وإنما الذي ينتفع منه الشعب جملة من خاصته إلى بعض عامته هو تكوين الأوپرا المصرية تكوينا قوميا: تأليفا وتلحينا، ثم تحبيبها إلى الجمهور. وقد أشرنا إلى التأليف في السطور المتقدمة والآن نشير إلى التلحين، ونرانا في غنى عن البرهنة على ضرورة التعاون بسخاء مع الملحنين، فالمؤلف والملحن عمودا النهضة المسرحية للأوپرا، مهما أطنبنا في فضل المغنيات والمغنين. وما لم ينفق بسخاء لتشجيع التلحين فسيطول الزمن قبل أن ينشأ في البيئة المصرية ملحن وطني ضليع في فنه علما وعملا، غيور على إنشاء موسيقى مصرية يرضى عنها علماء الموسيقى النابغون في العالم، وتمثل عواطفنا وحياتنا المصرية أصدق تمثيل. ومثل هذا الإنشاء سيعد طبعا ثورة فنية، وقد تعد هذه الثورة من الآن مستحيلة نظرا للاختلاف الكبير بين أصول الموسيقى المصرية الحاضرة وبين أصول الموسيقى الغربية عامة، ولكن الغربيين أنفسهم لم يبلغوا بموسيقاهم مرتبة النهضة الحاضرة إلا بثورة وتضحية وبالتخلي عن كثير من النظم القديمة، وهكذا لا بد لنا من الإقدام والتجربة، وإن طال الزمن. ومن أقدر على هذا الجهد والإبداع من أعضاء (نادي الموسيقى الشرقي) أو جمعية خاصة تتفرع منه وتجعل عملها مطابقا لشعارها ولاسمها: (جمعية الموسيقى المصرية)؟ نحن لا نجهل الاعتراضات الفنية الحاضرة على مثل هذا الرأي، ولكننا نعلم أيضا أن التجارب العلمية والتعاون لتحقيق هذا الانقلاب الفني أو لتقدير العقبات، وما يمكن التغلب عليه منها لم تقدم. وبغض النظر عن هذه النقطة، وكيفما كان قصور موسيقانا المصرية، فلا غنى لنا من الوجهة القومية عن تطبيقها على أوپرانا والسير بها مع الشعر التمثيلي جنبا لجنب إلى الأمام، وهذا يستدعي التشجيع المادي الوافي للشعراء والملحنين من المسارح الراقية، والتشجيع الأدبي بالأوسمة أو الألقاب أو نحوها - من حكومة جلالة الملك - شأن جميع الحكومات المتمدينة في أنحاء العالم التي تعرف أن لا تقصر الاحترام والتشجيع الأدبي على طبقة الموظفين أو طبقة الأعيان، وقد يكون بين الأخيرين طائفة كبيرة منزلتها من الثقافة وأثرها في النهضة الفكرية الوطنية صنو العدم ...
الغناء والتمثيل
أما واعتمادنا الفني قاصر على مواطنينا ولم نغنم غنما وطنيا ما من ڨردي وأمثاله، ولم يتمصر بيننا مثل هاندل (Handel)
الموسيقي الألماني الشهير الذي قضى معظم حياته الخصبة (1685-1759م) في إنجلترا وخدم الموسيقى الإنجليزية والشعب الإنجليزي الذي عاش بينه كأحد أفراده خدمة عظيمة بتآليفه العديدة (وبينها «المسبح» و«إسرائيل في مصر» و«إستر» و«ديبورا»). أما وهذا هو الواقع الأليم فمن الخطل في عزلتنا هذه التي أوجدتها ظروفنا الأهلية من جنسية ولغة ومشرب أن لا نحرص على استثمار رجالنا الملحنين أولا ثم مغنياتنا ومغنينا.
وما يكون هذا التشجيع أو الاستثمار بالمكافآت الحكومية المسرحية فقط، وما يكون بنقل تبعية دار الأوپرا إلى وزارة المعارف فحسب، وما يكون بإنشاء معهد فني يرتبط بدار الأوپرا، ويختص بالعمل على ترقية موسيقى الأوپرا وغنائها أيضا، وإنما يكون بالجمع بين هذه العوامل المفيدة مضافا إليها تنظيم البعثات إلى أوروبا من بين أعضاء هذا المعهد الذي لا نرى مندوحة عن إنشائه، لا سيما إذا توانى (نادي الموسيقى الشرقي) عن القيام بالواجب عليه نحو الأوپرا المصرية. وربما لم يغن جهد النادي وحده على أي حال عن إنشاء المعهد الفني المشار إليه.
هذا ولا فائدة من ضم دار الأوپرا إلى وزارة المعارف إذا لم تعتبر الوزارة تلك الدار كمدرسة فنية شعبية، كما تنظر ألمانيا على الأخص إلى دور الأوپرات: مشجعة طلبة العلم على التردد عليها بأجور مخفضة وامتيازات حسنة، وكذلك إذا لم تنشط الوزارة فرق الأوپرا على الأخص، وإذا لم تسمح لها جميعها بالانتفاع بدار الأوپرا بشروط مشجعة، تضمن لها النفع والبقاء والتقدم المستمر.
يعوزنا أن نعتبر الغناء في الأوبرا متمما للموسيقى لا سيدا لها، كما يعوزنا أن نعتبر التمثيل من المتممات للعوامل الأخرى التي تؤلف تلك الوحدة الفنية القوية المتضامنة التي نسميها «الأوپرا»، وإذا قدرنا هذا التقدير الصحيح تركنا للملحن أن يضع ألحانه بحرية فنية معقولة تطابق روح القصة، كما تركنا للشاعر من قبل أن يؤلف تأليفا وجدانيا غير متأثر بالصناعة، وحينئذ نبحث عن المغنيات والمغنين والممثلات والممثلين ممن يحتاج إليهن وإليهم لتقوية الفرقة في سبيل إخراج أوپرا معينة جديرة بالظهور. ورأيي أنه من الإسراف في العبث أن تترك أية مغنية قديرة أو أي مغن نابغة خارج دور الأوپرا.
تنفق بلدية فينا - مدينة الأوپرات - إعانة سنوية للأوپرا كما كان يفعل الإمبراطور سابقا، وتحذو حذوها بلديات أخرى كثيرة رغم نهوض تلك الأوساط بالأوپرا، وترجع هذه الحفاوة (الجديرة بالتقليد) بالأوپرا في ڨينا إلى القرن السابع عشر حينما عني إمبراطور النمسا ليوبولد الأول ثم ابنه شارلس السادس باستدعاء مشاهير الموسيقيين إلى البلاط، وكانا يدفعان من جيبهما الخاص بسخاء نفقات التمثيل الموسيقي في مسرحي ڨينا المعروفين في ذلك الوقت. وإن التاريخ ليعيد نفسه الآن في مصر: فنهضة الأوپرا المصرية في أمس الحاجة إلى رعاية صاحب الجلالة الملك، كما أنها في حاجة إلى زيادة عناية الحكومة المصرية بها، وإلى تنظيم هذه العناية الواجبة وتوجيهها بدقة إلى شتى الأسباب التي لا غنى لنهضة الأوپرا عنها: من تأليف وتلحين وغناء وتمثيل.
لقد كان عهد اكتفى فيه طالب الأدب العالي أو الأدب المدرسي (elassical literature)
في أوروبا بدراسة الكتب والدواوين، وجاء العصر الحديث الذي اعتزت فيه الأوپرا، فإذا به يراها مدرسة سامية للأدب، فيجد مثلا من مؤلفات شكسبير كعطيل (Othello)
Shafi da ba'a sani ba