تولستوي
اعترافات تولستوي
تولستوي
اعترافات تولستوي
اعترافات تولستوي
اعترافات تولستوي
تأليف
ليو تولستوي
ترجمة
محمود محمود
قصة أديب فيلسوف
بدأ حياته بالشك في الدين،
وانتهى بالإيمان واليقين.
تولستوي
حياته وآراؤه
كان ترجنييف - وهو من أعلام الأدب الروسي الحديث - يعجب بتولستوي أشد العجب، ويعده أعظم
وألم المرض بترجنييف، وأقعده عن الحركة والعمل، ولكنه، رغم ما كان يعاني من ألم،
ولكن تولستوي لم يعر هذه الصيحة المنبعثة من فراش المرض أذنا مصغية، ولم يجب على
كان تولستوي أول الأمر لا يفكر إلا في هذه الحياة الدنيا، ولا يمتد بصره إلى ما وراء
حلت هذه الأزمة النفسية بتولستوي وهو في نحو الخمسين من عمره، وهي أزمة لا نستطيع أن
ولكن هذه الأزمة التي حلت بصاحبنا برزت إليه من ظلام النفس لا من نور الحياة، فأحس كأن
ما هذا التبرم، وما هذا الانزعاج؟ إني لم أعد أجد في الحياة متعة، أو أشعر فيها بما يهز
ولن نحاول هنا أن نتعرف إلى طبيعة هذا النزاع الباطني الذي جعل من تولستوي مفكرا
وما السبب في وجودي؟ وما الغرض منه؟ وما معنى هذه التفرقة بين الخير والشر التي أحس بها في
ولكن الإجابة عن هذه الأسئلة كانت فوق العمل الأدبي الذي ألف، فاضطر إلى ممارسة الفلسفة
ولم يكن تولستوي من قبل شاكا، بل كان يعيش ظاهرا وباطنا عيشة هادئة حرة أبيقورية،
وهنا ينتقل تولستوي إلى المرحلة الثالثة من حياته، فقد طلق الأدب أولا، وطلق
وفي هذه المرحلة التي تشتت فيها ذهن تولستوي لا نراه ينتمي إلى عقيدة بعينها، أو يبتدع
وفي هذا الدور وقع له ما يقع لكل باحث وراء الحق حائر، فقد لمس ما أصاب أوامر الدين
ولكن الكنيسة الأوروبية - وقد عاشت الآن زهاء ألف عام - كانت تحس إحساسا دقيقا بالخطر
واشتدت العداوة بين الرجل وبين أصحاب النفوذ؛ لأن الكنيسة والدولة تعرفان أن أخلص
فكان الكاتب إذا يعتقد أن بالبناء الاجتماعي الراهن خللا وصدوعا، وأن من واجبه أن ينبه
ومن هذه العقيدة بدأ تولستوي يهاجم الملكية أشد مما هاجمها (كارل ماركس) ومن أقواله فيها:
وما دامت الدولة تعترف بمبدأ الملكية، فهي في رأي تولستوي دولة آثمة لا تقوم على أساس
يرى تولستوي أن هناك هيئة واحدة كبيرة تسرق وتخدع وتحمي كل ظلم، وتلك هي الدولة التي قامت
•••
انقلب تولستوي إذن من باحث ديني إلى فوضوي ثائر، أخذ الآن ينادي بملء فيه أن من واجب كل
ويرى تولستوي أن جرائم الأفراد لا تفسد الجماعة كما تفسدها الدولة بنظمها ومؤسساتها،
وإذا كانت الدولة هي الشر، وهي ستار الفوضى على الأرض، فإن تولستوي يرى إن واجب المؤمن أن
ويثور تولستوي هي نظم الجماعة السائدة، ولكنه لا يشير بمقاومتها بالعنف والشدة - كما
والفرق واضح عند تولستوي بين المقاومة السلبية الدينية، وبين الكفاح الإيجابي، فهو يقول:
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما
، وإنما يرمي تولستوي إلى ثورة باطنية، ثورة لا تقوم على السلاح،
وهذه النزعة المعادية تذكرنا برسالة لوثر «حرية الرجل المسيحي»، وهي قوية ولا شك، فعالة
