وما كانت حركتي لتخفى على هذا الشاب، فقد أدرك ولا ريب أنني قصدت مخاطبته، فهو إذن قد أراد اجتناب هذه المخاطبة، وما كان له أن ينسى هيئتي، وهب أنه لم يعرفني فليس من المألوف أن يولي الإنسان الأدبار أمام من يسير نحوه، وما كان في الممشى أحد سوانا عندما اتجهت إليه، فلا ريب إذن في أنه تهرب من مقابلتي.
وما خطر لي قط أن هذا الشاب تعمد إهانتي بما فعل؛ لأنه كان يزورنا كل يوم فألقاه بالترحيب، فضلا عن أنه كان بسيطا متواضعا، وليس في خلقه شيء مما يبرر الظن بسوء قصده، فهو إذن أراد التخلص من محادثة رآها مرهقة له. وهكذا قادني التفكير إلى اضطراب أشد؛ إذ تحققت وجود علاقة لا ريب فيها بين تهرب هذا الشاب وإصرار بريجيت على السكوت.
ليس في العالم عذاب أشد على الإنسان من الارتياب، ولكم تعرضت للمصائب في حياتي لأنني ملت إلى الشكوك فاستبقت الحادثات.
وعدت إلى المسكن فرأيت بريجيت مشغولة بقراءة هذه الرسائل المشئومة، فقلت لها: إنني علت صبرا ؛ فلن أطيق بعد الآن بقاء في هذا المأزق الذي يبلبل أفكاري، وأعلنت لها إصراري على معرفة ما أدى بها إلى هذا التبدل قائلا: إنها إذا استمرت على الصمت أعتبر صمتها كرفض صريح للرحيل معي، بل كأمر تصدره إلي بالافتراق عنها إلى الأبد.
فما وسع بريجيت تجاه هذه المهاجمة إلا أن تسلمني - ودلائل الامتعاض بادية على محياها - إحدى تلك الرسائل، فإذا أقرباؤها يقولون فيها: إن رحيلها سيصمها بالعار؛ إذ لا يجهل أحد ما دعاها إليه، وإنهم يجدون من واجبهم تذكيرها بسوء مصيرها؛ لأنها تعيش معي كخليلة، وإن عليها - وإن كانت حرة في تصرفها كأرملة - أن تحافظ على سمعتها وشرف الاسم الذي تحمله، فإذا هي تمادت في غيها، فلا عتب لها عليهم وعلى جميع أصدقائها إذا هم قطعوا كل علاقة بها. وقد اختتم هؤلاء الأقرباء رسالتهم بإسداء النصح للرجوع إلى بلادها.
آلمتني لهجة هذه الرسالة، فلاح لي لأول وهلة أنها لا تتضمن إلا إهانات وتقريعا، فقلت لبريجيت: لا ريب في أن الشاب الذي حمل إليك هذه الرسائل قد كلف أيضا بترديد ما ورد فيها على مسامعك، فهل تنكرين أنه يقوم بهذه المهمة؟
ورجعت إلى الصواب كاسرا من حدة غضبي أمام بوادر الحزن التي ظهرت على وجه بريجيت وهي تقول: لك أن تفعل ما تشاء إلى أن تقضي علي. إن حظي من الحياة بين يديك، وأنت سيد هذه الحياة منذ زمان بعيد، وبوسعك أن تعد ما يحلو لك من انتقام تجاه هذه الجهود التي يبذلها أصدقائي القدماء بدعوتهم لي إلى سواء السبيل، وبمحاولتهم إرجاعي إلى حظيرة المجتمع الذي كنت أحترمه من قبل، والشرف الذي تعريت منه. ليس لي ما أقوله لك، ولك إذا شئت أن تملي علي جوابي على هذه الرسائل فأصدع بأمرك.
فقلت لها: إنني لا أطلب سوى معرفة ما تقصدين، ومن سيصدع بالأمر إنما هو أنا لا أنت، فقولي لي أتريدين البقاء أم الرحيل لأعلم إذا كان يجب علي أن أرحل وحدي.
فأجابت بريجيت: لماذا توجه إلي هذا السؤال؟ وهل قلت لك إنني غيرت رأيي؟ إنني متألمة ولا طاقة لي على السفر وأنا على هذه الحال، فلا أنتظر إلا الشفاء، أو على الأقل استعادة بعض القوى لأذهب معك إلى جنيف كما تم اتفاقنا.
وافترقنا بعد هذه المحادثة وفي قلبي لبرود لهجتها من الحزن ما لم أكن لأشعر بمثله لو أنها أعلنت أنها لن ترحل معي.
Shafi da ba'a sani ba