وكذلك ما رأيت أحدا ينظر إلي إلا حسبت أنه يحدث نفسه عني بسوء. وإني لأسيء ظني الآن بمن سيقرأ هذا الكتاب، وأزعم أنه سيحدث نفسه قائلا: لو لم يكن مظنة السوء لما خيل له أن الناس تسيء به الظن. ولكن هذا القول ليس من المنطق في شيء، وإن كان معقولا جائزا، ولكن يصح أيضا أن يكون باعث المرء إلى سوء الظن لؤم الناس قاطبة، وليس لؤم نفسه إلا جزءا صغيرا من لؤم الناس. وما رأيت أحدا ينظر في ثيابي إلا حسبته رأى فيها شيئا خفي عني. وما رأيت أحدا ينظر في وجهي إلا حسبته رأى فيه شيئا قذرا. وما رأيت أحدا عابسا إلا حسبته يعبس من أجلي بغضا أو حقدا. وما رأيت أحدا باسما إلا حسبته يسخر مني ويهزأ بي. وما سمعت ضحكا لم أعرف سببه إلا خجلت خجلا شديدا، وحسبتني غرضا لذلك الضحك أرمى به. ومن أجل ذلك صرت أعبس في وجه كل من يبسم في وجهي من الناس، إلا من عرفت سبب ابتسامه. وأحيانا أعرف سبب ابتسامه فلا يمنعني ذلك من إساءة الظن به، فأحسب أنه يظهر غير ما يخفي من سبب ضحكه، وأنه إنما يفعل ذلك مكرا وسخرا. وإني أعتمد كثيرا على حسن رأي الناس في بالرغم من سوء ظني. وأنا أعرف أن سوء ظن الناس بي مثل سوء ظني بهم، ولكن معرفتي ذلك لا تمنعني من الاعتماد على حسن رأيهم، فلا أبرر أعمالي لديهم اعتمادا على حسن ظنهم ورغبتهم في تبرير أعمال الناس.
وإذا أتيت زلة لم أعتذر؛ اعتمادا على كرم الناس وميلهم إلى غفران الزلات، وأنا أعرف أنهم ليس عندهم شيء من كرم النفس. والناس تعد هذا الاعتماد على حسن ظنهم وكرم نفسهم وقاحة وكبرا، كأن صاحب الزلة لا يعبأ بهم، وهذا يزيد نفورهم منه، ولست ألومهم في ذلك، فإني مثلهم، فويل لمن يعتمد على حسن ظني به!
على أني في بعض الأحايين أكره من الصديق أن لا يعتمد على حسن ظني به، ولا ريب في أن هذه مناقضة لتلك، ولكن النفس كلها تناقض.
الفزع من التهم
الفزع من التهم ضرب من سوء الظن والجبن، لقد رأيت في الحلم البارحة أني اتهمت كذبا بإتيان جريمة، ولم يكن عندي ما أدفع به التهمة من الأدلة والشواهد، وصرت أصيح أمام القاضي وأقول: أنا بريء، والقاضي يهز رأسه ولا يصدقني، والشاهد الكاذب يبتسم ابتساما خبيثا، ثم رأيت بعد ذلك، أني أساق للسجن والإعدام. إنه لحلم يفزع ذكره فلا أقدر أن أصفه، غير أني قد استفدت منه أني أحسست ما يكون عليه المتهم البريء المحكوم عليه بالإعدام من اليأس، فيرى أن العدل حلم يغر ويخدع، وأنه خيال جميل تلتمسه اليد فلا تناله. وأحيانا أحس في اليقظة أيضا ما يحسه المتهم البريء، فأحسب أن العدل حلم يغر، وأن الفضيلة خيال جميل.
أي الناس لم يتهم وهو بريء في زمن من أزمان الحياة! إني لأذكر أني اتهمت زورا وبهتانا في أيام صغري بسرقة علبة من علب الحلوى، ولا أزال أذكر ما نالني من الفزع أن تكون الحياة كلها تهم باطلة. ثم سهرت ليلي أبكي وأنتحب من كذب الناس وتهمهم. ألم تتهم أيها القارئ «باطلا» في أيام صغرك بسرقة قطعة من السكر، أو بكسر إناء زخرف، أو بأمثال ذلك من التهم؟ إذن فكيف تتقي أن تتهم غدا باطلا بإتيان أفظع الجرائم وأعظمها؟!
على أنه من جنون اليأس والفزع والجبن توقع ما لم يحدث بعد من المصائب، وقتل النفس بهذا التوقع. فكن كأنك قد ألفت من الناس الكذب والاتهام بالباطل، فلا تعبأ به إذا استطعت إلى ذلك سبيلا، واجعل لك من صبرك جنة تتقي بها الناس، وخذ بقول ابن الرومي:
طامن حشاك فإن دهرك موقع
بك ما تخاف من الأمور وتحذر
فإن قلة الصبر وكثرة الضجر تنأى بالمرء عن كثير من عظائم الأمور وجليلاتها؛ لأن المطلب الجليل والحياة العظيمة تستلزم الصبر، وليس الصبر أن يجهل المرء ما هو فيه أو ما يتوقعه من الضر وأن لا يحسه، بل الصبر أن يعرفه ويحسه، ثم يجد من عظم نفسه ورجولته ما يغريه بالطمأنينة والسكينة، فما أحقر من لا صبر له وما أذله!
Shafi da ba'a sani ba