هذا ما كانت تفعله هذه المرأة في هذا الوادي بينما كنت أنا أرتاد قاعات الميسر، وأمشي على سبيل الضلال، ولعلها ولدت في هذا الوادي، وستدفن في مقبرته بالقرب من لحد أبي المحبوب، فتذهب من الدنيا دون أن يعرفها الناس، وهي التي يسألك الأطفال وهم يذكرونها: أفما تعرف بريجيت الوردية؟
ليصعب علي بيان ما كنت أشعر به وقد وقفت في زاوية لا أبدي حراكا ولا أتنفس إلا مرتجفا، ولاح لي أنني إذا تقدمت لمساعدة هذه المرأة لأوفر عليها خطوة من خطواتها، أرتكب خرقا، وألمس بيدي الدنسة آنية مقدسة.
ودامت العاصفة ساعتين حتى سكنت، فأفاقت العليلة وجلست على فراشها وهي تقول: إنها تشعر بالراحة، فقد أفرج عنها بعد أن تناولت الدواء، فتراكض الأطفال إلى أمهم ينظرون إليها، وقد تمازج في عيونهم الفرح والاضطراب، وأمسكوا برداء مدام بيارسون.
وقال الرجل وهو لا يتزحزح من مكانه: كنت أتوقع هذا لأننا عهدنا إلى الكاهن بأن يصلي، وقد كلفنا ذلك كثيرا من المال.
وعندما سمعت هذه الكلمات الدالة على الخشونة والحمق، التفت إلى مدام بيارسون فرأيت من تعب جفونها، ومن التواء قامتها وامتقاع وجهها أن التعب والسهر ذهبا بكل قواها، وسمعت العليلة تجاوب زوجها قائلة: جزاك الله خيرا يا زوجي المسكين.
ونهضت من مكاني وقد ثار ثائري لحماقة هؤلاء الناس الذين يعبرون عن امتنانهم لملاك بتوجيه الثناء إلى بخل كاهن، وكنت على وشك تقريعهم على عقهم، ومعاملتهم بما يستحقون، ولكنني رأيت مدام بيارسون ترفع بذراعيها أحد الأطفال لتقدمه إلى أمه قائلة له: قبل أمك فقد زال عنها الخطر.
وجمت إذ سمعت هذه الكلمات، وتفرست في وجه هذه المرأة، فرأيت عليه أوضح اغتباط تنم عنه روح محسنة كريمة، وكانت آثار التعب قد زالت عن ملامحها، فطفح وجهها بالبشر، ورفعت شكرها لله أيضا. إن كل ما كانت تطمح إليه هذه الممرضة هو أن تتكلم المدنفة. أما وهي تتكلم فلتقل ما تشاء ...
وبعد برهة طلبت مدام بيارسون من الأولاد أن ينهضوا خادم المزرعة من رقاده ليوصلها إلى بيتها، فتقدمت أطلب إليها أن أسير معها حارسا ما دمت ذاهبا في الطريق نفسها، وأعلنت لها أنني أعد قبولها شرفا لي، فسألتني: أفأنت أوكتاف ت؟ فأجبتها: أنا هو، وسألتها ما إذا كانت تذكر والدي، واستغربت ابتسامها عندما أوردت هذا السؤال، ولكنها أخذت بساعدي وخرجنا بسرور إلى الطريق.
الفصل الرابع
وكنا نقطع الطريق صامتين، وسكنت العاصفة، فارتعشت الأشجار تنفض عن أغصانها قطرات الأمطار، وكان لم يزل على الأفق البعيد ومضان لبقايا البروق، وهبت من الأعشاب الرطيبة عبقات نشرها الهواء وقد دبت الحرارة فيه، وانقشعت السحب عن وجه السماء، فغمر القمر بأنواره قمم الجبال.
Shafi da ba'a sani ba