وفي اللحظة التي ينتقل فيها تولستوي من التشخيص إلى العلاج، في اللحظة التي لا يكتفي فيها
ومجمل الرأي عند تولستوي أن التسوية الاجتماعية ينبغي ألا تبدأ من أسفل كما يريد
وكان تولستوي يعلم حق العلم أن الهبوط إلى مستوى وضيع في الحياة يهدم كثيرا من مظاهر
وكانت هذه الرسالة فاتنة جذابة في كل بلد كالروسيا بلغ التناقض فيه بين طبقة وطبقة حدا
ولكنه - رغم هذا - لم يستطع أن يصد تيار المعارضة الشديد، حتى بين أفراد أسرته وأقربائه
ولما بلغ الرجل الثالثة والثمانين أحس بالموت يدنو منه، ففر من بيته ليلا، وطفق يهيم على
ولعله من التعسف على الرجل ومن عدم الإنصاف له بعد موته أن نقول إن رأيه في الاجتماع
ومن العجيب أن تعاليم تولستوي كان لها أثر عكسي على ألوف أخرى من الناس، فبينا ترى
•••
إن الفكرة الرفيعة لا تتجه وجهة بعينها، وإنما يسيرها الزمن كما تسير الريح السفينة،
إن كل رجل سياسي أو اجتماعي يستطيع أن يستمد من نقد تولستوي لعصره ثاقب الرأي ونافذ
كان تولستوي مثالا يحتذى في قوله وفعله، ونال من الشهرة أقصاها، ولم يحاول أن يستغل
اعترافات تولستوي
يقول تولستوي:
ولدت لأبوين مسيحيين، ونشأت على العقيدة المسيحية الأرثوذكسية، وتلقيت تعاليمها في عهد
وما عندي من ذكريات لهذا العهد يدل على أنني لم أكن جادا في عقيدتي، وإنما كنت أركن إلى
وأذكر أني قبل أن أبلغ الحادية عشرة التقيت في بيتي في يوم من أيام الأحد بغلام اسمه
وأذكر كذلك أن أخي الأكبر دمتري - وكان حينئذ يطلب العلم بالجامعة - قد كرس نفسه فجأة
وأذكر أن موسن بوشكن - أمين جامعة قازان في ذلك الحين - دعانا مرة إلى الرقص في بيته،
وأذكر كذلك أني قرأت فولتير وأنا في باكورة الصبا، وأن سخريته لم تصدم مشاعري، بل أدخلت
وهذا الانحراف عن العقيدة الدينية الذي أصابني يصيب كذلك عادة الشباب الذين يبلغون
إن العقائد الدينية لا تلعب دورا في الحياة أو في صلات الناس الاجتماعية ولا يحسب المرء
إن المدارس تعلم الصبية أصول الدين وترسلهم إلى الكنائس، كما أن موظفي الحكومة ينبغي لهم
ولذا فإن العقيدة الدينية التي يعتنقها المرء - في الوقت الحاضر أو فيما مضى - بمجرد
قص لي مرة «س» قصة خروجه على الدين، و«س» رجل ذكي صادق، قال إنه وهو في السادسة
ولم يتبادلا الحديث بعد ذلك، ولكن من ذلك اليوم امتنع «س» عن أداء صلواته كما امتنع عن
وهكذا كانت الحال، ولا تزال - فيما أظن - مع الكثرة الكاثرة من الناس، وأقصد الناس ممن هم
إن العقيدة الدينية التي لقنتها في الصغر اختفت عندي كما اختفت عند غيري، مع هذا
والآن إذ أعود بذاكرتي إلى ذلك العهد أرى بجلاء أن عقيدتي - وأقصد العقيدة الحقيقية الفذة
•••
وسأقص عليكم في يوم من الأيام تاريخ حياتي خلال تلك السنوات العشر من شبابي، وستجدون فيه
إن الناس يقدسون الطموح وحب السلطان والطمع وحب الشر والكبر والغضب والانتقام، فلما
ولست أستطيع أن أعود بذاكرتي إلى تلك السنوات دون أن أحس بالفزع والمقت وألم النفس
وهكذا عشت عشر سنوات.
