الغني مرسوما بإعادة ابن الخطيب إلى منصبه في الوزارة. وفي أوائل سنة ٧٦٤ هـ وصل ابن خلدون إلى غرناطة، بعد أن فقد نفوذه في بلاط فاس، فاستقبله الغني أحسن استقبال، وفي سنة ٧٦٥ هـ أرسله الغني سفيرا إلى قشتالة، وفي سنة ٧٦٦ هـ عاد ابن خلدون إلى المغرب، بعد أن فترت العلاقات مع ابن الخطيب.
ثم شعر ابن الخطيب بأنّ أعداءه، وفي مقدمتهم الوزير أبو عبد الله محمد بن يوسف ابن زمرك، والقاضي أبو الحسن علي بن عبد الله النباهي، والوزير سليمان بن داود، أخذوا يكيدون له عند الغني بالله، وتخيّل أن الغني بالله أخذ يميل إلى قبول وشاياتهم، فاتّصل سرّا بسلطان المغرب أبي فارس عبد العزيز بن أبي الحسن المريني، فوعده بأن يؤمّن له الحماية اللازمة والرعاية الكافية، وأخذ منه عهدا بالإقامة في كنفه. عندئذ استأذن الغنيّ بالله في تفقّد الثغور، وسار إليها في لمّة من فرسانه، ومعه ابنه عليّ، فمال إلى جبل طارق، فتلقّاه قائد الجبل، بناء على أمر سلطان المغرب المذكور أعلاه، فأجاز إلى سبتة في جمادى الآخرة من عام ٧٧٣ هـ، ثم توجّه إلى تلمسان فوصلها في التاسع عشر من رجب من العام المذكور، واستقبله السلطان أحسن استقبال، وأحلّه من مجلسه محل الاصطفاء.
وكان قد بعث، وهو يغادر وطنه إلى غير رجعة، برسالة وداع إلى الغني بالله، يبرّىء فيها نفسه ونزاهة مقصده، وبعث منها نسخة إلى ابن خلدون، أوردها هذا الأخير كاملة في كتابيه «كتاب العبر» و«التعريف بابن خلدون» «١»، وهي من أروع الرسائل إجادة وبلاغة، وقد بدأها بأربعة أبيات من الشعر، نذكر منها هذين البيتين:
[المنسرح]
بانوا فمن كان باكيا يبكي ... هذي ركاب السّرى بلا شكّ
تصدّع الشّمل مثلما انحدرت ... إلى صبوب جواهر السّلك
وفي الشهر نفسه من السنة نفسها أرسل سلطان المغرب سفيره إلى غرناطة، فأتى بأسرة ابن الخطيب مكرّمة.
عندئذ وجّه إليه القاضي النباهي تهمة الإلحاد والزندقة والطعن في الشريعة والوقوع في جناب الرسول الكريم، بعد أن نعى عليه تدخّله في شؤون القضاء أيام ولايته القضاء، فأصدر فتوى بإحراق كتبه، فأحرقت في ساحة غرناطة، وصودرت أملاكه، واستحثّ سلطان المغرب على تسليمه لإجراء العقوبة عليه، فرفض. ولمّا
€
المقدمة / 10