بسم الله الرحمن الرحيم
وهو حسبي
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن خالويه النحوي: هذا كتاب ذكرت فيه إعراب ثلاثين سورة من المفصل بشرح أصول كل حرف وتلخيص فروعه، وذكرت فيه غريب ما أشكل [منه]، وتبيين مصادره وتثنيه وجمعه؛ ليكون معونة على جميع ما يرد عليك من إعراب القرآن إن شاء الله. وما توفيقنا إلا بالله.
(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)
•"أعوذ" فعل مضارع، علامة مضارعته الهمزة في أوله، وعلامة رفعه ضم آخره. وهو فعل معتل لأن عين الفعل واو، والأصل أعوذ [على مثال أفعل] فاستثقلوا الضمة على الواو، فنقلت إلى العين فصارت أعوذ، وكذلك أقول وأزول، وماكان مثله فهذه علته. فالهمزة في أعوذ إخبار عن النفس، أعوذ أنا. والياء للغائب، يعوذ هو. والتاء للمؤنث الغائبة، تعوذ هي، وللمخاطب الشاهد، تعوذ أنت يا رجل. فإن جعلت الخطاب للمرأة قلت أنت تعوذين يا امرأة؛ فالياء علامة التأنيث، والنون علامة الرفع لأنها تسقط للجزم إذا قلت لم تعوذي، وكذلك للنصب. والنون للمتكلم إذا كان معه غيره نحن نعوذ نحن نقوم. فإذا صرفت الفعل قلت عاذ يعوذ عوذًا
1 / 3
فهو عائذ. فعاذ فعل ماض. ويعوذ فعل مضارع يصلح لزمانين الحال والاستقبال، والماضي لا يصلح إلا لزمان منقض قرب أبو بعد. فإذا دخلت على الفعل المضارع السين أو سوف أزالتاه إلى الاستقبال لا غير. وعوذًا مصدر، وإن شئت قلت عاذ معاذًا وعوذة وعياذًا، كل ذلك صواب. وعائذ اسم الفاعل، واسم المفعول معوذ به، والأمر عذ للمذكر، وعوذي للمؤنث، وعوذا للاثنين، وعوذوا للرجال، وعذن يا نسوة. ومعنى أعوذ [بالله] أعتصم وأمتنع بالله من الشيطان الرجيم.
وينشد:
أنفى لك اللهم عانٍ راغمُ ... مهما تجشمني فإني جاشم
عذت بما عاذ به إبراهم.
يريد به إبراهيم [النبي ﵇]. ومن العرب من يقول إبراهام وكذلك قرأ ابن عامر. وذلك أن إبراهيم اسم أعجمي، فإذا عربته العرب فإنها تخالف بين ألفاظه، ومنهم من يقول إبرهم بغير ألف، قال الشاعر:
نحن آل الله في كعبته ... لم يزل ذاك على عهد ابرهم
وحدثنا محمد عن ثعلب عن سلمة عن الفراء قال: العرب تقول نعوذ بالله من طئه الذليل أي أعوذ بالله من أن يطأني ذليل. ويقال معاذ الله من ذلك، ومعاذة الله من ذلك، وعياذًا بالله من ذلك، وعوذًا بالله من ذلك، وعائذًا بالله
1 / 4
من ذلك، معناه أعوذ بالله من ذلك. [وروى عن الحسن البصري أنه قرأ "وقل رب عائذًا بك من همزات الشياطين وعائذًا بك رب أن يحضرون".]
فأما قول العرب: أطيب اللحم ما أكل عن عوذه، يريدون ما أكل عن العظم، والعوذة ما عاذ من الريح بشجرة أو غيرها. فأما الذي حدثني ابن مجاهد عن السمري عن الفراء أن العرب تضرب مثلا وأول من قاله سليك بن السلكه: "اللهم إني أعوذ بك من الخيبة، فأما الهيبة فلا هيبة" فالخيبة الفقر. ومعنى لا هيبة أي لا أهاب أحدا.
