة، وعاد أيدايوس قافلا إلى طروادة المقدسة. وكان الطرواديون والداردانيون جميعا يجلسون وقتئذ في حشد واحد، وقد اجتمعوا معا ينتظرون عودة أيدايوس. فأقبل ووقف في وسطهم، وأعلن ما سمعه. عندئذ نشط القوم وأعدوا أنفسهم بمنتهى السرعة لكل من المهتمين؛ بعضهم ليحضر القتلى، والبعض الآخر ليجمع الحطب. بينما أسرع الأرجوسيون في الجانب المقابل إلى السفن ذات المقاعد؛ البعض ليأتي بالموتى، والآخرون، ليبحثوا عن الخشب.
وحين التقى الجيشان، كانت الشمس قد بدأت تسطع بأشعتها فوق الحقول، وقد خرجت أوقيانوس - السلس الجريان، العميق المتدفق - وتسلقت إلى السموات. وكان من العسير إذ ذاك أن تتعرف على أي رجل من القتلى، ومع ذلك فقد غسلوا الدم المتجمد بالماء، وحملوا الجثث فوق العربات، وهم يذرفون في أثناء ذلك دموعا سخينة. بيد أن بريام العظيم لم يكن يحتمل أن يجهش قومه عاليا بالنحيب؛ ومن ثم فقد أخذوا يكومون الجثث في صمت، فوق كومة الحطب، وقد أثقل الحزن قلوبهم. ولما انتهوا من إحراقها بالنار، ذهبوا في طريقهم إلى طروادة المقدسة.
وحذا حذوهم الآخيون المدرعون جيدا، فكوموا الجثث في المقابلة، فوق كومة الحطب، بقلوب يحز فيها الكمد. حتى إذا ما انتهوا من إحراق الجثث بالنيران، اتخذوا طريقهم إلى السفن الخاوية.
إنشاء سور الآخيين
وقبيل أن يبزغ الفجر في جنبات السماء، والليل لا يزال مزيجا من النور والظلمة، احتشدت النخبة المختارة من جيش الآخيين حول كومة الحطب، وحفروا حولها قبرا واحدا في السهل - لجميع الجثث على حد سواء - ثم أقاموا سورا عاليا، للدفع عن سفنهم وعن أنفسهم. وجعلوا فيه أبوابا محكمة الأقفال، لتكون مسالك تقاد خلالها العربات. وحفروا خندقا في الخارج، عميقا وفسيحا وعظيما، ملاصقا للسور، وغرسوا فيه أوتادا.
هكذا كان الآخيون ذوو الشعر المسترسل يعملون جادين، بينما جلست الآلهة إلى جوار زوس - ملك البرق - تعجب للعمل الجبار الذي يقوم به الآخيون ذوو المدرعات البرونزية.
Shafi da ba'a sani ba