وفي غضون ذلك شرعت أكتب مدفوعا بالغرور والطمع والكبر، وفعلت في كتابتي ما فعلت في
ولما بلغت السادسة والعشرين من عمري عدت إلى بطرسبرج بعد الحرب، وهناك التقيت بالكتاب،
وهذه هي معتقدات هذه الفئة من الناس - أقصد زملائي في التأليف - في الحياة: كانوا يعتقدون
وهذه العقيدة في معنى الشعر وفي تطور الحياة كانت دينا وكنت أحد المبشرين به، والتبشير
وما إن بدأت - فوق ذلك - في الشك في صحة عقيدة المؤلفين نفسها حتى بدأت كذلك أرقب
ومن عجب أني أدركت هذا الخداع ونبذته، ولكني لم أنبذ ذلك اللقب الذي خلعته علي هذه
وأكسبتني عشرتي لهذه الطائفة رذيلة جديدة: وتلك أني زدت استكبارا إلى درجة الشذوذ،
وأني لأحزن وأفزع وأسخر من نفسي، بل إني ليثور في نفسي إحساس يشبه كل الشبه ذلك الإحساس
كنا إذن جميعا في ذلك الحين مقتنعين بضرورة الخطابة والكتابة، وبضرورة إخراج الكتب بأسرع
وألوف العمال يبذلون أقصى الجهد، ويعملون ليلا ونهارا، يرصون الحروف ويطبعون ملايين
كان ذلك أمرا عجبا، ولكنه اليوم أمر مفهوم، ذلك أننا كنا في أعماق نفوسنا نحب أن نظفر
ويتضح لي الآن بجلاء أننا كنا في حالة لا تختلف عن مستشفى المجانين في شيء، ولكني في ذلك
•••
وهكذا عشت ست سنوات أخرى مسترسلا في هذا الجنون حتى تزوجت، وفي خلال تلك الفترة رحلت إلى
1
وتعرفي إلى القادة ورجال العلم فيها يقيني - الذي آمنت به - بضرورة الجهاد في
ولم ألحظ ذلك حينئذ: إنما كنت بين الحين والآخر - وبدافع الغريزة لا بدافع العقل - أثور
وعند عودتي من الخارج استقر بي المقام في الريف، وحدث أني شغلت نفسي بالمدارس الريفية،
وبدا لي أني تعلمت هذا في الخارج، وفي عام تحرير الفلاحين (سنة 1861م) عدت إلى روسيا
2
بدأت أعلم الفلاحين غير المتعلمين في المدارس، كما أعلم الطبقة المتعلمة عن
وبقيت عاما كاملا أشتغل بالتحكيم وبالمدارس والمجلة، وبلغ مني الإنهاك مبلغه - نتيجة
وتزوجت بعد عودتي من بشكير، وقد صرفتني الظروف الجديدة للحياة العائلية السعيدة تماما عن
وهكذا انقضت خمس عشرة سنة أخرى.
وبرغم أني أصبحت أنظر إلى التأليف كأنه عديم الأهمية ثابرت على الكتابة خلال هذه الأعوام
فواصلت الكتابة أبث بين السطور ما كنت أعتبره الأمر الوحيد الصادق: وهو أن يحيا المرء لكي
هكذا عشت، ولكن منذ خمس سنوات حدث لي أمر عجيب جدا، كانت تمر بي في مبدأ الأمر لحظات من
وإلام يؤدي بنا؟
وبدا لي أول الأمر أن هذا السؤال وما يشبهه ناب لا يؤدي إلى غرض، وظننت الأمر جليا
وحدث لي ما حدث لكل من يقض مضجعه مرض باطني قاتل، تبدو على المريض أولا أعراض طفيفة من
ذلك ما حدث لي، وأدركت أنه لم يكن توعكا طارئا، وإنما هو أمر جلل، كما أدركت أنه لا
3
من الأرض في حكومة «سمارا»، وثلاثة آلاف جواد، ولكن ماذا بعد هذا؟» ... وتبلبلت
وأحسست أن ما كنت أستند إليه قد انهار، وأني لم أعد أجد لي عمادا، إن ما عشت من أجله لم
•••
آلت حياتي إذن إلى الركون، فكنت أتنفس وآكل وأشرب وأنام، ولم يكن لي بد من ذلك، ولكن لم
كنت إذن رجلا سليم الجسم موفور الثراء، ومع ذلك أحسست أني لا أستطيع مواصلة العيش،
وحل بي كل هذا في وقت كان يحوطني فيه من كل جانب ما يعتبره الناس الحظ الكامل السعيد،
وتبدت لي حالتي العقلية في هذه الصورة: ليست حياتي سوى مهزلة سخيفة يمثلها معي شخص آخر،
وبدا لي - بغير قصد - أن هناك في مكان ما شخصا يلهو بمشاهدة الطريقة التي عشت بها ثلاثين
ولم أدر إن كان ذلك «الشخص» الذي يسخر مني موجودا أو غير موجود، ولم أستطع أن أرى معنى
روي في الأساطير الشرقية من زمان بعيد أن وحشا هائجا أدرك رجلا مسافرا في البيداء،
