124

تكلم ابن تيمية بعد عقد السلم عن عقد الإجارة وناقش أقوال الفقهاء الذين ذهبوا إلى أن هذا العقد جار على خلاف القياس؛ لأنه بيع معدوم وهو المنفعة التي تتحقق بعد العقد شيئا فشيئا، ولأنه يجب في العقود التي تجري على القياس القدرة على تسليم المعقود عليه عقب العقد، وانتهى من هذه المناقشة إلى أن الإجارة على وفق القياس لا على خلافه.

28

إن قولهم بأن الإجارة نوع من البيع لا يخلو أن يكون المراد به أحد أمرين: البيع الخاص الذي يفهم من لفظ البيع عند الإطلاق، أو المعاوضة العامة. ولا يصح أن يراد بها المعنى الأول، فإنه إنما ينعقد على الأشياء المعينة المحدودة، أو المضمونة في الذمة، وليست الإجارة كذلك في كل حال.

والقول بأنها نوع من المعاوضة العامة التي تتناول العقد على الأعيان أو المنافع، قول صحيح، لكن قولهم إن هذه المعاوضة لا تكون على معدوم دعوى مجردة من الدليل، بل هي دعوى كاذبة، وذلك بأن الشارع أجاز المعاوضة على الموجود وعلى المعدوم.

ومن القياس الفاسد أن يقول قائلهم: «كما أن بيع الأعيان لا يكون إلا على موجود فكذلك بيع المنافع، وهذا حقيقة كلامه.» هذا القياس فاسد، بل في غاية الفساد، فإنه - كما يقول - من شرط القياس الصحيح أن يمكن إثبات حكم الأصل في الفرع، وهذا متعذر؛ لأن المنافع لا يمكن أن يعقد عليها في حال وجودها، فلا يتصور أن تباع المنافع في حال وجودها كما تباع الأعيان في حال وجودها.

ولهذا أمرنا الشارع أن نؤخر العقد على الأعيان التي لم تخلق إلى أن تخلق، كما نهى عن بيع الحمل قبل أن يولد، والتمر قبل بدو صلاحه، وعن بيع الحب حتى يشتد، وعلى هذا لا يبقى حكم الأصل مساويا لحكم الفرع في كل حال.

وإذا كان ذلك يظهرنا على أحد الفروق بين عقد البيع والإجارة، فإن هناك فرقا آخر ذكره شيخ الإسلام إجمالا، وفصل القول فيه من بعده تلميذه ابن القيم.

29

وهو أن الفقهاء حين لم يجيزوا بيع المعدوم في كل حال بنوا على هذا بطلان ضمان الحدائق والبساتين؛ لأنه - كما يقولون - بيع الثمار قبل بدو صلاحها، بل قبل وجودها، ومنهم من ذكر الإجماع على بطلانه.

والحق أنه ليس لهم دليل صحيح لما ذهبوا إليه، فضلا عن دعوى الإجماع، بل ربما كان الإجماع هو على جواز ضمان البساتين ونحوها شرعا. فقد جرى العرف الصحيح على صحة هذه المعاملة من أيام الصحابة حتى اليوم، بل - كما يذكر ابن تيمية - إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضمن حديقة أسيد بن خضير ثلاث سنوات، وتسلف مقدار الضمان فقضى به دينا كان على أسيد لأنه كان وصيه، ومثل هذا من عمر لم يكن ليخفى على أحد.

Shafi da ba'a sani ba