وكذلك ترى الطبقات الطاغية السعيدة في ممالك هذا العصر تريد أن تلفت الطبقات التعيسة من الجماهير عن سوء حالها، وتشغلها عن حل مسائل الحياة بالحروب، مثل مسألة الشقاء والأمراض والجرائم. ولو بطلت الحروب بين الأمم لاشتدت الحروب بين الطبقات السعيدة والطبقات التعيسة في الأمة الواحدة؛ تلك الحروب التي تؤدي إلى حل مسائل الحياة. ولكن، ويل للأمة التي يتفرغ فيها طبقات أفرادها إلى حل مسائل الحياة؛ فإنها تصير طعمة للأمة التي لا تريد فيها طبقاتها حل تلك المسائل؛ لأن الشقاق في الأولى يكون نهزة تنتهزها الثانية.
وفي الناس من يقول: إن مسائل الفقر والتعاسة والجهل والجوع والأمراض وغيرها من مسائل الحياة لا تحل. وأكبر ظني أن الطبقات السعيدة هي التي تنشر هذا الرأي وتؤيده. ولكن ما يدريني؟! ربما كانوا مصيبين في زعمهم! على أنه لو صح زعمهم وكانت هذه المسائل لا تحل؛ فلا خير في الحياة، فإنما يتحمل المفكر شقاوة الحياة إذا كان له إيمان بالحياة يعينه، مثل أن يرى الحياة جهادا في سبيل تحقيق سعادة أفراد الناس.
ولقد يقول قائل: ولكن كيف تهمني سعادة أفراد الناس في الأجيال القادمة؟ هذا من الذين يعيشون في دائرة لا تتسع لغير مآربهم، ولا يهمهم في الحياة شيء غير سلامة لحمهم وجلدهم وشهوة بطونهم وفروجهم وترفيه ذهنهم. كأن التفكير في الحياة ترفيه الذهن بعد التفرغ من كسب الرزق، وكأنما ليس له لذع مثل لسع الظنابير، وكأن فروض الإيمان فقاقيع ثغر الأطفال، وكأن الكون خلق للفرد من الناس لا أن الفرد خلق للكون.
ظل الموت
يخيل لي في بعض الأحايين أن قد قرب أجلي وحان حيني، فأخشى أن يمنعني الموت من بلوغ آمالي وأطماعي. ولكني أرجع إلى نفسي فأرجو أن أجد في الموت ما لم أجده في الحياة من الطمأنينة والسكينة. وماذا علي إذا عاجلني الموت دون وطر لم أصبه، ومطمح للنفس لم تبلغه، وعرفان لم أعرفه؟ وماذا علي إذا لم تجد الديدان إذا بحثت في رأسي معنى ما اجتبيته أو علما ما درسته؟ وما قيمة الأطماع والأوطار والعلوم والفنون والآداب لدى الموت؟ أليس الموت حقيقة الحقائق؟
غير أن هذا التفكير لا يمنعني من الحزن إذا خيل لي أني سأموت ولا أترك أثرا بعدي خالدا كالخلد وباقيا كالأبد. وفي بعض الأحايين أنظر إلى أطماعي وآمالي وهي ماثلة لدي نظرة الوداع، وأحزن عليها كما أحزن على صديق عزيز تفيض روحه. ثم أرجع إلى نفسي فأقول: أليس من الغرور أن أحزن على ضياع أطماع وآمال يحول دونها الموت؟ وأي الآمال أهل لمثل هذا الحزن؟ على أن الشك في قيمتها لا يقلل من الحزن والأسف عليها.
جعلت أسير يوما عند شاطئ البحر وأخط في الترب رسوما وأشكالا، ورأيت كأن البحر يحاول أن يمحوها، فما زالت أمواجه تغدو وتروح حتى طغت موجة كبيرة عليها فمحتها، فذكرني ذلك حياة المرء، فإن الدهر كالبحر لا يزال بالمرء حتى تطغى عليه موجة من أمواجه؛ فتمحوه كما محت أمواج البحر تلك الرسوم. فالناس أيضا رسوم تمحوها أمواج الدهر، والذي يعيش في آثاره بعد موته عاما كالذي يعيش فيها ألف عام، والذي تمتد شهرته ألف عام كالذي يعيش شهرته مليون عام. ولا تغبط هوميروس أو شكسبير على شهرته؛ فإن شهرة الأول قد امتدت بضع آلاف من السنين، وشهرة الثاني بضع مئات، وهذا شيء حقير إذا قيس بالأبد، فلو كان المرء بعد موته يملأ اسمه الوجود ويبقى خالدا إلى الأبد لجاز تمني مثل هذا الخلد. على أن أمثال هذا التمني غرور وعبث باطل، فإن الذي يعيش باسمه إلى الأبد كالذي يعيش باسمه بعد موته بضع سنين.
وإنما الناس وسائل من وسائل القضاء، لا يهم القضاء سعدوا أم تعسوا، وإنما يهمه أن يعطيه كل امرئ نصيبه من الحياة والقوة والعمل والسعي، فالإنسان في الحياة مثل ...
الخاتمة
كلمة للمؤلف في نقد المعترف
Shafi da ba'a sani ba