ولم تعد تخدعني مسرات الحياة الموهومة التي كانت فيما سلف تخفف من فزعي من الأفعى، وكم
ولم أعد أجد حلاوة في قطرتي العسل اللتين حولتا عيني عن الحقيقة المرة أكثر من أي شيء
وفكرت في «الأسرة» وقلت لنفسي إن أسرتي - زوجتي وأطفالي - هم كذلك من البشر، وهم في نفس
ثم فكرت في الفن والشعر، وكانت نفسي - تحت تأثير النجاح والثناء الذي ظفرت به - قد اطمأنت
وليت الأمر وقف عند هذا الحد، فلو أني أدركت أن الحياة تخلو من المعنى واكتفيت بهذا
حقا لقد كان الأمر يدعو إلى الهلع الشديد، ولكي أخلص نفسي من هذا الفزع أردت أن أقتل
•••
وكررت لنفسي هذه العبارة «ولكني ربما سهوت عن شيء أو أسأت الفهم، إذ لا يمكن أن تكون هذه
بحثت في كل العلوم، ولكني لم أظفر بما أردت، بل اقتنعت بأن كل من كان مثلي يبحث في
بحثت في كل مكان، وحيث إني قضيت حياتي في العلم، وحيث إني كنت كذلك شديد الصلة بعالم
وبقيت طويلا لا أستطيع أن أصدق أن العلم لا يجيب عن مشكلة الحياة بأكثر مما يقدم لنا
إن سؤالي الذي حفزني إلى حافة الانتحار وأنا في الخمسين من عمري كان أيسر الأسئلة جميعا،
وأستطيع أن أعبر عن السؤال بصيغة أخرى فأقول: «لماذا ينبغي لي أن أعيش، ولماذا أرغب في أي
وقد بحثت في العلم عن جواب لهذا السؤال الوحيد الذي عبرت عنه بصيغ مختلفة، ووجدت أن
ذلك أن مجموعة من مجموعات العلم لا تعترف بالمشكلة فيما يظهر، ولكنها تجيب بوضوح ودقة عن
وقد شغفت منذ حداثتي بالعلوم المعنوية، وجذبتني العلوم الرياضية والطبيعية فيما بعد، وقد
قلت لنفسي في دائرة العلوم التجريبية: «إن كل شيء يتطور ويتنوع ويسير نحو التعقيد
وفوق كل هذا فإن سؤالي الشخصي «من أكون أنا بما يجيش في نفسي من رغبات؟» بقي بغير جواب،
ونستطيع أن نعبر بوجه عام عن العلاقة بين العلوم التجريبية ومشكلة الحياة بهذه العبارة؛
ثم قلت لنفسي في ميدان العلوم المعنوية «إن الإنسانية كلها تعيش وتتطور على أساس من
ولا بد لي أن أعترف أنه قد مر بي وقت اعتقدت فيه ذلك، وكان ذلك عندما كانت لي مثلي
وكما أن الإنسان - في ميدان المعرفة التجريبية - الذي يبحث مخلصا كيف له أن يعيش لا يمكن
فالعلم التجريبي إذن لا يعطينا سوى المعرفة الإيجابية، ويعرض عظمة العقل الإنساني حينما
وعلى هذا فإني مهما قلبت هذه الإجابات الفلسفية لا أستطيع أن أظفر بما يشبه الجواب، لا
•••
أحسست أثناء بحثي عن جواب لمشكلة الحياة أن مثلي كمثل رجل ضل في غابة، فهو يبلغ رقعة من
وهكذا أخذت أجول في تلك الغابة من معارف الإنسان، وسط أضواء العلوم الرياضية والتجريبية
ولما أسلمت نفسي إلى الجانب المضيء من المعارف أدركت أني إنما كنت أحيد ببصري عن المشكلة،
قلت لنفسي: «إني أعرف ما يصر العلم على كشفه، وليس على امتداد ذلك الطريق جواب عن مشكلة
وفي خلال بحثي عن دائرة واحدة من المعرفة الإنسانية، ظفرت بعدد لا يحصى من الإجابات التي
وترى من هذا الجواب أنه لا يجيب عن السؤال، فأنا أريد أن أعرف معنى حياتي، أما كونها
أما الجانب الآخر من العلم - الجانب المعنوي - فهو حينما يلتزم مبادئه التزاما دقيقا
وفي العلم المعنوي البحت؛ أي في الفلسفة الحقيقية - لا في تلك الفلسفة التي يسميها
قال سقراط وهو يتأهب للموت: «إننا نقترب من الحقيقة كلما أشرفنا على مفارقة الحياة، إذ ما
ويقول شوبنهور: «إذا ما أدركنا أن طبيعة العالم الخفية ليست سوى «الإرادة»، وأن كل مظاهر
ويقول سليمان «باطل الأباطيل - كل شيء باطل، ما فائدة الإنسان من أي عمل يتولاه تحت
قلت في نفسي: الآن انطلق، ولسوف أمتحنك بالمرح، وإذن فلتنعم بمختلف المتع، فكان ذلك
4
هكذا قال سليمان، أو من كتب هذه الكلمات أيا كان.
