حَدَّثَنَا الْقَاضِي الْمَحَامِلِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَانِئٍ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَلْعَبُونَ بِحُدُودِ اللَّهِ. طَلَّقْتُكِ، رَاجَعْتُكِ، طَلَّقْتُكِ، رَاجَعْتُكِ» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْخُلْعِ وَالنِّكَاحِ الْوَاقِعِ بِعَقْدِ شَرِيطَتِهِ، وَبَيْنَ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى شَرِيطَةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا فَتَعُودَ إِلَى زَوْجٍ كَانَ لَهَا؟ وَهَذَا الْمُحَلِّلُ وَالْمُحَلَّلُ لَهُ اللَّذَانِ لَعَنَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؟ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْخُلْعِ وَبَيْنَ مَنْ بَاعَ دَرَاهِمَهُ الْمُكَسَّرَةَ مِنْ صَيْرَفِيٍّ بِدِينَارٍ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ بِذَلِكَ الدِّينَارِ صِحَاحًا عَلَى صَرْفٍ مَقْطُوعٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ؟ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْخُلْعِ وَبَيْنَ مَنِ اسْتَلَفَ مِنْ رَجُلٍ فِي سِلْعَةٍ إِلَى أَجْلٍ عَلَى أَنَّهُ إِذَا جَاءَهُ أَجَلُهَا عَادَ الْبَائِعُ لَهَا فَاشْتَرَاهَا مِنَ الْمُسْلِمِ فِيهَا عَلَى سِعْرٍ مَقْطُوعٍ؟ ⦗٤٢⦘ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْخُلْعِ وَبَيْنَ مَنِ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ سِلْعَةً نَسِيئَةً عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ بِالنَّقْدِ؟ . . . مَعَ نَظَائِرَ كَثِيرَةٍ لِهَذِهِ شَاكَلَ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَكُلُّهَا عِنْدَ مَنْ كَانَ عَلَى شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، وَشُرُوطِ أَحْكَامِهِ فَاسِدَةٌ مَرْدُودَةٌ، وَرُبَّمَا وَضَعَهَا أَهْلُهَا مَوْضِعَ الْحِيلَةِ عَلَى نَحْوٍ مِنَ الْحُكْمِ فِي ظَاهِرِهِ مَعَ فَسَادِ بَاطِنِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْخَدِيعَةِ وَالْمُوَارَبَةِ وَالْمُمَاكَرَةِ لِلَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي مُعَامَلَتِهِ وَعِبَادَتِهِ. وَأَصْلُ الْحِيلَةِ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ خَدِيعَةٌ، وَالْخَدِيعَةُ نِفَاقٌ، وَالنِّفَاقُ عِنْدَ اللَّهِ ﷿ أَعْظَمُ مِنْ صُرَاحِ الْكُفْرِ. قَالَ اللَّهُ ﷿: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ، يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: ٩]، وَقَالَ ﵎: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى﴾ [النساء: ١٤٢] أَفَلَا تَرَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ أَظْهَرُوا قَبُولَ الْأَحْكَامِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَأَلْزَمُوا أَنْفُسَهُمُ التَّدَيُّنَ بِهَا، حِيلَةً بِذَلِكَ ⦗٤٣⦘ وَخَدِيعَةً لِلَّهِ ﷿، وَلِرَسُولِهِ ﷺ، وَلِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، لِيَحْقِنُوا بِذَلِكَ دِمَاءَهُمْ، وَيَحْفَظُوا أَمْوَالَهُمْ، فَأَعْطَاهُمْ مَا أَرَادُوا بِمَا أَظْهَرُوا، وَأَكْذَبَهُمْ فِيمَا ادَّعُوا بِمَا أَسَرُّوا وَأَبْطَنُوا، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ كَيْدَهُمْ وَخَدِيعَتَهُمْ بِسُوءِ اعْتِقَادِهِمْ، وَإِرَادَتِهِمْ غَيْرَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ خَالِصِ التَّصْدِيقِ وَصَافِي التَّوْحِيدِ، وَاسْتِعْمَالِهِمْ آلَاتِ الْإِيمَانِ لِغَيْرِ مَا أَرَادَهَا اللَّهُ ﷿. وَهَذَا بَابٌ مِنَ الْحِيلَةِ، وَهُوَ أَفْحَشُهَا وَأَقْبَحُهَا، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنَ الْحِيلَةِ فَمُشَبَّهٌ بِهَا وَمَنْسُوبٌ إِلَيْهَا وَمُتَشَعِّبٌ عَنْهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ ﷿ شَرَعَ - بِرًّا بِكَافَّةِ خَلْقِهِ وَإِرْفَاقًا بِهِمْ - رُخَصًا وَصَفَهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَشِدَّةِ الضَّرُورَةِ عِنْدَ نُزُولِهَا، فَقَالَ ﷿ حِينَ فَرَغَ مِنْ فَرْضِ الصِّيَامِ: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٥] وَقَالَ: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ [النساء: ١٠١]
