أيها الحبيب
في المهرجان وجدتك يا أيها الحبيب، وفي المهرجان فقدتك.
وعندما جاء موعده في هذا العام، رحت أبحث عنك.
أمي قالت لي: أنت تغش نفسك. أبي قال: أنت مجنون. النجوم شمتت في. أصحابي قالوا: الله يعوضنا فيك. وعندما أقبل الغروب، كنت أسير على الطريق، وغايتي طرف المدينة. الزحام شديد يا أيها الحبيب، الزحام لا يدفئ يا حبيب. عيني تفتش عنك.
عندما وصلت إلى هناك، تجرفني أمواج البشر والعربات والصيحات والأنوار، كان كل شيء كما كان. الخيام منصوبة على البعد، الطواحين والمراجيح ترف في الهواء، الصواريخ تنفجر في السماء، ترسم قططا وسفنا وأشجارا وعيونا ملتهبة، نداءات الباعة وصرخات الأطفال، وطبول السيرك وصدام العربات وغناء الأراجوز تتقاذف سكاكين من الصيحات والأضواء. يا أيها الأمل اليائس المسكين، هل تظن أنك ستجدها هناك؟ وأنت أيها الرأس المتعب، هل تستريح على صدرها، والذراع المقرورة، هل تتدفأ في ذراعها؟ والعين التائهة، هل تجد الأمان في عينيها؟
على اليمين ، وراء السلك الشائك، كشك صغير. أتقدم منه وأقطع تذكرة الدخول. الحارس يفتح الباب الصغير ويغمز بعينه ويقول: هذا مهرجان الشباب. أبتسم وقلبي يقول: ليتك تعرف شيخوخة الشباب. نفس الخيمة وتلوح من بعيد. على بابها، فوق صندوق كبير، يقف رجل أسمر طويل، على كتفيه عباءة حمراء، فوق رأسه عمامة حمراء، يتدلى من وسطه سيف طويل. صيحاته هي نفس الصيحات: تعال تعال. شف الساحر العجيب. العرض يبدأ في الحال. تعال يا محترم. تفرج على البنت العجيبة. تفرج على لعبة السكاكين. السكاكين تنغرز في قلبها ولا تقول آه. السكاكين تخرق جسمها ولا تقول آه. شف الساحر العجيب. يالله يا محترم. تعال يا سيدنا. العرض يبدأ في الحال.
قطعت التذكرة ودخلت. في الداخل عتمة، المقاعد قذرة، الزوار قليلون، على خشبة المسرح صندوقان، ومنشار، وطبلة كبيرة. رجلان متعبا الوجوه يحاولان أن يصلحا الستار، ينظران في غضب إلى الجمهور، يحضران لوحا خشبيا عليه صورة ممددة مغروز في قلبها سكين، فوق رأسها جمجمة، يجثم عليها شبح شيطان كريه. الجمهور يضحك، الرجلان يعتدلان ويضعان أيديهما في خصورهما، وينظرون إليه في قلق. لو سقط المطر فسوف ينزل علينا من ثقوب السقف. الخيمة القديمة لن تحمينا يا حبيبي، لن تحمينا.
وقفت في مكاني خلف المقاعد الخشبية، نفس المكان. شبكت ذراعي على صدري وانتظرت أن يبدأ العرض، نفس العرض. كانت وقفتي خلف ظهرك، ولم أكن أراك. قلبي كان يعد اللحظات ليرى فتاة الرعب، والساحر الشرير، والسكاكين التي تنطلق من يديه كالطيور السوداء. وعندما بدأ العرض يا حبيبتي، كان الساحر الشرير يقف على المسرح، يزعق بصوته المخيف، يقذف السكاكين في الهواء ويلتقطها. والفتاة المسكينة، هل رأيت الفتاة المسكينة، تقف أمامه كالتمثال، تستند على عمود خشبي، وراء ظهرها لوحة كبيرة، رسم فوقها عين وقلب، وجهها أصفر، على فمها ابتسامة. بدأ الساحر يصوب السكاكين نحوها. كلامه كثير. أفعاله تخيب الأمل. وعندما انطلقت أول سكينة من يده لتنغرز في الجبهة المرسومة خلف الفتاة هلل الناس. قال الساحر: «وحدوه.» دق غلام مريض على الطبلة. زعق الناس : الله أكبر. لم ترمش عيون الفتاة. وعندما صوب الساحر سكينته الثانية لتنغرز كالسهم الطائر بجوار الصدغ، لاحظت أنك أدرت له ظهرك. يداك تغطيان وجهك. وجهك أصفر. جسدك يرتعش. تشجعت وهمست: يظهر أنك دخت. رفعت يديك عن وجهك، مددت ذراعك تبحثين عن شيء تستندين عليه. مددت يدي فأمسكت بها. إنك تترنحين. قلت: المنظر مخيف، تعالي نخرج إلى الهواء. قلت: لا أحتمل. تعال. وعندما خرجنا من الخيمة، لاحظت أنك ما زلت تستندين علي. سحبت ذراعك وهمست: معذرة. قلت: لا داعي للاعتذار. هززت رأسك وقلت: أردت أن أقول شكرا. لولاك لسقطت على الأرض. قلت: نسيت أن كله تمثيل؟ تطلعت إلي للمرة الأولى وهمست: يجب أن يشنقوا هذا الساحر. السكين كانت ستنغرز في عين البنت. ضحكت وقلت: لو كنت مكانها فماذا كنت تفعلين؟ ضربت الأرض بقدميك وصحت حتى التفت الناس: أنا؟ أقف أمام هذا الملعون؟! نظرت إلى عينيك، لاحظت سوادهما العميق، تركت قاربي ينساب على سطحهما، مددت يدي بالمنديل وجففت قطرات العرق على جبهتك. قلت: حتى ولو كنت أنا هذا الساحر؟ تطلعت إلي متسائلة: لم تر خبثا في عيني؟ لم أر اندهاشا في عينيك. همست: وهل كنت ترشقني بالسكاكين؟ قلت ضاحكا: بل كنت أقف في مكان الفتاة وأكتفي بالسهام التي تطلقينها من عينيك. ضحكت حتى ابتلت عيناك. سحبت ذراعك من ذراعي وقلت: أكرر شكري لك. الآن لا بد أن أذهب. تجرأت وقلت: لا يمكنك أن تذهبي الآن. لا يمكنني أن أتركك على هذه الحال. قالت: أنا أصبحت طبيعية. صحت في صوت جاد: بل جسمك لا يزال يرتعش. والعرق يبلل جبهتك. تعالي نشرب فنجان قهوة. لا تقولي لا. ها هو المقصف. خطوتين ونكون هناك.
ذهبنا إلى المقصف. طلبت لك فنجالا من القهوة ولي عصير ليمون. النادل نظر إلينا وابتسم. قلت: الرجل يبتسم لك. لا بد أنه يعرفك. قلت: لا أحد يعرفني هنا. ضحكت وقلت: ولا أنا. عبثت بأصابع يدك وقلت: ماذا تريدين أن تعرفي عني. سحبت يدك وقلت: اسمك. عملك. ماذا جاء بك إلى هنا . قلت ضاحكا: القدر. سألت: القدر؟ قلت وأنا أمسك بيدك؟ أرسلني لأنقذك . تركت يدك في يدي. تطلعت في عيني لحظة وسألت: وما اسم الفارس؟ قلت: ماذا تهم الأسماء؟ ألا يكفي أن يكون جالسا إلى جانبك. ضحكت حتى مالت رأسك إلى الوراء وقلت: ولكننا لن نجلس هنا إلى الأبد! قلت هيا بنا. أشرت للنادل ودفعت الحساب. قلت إلى أين؟ قلت وأنا أشبك يدي في يدك: وهل نعرف من أين حتى نسأل إلى أين؟ إلى المهرجان طبعا. قلت ضاحكة: منذ اللحظة أنت فارسي. لن أسألك إلى أين.
الزحام شديد يا أيها الحبيب. ونحن نشق الطريق بجسمينا الصغيرين. ما أجمل أن يسير الإنسان وسط الزحام! الأنفاس تدفئ وجهه. العرق يفوح من حوله. الصياح يدوي في أذنيه. الريح لا تجد طريقها إليه. النجوم تغفل عيونها عنه. مررنا ببائعة البخت. قلت: جرب بختك. قلت وأنا أنظر في عينيك: بختي أعرفه. جرب أنت. نادت المرأة لتغلب ترددنا: شوفوا البخت والطالع. كل شيء تقول عنه النجوم. الصحة والعمر (ثم وهي تشجعنا بنظراتها الضاحكة) والزواج والأولاد. يا بختك يا أبو البخوت. وقفنا عند الصندوق الصغير. نتفرس في الخيوط الطويلة. ينتهي كل واحد منها بمظروف صغير. المرأة تقول: كل شيء بقرش واحد. قرش واحد يا محترم. يبين الصحة والعمر وسكة السفر والنصيب والمكتوب. وضعت يدي في جيبي وأعطيت للمرأة قرشا. سحبت خيطا في نهايته مظروف. المرأة مدت يدها إلي بالمظروف وقالت: بختك حلو إن شاء الله. قلت لك: هل تجربين. مددت يدك فسحبت المظروف من يدي وقلت: يكفيني بختك. شددت على يدك يا حبيبتي، باليد الأخرى مزقت المظروف. صحت: ألا تقرأ ما فيه؟ قلت وأنا أشدد قبضتي على يدك، يكفيني أن يدي في يدك. سألت: من أي كوكب أنت؟ قلت: الزهرة. وأنت؟ قلت: الأسد. ضحكت وقلت: وماذا يصنع الأسد بالزهرة؟ قلت وأنا أطوقك بذراعي: يعانقها. يقبلها. يأكلها! ضحكت وقلت: بشوكها أيضا؟ قلت: متى كان الأسد يخاف من الشوك؟
Shafi da ba'a sani ba