وهذا ما تحدثنا به الحكمة الهندية:
خرج مرة في عربته «ساكياموني» وهو أمير شاب سعيد، خفي عنه العلم بوجود المرض والشيخوخة
ولم يجد «ساكياموني» في الحياة سلوى، وقرر أن الحياة أعظم الشرور، وكرس كل قواه الروحية
وهذه إذن هي الإجابات المباشرة التي تقدمها لنا الحكمة الإنسانية، إذا وجهنا لها السؤال
يقول سقراط: «إن حياة الجسد شر وأكذوبة، وإذن فتحطيم حياة الجسد نعمة، يجب أن
ويقول شوبنهور: «الحياة هي ما لا ينبغي أن يكون - هي شر، والانتقال إلى العدم هو وحده ما
ويقول سليمان: «كل ما في الحياة - من حماقة وحكمة وثراء وفقر ومرح وحزن - باطل وعدم، يموت
ويقول بوذا: «يستحيل على المرء أن يعيش وهو يدرك أن الألم والضعف والشيخوخة والموت أمور
وما ذكره أصحاب هذه العقول الجبارة فكرت فيه وأحست به وعبرت عنه ملايين الملايين من
وهكذا ترى أن جولتي في العلوم عززت لدي روح اليأس بدلا من أن تحررني منها، فإن ضربا
ولا فائدة من أن يخدع الإنسان نفسه، فالكل باطل! وسعيد من لم يولد: والموت خير من الحياة،
•••
ولما لم أجد في العلم ما يشفي غلتي، بدأت أبحث عن تعليل المشكلة في الحياة نفسها، وتعشمت
وإليكم ما وجدت بين الناس الذين كانوا يشبهونني في تربيتهم وأسلوب حياتهم.
وجدت أن للناس الذين يحيون حياتي أربعة مخارج من المأزق الذي كنا جميعا نتردى
المخرج الأول:
هو الجهل، وهو الجهل بأن الحياة شر عبث، بل وعدم إدراك هذه الحقيقة،
والمخرج الثاني:
هو الأبيقورية، يدرك المرء أن الحياة لا رجاء فيها فيستغل ما بين يديه من
بهذه الطريقة يجعل أكثر الناس من أمثالي حياتهم مستطاعة، وظروفهم تمدهم
هكذا يفكر ويشعر أكثر الناس اليوم ممن يسيرون على أسلوبنا في الحياة، وقد
لم أستطع أن أنهج نهج هذه الفئة، ولما لم أكن مثلهم قاصر الخيال لم أستطع
والمخرج الثالث:
هو القوة والنشاط، إذا ما أدرك الفرد أن الحياة شر وعبث انهال عليها
وقد رأيت أن هذه الوسيلة خير الوسائل للنجاة، وأردت أن أنفذها.
والمخرج الرابع:
هو الضعف، يرى الفرد حقيقة الموقف، ومع ذلك يتشبث بالحياة، وهو يعلم
وهكذا ترى أن أبناء طبقتي من الناس يتفادون التناقض المريع بأربع وسائل، ومهما أعنت الفكر
وما إن أدركته لم أستطع أن أغمض عيني عنه، والوسيلة الثانية أن تضرب في الحياة كما هي دون
وأرى الآن أني لم أنتحر لأني أحسست
وكان الأمر كما يأتي: أدركت بعقلي أن الحياة لا معنى لها، وإذا لم يكن هناك شيء أرقى من
وقلت لنفسي لا شك أن الحياة شر لا معنى له، ومع ذلك فقد عشت وما زلت أعيش، وعاش الناس
إن التفكير الذي يظهر عبث الحياة ليس شاقا أو عسيرا، وقد كان من زمان بعيد مألوفا
إن علمي - تؤيده حكمة الحكماء - قد بين لي أن كل شيء على سطح الأرض - عضوي أو غير عضوي
فخطر لي هذا الخاطر: «ربما كان هناك شيء لم أدركه بعد؟ فهذه هي طريقة الجهال، إنما
لا شيء يمنعنا من إنكار الحياة بالانتحار، إذن فلتقتل نفسك، ولا تجادل بعد هذا، إذا كانت
حقا لسنا نحن - الذين نؤمن بضرورة الانتحار ولا ننفذه - سوى أضعف الناس، وأشدهم
حقا لقد عاش الناس من أقدم العصور التي عرفت شيئا عنها - حينما بدأت الحياة - وهم
منذ أن دبت الحياة في الناس على صورة من الصور وجدوا للحياة معنى، وحيوا تلك الحياة التي
•••
كل هذه الشكوك التي أستطيع الآن أن أعبر عنها بشيء من الدقة لم أستطع في ذلك الحين أن
والتفت إلى الدائرة الضيقة من زملائي فلم أر غير قوم لم يفهموا المشكلة، أو قوم فهموها