•"بالله" جر بباء الصفة وهي زائدة؛ لأنك تقول الله فتسقط الباء. وحروف الزوائد في صدور الأسماء ثلاثة اللام والكاف والباء. فالكاف للتشبيه، واللام للملك، والباء للاتصال وللصوق. وموضع الباء نصب لأنها قد حلت محل مفعول. وعلامة جره كسرة الهاء. والأصل أعوذ بالإله، فحذفوا الهمزة اختصارا وأدغموا اللام في اللام، فالتشديد من أجل ذلك؛ كما قال تعالى: (لكنا هو الله ربي). الأصل لكن أنا، فحذفوا الهمزة اختصارا، وأدغموا النون في النون. قال الشاعر:
وترمينني بالطرف أي أنت مذنب ... وتقلينني لكن إياك لا أقلي
1 / 5
[أراد: لكن أنا] يخاطب امرأة. فإن قيل لم شددت اللام؟ فقل للإدغام، وذلك أن الإدغام [في الكلام] على ضربين لقرب المخرجين وتجانس الحرفين. فإن قيل لم لم ينون،؟ فقل لدخول الألف واللام؛ لأن التنوين والإضافة والألف واللام من دلائل الأسماء، فكل واحد منها يعاقب صاحبيه.
•"من" حرف جر، وهي لمبتدأ الغاية، كما أن «إلى» لمنتهى الغاية. فإذا قلت: لزيد من الحائط إلى الحائط، فقد بينت به طرفى ما له لأنك ابتدأت بمن وانتهيت بإلى؛ وكذلك خرجت من العراق إلى مكة.
حدثني المحمدان النحوي واللغوي عن ثعلب قال: إذا قال الرجل: لزيد علي من واحد إلى عشرة فجائز أن يكون عليه ثمانية إذا أخرجت الحدين، وجائز أن يكون عليه عشرة إذا أدخلت الحدين معا، وجائز أن يكون عليه تسعة إذا أخرجت حدا وأدخلت حدا.
•"الشيطان": جر بمن، علامة جره كسرة النون. فإذن قيل لك لم شددت الشين، فقل أدغمت فيها اللام. واللام تدغم في أربعة عشر حرفا: في التاء والثاء والدال والذال والراء والزاي والسين والشين والصاد والضاد والطاء والظاء واللام والنون. وإنما صارت اللام تدغم في أربعة عشر حرفا وهي نصف حروف المعجم لأنها أوسع الحروف مخرجا، وهي تخرج من حافة اللسان من أدناه إلى منتهى طرف اللسان
1 / 6
وفويق الضاحك والناب والرباعية والثنية. فلما اتسعت في الغم وقربت من الحروف أدغمت فيها، فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى. حافة اللسان طرفه وجمعها حيف. حدثني بذلك محمد بن أبي هاشم عن ثعلب عن ابن الأعرابي. فإن قيل: لم فتحت النون في قولك من الشيطان وكسرت النون في قولك عن الشيطان؟ فالجواب في ذلك أن النون حركت فيهما لالتقاء الساكنين، غير أنهم اختاروا الفتح في «من» لانكسار الميم، واختاروا الكسر في «عن» لانفتاح العين. فأما قولهم إن الله أمكنني من فلان، فإنهم كسروا النون مع الهمزة لقلة استعمالهم إياه.
