قال غروت في «تاريخ اليونان»:
45 «إن تعداد القبائل في النشيد الثاني لا يمكن إلا أن يكون جزءا من كل، أي: إنه لا بد أن تكون فيه إشارة إلى حوادث مقبلة، وإلا فإذا أخذ منفصلا فلا لذة فيه للسامع، والأذن لا شك تمل توالي تلك الأسماء والأعلام ما لم تكن النفس مرتاحة إلى أنه يرمى بها إلى الإشارة إلى وقائع تعقبها على الأثر، وإن في آثار القوم ما يثبت أن ذلك الجدول الجغرافي كان حتى في أيام صولون شائعا شيوعا عاما حتى قيل: إن صولون نفسه عمد إلى تحشية شطر فيه؛ ليتسنى له ربح الخطر الذي عقد رهانه بينه وبين الميغاريين، كما أن الميغاريين أضافوا إليه شطرا يقوي حجتهم، ومن ثم يتضح أن اليونان كانوا قد ألفوا قبل فيسيستراثوس بزمن طويل سماع الإلياذة منظومة واحدة متناسقة الأجزاء متتابعة المباني».
وهو قول لا شك سديد في بابه، ولكنه لا يدفع حجة القائلين: «إنه إذا صح أن تكون الإلياذة على سلامتها في ذلك الزمن قد لا يصح أن تكون اتصلت إلينا على تلك السلامة». فدفعا لهذا الاعتراض حسبنا أن نوجه نظر المطالع إلى ما أسلفنا عن عناية الأقدمين بحفظها نقية من الشوائب، ولا سيما في باب «جمعها وكتابتها».
وإننا موردون في ما يلي تحليلا موجزا لتلك المنظومة بل تشريحا لذلك الجسم المتماسكة فقراته، المترابطة عضلاته يتضح منه أنه لا بد من أن تكون منظومة واحدة لشاعر واحد، وهو بحث لم يتصل بنا نظيره في ما طالعناه من كتب القوم.
تحليلها وتشريحها
الأشخاص
خذ الإلياذة وتصفح أية صفحة شئت منها، واقرأ حتى يقع بصرك على بطل من أبطالها سواء كان من مغاوير الكماة أو من عرض الجند، ثم انتقل إلى معجم الأعلام وانظر في الصفحات التي ورد فيها ذكر ذلك الرجل، واقرأ ما وصف به فيهن جميعا، فتتبين أنه هو هو حتى تكاد تنطق باسمه قبل أن تبلغه مهما تباينت المواقع، وتباعدت الأناشيد.
فهذا آخيل يبدو لك لأول وهلة قرما عنيدا، وشهما حقودا، ووليا ودودا، وصارما عتيا ترتسم حسناته وسيئاته في مخيلتك من تلاوة أول جزء من أول نشيد، وتعلم أنه الفتى الغضوب بنيت الإلياذة على وصف غضبه، فلا تقرأ نشيدا منها سواء ظهر فيها ذلك البطل أو لم يظهر إلا وتشعر أنه لا يزال محتدما بسعير الحقد والغيظ إلى أن يتيسر للشاعر تهيئة الأسباب المؤدية إلى إخماد تلك الجذوة في آخر الكتاب، فإذا به كما تستلزم دواعي السيادة والكرامة ساكن الجأش على رفعة نفسه، وقد جمع في صدره من كرم الخلال ما يكاد يضيق عنه أرحب الصدور، وليس في الكتاب كله عبارة واحدة يشذ بها الناظم عن هذا المرمى، وهيهات أن يتفق هذا التناسب لغير ناظم واحد.
ثم انظر إلى هكطور فهو حيثما رأيته حامي الذمار، دفاع العار، عزوما حزوما مقداما عن غير طيش، ورعا عن صدق عقيدة ذا ذكاء ونيرة يتمسك من دينه بما لصق بمعبوداته، وينبذ ما دون ذلك من خرافات القوم. يعلم أنه عماد قومه فيسير سير الزعيم الهمام، ويحسن الذود والكر والإبلاء، ولا يفتأ على المثال الذي صوره به الشاعر حتى يذهب شهيد الدفاع، ويموت ميتة يحسد عليها.
وإذا انتقلت من هذين الزعيمين إلى سائر أبطال الإلياذة، وتأملت كل رجالها ونسائها رأيت أن الشاعر رسم لكل رسما لا ينحرف فيه بشيء عن الوضع الذي وضعه له سيان ذلك في أول الكتاب وآخره.
Shafi da ba'a sani ba