ويبدو لي الآن أن من أعجب العجب ومن الأمور التي لا تفهم ولا تصدق أن أستطيع - وأنا
عشت طويلا في هذه الحال الجنونية - وهي حال في الواقع (إن لم يكن باللفظ) نتميز بها خاصة
إن المعرفة العقلية - كما يعرضها العلماء والحكماء - تنكر معنى الحياة، في حين أن
كان إذن موقفي مريعا، فقد عرفت أني لا أستطيع أن أجد شيئا في طريق المعرفة العقلية غير
•••
وهنا ينشأ التناقض، ولم أجد له سوى مخرجين، إما أن يكون ذلك الذي سميته العقل غير معقول -
وحققت الحجج التي تؤيد المعرفة العقلية فألفيتها صحيحة جدا، ولم أجد مناصا من النتيجة
وجلي أن حل جميع مشكلات الحياة الممكنة لا يمكن أن يقنعني؛ لأن سؤالي - برغم أنه بدا
سألت نفسي: «ما معنى حياتي فيما وراء الزمان والمكان
وكنت في تفكيري دائما أوازن (ولم أستطع غير ذلك) بين المحدود والمحدود، أو بين اللامحدود
فكان هذا شبيها بما يحدث في علوم الرياضة، حينما يفكر المرء في حل معادلة فيجد أنه
وفي الحقيقة أن المعرفة العلمية البحتة - تلك المعرفة التي تبدأ كما بدأ ديكارت، بالشك
ولما أدركت هذا أدركت أنه يستحيل على المرء أن يبحث في المعرفة العقلية عن جواب لسؤالي،
ومهما تكن الصيغة التي وضعت فيها سؤالي فإن هذه العلاقة كانت دائما تظهر في الجواب، كيف
ولذا فإلى جانب المعرفة العقلية التي بدت لي كأنها المعرفة الوحيدة، اضطررت إلى الاعتراف
ثم نظرت كذلك إلى أهل البلدان الأخرى، وإلى معاصري، وإلى سابقيهم، فرأيت نفس الشيء،
ومهما يكن ذلك الإيمان، ومهما تكن الإجابات التي يقدمها، وأيا كان الإنسان الذي تقدم
واستعرضت كل ما بذلت من جهد عقلي فأصابني الرعب والفزع، فقد اتضح لي الآن أن المرء لكي
ماذا كنت أفعل عندما كنت أبحث عن الجواب
ثم ماذا كنت أفعل عندما كنت أبحث عن الجواب في المعرفة الفلسفية؟ كنت أدرس آراء أولئك
من أنا؟ جزء من اللانهائي، في هذه الكلمات القليلة تنحصر المشكلة بأسرها.
أمن الجائز أن الإنسانية لم تضع هذا السؤال لنفسها إلا منذ الأمس فقط؟ وهل لم يستطع أحد
لا شك أن هذا السؤال قد وجد مذ نشأ الإنسان، ومن الطبيعي لحل هذا السؤال مذ ظهر الإنسان
ونحن نخضع للبحث المنطقي كل الآراء التي تتعلق بالصلة بين المحدود واللامحدود، أو بإيجاد
ومما يفزع له المرء، بل مما يسخر منه، أننا - كالأطفال - نفكك الساعة أجزاء، فخورين راضين
من الضروري ومما له قيمة كبرى أن نوفق إلى حل للتناقض القائم بين المحدود واللامحدود، وأن
إن فكرة الإله الذي ليس له نهاية، وقدسية الروح، والعلاقة بين الله وشئون البشر، ووحدة
إنني لم أفكر على هذا النمط في ذلك الحين، ولكن جراثيم هذه الأفكار بدأت تدب في نفسي، لقد
•••
أدركت ذلك، غير أن إدراكي له لم يصلح لي الأمور، كنت الآن على استعداد لقبول أي ضرب من
وكان من الطبيعي أن ألتفت أول الأمر إلى العقائد الثابتة التي تسود أبناء طبقتي، وأن
ومع أني تهاونت كثيرا، وتجنبت كل ما يدعو إلى النزاع، فإني لم أستطع أن أقبل عقيدة هؤلاء
وإني لأذكر الشعور الأليم بالخوف من أن أعود إلى حالتي السابقة من اليأس - بعد ذلك الأمل
كلما زادوني إيضاحا عن عقائدهم، اتضحت لي أخطاؤهم، وأدركت أن أملي في أن أجد في
لم ينفرني منهم أنهم في عقائدهم يمزجون كثيرا مما ليس ضروريا أو معقولا بحقائق
ولم تنهض حجة واحدة بإقناعي بصدق إيمانهم، وما كنت لأقتنع إلا بعمل يدل على أنهم يرون في
5
ولم أر قط أحدا من المتظاهرين بالدين يقوم به.