والشيطان يكون فعلان من شاط يشيط بقلب ابن آدم وأشاطه أي أهلكه، ومن شاط بقلبه أي مال به، ويكون فيعالا من شطن أي بعد كأنه عن الخير؛ كما أنه سمي إبليس لأنه أبلس من رحمة الله أي يئس، وكان اسمه عزازيل. يقال دار شطون أي بعيدة، ونوى شطون؛ قال الشاعر:
أيما شاطن عصاه عكاه ... في وثاق السجون والأغلال
معنى عكاه شده. يعني بذلك سليمان بن داود ﵇. وكل متمرد من الناس وغيرهم [يقال له] شيطان؛ قال الله ﵎: (وإذا خلوا إلى شياطينهم) أي إلى رؤساء المنافقين والكفار من اليهود. وأما قوله تعالى: (طلعها كأنه رؤوس الشياطين) فقيل الحيات، وقيل الجن. وأما قول شبيب بن البرصاء:
1 / 7
نوى شطنتهم عن هوانا وهيجت ... لنا طربا إن الخطوب تهيج
فمعنى شطنتهم خالفت بهم وبعدت ويقال بئر شطون أي عوجاء فيها عوج، فيستقى منها بشطنين أي بحبلين.
• "الرجيم" [جر] نعت للشيطان، علامة جره كسرة الميم، ولم تنونه لدخول الألف واللام. وشددت الراء لإدغام اللام فيها. فإن سأل سائل فقال الشيطان رَجَم أو رُجِم؟ فقل لا بل رجم، والأصل من الشيطان المرجوم؛ كما قال:
رُجْمَ به الشيطان في هوائه
فصرف [من] مفعول إلى فعيل لأن الياء أخف من الواو، كما يقال كف خضيب والأصل مخضوبة، ولحية دهين والأصل مدهونة، ورجل جريح وصريع، كل ذلك أصله الواو لأنه مفعول. والمرجوم في اللغة الملعون المطرود، فلعنه الله معناه طرده [الله] وأبعده، قال الشماخ:
وماء قد وردت لوصل أروى ... عليه الطير كالورق اللجين
ذعرت به القطا ونفيت عنه ... مقام الذئب كالرجل اللعين
اللعين نعت للذئب في قول سلمة. والرجم أيضا القتل؛ كقوله ﷿: (لنرجمنكم) والرجم الشتم والرجم بالحجارة؛ ومنه رجم المحصنات والمحصنين إذا زنوا. وقال رسول الله ﷺ: "ما من نفس مولود يولد إلا والشيطان ينال منه تلك الطعنة، ولها يستهل الصبي [صارخا] إلا كان من مريم بنة عمران فإنها لما
1 / 8
وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم، فضرب دونها حجاب فطعن فيه. وإن المسيح لما ولد حفت به الملائكة فلم ينهزه إبليس وصارت الشياطين إليه فقالوا: قد نكست الأصنام رءوسها، فقال: قد حدث أمر عظيم، فضرب خافقي الأرض وأتى البحار فلم يجد شيئًا ثم وجد المسيح - صلى الله عليه - قد ولد فقال: "قد ولد نبي" صلى الله عليه.
(بسم الله الرحمن الرحيم)
• "بسم" جر بباء الصفة وهي زائدة. فإن قيل: ما موضع الباء من بسم الله؟ ففي ذلك ثلاثة أجوبة: قال الكسائي: لا موضع للباء، لأنها أداة. وقال الفراء: موضع الباء نصب على تقدير أقول [بسم الله أو قل بسم الله]. وقال البصريون: موضع الباء رفع بالابتداء أو بخبر الابتداء، فكأن التقدير أول كلامي [باسم الله، أو باسم الله أول كلامي]. قال الشاعر:
تسألنى عن بعلها أي فتى ... خب جبان فإذا جاع بكى
أي هو [خب] جبان، وأي فتى هو. وقال الله تعالى وتبارك: (بشر من ذلكم النار) أي هي النار. وعلامة الجر في "بسم" كسرة الميم، ولم تنونه لأنه مضاف. فإن قيل لك: لم لم تنون المضاف؟ فقل: لأن الإضافة زائدة والتنوين زائد، ولا يجمع بين زائدين. فإن قيل: لم أسقطت الألف من بسم والأصل باسم؟ فقل: لأنها
1 / 9
كثرت على ألسنة العرب عند الأكل والشرب والقيام والقعود، فحذفت الألف اختصارا من الخط لأنها ألف وصل ساقطة في اللفظ، فإن ذكرت اسما من أسماء الله ﷿ وقد أضفت إليه الاسم لم تحذف الألف لقلة الاستعمال، نحو قولك باسم الرب، وباسم العزيز. فإن أتيت بحرف سوى الباء أثبت أيضا الألف نحو قولك لاسم الله حلاوة في القلوب، وليس اسم كاسم الله، وكذلك باسم الرحمن، وباسم الجليل، و"اقرأ باسم ربك الذي خلق". فإذا أسقطت الباء كان ذلك في الاسم أربع لغات: اِسم وسِم واُسم وسُم. قال الشاعر:
أرسل فيها بازلا لا نعدمه ... باسم الذي في كل سورة سمه
قد وردت على طريق تعلمه.