⦗٤٤⦘ فَأَبَاحَ الْفِطْرَ فِي السَّفَرِ وَقَصَرَ الصَّلَاةَ، وَفَرَضَ الْحَجَّ بِوُجُودِ الِاسْتِطَاعَةِ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا سَافَرَ لَا يُرِيدُ بِسَفَرِهِ إِلَّا الْأَكْلَ وَالْجِمَاعَ نَهَارًا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى يَقْضِيَ ذَلِكَ عَلَى مَهْلٍ مُتَقَطِّعًا فِي قَصِيرِ الْأَيَّامِ عَلَى مَرِّ الْأَوْقَاتِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا سَافَرَ لَا يُرِيدُ مِنْ سَفَرِهِ إِلَّا أَنْ يَضَعَ عَنْ نَفْسِهِ بَعْضَ صَلَاتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِوُجُودِ الِاسْتِطَاعَةِ، فَوَهَبَ مَالَهُ لِبَعْضِ وَلَدِهِ عِنْدَ أَوْقَاتِ الْحَجِّ، ثُمَّ اسْتَرْجَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَاشِيَةِ مَالٌ كَثِيرٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ الْكَثِيرَةُ، فَبَاعَهَا عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ وَجَرَى ثَمَنُهَا مَجْرَى الْمَالِ الْمُسْتَفَادِ، أَوْ مَالٍ صَامِتٍ فَعِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ ابْتَاعَ بِهِ عَقَارًا حَتَّى إِذَا جَاوَزَ الْحَوْلَ بَاعَهُ. لَكَانَ هَذَا كُلُّهُ فِي ظَاهِرِهِ جَائِزًا فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، مَاضِيًا عَلَى أَحْكَامِهَا. وَلَوِ اسْتَفْتَى فَاعِلُهُ جَمِيعَ فُقَهَاءِ ⦗٤٥⦘ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ فِيمَا فَعَلَ غَيْرَ مُخْبِرٍ لَهُمْ بِنِيَّتِهِ وَلَا مَا قَصْدُهُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، لَمَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ اثْنَانِ فِي جَوَازِهِ وَصِحَّتِهِ، وَلَا رَأَوْهُ حَرِجًا فِي فِعْلِهِ، وَلَا آثِمًا فِي مُرْتَكَبِهِ. وَمَا ظَنُّكَ الْآنَ إِذَا كَانَ الْمُفْتِي هُوَ الْآمِرُ بِهَذَا، وَالدَّالُّ عَلَيْهِ، وَالْمُفْتِي بِهِ؟ وَلَا فَرَّقَ بَيْنَ الْفَتْوَى بِالْخُلْعِ عَلَى الْحَالِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَبَيْنَ الْفَتْوَى فِي هَذِهِ الْأَسْبَابِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا كُلَّهَا، فَإِنَّهَا كُلَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الْحِيلَةِ. وَتَجِدُ اللَّهَ ﷿ قَدْ حَرَّمَ الْحِيلَةَ وَالْخَدِيعَةَ وَحَرَّمَهَا رَسُولُهُ ﷺ وَأَبْطَلَهَا، وَإِنْ أَعْطَاهَا صِحَّةَ الْحُكْمِ فِي ظَاهِرِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حَكَمَ بِمَا ظَهَرَ، وَأَبْطَلَ ذَلِكَ بِمَا اسْتَتَرَ، وَهُوَ أَعْدَلُ الْخَلْقِ فِي حُكُومَتِهِ، وَأَعْلَمُهُمْ بِقَضِيَّتِهِ، وَلَمَّا عَلِمَ أَنَّ فِيَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ أَلْطَفَ حِيلَةً فِي خُصُومَتِهِ، وَأَلْحَنَ مِنْ خَصْمِهِ بِحُجَّتِهِ، وَأَنَّ الْحُكْمَ بِمَا ظَهَرَ لَا بِمَا اسْتَتَرَ، قَالَ ﷺ: «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ صَاحِبِهِ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ ⦗٤٦⦘ شَيْئًا مِنْ مَالِ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» . أَفَلَا تَرَى أَنَّ ظَاهِرَ الْقَضِيَّةِ حَقٌّ بِمَا ظَهَرَ مِنْ حِيلَةِ صَاحِبِهَا وَمَكْرِهِ، ثُمَّ جَعَلَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَأَوْجَبَ لِصَاحِبِهَا النَّارَ بِمَا أَبْطَنَ مِنْ سِرِّهِ وَعَزْمِهِ؟ فَلَوْ كَانَ ظَاهِرُ الْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ يَدْرَأُ عَنْ صَاحِبِهِ فَسَادَ مَا رُوِيَ عَنْهُ مِنْ حِيلَتِهِ وَمُخَادَعَتِهِ، لَمَا أَوْجَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ النَّارَ. وَهَكَذَا صَاحِبُ هَذَا الْخُلْعِ وَضَعَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ ﷿ لَهُ. فَظَاهِرُهُ صَحِيحٌ، وَمَعْنَاهُ مَرْدُودٌ قَبِيحٌ. وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى بُطْلَانِ الْحِيلَةِ فِي الْأَحْكَامِ، نَهْيُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَنْهَا، وَلَعْنَتُهُ فَاعِلَهَا
1 / 41