فأدركت أن عقيدة هؤلاء الناس لم تكن ذلك الإيمان الذي كنت أبحث عنه، وأن إيمانهم ليس
وأدركت أن تلك العقيدة قد تنفع كسلوى أو على الأقل كموضوع ينصرف إليه ذهن رجل كسليمان يعض
ولكي تستطيع الإنسانية جمعاء أن تعيش، وأن تواصل العيش وهي تنسب إلى الحياة معنى من
وبدأت أقترب من المؤمنين من الفقراء السذج الأميين: الحجاج والرهبان والطائفيين
وتعلمت أن أحب هؤلاء الناس، وكلما عرفت حياتهم - حياة الأحياء منهم والأموات، ومن قرأت
•••
ولما تذكرت كيف أن هذه العقائد نفسها كانت تنفرني وتبدو لي خلوا من المعنى حينما يقر
ماذا لو أن جلادا يقضي حياته كلها في تعذيب نفسه وحز رقاب الناس - أو لو أن مدمنا على
حقا إن الطائر قد خلق ليطير ويجمع طعامه
إن حياة العالم تسير وفقا لإرادة ما - أقصد أن إرادة ما تحقق غرضها بحياة العالم بأسره
إذا التقطنا من عرض الطريق متسولا جائعا عاري الجسد، وأتينا به إلى بناء يتصل بعمارة
وإذن فإن أولئك الذين يطيعون إرادة مولاهم، أولئك السذج الجهال من العامة، الذين نحسبهم
•••
وقد ساعدني إدراكي للخطأ في المعرفة العقلية على تحرير نفسي من الانزلاق في سبيل التعليل
وفي غضون تلك الفترة حدث لي ما يأتي: في خلال ذلك العام كله حينما كنت أكاد أسأل نفسي في
أقول إن ذلك البحث عن الله لم يكن بالعقل إنما كان بالشعور؛ لأن هذا البحث لم ينشأ عن
وبرغم اقتناعي التام باستحالة البرهان على وجود الله (وقد بين كانت أن هذا البرهان
ولكني كنت أعود بين الحين والحين من نواح متعددة إلى الاعتراف الأول بأني لا يمكن أن أكون
قلت لنفسي «إنه موجود»، واعترفت بذلك لحظة واحدة، ثم دبت في نفسي الحياة فجأة، وأحسست
ولم أبلغ هذه الحالة مرة أو مرتين أو ثلاثا، بل عشرات المرات ومئاتها: أشعر أولا
أذكر أني مرة في باكورة الربيع كنت وحيدا في الغابة أستمع إلى ما يتردد فيها من صوت،
قلت لنفسي: «حسنا، ليس هناك إله، ليس هناك من ليس من خيالي بل حقيقة واقعة كحياتي كلها،
ثم سألت نفسي: «من أين لي فكرتي عن الله، ذلك الذي أبحث عنه؟» وارتفعت في نفسي مرة أخرى
قلت لنفسي: «إن فكرة الإله ليست بالإله، إنما الفكرة شيء يحل بنفسي، وفكرة الله شيء
ولكني عدت وحدقت ببصيرتي في نفسي، وفيما كان يدور بخلدي، وتذكرت تلك المئات من المرات
ما هذا الإحياء وما ذلك الموت؟ إنني لا أعيش إذا فقدت العقيدة في وجود الله، ولولا أنني
«عش باحثا عن الله، وإذن فلن تعيش بدون
ونجوت من الانتحار، ولا أستطيع أن أقول متى أو كيف تم هذا الانقلاب، وكما أن دافع الحياة
وعدت تماما إلى الحالة التي كنت عليها في صباي الباكر وفي شبابي، عدت إلى العقيدة في تلك
إن ما حدث لي شبيه بما يأتي: لكأني وضعت في زورق (ولا أدري متى كان ذلك) دفع بي من ساحل
ذلك الساحل هو الله، وتلك الوجهة هي التقاليد، والمجاديف هي الحرية التي أعطيت لي لكي
•••
انصرفت عن الحياة التي يحياها قرنائي،
إن صلاتي بالإيمان كانت في آخر الأمر شديدة الاختلاف عن صلاتي به في أول الأمر، كانت
واقتنعت نفسي بأن معرفة الإيمان - كالإنسانية كلها وما لديها من عقل - تتدفق من ينبوع
وبناء على التفسير الذي يقول به رجال الدين هؤلاء فإن مجموعة العقائد الأساسية لديننا