وقال آخر:
وعامنا أعجبنا مقدمه ... يدعى أبا السمح وقرضاب سمه
القرضاب اللص. فمن قال اسم وسم أخذه من سمى يسمى مثل علي يعلى
ومن قال اسم وسم أخذه من سما يسمو، وكلاهما معناه العلو والارتفاع.
فإن سأل سائل فقال: لم أدخلت الباء في بسم وهي لا تكون إلا صلة لشيء قبلها؟ فالجواب في ذلك أن الله ﵎ أدب نبيه ﷺ أن يقدم اسمه
1 / 10
عند كل أخذ في عمل ومفتتح كل كلام تبركا باسمه جل وعز، فكان التقدير قل يا محمد باسم الله.
والألِفُ في اسم الله ألف وصل تسقط في التصغير إذا قلت سُمَى.
فإن قال قائلٌ: الأسماء لا تتصرف وإنما التصرف للأفعال كقولك ضرب يضرب ضربًا، فلم قالت العرب بسمل يبسمل بسملة؟ فالجواب في ذلك أنّ هذه الأسماء مشتقة من الأفعال، فصارت الباء كبعض حروفه إذ كانت لا تفارقه وقد كثرت صحبتها له؛ قال الشاعر:
لقد بسملت ليلى غداة لقيتُها ... فيا حبذا ذاك الحبيبُ المبسمِلُ
ومن ذلك قولهم: قد هيلل الرجل إذا قال لا إله إلا الله، وقد حولقَ إذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله، وقد حيعل إذا قال حي على الصلاة، وقد حمدل إذا قال الحمدُ لله، وقد أكثر من الجعفلة أي من قول جعلني الله فداك.
•واسم "الله" جر بإضافة الاسم إليه، والأصل باسم الإله؛ قال عبد الله بن رواحة:
باسم الإله وبه بدينا ... ولو عبدنا غيره شقينا
وحبذا ربًا وحب دينا
فحذفت الهمزة اختصارًا وأدغمت اللام في اللام، فالتشديد من جلل ذلك، ولم تُنَوِّنْ ذلك لدخول الألف واللام.
1 / 11
وسمعتُ أبا علي النحوي يقول: اسم الله تعالى مشتق من تألُّهِ الخَلق إليه، أي فقرهم وحاجتهم إليه. وقال آخرون في قوله تعالى: (وإلهكم إله واحد لا إله هو الرحمن الرحيم) إن الألوهية اعتباد الخلق، أي الذي يستحق أن يعبد معبود واحدٌ؛ لأنَّ الذين تعبدون خلق مثلكم من خلق إلهكم. والواحد الذي لا مثلَ له ولا [شبيه] له، كما تقول: فلان واحد في الناس. وقال آخرون: معنى الوحدانية انفرادُه عن الأشياء كلها غير داخل في الأشياء جل الله وعلا.
