توقفت بغتة وإذا بكلمة «حبها» تتراجع كالأصداء في جميع أنحاء قلبي مخيفة مروعة، «حبها؟» وماذا فعلت لأستحقه؟ هي لا تعرفني إلا قليلا، وإذا استطاعت أن تحبني فعلي مصارحتها بأني لست أهلا لتلك النعمة. وأخذت أفكاري وآمالي تتصاعد في جو نفسي ثم تهبط يائسة كأطيار تحاول التحليق في بعيد السماء وهي تجهل أن الأسلاك ضربت حولها سياجا محكما. إن لم تكن هذه السعادة سعادتي، فلماذا تحل على مقربة مني؟ ألا يصنع الله العجائب؟ ألا يصنعها كل يوم وكل ساعة؟ ألم يصغ إلى صلواتي مرارا أرسلتها نحو علاه فعادت إلي تحمل مساعدة للمنكوب وتعزية للمضني؟ أنا وهي لا ننشد خيرا دنيويا، إلا أن نفسينا المتفاهمتين تودان عبور هذه الحياة يدا بيد ووجها إزاء وجه ، وأن أكون أنا عضدها في آلامها وأن تكون هي تعزيتي أو حملي الغالي، وهكذا إلى نهاية العمر. ولماذا لا يمد الله بعمرها وينعم عليها من أيامها بربيع بعد أوان الربيع ويبرئ سقامها؟ آه! يا للصور العذبة تمر أمام عيني! هي تملك قصر والدتها في «التيرول». هناك نمكث فوق الآكام الخضراء في هواء الجبال النقي بين أصحاء لم تضعفهم المدنية، بعيدا عن هموم العالم وجهوده حيث لا حاسد ولا عذول. هناك ندرك بسلام غروب الحياة فتذوب أيامنا الأخيرة رويدا رويدا كاحمرار الشفق لدى هجوم الظلام ...
تراءت لي البحيرة القاتمة بأمواجها الهادئة ترجع صورة الجبال البعيدة يجلل الثلج أعاليها. وسمعت رنين أجراس القطيع وأغاني الرعاة، وخلت الشيوخ والشبان متجمعين عند المساء في مدخل القرية، وفوق هؤلاء جميعا لمحت خيال الفتاة سابحا كملك حب وسلام، ورأيتني دليلا لها وصديقا.
عندئذ صرخت بأعلى صوتي: «يا لك من غبي! يا لك من غبي! أخارت قواك وذل شممك، وبلغ بك الحمق والغرور هذا المبلغ؟ ألا تيقظ وانهض، واذكر من أنت واذكر فروقا تحول بينك وبينها! هي صالحة لطيفة تسر برؤية نفسها منعكسة على مرآة نفس أخرى. غير أن ثقتها هذه الشبيهة بثقة الأطفال، وكيفية تصرفها معك ومعاملتها لك، كلها تنم عن خلو فؤادها من عاطفة عميقة تحييك. ألم تر في ليالي الصيف المنيرة وأنت تائه وحدك بين أحراج الزان كيف يسكب البدر فضي أشعته على كل غصن وكل ورقة، ويضيء بركة الأسماء ذات المياه القاتمة فيشرق ممثلا في كل قطرة وجزء من قطرة؟ ذاك موقف الفتاة إزاء ليل هذه الحياة، ولئن نشرت في فؤادك نورا ترتسم خلاله خطوط صورتها المأنوسة فلا ترج شعاعا، لا ترج شعاعا حارا لاذعا! لا ترج عاطفة حارة تشبعك وتحييك!»
مثلت صورتها أمامي مثول الحياة ليس كذكرى بل كرؤيا، فاستوقفني جمالها. ذلك لم يكن جمال الرونق الزاهي الذي تفتننا به الفتاة الحسناء لأول نظرة ثم ينقضي ويزول بزوال الربيع. بل كان جمال الانسجام والالتئام بين أجزاء كيانها، وجمال الحركة الصادقة والتعبير الروحي ، ومعنى السكون المقيم. إن جمال الشكل واللون الذي تمنحه الطبيعة بنات حواء لا يرضي إلا إذا أظهرت صاحبته أهلية له بل وتغلبا عليه. وإلا فهو يغضب ويسخط كأنه رداء ملكي تجره في المسرح ممثلة ذات فن خامل سقيم. الجمال الروحي هو الجمال الوحيد يمد الصورة الترابية الجامدة بالحياة والمعنى ويصير المنفر جذابا والقبيح مليحا.
كلما أمعنت النظر في طيف الحبيبة أدركت منها نبل الجمال وعمق الروح كأن الوحي بذلك الجمال يهبط علي بالتدريج. أواه إنها لغبطة، إنها لسعادة تلمس يدي! وما غاية الزمن من تعذيبي؟ أيريني قمة الهناء ثم يلقي بي غدرا في القفار حيث الرمال المحرقة والوحدة الموجعة؟ ما الغاية من اكتشاف كنوز تحويها أرضنا هذه؟ أليس دوام الشقاء خيرا من أن يحب المرء مرة ثم يبقى إلى الأبد وحيدا، ويرجو يوما ليسحق اليأس قلبه دواما، ويلمح النور طرفه ليصرف حياته في الظلمات كفيفا؟ هذا ألم يفوق الآلام البشرية مجموعة بتمامها.
طال تشتت أفكاري وتتابعها المشوش المختل، إلى أن هدأت عاطفة شعوري وتجمعت خواطري وانتظمت قليلا قليلا. يسمي الناس هذا الخمود تفكيرا ولكن التفكير في مثل ذلك محال وما لدينا من قوة سوى الترقب والانتظار. وما هي نتيجة هذا وذاك؟ هي تلك التي يشهدها الكيماوي بعد أن تتخذ العناصر أشكالها فيذهله أن نتائج التحليل تختلف عن مقدماته الاختلاف كله.
كذلك كانت الكلمة التي لفظتها بعد العودة من غيبوبتي هي هذه «يجب أن أسافر»! فجلست إلى مكتبي وكتبت إلى الطبيب إني سأغيب أسبوعين وإني أترك الأمر له. ثم انتحلت عذرا قدمته لأبوي وغادرت البلدة في ذلك المساء ووجهتي جبال «التيرول».
الفصل السابع
الذكرى السابعة
ما أسعده فتى ذاك الذي جال في أنحاء «التيرول» فتسلق جبالها الشاهقة وهبط أوديتها العميقة برفقة صديق محبوب: أليس أن حظا كهذا يبعث فيه نشاطا ويطيل منه العمر؟ وما أشقى ذاك الذي يجوب البراري والقفار والغابات والمدن وحده لا نديم له سوى أفكاره المؤلمة.
Shafi da ba'a sani ba