203

أطوار شعر المولدين ومزاياه

كانت مخالطة المسلمين للأعاجم في عصر العباسيين على خلاف ما كانت عليه لعهد الدولة الأموية، فإن الأمويين كانوا لأغراض ليس من شأننا البحث فيها يترفعون في أغلب الأمور عن الأجانب، فظلوا على قربهم منهم بعيدين عنهم بالمجالسة والمحادثة والامتزاج، فخفي عنهم كثير مما كانت معرفته غير ضارة، وأما العباسيون فاختلطوا بالأعاجم اختلاطا مكنهم من استطلاع خفاياهم وقربوا إليهم كل ذي جاه وسياسة، وعلم وأدب، وأجزلوا العطاء لكل عضو مفيد في ذلك الملك الواسع سواء كان عربيا مسلما أو يهوديا عبرانيا أو نصرانيا سريانيا أو فارسيا أو يونانيا، فأحاطوا بكل معارف زمانهم وألف أبناء دولتهم أنواع معيشة البشر، فاتسعت على أثر ذلك معارف الشعراء وتفننوا في صناعتهم على وجوه لا عهد للمتقدمين بها.

وهذا كان شأنهم في جميع البلاد التي ملكوها، والشعراء على مذهب ملوكهم يقتبسون من كل واد وناد، فعمت النهضة الشعرية وكانوا جميعا فيها سواء.

ولكن زمن تلك النهضة طال كثيرا واتسع نطاقها اتساعا عظيما، فظهر فرق في منظوم الشعراء بالنسبة إلى الزمان والمكان، وهو ما نريد إجمال الإشارة إليه.

على أنه لا يجب أن يؤخذ من قولنا أن المولدين يقسمون بالنظر إلى الأزمنة والأمكنة إلى طبقات تنفرد كل منها بمزية خاصة بها إذ قد ترى شاعرين بينهما قرون، ونهجهما واحد، وأساليبهما متفقة، ومعانيهما متقاربة، وقد نشأ كل منهما في بلاد، فإنما نحن ناظرون إذن إلى النزعة الغالبة في كل عصر وقطر.

فإذا أمعنت في شعر المولدين بالنظر إلى الزمان رأيت شعار المتقدمين منهم الرقة والرواء، وظل هذا شأنهم حتى أواخر القرن الثالث للهجرة أي: نحو 170 عاما، والباعث الأعظم لذلك ولوجهم في ترف العيش، ونضارة الحضارة، وهم وإن ظل كثيرون منهم في عيش خشن إلا أن من لم يتمتع منهم فقد نظر وخبر، وقد يفضل وصف الرقيب وصف الحبيب، وأول من مهد ذلك السبيل مخضرمو الدولتين؛ كبشار بن برد، ومروان بن أبي حفصة، وتابعهم خلفاؤهم كأبي العتاهية وأبي نواس والبحتري، وما زالوا على ذلك حتى قام ابن المعتز، وابن الروي، وبهما ختم ذلك العصر الزهي عصر الرونق والبهاء، فإذا قرأت شعر جميع من تقدم ذكره رأيته يسيل عذوبة وسلاسة، وقد تميز برقته وانسجامه.

وتبعتهم الطبقة الثانية من المولدين، وكانت أدمغة الشعراء قد امتلأت حكمة وفلسفة مما نضج من ثمار العلم، فأوغلوا في المعاني الدقيقة وتطلبوا الأفكار السامية وصاغوا للتشبيه قوالب شائقة من الكناية والاستعارة، فوسعوا أبواب المجاز وأخذوا بناصية الخيال فقربوه من الحقيقة، وشعارهم في كل ذلك سمو التصور، وكان هذا ديدنهم من المتنبي وأبي فراس الحمداني وابن هاني، وأبي العلاء المعري، وأبي إسحاق الصابي، وأبي إسحاق البستي، والشريف الرضي حتى الخفاجي، وابن زيدون الأندلسي في مدة زهاء 170 عاما كمدة الطبقة الأولى.

ثم أتت الطبقة الثالثة في أواخر القرن الخامس للهجرة، والشعر بحكم البناء موطد الأركان والعلوم البيانية مفصلة القواعد، فعمدوا إلى تنميق الشعر والتفنن بزخرفة وتوشيته بأنواع البديع، والمجيدون منهم يحكمون رصف المعنى الدقيق باللفظ الرشيق، ولكن بعضهم أفسدوا بهجة المعاني بتوخي التجنيس، ومع هذا فقد كان منهم نوابغ لا يكادون ينحطون منزلة عمن تقدمهم كالطغرائي (وهو متوسط بين هذي الطبقة والطبقة الثانية) وابن خفاجة الأندلسي وابن قلاقس الإسكندري، وابن النبيه المصري، وابن الفارض، والبهاء زهير المصري، والشاب الظريف، وصفي الدين الحلي خاتمتهم، وطالت مدة هذه الطبقة من المولدين نحو 260 عاما أي: إلى حوالي سنة 730ه، فكان عصر المولدين جميعا ستمئة عام.

وأما بالنظر إلى المكان فأبناء البلاد العربية ظلوا جانحين إلى البساطة الجاهلية؛ لانطباع تلك الأخلاق في نفوسهم، وبرز المصريون في الرقة والعذوبة لدماثة في خلقهم، ورقة في طبعهم، وغلبت البلاغة والمتانة في العراقيين لشدة في فطرتهم وملابستهم لأهل البادية، ومال الأندلسيون وسائر أهل المغرب إلى التفنن بأساليب الشعر، ووصف الغياض والرياض لنضارة أرضهم، ووقف السوريون بين المصريين والعراقيين، فجمعوا بين رقة الأولين وبلاغة الآخرين، ولكنهم لم يبلغوا مبلغ فريق منهم في إحكام صنعته.

طبقة المحدثين أو المتأخرين

Shafi da ba'a sani ba