•"الرحمن الرحيم": جران صفتان لله تعالى، علامة جرهما كسرة النون والميم. وشددت الراء فيهما لأنك قلبت من اللام راء وأدغمت الراء في الراء. فإن سأل سائل فقال: إنما أدغمت [اللام في الراء لقرب المخرجين، فهل يجوز إدغام] الراء في اللام نحو «استغفر لهم»؟ فقل لا؛ وذلك أن سيبويه وغيره من البصريين لا يجيزون إدغام الراء في اللام نحو اخترليطة؛ لأن الراء حرف فيه تكرير، فكأنه إذا أدغمه فقد أدغم حرفًا مشددًا نحو "مس سقر"، و"أحل لكم ما وراء ذلكم" وإدغام المشدد فيما بعده خطأ بإجماع. فأما ما رواه اليزيدي عن أبي عمرو: «استغفر لهم»، «واصطبر لعبادته» و[نحو ذلك]، فكان ابن مجاهد يضعفه لرداءته
1 / 12
في العربية، ولأن الرواية الصحيحة عن أبي عمرو الإظهار لأنه رأس البصريين، فلم يك ليجتمع أهل البصرة على شيء وسيدهم على ضده. وكان الفراء يجيز إدغام الراء في اللام كما يجيز إدغام اللام في الراء.
واسم الله عزوجل قُدم على الرحمن؛ لأنه اسم لا ينبغي إلا لله جل ثناؤه. وقيل في قوله تعالى: (هل تعلم له سميا) أي هل تعرف في السهل والجبل والبر والبحر والمشرق والمغرب أحدًا اسمه الله [غير الله] ﷿. وقيل: هو اسمه الأعظم، وقيل اسمه الأعظم ياذا الجلال والإكرام، وقيل يا حي يا قيوم.
وقدم الرحمن على الرحيم لأن الرحمن اسم خاص لله، والرحيم اسم مشترك، يقال: رجل رحيم، ولا يقال رحمن، فقدم الخاص على العام. وقال ابن عباس: الرحمن الرحيم اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر. وقال آخرون: الرحمن أمدح، والرحيم أرق، [فرحيم] كما تقول لطيف. وقال أبو عبيدة: رحيم ورحمن لغتان، فرحيم فعيل [من الرحمة]، ورحمن فعلان من الرحمة. قال: وذلك لاتساع اللغة عندهم، كما تقول نديم وندمان بمعنى، وأنشد:
وندمانٍ يزيد الكأس طيبا ... سقيت وقد تغورتِ النجومُ
وقال آخرون: رحمن بالعبرانية رخمان، وأنشدوا بيت جرير:
أو تتركون إلى القسين هجرتكم ... ومسحكم صلبهم رخمان قربانا
1 / 13
والذي أذهب إليه أن هذه الأسماء كلها صفات لله ﵎، وثناء عليه وهي الأسماء الحسنى؛ كما قال الله: (ولله الأسماء الحسنة فادعوه بها)، فسُئل النبي ﷺ عنها فقال: «تسعة وتسعون اسما من أحصاها دخل الجنة». وقد بينتها في كتاب مفردٍ، واشتقاق كل اسم منها ومعناه. لأني قد تحريتُ في هذا الكتاب الاختصار والإيجاز ما وجدت إليه سبيلا، ليتعجل الانتفاع به ويسهل حفظه [على من أراده]. وما توفيقي إلا بالله [عليه توكلت].
