وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ فَمَبْنِيٌّ عَلَى قَصْدِ التَّعْظِيمِ بِتَقْدِيمِ ذِكْرِ الْأَعْظَمِ لَا عَلَى قَصْدِ التَّرْتِيبِ.
وَأَمَّا قِصَّةُ الصَّحَابَةِ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَمْ يَكُنْ مُسْتَنَدُ إِنْكَارِهِمْ لِأَمْرِهِ بِتَقْدِيمِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ كَوْنَ الْآيَةِ مُقْتَضِيَةً لِتَرْتِيبِ الْعُمْرَةِ بَعْدَ الْحَجِّ، بَلْ لِأَنَّهَا مُقْتَضِيَةٌ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، وَأَمْرُهُ بِالتَّرْتِيبِ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى الْآيَةِ، كَيْفَ وَإِنَّ فَهْمَهُمْ لِتَرْتِيبِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ مِنَ الْآيَةِ مُعَارَضٌ بِمَا فَهِمَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ.
وَأَمَّا الْحُكْمُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ عَلَى أَصْلِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ " الْوَاوَ " لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَبَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي لَيْلَى، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ، وَإِنْ سُلِّمَ ذَلِكَ فَالْوَجْهُ فِي تَخْرِيجِهِ أَنْ يُقَالَ: إِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَالْأَخِيرُ تَفْسِيرٌ لِلْأَوَّلِ، وَالْكَلَامُ يُعْتَبَرُ بِجُمْلَتِهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ.
وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ مَنْقُوضٌ بِقَوْلِهِ: رَأَيْتُ زَيْدًا، رَأَيْتُ عَمْرًا. فَإِنَّ تَقْدِيمَ أَحَدِ الِاسْمَيْنِ فِي الذِّكْرِ لَا يَسْتَدْعِي تَقْدِيمَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إِجْمَاعًا، كَيْفَ وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ فِي تَقْدِيمِهِ ذِكْرًا لِزِيَادَةِ حُبِّهِ لَهُ وَاهْتِمَامِهِ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ، أَوْ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْإِخْبَارَ عَنْهُ لَا غَيْرُ، ثُمَّ تَجَدَّدَ لَهُ قَصْدُ الْإِخْبَارِ عَنِ الْآخَرِ عِنْدَ إِخْبَارِهِ عَنِ الْأَوَّلِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُتَجَاذَبٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَرْجَحُ هُوَ الْأَوَّلَ فِي النَّفْسِ.
وَأَمَّا " الْفَاءُ " وَ" ثُمَّ " وَ" حَتَّى " فَإِنَّهَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، وَتَخْتَلِفُ مِنْ جِهَاتٍ أُخَرَ.
فَأَمَّا " الْفَاءُ " فَمُقْتَضَاهَا إِيجَابُ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ، هَذَا مِمَّا اتَّفَقَ الْأُدَبَاءُ عَلَى نَقْلِهِ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا﴾ وَإِنْ كَانَ مَجِيءُ الْبَأْسِ لَا يَتَأَخَّرُ عَنِ الْهَلَاكِ، فَيَجِبُ تَأْوِيلُهُ بِالْحُكْمِ بِمَجِيءِ الْبَأْسِ بَعْدَ هَلَاكِهَا ضَرُورَةَ مُوَافَقَةِ النَّقْلِ (١)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ﴾
_________
(١) مَجِيءُ الْبَأْسِ مُقَارِنٌ لِلْإِهْلَاكِ، فَالْحُكْمُ بِهِ مُقَارِنٌ لِلْإِهْلَاكِ أَوْ سَابِقٌ عَلَيْهِ، فَلَا يَصْلُحُ ذَلِكَ التَّأْوِيلُ، وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ وَأَبْعَدُ عَنِ اللَّبْسِ وَالْغُمُوضِ أَنْ يُقَالَ: التَّقْدِيرُ أَرَدْنَا إِهْلَاكَهَا فَجَاءَهَا، أَوْ يُقَالَ: الْفَاءُ لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا مِنَ التَّفْسِيرِ وَالتَّفْصِيلِ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ الْمُجْمَلِ وَهُوَ الْإِهْلَاكُ، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ أَنْ يَكُونَ التَّرْتِيبُ زَمَانِيًّا
1 / 68