الحقيقة تكشف عن نفسها للحب، وإذا لم تخضع لطقوس الكنيسة فإنك تعتدي على الحب، وباعتدائك
Nicene Creed ، وكذلك لم أدرك أن الحب لا يمكن أن يجعل من عبارة معينة تصاغ
وبفضل هذا الجهل استطعت أن أقبل وأن أؤدي كل طقوس الكنيسة الأرثوذكسية دون أن أفهم أكثرها،
وكنت حينما أؤدي طقوس الكنيسة أخضع عقلي وأسلم للتقاليد التي تملكها الإنسانية جمعاء،
•••
كان إذن لزاما علي أن أعتقد في الدين لكي أعيش، فأخفيت عن نفسي -
وأحسست مثل هذا الإحساس فيما يتعلق بالاحتفال بالأعياد الرئيسية، وأتذكر الآن يوم الأحد،
6
وفي هذه الأعياد كنا نقدم القرابين المقدسة، وذلك ما لم أفهمه البتة، أما
وقد حدث لي أكثر ذلك عندما كنت أشترك في الطقوس المألوفة التي تعد ذات أهمية كبرى: مثل
ولن أنسى ما حييت ذلك الشعور الأليم الذي أحسست به في اليوم الذي تلقيت فيه القربان
وأسمح لنفسي الآن أن أقول إنه كان مطلبا قاسيا، ولكني لم أحسبه كذلك في ذلك الحين، إنما
ولم أنقطع عن أداء طقوس الكنيسة، وما برحت أعتقد أن التعاليم التي اتبعتها تنطوي على
كنت أصغي إلى حديث فلاح أمي حاج عن الله والإيمان والحياة والخلاص حينما تكشف لي العلم
ولكني عندما قابلت المعتقدين في الدين من
•••
ولكم غبطت الفلاحين على أميتهم ونقص معارفهم! فإن تلك المزاعم التي تشتملها المذاهب
وهكذا عشت نحو ثلاث سنوات، وفي أول الأمر عندما كان يربطني بالحق رباط واه باعتباري
وبرغم شكوكي وآلامي ما برحت متمسكا بأهداب الكنيسة الأرثوذكسية، ولكن بعض مشاكل الحياة
وهذا الإغراء واضح جدا لنا نحن المتعلمين الذين عشنا في بلاد يعترف فيها بديانات
Filioque
وإما عن البابا فافعلوا ما شئتم،
ووافقني محدثي على رأيي، ولكنه أخبرني أن مثل هذا التسامح يجلب اللوم على أصحاب السلطات
وفهمت كل شيء، أنا أبحث عن الإيمان وعن قوة الحياة، وهم يبحثون عن خير الطرق لأن يؤدوا
7
ثم وجهت نظري إلى ما يعمل باسم الدين واشتد جزعي، وكدت أقسم أن أتخلى عن الأرثوذكسية
والعلاقة الثانية للكنيسة بمسألة من مسائل الحياة هي فيما يتعلق بالحرب والإعدام.
وكانت الروسيا في ذلك الحين في حالة حرب، وبدأ الروس باسم المحبة المسيحية يقتلون
•••
ولم أعد أشك، واقتنعت اقتناعا تاما أن ليس كل ما يتعلق بالدين الذي أعتنقه صادقا،
ولكن من أين جاء الحق ومن أين جاء الباطل؟ إن ما يسمونه التقاليد المقدسة والكتاب المقدس
وسواء رضيت أو لم أرض اضطررت إلى دراسة الكتاب والتقاليد والبحث فيها، وقد كنت حتى آنئذ
ثم اتجهت إلى فحص علوم الدين نفسها التي نبذتها من قبل وازدريتها باعتبارها غير ضرورية،
ولا شك عندي أن في تعاليم الدين شيئا من الصدق. ولكني موقن كذلك أن بها شيئا من الباطل،
8
1879م
كتبت ما سبق منذ نحو ثلاث سنوات وسوف أقوم بطبعه.
والآن منذ بضعة أيام عندما كنت أراجعه، وعندما استعدت سلسلة الفكر والمشاعر التي تملكتني
رأيت أني كنت مستلقيا فوق الفراش، ولم أشعر براحة أو تعب، وكنت مستلقيا على ظهري، ولكني
وبدأت أتلفت حوالي وأنظر قبل كل شيء في الاتجاه الذي كان جسمي معلقا فيه، وفي الناحية التي
ولم أستطع حتى أن أتبين إن كنت أرى شيئا إلى أسفل في تلك الهوة السحيقة التي كنت معلقا
ثم تيقظت.
1882م
Shafi da ba'a sani ba