ذكر فائدة في بسم الله:
أما قوله تعالى: (وقال اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها) هذا مما حكى الله ﵎ عن نبي من أنبيائه وصفي من أصفيائه تقديمه اسم الله قبل ركوبه وأخذه في كل عمل. فمجراها ومرساها رفع بالابتداء، وبسم الله خبره، ومعناه التقديم والتأخير، والتقدير إجراؤها وإرساؤها بسم الله. فعلى هذا التمام عند مرساها. ويجوز أن يجعل بسم الله كلامًا تامًا كما قيل في نحر البدن (فاذكروا اسم الله عليها صواف)، فيكون مجراها ومرساها في موضع نصب. فأما قراءة مجاهد [التي حدثني ابن مجاهد عن السمري عن الفراء أن مجاهدًا] قرأ «باسم الله مجريها ومرسيها» فجعلها صفتين لله تعالى فموضعهما جر. قال الفراء: ويجوز أن يجعلهما في قراءة مجاهد نصبًا على الحال. يريد المجريها والمرسيها. فلما خزلت الألف واللام نصبهما على الحال
1 / 14
والقطع. قال: ومثل هذا مما لفظه معرفة ومعناه الانفصال والتنكير قوله [﷿]: (هذا عارض ممطرنا) معناه ممطر لنا، كما قال جرير:
يارب غابطنا لو كان يأملكم ... لاقى مباعدة منكم وحرمانا
ذكر فائدة أخرى:
اعلم أن بسم الله الرحمن الرحيم آية من سورة الحمد وآية من أوائل كل سورة في مذهب الشافعي، وليست آية في [كل] ذلك عند مالك؛ وعند الباقين هي آية من أول أم الكتاب وليست آية في غير ذلك. وقد ذكرنا الاحتجاج في ذلك في كتاب شرح أسماء الله جل وعز. فأما القراء السبعة فيثبتون بسم الله الرحمن الرحيم في أول كل سورة إلا في براءة ما خلا أبا عمرو وحمزة فإنهما كانا لا يفصلان بين السورتين ببسم الله الرحمن الرحيم. حدثني أبو سعيد الحافظ قال حدثني أبو بكر النيسابوري قال سمعت الربيع يقول سمعت الشافعي يقول: أول الحمد بسم الله الرحمن الرحيم وأول البقرة الم. وكل ما ذكرت من اختلاف العلماء والقراءة فقد رويت عن رسول الله ﷺ. والذي صح عندي فمذهب الشافعي [﵀] وإليه أذهب.
1 / 15
ذكر فائدةٍ أخرى في بسم الله:
إن سأل سائل فقال: لم كسرت الباء في بسم الله؟ فالجواب في ذلك أنهم لما وجدوا الباء حرفًا واحدًا وعملها الجر ألزموها حركة عملها.
إعراب أم القرآن ومعانيها
قال أبو عبد الله: سميت سورة الحمد المثاني لأنها تُثَنَّى في كل ركعة، قال الله ﵎: (ولقد آتيناك سبعا من المثاني) قيل الحمد، وقيل [المثاني] القرآن كله، وقيل المثاني ما بعد المائتين. قال الله ﵎: (مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون) وسمي القرآن مثاني لأنه تثنى فيه القصص والأنبياء. وأما قول شبيب بن البرصاء:
فلا وصل إلا أن تقارب بيننا ... قلائص يجذبن المثاني عوج
فإن الأزِمّةَ يقال لها المثاني، الواحدة مَثْنَاةٌ. وعوج: اعوجت من الهزال [وكثرة الترحال].
قال أبو عبد الله: وسميت أم القرآن لأنها أول كل ختمة ومبتدؤها، ويسمى أصل الشيء أما. قال الله ﷿: (وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) أي في أصل الكتاب وهو اللوح المحفوظ. وروى عن عرباض بن سارية السلمي قال سمعت رسول الله ﷺ، يقول: "إني عبد الله في أم الكتاب وخاتم النبين وإن آدم لمنجدل في طينته وسوف أنبئكم بتأويل ذلك: أنا دعوة
1 / 16
أبي إبراهيم، وبشارة عيسى ورؤيا أمي". وأم الرأس مجتمع الدماغ. وقوله ﵎: (فأمه هاوية) لأن الكافر إذا دخل النار فصارت مأواه كانت أما له كالطفل الذي يأوي إلى أمه وكالبهائم التي لا تكون إلا مع الأمات. فجمع الأم في البهائم أمات، وفي الناس أمها. وأنشد:
لقد آليت أغدر في جَداع ... وإن منيت أمات الرباع
[بأن الغدر بالأقوام عار ... وأن المرء يجزأ بالكراع]
وقال آخرون: أمهات واحدتها أُمَّهَةٌ، وأنشدوا:
أمهتي خندف والياس أبي ... حيدة خالي ولقيط وعدي
وحاتم الطائي وهاب المئي
1 / 17
ويقال: إن المؤمن إذا فارق الدنيا التقى مع إخوانه [وجيرانه في حياته] فرحبوا به، وقيل: إنك أتيت من دار الشقاء فنعموه، فيقول: أين فلان؟ فيقال: فلان صار إلى أمه الهاوية. وقال الفراء: العرب تقول هذه أمي، وهذه أمٌ وأُمه، فمن أثبت الهاء في الواحد جمعه على أمهات.
