Ibn Taymiyyah: His Life and Times, Opinions and Jurisprudence
ابن تيمية: حياته وعصره، آراؤه وفقهه
Mai Buga Littafi
دار الفكر العربي
نفس ذلك العالم، وعلوه على معاصريه في إرادته وهمته، كعلوّهم في فكره وحجته.
وكان مع هذه الشجاعة صبوراً، يصبر عند الصدمة الأولى فلا يضطرب، وقد قال عليه السلام: إنما الصبر عند الصدمة الأولى، وكان قوي الاحتمال جلداً في جسمه وقلبه وعقله، فكان متين البنيان في جسمه، وكان كبير القلب يتسع قلبه للمكروه من غير أن يجزع عنده، وكان كبير العقل يرد الدليل بالدليل؛ فإن لم يصغ المعاند أهمله، كل دور من أدوار حياته يعلن صبره وقوة احتماله فقد كان دؤوباً على العمل لا يكل ولا يمل، يسجن فيكتب ويؤلف، كأنه لا يحب أن يترك ساعة من حياته من غير عمل، لأنه محاسب على هذه الساعة فيم قضاها، وترهق نفسه بمنعه من كتبه، وتبعد عنه المحبرة والقلم والقرطاس فيستعين بالكتابة بالفحم، ولا يني عن التفكير والتدوين، حتى في هذا الضيق، فإن أعوزه الورق والفحم أخذ يتلو كتاب الله فاهماً متفهما، متخشعاً متقرباً، ولم يقعد عن العمل، بل حتى مع المرض فكان يتلو القرآن حتى وصل إلى قوله تعالى: ((إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر))، فكانت آخر ما نطق به رضي الله عنه وأرضاه.
١١٤- والصفة الثامنة قوة الفراسة، فقد كان لقوة عقله ونفاذ بصيرته، وحدة مداركه مع قوة الإحساس ينفذ نظره إلى قرارات النفوس فيدركها، وإلى بواطن الأمور فيكشفها، فكان الألمعي يظن الظن كأنه قد رأى وسمع، وبدت فراسته واضحة في كل أمر تولاه، رأى التتار وحالهم ففهم بذكاء نفسه أنهم تضعضعوا، ولم يكونوا عند غزوهم الشام كما بدءوا، بل أترفت نفوسهم، فذهب بأسهم، ولكن ماضيهم يرعب من يغزونهم فينهزمون بالرعب، لا بفرط القوة، رأى العبقري ذلك فكان يقسم الأيمان المغلظة بأن جند مصر والشام لا محالة منتصرون، فإذا قال له الأمير، قل إن شاء الله، قال أقولها متحققاً لا معلقاً، وهذا يدل على قوة فراسته ونفاذ بصيرته.
ورأى رجلاً في زي طلاب العلم يسير في طرق دمشق كالحائر، لأنه لم يكن معه
106