ويقال: سميت فاتحة الكتاب لأنها تفتتح عند كل ركعة. قال ابن عرفة سمعت ثعلبا يقول: سميت الحمد المثاني لأنها تثنى في كل ركعة، وأنشد:
حلفت لها بطه والمثاني ... لقد درست كما درس الكتاب
قال: وحدثنا شعيب بن أيوب قال حدثنا معاوية بن هشام عن سفيان عن ابن جريج عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: المثاني فاتحة الكتاب، وهي سبع آيات إحداهن بسم الله الرحمن الرحيم.
•ف "الحمد" رفع بالابتداء علامة رفعه ضم آخره. فإن قيل: لم رفع الابتداء؟ فقل: لأن الابتداء أول الكلام والرفع أول الإعراب فأتبع الأولُ الأولَ. وقرأ الحسن ورؤبة «الحمدِ للهِ» بكسر الدال، أتبعا الكسرَ الكسرَ؛ وذلك أن الدال مضمومة وبعدها لام الإضافة مكسورة، فكرهوا أن يخرجوا من ضم إلى كسر، [فأتبعوا الكسر الكسر]. وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة «الحمد لله» بضم اللام أتبع
1 / 18
الضم الضم، كما أتبع أولئك الكسر الكسر، ويجوز في النحو الحمدَ لله بفتح الدال وقد رُويت عن الحسن أيضًا تجعله مصدرًا لحمدتُ أحمدُ حمدًا فأنا حامدٌ. ودخلت الألف واللام في المصدر تخصيصًا، كما تقول النجا النجا أي انج انج. قال الله ﵎: (فضرب الرقاب)، أي اضربوا. وقرأ عيسى بن عمر: (فصبرًا جميلًا) أي فاصبروا صبرا. قال الشاعر:
يشكو إلى جملي طول السُّرى ... صبرًا جميلًا فكلانا مبتلَى
وقال العَجَّاج:
أطربا وأنت قنسري ... والدهر بالإنسان دواري
أفني القرون وهو قعسري
أي أتطرب وأنت شيخ!. وهذه الوجوه الأربعة في الحمد وإن كانت سائغة في العربية، فإني سمعت ابن مجاهد يقول: لا يُقرأ بشيء من ذلك إلا بما عليه الناسُ في كل مصرٍ الحمدُ للهِ، بضم الدال وكسر اللام.
ومعنى الحمد لله: الشكر لله، وبينهما فصل؛ وذلك أن الشكر لا يكون إلا مكافأة كأن رجلا أحسن إليك فتقول: شكرت [له] فعله، ولا تقول حمدت له. والحمد الثناء على الرجل بشجاعة أو سخاء؛ فالشكر يوضع موضع الحمد والحمد لا يوضع موضع
1 / 19
الشكر، ويقال أحمدت الرجل إذا أصبته محمودًا. وحدثني ابن مجاهد عن السمري عن الفراء، قال: [يقال:] شكرت لك وشكرتك وشكرت بك [بالباء]، كما يقال كفرت بك؛ وهذا الأخير نادرٌ، والأولى [هي] اللغة الفصحى.
حدثنا محمد بن حفص قال حدثنا أحمد بن الضحاك، قال حدثنا نصر بن حماد قال حدثنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت قال سمعت سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ: "أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الحامدون الذين يحمدون الله في السراء والضراء". وقال أحد أصحاب رسول الله ﷺ: أفضل الدعاء الحمد لله؛ لأنه يجمع ثلاثة أشياء: ثناء على الله، وشكرًا، وذكرًا له.
• "لله": جر باللام الزائدة؛ لأن الأصل الله بلامين ثم دخلت لام الملك وتسمى لام التحقيق أي استحق الله الحمد؛ فاللام الأولى لامُ الملك، والثانيةُ دخلت مع الألف للتعريف، والثالثة لام سنخية؛ وذلك لأن الأصل لاه، قال الشاعر:
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب ... عني ولا أنت دياني فتخزوني
أي تسوسني وتقهرني.
ولا تقوت عيالي يوم مسغبة ... ولا بنفسك في العزا تؤاسيني
1 / 20
ثم دخلت الألف واللام. ففي لله ثلاث لامات كما أخبرتك، غير أن الخط بلامين كراهية لاجتماع ثلاث صور. وذلك أن العرب لا تكاد تجمع بين صورتين حتى يدغموا، فكانوا للثلاثة أشد استثقالا. وعلامة جره كسرة الهاء. ولله خبر الابتداء. فإن قدمت أو أخرت فالإعراب والمعنى سواء، لله الحمد، والحمد لله؛ كمال قال الله تعالى:
(والأمر يومئذ لله) وقال في موضع آخر: (لله الأمر من قبل ومن بعد).
• "رَبِّ": جر نعت لله أو بدل منه. والرب في اللغة السيد والمالك. وشددت الباء لأنهما باءانِ من رببت. ورب اسم مشترك، يقال: [رب الضيعة و] رب الدار، ولا يقال الرب بالألف واللام إلا لله تعالى. ورب أيضًا مصدرٌ من قولك: رببت الشيء فأنا أربه ربًا. والعرب تقول: رببته وربَّبته وربيته بمعنى واحد؛ وأنشد:
ربيته حتى إذا تمعددا ... كان جزائي بالعصا أن أجلدا
[تمعدد: أي تشدد].
وقال الفراء: يقال رب ورب [بتشديد الباء وتخفيفها]؛ وأنشد:
وقد علم الأقوام أن ليس فوقه ... رب غير من يُعطي الحظوظ ويرزق
• "العالمين" جر بالإضافة، علامة جره الياء التي قبل النون. وفي الياء ثلاث علامات: علامة الجر، وعلامة الجمع، وعلامة التذكير، وفتحت النون لالتقاء
1 / 21
الساكنين، [وهما النون والياء، ونون الجمع إذا كان الجمع جمع سلامة على هجاءين مفتوحة أبدًا، ونون الاثنين مكسورة أبدًا للفرق بينهما]. والعالمين جمع واحدهم عالم، والعالم جمع أيضًا لا واحد له من لفظه، وواحده من غير لفظه رجل أو فرس أو امرأةٌ أو غير ذلك؛ قال الشاعر:
فخندف هامة هذا العالم
[وقال آخرون: العالم لا واحد من لفظه، ولا من غير لفظه؛ لأنه جمع لأشياء مختلفة. وحدثنا ابن مجاهد عن السمري عن الفراء قال: العالم يقع على الناس والملائكة والجن].
• "الرحمنِ": جرُّ صفةٌ لله تعالى.
• "الرحيم": جرُّ صفةٌ لله [﷿]. فإن سأل سائل [فقال]: إذا جعلت بسم الله الرحمن الرحيم آية من أم الكتاب فما وجه التكرير؟ فالجواب في ذلك أن الآية إذا ذكرت مع الزيادة فائدة لم تسم تكريرا.
• "ملك يوم الدين": مالك جر نعت لله [علامة جره كسرة في آخره].
وفي ملك لغات أحسنها مَلِكٌ ومالِكٌ وقد رُويتا جميعًا عن النبي ﷺ، وذلك أن أعربيا جاء إلى رسول الله ﷺ، فشكا إليه امرأته، فقال:
إليكَ أشكو ذربة من الذرب ... يا مالك الملك وديان العرب
1 / 22